ثانـيًا :عوامل تطور النثر الجاهلي
هناك عوامل متعدِّدة جعلت النثر – وعلى وجه الخصوص الخطابة – ينتشر بين العرب في الجاهلية , ويحظى بمكانة مرموقة بين القبائل العربية الحلِّ والترحال , والأسمار , وما إلى ذلك ؛ ولهذا عُنيت القبائل به , وزادت عنايتها بالخطابة لدرجة جعلتها تُعنى بتدريب الفتيان عليها منذ الحداثة .
وأبرز عوامل تطور النثر الجاهلي ما يأتي :
1. ما طبع عليه العرب الجاهليون من بلاغة القول , وفصاحة اللسان , وقوة البيان .
2. أن لغة هذا النثر اللغة العربية توافر لها كثير من المقوِّمات والخصائص مثل النحت والقلب والإبدال والاشتقاق والترادف وغيرها .
وقد توسل العربي هذه اللغة واتخذها أداة للتعبير عن كل ما يعنُّ له من الأفكار والمعاني , وترجمانًا عن كل ما تنطوي عليه نفسه من أحاسيس , ومشاعر وعواطف .
3. انتشار الأسواق الأدبية , والمحافل الجامعة في العصر الجاهلي , وتحوُّلها إلى مراكز ثقافية يستعد لها ذوو اللسن , ويجوِّدون ما يقولونه لينال إعجاب الرواد من الجماهير من جهة , ويحظى من جهة أخرى باهتمام الرواة والنقاد .
4. حاجة القوم إلى كلام طويل فيه أثر الرويَّة , وتوضيح الحجة وتهذيب اللسان ؛ ليتمكن من أداء مهمتهم ومسؤوليتهم كل من : أشراف العشائر عند تفاقم الفتن , وحكام القبائل عند ترافع الخصوم , والأبطال في معمعة الحروب , والآباء عند تصرُّم الأعمار , والأمهات عند تزويج بناتهن , وكذلك القُّصَّاص في القص والسمر .
5. سياسة العرب الخارجية :
وقد كان لذلك أثره الواضح من رقي النثر الجاهلي بعامة , وفن الخطابة منه بخاصة , فقد كان الخطيب ممثلاً معترفًا به لقبيلته .

وهذا يستدعي أمرين رئيسين كان منهما تأثيره المباشر في هذا النوع من الأدب وازدهاره , وهذان الأمران هما :
أ‌- الدقة في اختيار الشخصية الأدبية المتميزة , ذات القدرة العالية على البيان والإقناع , وهذا حافز لذوي المواهب أن يؤدوا دورهم , ويقوموا بواجبهم تجاه مجتمعهم من خلال ما يتقنون من فن القول.
ب‌- التهيؤ والاستعداد للمقام , والمناسبة التي سيلقى فيها القول , فالخطيب مستعد لهذا .
6. حرية الفكر :
ليس ثمة قيود ولا ضغوط على الأديب في العصر الجاهلي ومجال القول أمامه مفتوح لقول ما يشاء .
7. الاتصال المباشر بالأمم والأقوام الأجنبية .
8. أيام العرب :
تأتي أهمية الحروب والأيام في تاريخ اللغة العربية من كونها مجالاً لكثير من الحوادث والوقائع والحكايات , التي اتخذها الرواة فيما بعد مادة أدبية لما كانوا يقصونه ويحكونه ويرونه عنها من منثور القول ومنظومة .
ونتيجة لهذه العوامل والأسباب ازدهر النثر وتطور وقد ظهر هذا التطور في مجالين :
أولهما : النضج والكمال الفني الذي بلغه النثر في هذه الفترة من عمره مما يدل على ضربه في أعماق الزمن .
ثانيهما : أن من مظاهر هذا الرقي وذلك الازدهار والتطور ما نجده من التنوع في ألوان ما ينسب إلى عرب الجاهلية من نثر .


ثالثًا :رواية النثر الجاهلي وتدوينه


· الرواية والرواة :
حقًا إن أكثر ما وصل إلينا من أدب جاهلي كان عن طريق الرواية لا التدوين , وإذا كان بعض الرواة قد ناله التجريح والطعن في صدقه وصحة ما نقل كحماد الراوية وخلف الأحمر , فليس كل ما قيل عنهما مسلماً به , فالإنصاف لحماد " يقضي أن نقابل الحملة عليه بكثير من الحذر , فربما كان مرد الحملة عليه راجعًا إلى ما كان بين رواة البصرة , والكوفة من عصبية زينت للبصريين " على الرغم من أن الأصمعي وهو راوية البصرة , يقول عنه : " كان حماد أعلم الناس إذا نصح " وذلك على الرغم مما بينهما من المنافسة والتحدي .
وهناك رواة كثيرون شُهِد لهم بالعلم , والصدق , والثقة منهم أبو عمرو بن العلاء , والمفضل الضبي, وأبو عبيدة معمر بن المثنى , وأبو عمرو الشيباني ...

· كتابة النثر الجاهلي وتدوينه :
أنكر شوقي ضيف كغيره من الباحثين والدارسين الذين قالوا بنحل النثر الجاهلي ووضعه – أن يكون الجاهليون قد اتخذوا الكتابة وسيلة لحفظ أشعارهم أو أداة في نقل دواوينهم إلى الأجيال التالية , ويرى أن" كل ما بين أيدينا من روايات من كتابة بعض الأشعار في الجاهلية إنما يدل على أن الكتابة كانت معروفة ... ولكنه لا يدل بحال على أنها اُّتخذت أداة لحفظ الشعر الجاهلي ودواوينه "



رابعًا :فنون النثر الجاهلي
مما لا شك فيه أن القليل الذي وصلنا من النثر الجاهلي يمكن أن يلقي الضوء على الأجناس الأدبية عند الجاهليين , هذا على الرغم مما اعترى كثيرًا من هذا النثر من إضافات وتغييرات في بعض عباراته , وما قد أصابه من تحريف في بعض أصوله , إذ هو مع كل ذلك يطلعنا بما لا يدع مجالاً للشك على الفنون السائدة عند الجاهليين , ويعرفنا بكثير من قضاياهم التي كانت تشغل تفكيرهم , كما يقفنا من جانب آخر على الجانب البياني في ذلك الفن .
على أن من ينظر ما تناقله الرواة من نثر في هذا العصر يلاحظ أنه يدور حول خطين متميزين هما :
الخط الأول : خط التعبير الخطابي الذي يستخدم فيه صاحبه كل وسائل التأثير الفنية كي يصل إلى عقل المخاطب وحِسه .وهذا ما يعرف بالخطب والوصايا والمحاورات والمنافرات , فكل هذه تعبيرات فنية يراد بها التأثير .
الخط الثاني : هو خط التعبيرات الموجزة التي تقوم على الإشارات البيانية , وتعكس خبرات الأديب وتجاربه في الكون والحياة , وطريقته في التعبير عن خلاصة فكره ورأيه , وهذا ما يسمى بالحكمة والمثل .

*** يتــــبع