الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

الحياة حلوة

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • غير مسجل

    الحياة حلوة

    قصة قصيرة


    الحياة حلوة


    برفقة الصمت المريب ، والخيالات الشاردة، وفي صباح خريفي بائس ، كنت أسير بقامة منتصبة خلف جنازة رفيق الطفولة والصبا ، أو بالأصح بالقرب من نعشه المحمول على الأكتاف ، بينما عقارب الأفكار تدق في كل خلية من خلاياي، وتريد أن تأخذني إلى عوالم الهذيان.
    صديقي لم يكن ميتاً على الإطلاق ، والدليل على ذلك أنه كان يتحدث إليّ دائماً ، وأنا كنت أتحدث إليه وابتسم ، وأحيانا أضحك بصوت عال حين يقول لي النكت الكثيرة التي يجيدها بامتياز ، فتسقط عليّ النظرات المستغربة وتهتز الرؤوس أسفاً.
    قبل أن نصل إلى محطتنا الأخيرة ، رفع رأسه وقال لي بصوت مصبوغ بكل أنواع الحرمان:
    ـ آه يا صديقي , آه وألف آه .. العين تبكي والقلب يتحسر.
    ثم ابتسم وأضاف :
    ـ الحياة حلوة ، أليس كذلك ؟
    حين جاوبته وأنا أضحك كي أبعد عنه الهموم، تدلت الرؤوس الـتي فقدت ملامحها من فوق الأكتاف ، حدقت العيون إلى جيداً ، وطارت منها آلاف الغربان، تمتمت أفواه كثيرة ، بعضها طلبت أن أطرد وأمنع من المشاركة بالتشييع الذي لم أعترف به أصلاً ، وبعضها سخرت مني واتهمتني بأشياء كثيرة، أما أنا فتعجبت وتساءلت في داخلي :"لماذا لا تتدلى الرؤوس وتحدق العيون إلا عندما أتكلم أنا فقط؟".
    ما إن وضعوا النعش بجانب الحفرة حتى تطلع إلى من حوله ، ثم تمطط وحاول النهوض لكنه لم يستطع ولا أدري لماذا ، حينئذ طلب المساعدة وهو يتوسل، فلم يستمع إليه أحد، فما كان منه إلا أن نظر إليّ وابتسم ، ثم قال نكتة أضحكتني كثيراً ، وبينما كنت مشغولا بالضحك ، سقطت كف ثقيلة لعفريت ابن عفريت على رقبتي ، كادت توقعني أرضاً ، بعدها سمعت شتيمة بذيئة جدا ، شعرت بحقد طاغ تجاه كل الموجودين ، التفت إلى الوراء وأنا أغلي ، فرأيت الوجوه الواقفة خلفي محايدة تماماً.
    حين حملوا النعش ، رفع رأسه فرأيت وجهه ينبض بالصحة والعافية ويلمع مثل قنديل في الليل ، وحين أراد أحدهم أن يدخل رأسه إلى داخل الصندوق رغما عنه ، أمسك صديقي بيده وعضها بقوة حتى امتلأ فـمه بالدماء ، ولكن يا للعجب ، لم يتأوه الرجل ولم يشعر بأي شيء على الإطلاق، وقبل أن يدخلوه إلى الحفرة راح يصيح بصوت مصحوب بغضب دفين:
    ـ اتركوني.. لم أفعل شيئا..
    في لحظة أكثر من هستيرية ، انتفضت كل حواسي ، وكان نبضي يجري عتيا بين القبور ، وفجأة عفرتهم بالتهديد والوعـيد ، ثم اندفعت باتجاه النعش وكل همي أن أخلصه من بين براثنهم ، ولكن قبل أن ألمسه ، اعترضتني الأيدي والأفواه وصادرت فمي المليء بالشجب والاستنكار ، اقترب مني ثلاثة رجال وجوههم معفرة بالتراب والعرق ، حملوني بصمت وألقوا بي بعيداً وعادوا إلى عملهم .
    سمعته يناديني باسمي ، فلملمت بعضي ، ومن بين الأرجل زحفت عبر الأشواك باتجاه الحفرة ، وما أن وصلت إليها حتى مددت رأسي ، نظرت إليه فرأيته ينتحب بصمت ويقول بهمس:" آه يا دنيا". في البدء كاد يغمى عليّ ، لكنني تمالكت أعصابي فمددت له يدي وقلت بصوت خفيض:
    ـ انهض بسرعة لنهرب.
    بغتة سمعت شتيمة مزلزلة ، ثم سقطت على رأسي وظهري محتويات الأفواه ، هوجمت من عدة جهات وانهالت عليّ الصفعات والركلات التي لا ترحم، وبعد لحظات وجدت نفسي وحيداً , منكسراً، مهزوماً ، ومرمياً فوق الأشواك والصخور الجارحة.
    لوثوا ثيابه الناصعة البياض بالتراب وهو يصيح :
    ـ أخرجوني يا صعاليك .. لست ميتا بل أنتم الميتون.
    ثم رسم لوحة بالبراءة وأضاف:
    ـ الحياة حلوة ولم أتمتع بها بعد .
    كل نداءاته ذهبت أدراج الرياح وبمغمضة عين صار تحت التراب ، أما أنا فطردت كل آلامي ولملمت شـجاعتي ، واندفعت نحوهم كثور هائج ، أبعدتهم عن طريقي ، وقفت فوقه ، ناديته ، ثم تمددت إلى جانبه:
    ـ كيف افقد شهامته ورجولته ودعابته وحديثه المحبب ، هذا حرام يا ناس انه لم يفرح بشبابه ، ولم ينم لصق الجسد الأنثوي بعد، أرجوكم أخرجوه فمكانه ليس هنا.
    لم أسمع جواباً من أي بني آدم ، ولكن بعد لحظات تقدم مني أحدهم وأراد أن يبعدني بالقوة ، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة عندما سمع أحدهم يقول:
    ـ اتركه يفعل ما يريد , انه...
    بقينا أنا وصديقي وحدنا ، جثة فوق التراب وأخرى تحت التراب ، ولكن ظلت أصواتنا الضاحكة تعلو وتطير مع طيور اليمام فوق الأودية والسهول ، بينما كان الآخرون يخرجون من المقبرة تباعاً


    بسام الطعان
    bassamtaan@yahoo.com
  • حسن_العلوي
    كاتب مسجل
    • Aug 2009
    • 216

    #2
    رد: الحياة حلوة

    قصة رائعة سردا و اسلوبا.
    بين الفرد و الجماعة كثيرة هي الاشياء المفقودة.
    مودتي

    تعليق

    يعمل...