الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

صديق العصافير

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سمير الفيل
    كاتب مسجل
    • Mar 2005
    • 58

    صديق العصافير

    صديق العصافير

    بقلم: سمير الفيل
    تلك ضرورة . أن أتجه إلى هناك بأقصى سرعة . فأطوي المسافات ، وأبحث عنه في الثكنات البعيدة التي أخذته ، وطوحته بعيدا عن الدار ، والعصافير ، وأسماك الزينة ، وكلاب السكك المبتردة التي كان يحنو عليها بشكل لم أر أحدا يفعله غيره.
    قالت لي أمه : جاءني صوته منكسرا وحزينا .
    انتفضت قلقا ، وزاد توجسي كلما أوغل الوقت في ريبته .سمعتها تبكي في حجرتها . رأيت أن أزوره على صعوبة ذلك . لم أفعلها غير مرة واحدة كنت أمر فيها بالقرب من الثكنات ، وانتظرت ساعتين حتى كادت روحي تزهق من الملل . جاءني يومها فرحا وبشوشا ومد يده ، وتحسس كيس الأطعمة والفواكه . غمز لي بعينيه : أما أنت أحلى أب .
    صحت فيه وأنا أتأمله مرحا بزيارتي المفاجئة له ، ومعي صديقي الكاتب : سبحان الله . جندي يحمي الوطن صحيح.
    ضحك ساخرا: أحمي الوطن بقطعة خشب لا ذخيرة فيها.
    مرت المزحة على خير، وأحضر لنا زجاجتين من المياه الغازية. جلسنا معه يومها لنصف ساعة ثم انصرفنا على الفور في خفاء . المكان بعيد ، وتحوطه الأسوار من كل جانب ، أما المحاذير فأصعب من أن نتخطاها بسهولة.
    قطار التاسعة الذي ركبته نغص علي ّ البقية الباقية من صفو ذهني ؛ فزحامه مروع ، والأجساد تتصارع كي تحصل على رقعة للوقوف فما بالك بالجلوس .
    قالت لي وهي تصر لي بعض الأطعمة المطهية منذ دقائق في ربطة محكمة : كان صوته مشروخا من النحيب .
    ـ هل أخبرك بشيء ؟
    ـ لا .
    ـ فلماذا أذهب ؟
    ـ أنا أدري بابني .
    ـ كيف؟
    ـ إنه يتكتم كربه في صدره.
    هل لي أن أتوجه إلى القائد فأخبره أن لي حقا على " الكاكي "حين خدمت على الجبهة لسنوات ، ودونت كل ذلك في أوراقي .
    الطريق ملتو ، وأشجار الكافور مصفوفة في المنحدرات . كان يجب عليّ أن أتخطى مزلقان السكة الحديد. شعرت أن القطار دهمني ، وطسني طسا فتوجعت ، وكان الباب سيارة الميكروباس قد انزلق وسقطت بعد أن خدر الكسل جسدي فرحت أتوجع. السيارة التي ركبتها من محطة القطار حتى الثكنات كانت مفاصلها تطقطق ، وركابها محشورون حشرا كقطعة لحم واحدة . كوب ماء في يد شاب ملتح راح يقرأ " يس " ، وبرشامة صداع ، مع بعض الماء المزهرالمرشوش على الوجه.
    وصلت بعد أن عدلت من هيئتي . عساكر في نفس السن الغض أشاروا لي أن أبقى قليلا في الظل ريثما يمر الضابط في نوبته الروتينية .
    على الحشائش الخضراء جاءت جلستي ، وخط الجير الأبيض يحدد بوضوح المنطقة المحذورة.
    وجدته يتلفت ، وبيده قفص صغير من الخيزران ، كان يحركه مسرورا . يميل بجسده الصغير ، وهو يضع الحب في قبضة يده الصغيرة ليطعم عصافيره الملونة : إحذر أن تنقر أصابعك.
    ـ لا تخف يا أبت.
    ـ هل ميزت الذكر من الأنثى؟
    ـ طبعا ، وسأريك.
