العولمة بين القبول والرفض بقلم/أ سعيدي الوناس
تعد ظاهرة العولمة من ابرز الظواهر المعاصرة التي أولاها الباحثون اهتماما بالغا في مختلف بلدان العالم على اختلاف تنوعها الثقافي وتطورها الحضاري.
وقد تعددت التعاريف المقدمة للعولمة من طرف الباحثين و المفكرين بحيث لم يجدوا تعريفا جامعا مانعا لها بسبب احتوائها على جوانب متعددة اقتصادية و سياسية و إعلامية وثقافية... لذلك جاءت تعريفهم مختلفة باختلاف توجهاتهم الفكرية و الأيديولوجية، وقد أورد بعض المفكرين صيغا متعددة في تعريفهم للعولمة نذكر منها:
- الكونية نسبة إلى الكون.
- الكوكبية نسبة إلى كوكب الأرض .
- العالمية نسبة إلى العالم .
- الكلوية نسبة إلى الكل (أي جميع الناس على الأرض)
وقد أطلق عليها البعض النظام العالمي الجديد و البعض الآخر سماها بالأمركة...
وعلى العموم فان كلمة" عولمة "في اللغة العربية هي ترجمة للكلمة الفرنسية Mondialisation والتي ترجمت هي بدورها من الكلمة الانجليزية Globalization،فالعولمة تعني اكتساب الشيء طابع العالمية، وقد برزت في العقدالأخير من القرن العشرين،بعد تفكك الاتحاد السوفيتي و انهيار المعسكر الاشتراكي نتيجة انتصار الرأسمالية القائمة على اقتصاد السوق و الليبرالية الداعية إلى الديمقراطية و حقوق الإنسان...
وهكذا نشأت العولمة باعتبارها العملية التي من خلالها تصبح شعوب العالم متصلة يبعضها في جميع ميادين الحياة ثقافيا و اقتصاديا وسياسيا و تقنيا...فمن الناحية الثقافية تعني تقنين القيم وفق معايير عالمية وتوحيد أنماط السلوك لدى البشر.
أما سياسيا فتعني نشر القيم الغربية في مجال السياسية بالدعوة إلى الديمقراطية الغربية باعتبارها نظام حكم قائم على الحرية السياسية والتعددية الحزبية و حق المعارضة و حرية التعبير و حق الاقتراع ....الخ
أما اقتصاديا فهي ترمي إلى تعميم نظام اقتصاد السوق وتحرير التجارة العالمية من خلال عمليات انتقال السلع و رؤوس الأموال وتقنيات الإنتاج...
أما تقنيا فتتجلى في الثورة الاتصالية و المعلوماتية المتمثلة في وسائل الاتصال من تلفاز و كمبيوتر و انترنيت وهاتف...الخ مما أدى إلى تقريب المسافات و انتقال الثقافات و احتكاكها حتى أصبح العالم شبه قرية صغيرة... فالعولمة باختصار هي نشر قيم الدول الغربية الرأسمالية المتقدمة في العالم كله ، وجعل العالم كله يسير وفق للنموذج الغربي الرأسمالي الليبرالي في مجالات الاقتصاد و السياسة و الثقافة ...الخ إنها –العولمة- مرحلة متطورة من مراحل التاريخ الإنساني،بل هي عند بعض المفكرين "نهاية التاريخ"[1].
والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا و نحن نخوض في هذا الموضوع هو: هل العولمة نعمة أو نقمة على المجتمعات النامية؟
لقد تباينت آراء المفكرين واختلفت مواقفهم تجاه هذه القضية فهناك الموقف المؤيد للعولمة و المدافع عنها إذ يعتبرها احد عوامل التنمية و شرط من شروط الدخول إلى الحداثة،و في المقابل نجد موقف معارض تماما للأول،إذ يرى في العولمة خطرا على البلدان النامية إذ لا يرى فيها إلا استعمارا مقنعا تهدف من خلاله الدول المتقدمة فرض سيطرتها على الدول النامية و سلب خيراتها، وبين هذا الموقف وذاك نجد تيارا ثالثا يتبنى موقفا وسطا محايدا ،إذ يحاول تبيان ايجابيات العولمة وسلبياتها بروح نقدية موضوعية إذ يرى أنها ليست كلها خيرا ولا هي كلها شرا.
لقد تبنى العديد من المفكرين موقفا نقديا ونظرة متشائمة تجاه العولمة نظرا لما لها من آثار سلبية على الدول النامية و المجتمعات المتخلفة...على مختلف الأصعدة سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا و اجتماعيا فمن الناحية السياسية ترمي العولمة إلى إزالة الدول وتحاول إن تنقص من دور الدولة القومية في تسيير شؤونها و تقرير مصيرها، إذ أصبحت الدول العظمى تتدخل في صنع القرار السياسي للدول النامية باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان وهذا ما يؤدي إلى فقدان الدولة الوطنية لسيادتها إذ أصبحت المؤسسات العالمية تتحكم في الدول المتخلفة وذلك بإزالة الفكرة القومية لدى الشعوب و الأمم وهذا ما يهدد سيادتها على حدودها السياسية .
