الضوء الخافت !!
*****
وبحثت في أدراجه عن أي شيء يذكرني به.وأخبرني الطبيب الذي أضجرني بكثرة ترحيبه بي في غير آنه أن أبي سيتلقى جرعة من العلاج رغم أن حالته تسير بسرعة إلي الهاوية فزاد جزعي وأوصاني بالصبر فالصبر هو الأفضل الآن . وقررت أن أذهب مع أبي في غده وحذرتني أختي مما سأجده ولم تنس أن تسخر مني بكثير من الهمز الذي لم التفت إليه وأخبرتهم أني سأمكث إلي جوار أبي ولينوب عني زميل لي ريثما ينتهي الأمر باستمرار الحياة أو انقطاعها بموته وراحته !!
ولما رآني في الصباح ابتسم وحرك رأسه كما فعل بالأمس وساعدت أختي في تبديل ثيابه واستند علي وعليها حتى العربة واستقبلني الطبيب كذي أمس والتف حولي كثير يسألوني عن الجديد فأخبرهم أن لا وقت الآن لمثل هذا السخف فأبي بحاجة للعلاج وأعاود النظر إليه فليس لي منه إلا الصمت وتلك الهزة الخفيفة من رأسه الذي لم يعد به أثر لشعر كان يتباهى به آنا من الزمن وهذه النظرة المخيفة وهذه العظام البارزة في وجهه ولم أكن أطيق المزيد من السخف بيد أنهم اعتادوا الأمر وحسم الطبيب الأمر بنظرة حازمة منه .أقلب في الوجوه وأبحث فيها عن الإنسان.عن إنسان كامل.ولكني وجدت عظاما بشرية . هياكل بشرية كل ما فيها ولها من الحياة هو نبض الروح فهذا كل ما يربطهم بالحياة وصرخات من حولي كثيرة وأرقب الطلاء الخاص حتى لا يسمع أحد بالخارج الأنات. وأنات مكتومة وأبي وابتسامته الذابلة . نسيت الحياة التي أحياها ولم أعد أرى سوى تلك الحياة التي لا تحمل سوى الأنين والشكوى الدائمة والرغبة في التخلص من الألم الفظيع ولو بالموت فالموت هنا . وهنا وفي هذه الحياة التي رأيتها هو الرحمة بعينها .
وابتسامته الواهنة التي لم تفارقه قط حتى بعدما غاب عني أثناء جلسته وجرعته التي يتناولها وكان صمته يؤلمني وسألت أختي لم لا ينطق لم لا يصب علي جام غضبه ولم لا يطردني كما فعلها من قبل حين خالفت أمره وأخبرته أنه ليس ذنبي أنه هو الذي أنجبني وأني لن أظل وفيا لأحلامه في مقابل خسارة حلمي الوحيد وكيف فعلها لأنه رآني لا أريد أن أحقق حلمه في وأنا حلمه .
وعدنا إلي البيت وزاد حزني حين أدركت أنه فقد النطق أيضا . وهبطت إلي أختي في دكاننا القديم الذي تفوح منه رائحة الأعشاب التي كنت أحبها وكنت أنظر إلي مكانه وكرسيه الذي لم يزل كما هو باقيا بقدمه ولونه الأحمر .
قررت أن أقاوم معه وسألتها أن تساعدني ونجلسه هنا عله يفرح بما نفعل فزامت بشفتيها بدء ثم قبلت على مضض وجلس وفي يده مسبحته وبسمته لم تزل كما هي وصعدت لأعلى وأحضرت ألبوم صوره الذي يحتفظ به .
ولمحت هذا الخطاب . خطاب تعيني في الجريدة . لم يزل يحتفظ به رغم ما سبب له من غضب وإحساس بالقهر أنه لم يحقق حلمه وأنه لم يحقق هدفه حين أتى بي كما يخبرني على الدوام ..
وقلبت الصور أمامه وابتسم ابتسامته الواهنة وعظام وجهه البارزة تؤلمني ولكني أبتسم له ..
صورتي وصورته .صورة ابن وأبيه . ولد تعلق بثوب أبيه عساه أن يدثره بحنانه ولكن أنى ذلك وهذا الوحش اللعين ألم بالأب فبرزت عظام وجهه وغاصت عينيه أكثر إلي الداخل ولم يبق له سوى ابتسامة واهنة كأنها الضوء الخافت المتبقي والذي يربط الحياة بالموت أو ربما هي الدرجة الأخيرة من الحياة صعودا إلي الموت !!
حمادة البيلي
عضو نادي القصة
رئيس رابطة الكتاب العرب
تعليق