الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

تقليص
X
  •  
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    كاتب مسجل
    • Jun 2006
    • 1123

    النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

    النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل
    .................................................. ............

    صدرت هذه المجموعة مؤخراً عن سلسلة «أصوات أدبية»،
    الثقافة الجماهيرية ـ مصر،
    وتضم المجموعة ثماني عشرة قصة قصيرة:



    ***

    الإهداء:

    إلى يحيى حقى


    (1)
    لماذا يتحدون ضدى ؟

    مات الجد عبد الرحيم ..
    قال لى حفيده شوقى بائع أدوات الصيد بوكالة الليمون ، أن مرعى خادم جامع أبو العباس ، جاء بنسخة القرآن ليكتب عليها اسماً جديداً ، بتاريخ ميلاد جديد . لم يكد يقلب الصفحات ، فى مراجعة للأسماء والتواريخ ، حتى تملكه الغضب . تقلصت ملامحه ، واحمرت عيناه ، وأخذت الرعشة أطرافه . ثم شهق ، ومات .
    لم يدر ببال أحد أن الجد عبد الرحيم يموت . بدا جزءاً من تواصل الحياة ، أزلياً مثل الدهر . أجمل أوقاته حين يحيط به الحفدة فى أوقات العصر . يستعيد ما نسيه ، يتحدث عن الأصول ، والبدايات ، والمعارك ، والحروب ، وامتلاك ما دفع أبناء العائلة حياتهم من أجله .
    حدث ما كنت توقعته ..
    اتهم أحفاد للجد عبد الرحيم إخوتهم بأنهم تآمروا لقتله . اختلفوا ، وتشاجروا ، وتواجهوا بالاتهامات . كثر ترددهم على نقطة الأنفوشى ، وعلى النيابات ، والمحاكم .
    طال ترقبى للثغرة التى أتسلل منها ، فأبدّل كل شئ ..
    لم أدبر نفسى ، ولا تصورت ، أن الدعاوى ستجرنى إليها ..
    رفض أحفاد الجد عبد الرحيم قرابتى لهم . طرق المحضرون باب بيتى بحقائبهم المنتفخة ، وسحنهم المتلبدة بالعرق ، فى أيديهم دعاوى برفض قرابتى لعائلات حصلت على حق نظارة أوقافها ، أو الإشراف عليها . عانيت الاتهامات بالخداع والتزوير ، وادعاء ملكية ما ليس من حقى . من كانوا يتقبلون ما أدسه فى أيديهم ، علت أصواتهم بالرفض والغضب والتمرد . حوصرت ـ بلا توقع ـ فى موقف الدفاع ..
    أما لماذا أصررت على التقاضى فيما كنت أعرف أنى ـ ربما ـ لن أفوز فيه بشىء ، فلأن ما أرجوه يتجاوز مصلحتى الشخصية إلى مصلحة العائلة .
    هى ليست عائلة واحدة ، لكنها مجموعة عائلات ، عائلات كثيرة ، تجد فى الحصول على عائد الوقف ما يحقق لها الثراء ، ويبدل حياتها .
    المستحقون فى قضايا الأوقاف ـ منذ صدر قرار حل الأوقاف ، وتوزيع الأصول على مستحقيها ـ يبلغون الآلاف ، وقيمة أملاكهم تبلغ مليارات الجنيهات .
    الوقف ـ كما تعلم ـ صدقة جارية من أموال الواقف . يستمر بقاؤها بعد مماته . تنفق فى وجوه البر والخير ، وتظل مستمرة ، ثوابتها لا تنتهى ، ويقتصر الإنفاق من العائد المادى . قد يهب الواقف أملاكه لمن يراه من ذريته ، أو نسله ، أو زوجاته ، أو جواريه ، بموجب حجة يحدد فيها حدود الوقف والمنتفعين به ممن يراهم هو . ثمة عائلات تصر على أن يقتصر الوقف عليها ، لا تفيد منه عائلات أخرى ربما تكون أشد احتياجاً .
    مسئولية ديوان الأوقاف رعاية شئون الأوقاف المختلفة ، ورعاية مصالح المستفيدين منها . ينظم استغلال الأوقاف بنوعياتها المختلفة ، وينظم قواعد المحافظة عليها ، وإصلاحها ، بما يحقق المنفعة ، ويمنع الضرر .