    أدخل يده مترددا فانكمش طائر ، ودخل العش الخشبي في سقف القفص فيما بقى الطائر الآخر يقرب منقاره الصغير المسحوب من اليد في رهبة ينقرها نقرة إثر نقرة ، ويصدر صوتا أقرب للشقشقة الخجولة.
    اقتربت من كشك الشرطة وسألت : هل أخبرتموه أني هنا ؟
    ـ نعم. سيأتي .
    ـ لقد تأخر .
    ـ عليك بالصبر قليلا.
    ـ أنا صابر.
    ـ اختف هناك لو سمحت . وجودك يسبب لنا المشاكل.
    في تلك اللحظة وجدته أمامي ، وقد طال شبرين. تراجع عندما رآني ، وتلجلج في الكلام : أنا نجحت.
    ـ مبروك . هديتك ستكون أول الشهر.
    ـ لا أريد هدية يا أبي.
    ـ لكنني وعدتك.
    ـ اسمح لي أن أربي الكلب .
    ـ ستغضب أمك فهو سينجس لها المطرح.
    ـ سأغسله بالماء والصابون كل صباح.
    ـ لن ترضى ، ستنقض وضوءها.
    ـ لكنني أريد أن يكون معي .
    سمح بفسحة صغيرة وسع بها المكان وأراني إياه. كان كلبا بلديا رخيصا لكنه في غاية المرح . يتمسح في بنطلونه ، ويهز ذيله في حبور .
    ـ لا داعي للمشاكل .
    ـ والله لن أحدث أية مشكلة .
    ـ أبعد عن الشر وغني له.
    ـ أي شر . الكلاب تجلب الخير.
    ـ يمكنك أن تشتري مسدسا بطلقات ، وتلعب " عسكر وحرامية" .
    ـ لم أعد طفلا.
    ـ قلت لك أن الكلب نجس .
    ـ لكنني لست أمرأة لأربي قططا .
    ـ لا قطط ولا كلاب.
    جاءت أمه في تلك اللحظة ، وحالما وقع نظرها على الكلب صرخت ، وأقسمت ألا يدخل البيت أبدا. هي أو هو . وقد انتصرت على الكلب فقد كانت هي الأهم . رأيته يبكي ويخفي دموعه بظاهر يده قبل أن يعطينا ظهره .
    مرت سيارة التعيين فاختفى الصغير وأمه ، ومرّ كلب هرم لا يشبه الكلب الذي كان الولد قد ربطه بحزام جلدي في عنقه مع شريط من الستان الأحمر منذ سنوات . سمعت لغطا وأصوات ترتفع كي يسرع العساكر بحمل "أروانات" التعيين لتدخل المعسكر بسرعة . مرت سحابة داكنة فأظلت المشهد ، وتفصد العرق على جبهتي ، وأنا أحرك مسبحتي الكهرمان في جلستي القرفصاء ، والعشب يتحرك بنسيم الشمال الذي يسري بنظام عجيب .
    وضع يديه الصغيرتين على وجهي ، وهمس بصوت خاله غليظا: من أنا ؟
    ـ أنت الديك؟
    ـ وما لون ريشي ؟
    ـ أحمر على أسود.
    ـ هل أبيض أم ألد؟
    ـ لا هذا ولا ذاك . الدجاجة هي التي تبيض .
    ـ وما كلمة السر؟
    ـ الديك الفصيح يطلع من البيضة يصيح.
    رفع كفيه ، وقال لي في خيبة أمل مصطنعة : عليك واحد . لكنك كشفتني.
    وخلفه وجدت صندوق صغير وبداخله مجموعة من البلي الزجاجي الملون . طلب مني أن يلعب معي " في العش ولاّ في الطار " . غلبته مرة ، وغلبني مرتين ، دققت في ملامحح وجهه كانت سمرة خفيفة تميزه ، رأيت أنه قد قصر ثلاثة أشبار ؛ لأنني حينما حملته لأدور به في البلكونة مثلما كنت أفعل كلما عدت من العمل وجدته قد خف ، وخف حتى أنني شعرت أنه صار في خفة الريشة ، وحينما أدوخ وتدور بي الدنيا أجده ينزل بهدوء ، و يضع صدره اللاهث على الكنبة الخضراء بمنمنماتها البنية ، وهو يشهق : أنت سكرت.