أما من الناحية الثقافية فالعولمة تؤدي إلى تحطيم مقومات المجتمع الأصلية، من مبادئ وقيم دينية وأخلاقية وتعمل على فقدان الهوية وطمس الشخصية وإعادة صهرها وتشكيلها في إطار شخصية عالمية. إن العولمة فيما يرى الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه "خطابنا الإسلامي في عصر العولمة""هي فرض هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية و اجتماعية من الولايات المتحدة الأمريكية على العالم الثالث وبالخصوص العالم الإسلامي...
فالولايات المتحدة بتفوقها العلمي التكنولوجي وقدرتها العسكرية الهائلة وإمكاناتها الاقتصادية الجبارة ونظرتها الاستعلائية التي ترى فيها نفسها أنها سيدة العالم تريد أن تسوق البشر بعصاها.[2](2)
ومن الناحية الاجتماعية فالعولمة أدت بالبلدان الصناعية إلى انتهاج سياسة واحدة منها:تخفيض الإنفاق الحكومي والأجور والمساعدات الاجتماعية ،وهذا الوضع أدى إلى الاستنكار والإحباط والمظاهرات من طرف الطبقة الشغيلة[3](3)
وفي الدول المتخلفة فالوضع اشد ،فالبطالة والفقر وانخفاض الأجور وتدنى القدرة الشرائية للمواطنين وشعور الفرد بالإحباط واليأس كلها عوامل زادت من تفكيك للبنى الاجتماعية للمجتمعات النامية هذا مع التذكير بأن العولمة كثيرا ما أدت بالعديد من المجتمعات المتخلفة إلى إثارة النزعات الطائفية والعرقية والمذهبية كذريعة لنشر أفكارهم حول الديمقراطية وحقوق الإنسان بمبررات الشرعية الدولية.
لا شك أن العولمة تحمل في طياتها الكثير من السلبيات،لكن يجب الاعتراف أن للعولمة ايجابيات على عدة أصعدة وابرز ايجابياتها نكتشفه في بعدها التقني،فالثورة المعلوماتية التي أحرز عليها الإنسان،المتمثلة في تطور وسائل الاتصال قربت المسافات وساعدت على تبادل الأفكار و الثقافات،إذ أصبح التدفق الحر للأفكار و المعلومات والقيم يقدم لكل فرد بدون استثناء عن طريق مختلف وسائل الاتصال. وهكذا تجاوز الفرد الإعلام الوطني الضيق لينفتح على ما يجري في العالم بدون قيود .
ومن الناحية السياسية تتمثل ايجابيات العولمة في محاولة نشر قيم الديمقراطية و حقوق الإنسان ومناهضة جميع أشكال الأنظمة السياسية الشمولية والديكتاتورية وفسح المجال للمشاركة السياسية الشعبية من خلال التعددية السياسية و الحزبية والفكرية وتبنى الحكم الراشد القائم على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وتحقيق السلام والحد من الحروب عن طريق تعاون الدولي.
وعلى المستوى الاقتصادي فالعولمة تؤدي إلى تشجيع المبادلات الاقتصادية التي تتم على نطاق عالمي،مما يؤدي إلى تنشيط الاستثمارات في الدول النامية،كما تهدف إلى تحقيق التنمية و الرفاهية من خلال التعاون القائم على المصالح المشتركة عن طريق تحرير التجارة العالمية وإلغاء القيود الجمركية وتفعيل الشركات المتعددة الجنسيات وتطوير وسائل الإنتاج ووفرته كما ونوعا...الخ
والسؤال الذي يبقي يثير التساؤل هو أي موقف على صواب؟هل نحن مضطرون إلى الأخذ بالعولمة وتبني قيمها من اجل مسايرة الركب الحضاري،أم يجب رفضها والتصدي لها بسبب ما تلحقه من ضرر على قيمنا الدينية وثوابتنا الوطنية؟
هناك فريقا ثالثا يتخذ موقفا وسطا ورأيا تجاه هذه الإشكالية فالعولمة بالنسبة لهذا الرأي أمرا واقعا يفرض نفسه لها ايجابيات كما لها سلبيات ومن الضروري أن نتعامل مع هذه الظاهرة الغربية بحكمة وتبصر،فلابد أن نأخذ بما جاءت به العولمة من علوم وتقنيات ومعارف في شتى المجالات حتى نتمكن من مواكبة متطلبات الحياة العصرية،لكن دون أن يكون ذلك على حساب القيم الأصيلة للدولة القومية.
وفي الختام يمكن القول باختصار أن العولمة سلاح ذو حدين لها ايجابيات ولها سلبيات والأمة التي تأخذ بمعايير عقلانية تستفيد منها دون أن تلحق ضررا بقيمها تكون أكثر قوة من غيرها،فلكي تستمر أمة من الأمم لابد عليها الانفتاح على العولمة والنهل مما تجيده من علوم ومعارف وتقنيات وفي نفس الوقت عليها أن تحافظ على مقومات الهوية الدينية و الأخلاقية و الوطنية .

[1]- انظر فرنسيس فوكوباما، نهاية التاريخ و خاتم البشر، ترجمة حسين احمد أمين،مركز الأهرام للترجمة و النشر ط1 1993 – ص 130

[2] - د/يوسف القرضاوي،خطابنا الإسلامي في عصر العولمة،دار الشروق ط1 – القاهرة 2004، ص123

[3] - هانس بيترماتن،هارالد شومان،فخ العولمة،ترجمة عدنان عباس علي،مراجعة وتقديم د/رمزي زكي مجلة عالم المعرفة ،الكويت1998،ص28