    سألته وأنا اقرب وجهي من عينيه البنيتين : من أخبرك بمسألة السكر يا ولد؟
    ـ أنت.
    ـ متى؟
    ـ يوم ذهبنا للصيد قلت لي أن اصطياد كل هذا البلطي أسكرك . ورأيتك تتطوح؟
    ـ أنا يا ابن الذين...
    حملت الصرة من جديد وحاذيت السور ، وذهبت إلى البوابة الخلفية ، فصدمت لأن الجنزير الحديدي كان يغلقها بإحكام شديد . عدت شاعرا بالضياع ، ومالبث أن غمرتني نوبة من الضيق .
    قربت وجهي من شبكة الحديد بفتحتها المدورة : أهو بخير؟
    ـ نعم.
    ـ لماذا تأخر؟
    ـ سيأتيك حالا بعد أن نجهز الأمر.
    ـ ما الذي تجهزونه ؟
    ـ لا شيء .
    قبل أن أحتج وأضرب بقبضتي الباب المغلق ، وضعت يدي على شعره الناعم ، ولاحظت انه مبتل . ملابسه كانت هي الأخرى تقطر الماء .
    قسوت عليه وأنا أهدده بالكلام : سأضربك لو كذبت علي ّ.
    ـ لن أكذب.
    ـ هل نزلت النيل؟
    ـ نعم.
    ـ لماذا عصيت أوامري؟
    ـ كنت أريد أن أعرف كيف تسبح الأسماك.
    ـ بالزعانف والذيل .
    ـ عرفت ذلك لأنني صرت في النهر سمكة !
    ـ وماذا لو غرقت ؟
    ـ كان معنا طوق مطاط.
    ـ إذن هو شيء مدبر.
    ـ أبدا.
    ـ من كان معك من الأولاد. سأخرب بيوتهم .
    ـ لا أعرفهم.
    كنت أدرك أنه يتستر عليهم ، ويحميهم بصمته . خلصتنه أمه من ضرباتي الطائشة . فز الولد من مكانه عندما لوّحت له أن يذهب ليغير ملابسه ، وأقسمت برحمة أبي أن أحرمه من المصروف شهرا.
    ربما سمعني لأنه ابتعد عني ، واستعصم بالصمت وهو يجذف بيدين قويتين مبتعدا عن الشاطيء ، صحت فيه أن يعود ، لكنه طلب مني أن انتظر لدقائق ، وابتعد حتى لم أعد أرى القارب . بعد أن غفوت من التعب وجدته عائدا ويده تلوح لي والأخرى تحمل جرة من الفخار . كان ريقي جافا فتجرعت الماء السلسبيل . هبط من القارب ، ثم ربطه في حبل قصير مجدول بشجرة سدر ، وهزني : أفق.
    أفقت فعلا فإذا السور بنفس امتداده البعيد البعيد ، وصفوف من العساكر تدخل ، ويغلق الباب من جديد. أنّت المفاصل وسمعت من ينادي باسمه . فتح الباب المواجه لجلستي بشكل موارب، وسمحوا لي بالدخول.
    ـ ابني .
    كان حليق الشعر .
    ـ ماذا بك؟
    صمته يؤرقني ، وفي عينيه دموع حبستها كرامة لشاب يقترب من حدود الرجولة.
    ـ هل آذوك يابني؟
    لمحت خيطا لا يكاد يرى من الأسى يتسلل إلى الوجنتين.
    ـ لماذا جئت ؟
    ـ لأراك؟
    ـ حضورك أتعسني .
    ـ لم أقصد .
    ـ تحملت الألم وحدي .
    ـ والآن ..
    ـ أفسدت كل شيء .
    ـ لماذا تعاتبني ؟ ماذا حدث ؟ هل فعلوها معك؟
    ـ نعم يا أبي . دخلت السجن .
    ـ وضح لي . ماذا فعلت ؟
    ـ كنت في الخدمة ، وكاد زميلي يقع من طوله لأنه صائم طول اليوم.
    ـ ثم؟
    ـ تركت مكاني للحظات كي حضر له زمزمية ماء.
    ـ ولماذا لم يذهب هو؟
    ـ الواجب كان يقتضي أن أفعل أنا.
    ـ لماذا؟
    ـ كان يغمغم كالشارد أنه عطشان . وقد ذهبت دون أن أفكر في العواقب .ثم أن الجميع يفعلها .
    أكملت : وجاء الضابط ، وأحالك " مكتبا " إلى القائد.
    ـ نعم.
    ـ والباقي معلوم.
    ـ لكنني ورحمة جدي لم أفعل ما يستوجب العار.
    ـ أعرف . لكنك أخطات. لا يترك جندي مكان خفرته.
    ـ آه . قوانين الضبط والربط.
    ـ بدون ذلك لا ينتظم الأمر .
    ـ أكنت أتركه يسقط من الإعياء؟
    ـ وماذا حدث لك هناك؟
    ـ لا شيء .
    ـ بل حدث .
    ـ قيدوا يديّ ، وصفدوا أقدامي بالأغلال لأسبوع كامل؟!
    ـ أسبوع. كان يكفي خدمتان زيادة .
    ـ نعم . لم أذق النوم يا أبي أسبوعا.
    تأملت وجهه الهضيم ، والتفت إلى العساكر الذين أخلوا لنا الحجرة الملاصقة للبوابة . كانوا يتحدثون في همهمة غاضبة ، وقلوبهم مع زميلهم . أبني . قال لي واحد من العساكر وهو يعدل الكاب: ابنك جدع .
    وجاء صوت لشاب نحيل في نفس سمرته : طيب وخدوم .
    أحضر ثالث كرسي وربت على كتفي : نحن نحبه جدا .
    تحركت أصابعه على الأورج ، وتصاعدت النغمات فملأت المكان " حمامة بيضا .. ومنين أجيبها " . كنت أشجعه بهزات من رأسي ، وكانت أمي تقف بالصينية على الباب متسمرة ، وهي توّقع دقات متتالية بمشط قدمها الأيسر. غنى بصوت ملائكي " طارت يا نينة . عند صاحبها " . صدمتني النظرات المصوبة نحوي من ثلاثتهم . انصرفوا وتركوني معه ثانية . صرنا بمفردنا .
    قلت لأنهي الحديث المليء بالمرارة : هي تجربة.
    ـ لم تعد الحياة مقبولة.
    ـ كلنا تعرضنا لأكثر من هذا.
    ـ أنا لم أتعود.
    غمرني السكون ، ورسفت في كثبان رملية هائلة أوشكت أن تبتلعني فصرخت في الصحراء اللانهائية : أريد جرعة ماء .
    سألني ، وأنا أمد يدي بالصرة : ماهذا؟
    ـ طعام جهزته أمك؟
    ـ لا أريده .
    ـ لو أرجعته ستقلق.
    ـ ضعه هنا.
    ـ حاضر.
    ـ من فضلك لا تخبرها بما حدث لي.
    ـ لا , لن أخبرها.
    ـ قل لها أنني بخير.
    ـ سأقول .
    ـ وقفص العصافير الذي كنت أخبئه فوق السطوح.
    ـ أعرفه . ماله ؟
    ـ من فضلك تخلص منه.
    ـ لكن.
    ـ ولي عندك طلب بسيط يا أبي.
    ـ تفضل.
    ـ فتش لي عن عقد عمل عندما أنهي خدمتي.
    ـ لكنني لا أريد لك أن تسافر.
    ـ سأبحث أنا.
    كانت ضمته حنونة ، وموجعة . في كل مرة كان يغادر البيت كنت أكتفي أن أسلم عليه بحرارة. مع الضمة الرحيمة شعرت بروحه المتعبة تنهنه .تحاشيت أن يقع بصري عليه . تسرسب صوته مختنقا : مع السلامة.
    صوبت نظري إلى الرمل الأخرس . تأهبت للإنصراف ، ولم أنظر خلفي ، فيما كان العساكر يفكون الجنازير كي أعود للطريق الذي أتيت منه.

    القاهرة 17/7/2007
يعمل...