    حرصت على أن يؤدى وظيفته تحت رعايتى ، وبمتابعة منى . يهمنى مستقبل هذه العائلات التى لا تعرف صالحها ، ويهمنى صالح عائلتى أيضاً ، وتأمين المستقبل من عائد لا يفاجئنا بنضوبه . حتى ما أحتفظ به هو لصالح الآتى من الأيام .
    كان لابد ـ لتعدد الأوقاف ـ من تنظيمها ..
    كثرت المنشئات الموقوفة ، والموقوف عليها ، زادت المصاريف ، وصعب الحصر ، بما يحتاج إلى إعادة نظر . لا يشغلنى الحصول على ما يمتلكه غيرى .
    أنا الأقوى ـ كما يعلم الجميع ـ والأكثر ثراء . تهمنى المسئولية فى تحقيق العدالة . رؤساء العائلات الذين يحتفظون بمعظم ما تدره من ريع ، والعائلات التى لا تحسن الإنفاق ، وتبدده فيما لا جدوى منه ، كالنزيف الذى يجب إيقافه .
    يثيرنى أن يمتلك الشخص ملايين الجنيهات ، ويعانى فقراً حقيقياً .
    أوكلت إلى أعوانى حراسة الأوقاف ، حتى لا يبددها أصحابها . أهملت الاتهامات بأنى أرفع الدعاوى لسلب وارثى الأوقاف أملاكهم . هددت بأن يعاد النظر فى قوانين الملكية والمواريث .
    تابعت أصول الأوقاف ، ومنابعها ، وتصنيف أنواعها ، وتحديد ما تحمله من شروط . تمليك الوقف بالبيع ، أو بالإرث عن الأجداد ، فالآباء .
    من يدعى ملكية أرض أو عقار ، عليه أن يثبت تملكه لها بالبيع ، أو بالإرث . أكشف ـ فى سجلات المحاكم الشرعية ـ عن العقارات والأراضى . أطالب بأن يثبت الورثة قيد ميراثهم فى السجلات . إذا لم يكن الوارث يمتلك حجة ، أو يشوب حجته ما يقلل من صحتها ، فإنه يدفع رسوماً للحصول على حجة جديدة ، أو تصحيح الحجة القائمة ، أو يتنازل عن الدعوى فلا يطالب بما ليس من حقه .
    يجيد أعوانى قسمة المواريث ، وقروض القسمة الشرعية ، وحصص الورثة ، وما يتصل بذلك من الهبة والبيع والشهادة والمنازعات والتسميات التى لا حصر لها . أحرص على إطالة أوقات الدعاوى . أزيد من تشابكاتها حتى يحل اليأس .
    اعتدت كلمات المستندات والحجة وعقود الزواج والطلاق ، وشهادات الميلاد وشهادات الوفاة والمجلس الحسبى وقوائم التركات والوصاية وشجرة العائلة والفتاوى .
    وضعت يدى ـ بموافقة أصحاب الأوقاف ، ولكى يقربوا مواعيد تسلم حصصهم ـ على ما يصعب حصره من البنايات والأراضى المزروعة والصحراوية ، تتخللها القصور والوكالات والرباع والخانات والوحدات السكنية والمقصورات والفنادق والحوانيت والخانقاوات والزوايا والأسبلة وأحواض الدواب ..
    صار لى حق النظارة على الكثير من أراضى الأوقاف الخيرية والأهلية . لجنة قسمة أملاك الوقف بلا حول ولا قوة ، خف وقع الأقدام المتجهة إلى الطابق الثالث فى البناية المجاورة لمحلات صيدناوى بالعتبة . أبطلت الكثير من المرتبات ، ومن إنفاق ريع الأوقاف المخصصة للصدقات والخيرات . باب ينفذ منه الصواب والخطأ ، ما يصح وما لا يصح ، أصحاب الحقوق ، والمتبطلون ، ومن يشغلهم أن يأخذوا ما ليس من حقهم .
    لاحظت أن وقف عائلة الوسيمى ، ما أوقف على أفرادها من عقارات وأراض زراعية وأموال سائلة ، يزيد كثيراً عن حاجة العائلة ، ويقل كثيراً عن حاجة عائلات أخرى .
    قلت للشيخ السمرة فى لهجة مستنكرة :
    ـ لماذا تقتصر الأوقاف على المنشئات الدينية من جوامع ومساجد وزوايا ومدارس وأسبلة وغيرها ؟
    قال الشيخ السمرة :
    ـ هذا شأننا ..
    تحول إشرافه على الوقف إلى وظيفة ، هو يتوجس ، ويكره النصيحة ، ويخشى تدخلى . لم يعد فى حياتنا شأن منغلق على أصحابه . شأنى شأن الآخرين ، والعكس صحيح ..
    قلت :
    ـ هو شأنى أيضاً ..
    وربت كتفه بيدى :
    ـ الصغار مسئولية الكبير ..
    أظهر تمازج الدهشة والضيق :
    ـ لماذا لا يكون كل امرئ فى نفسه ..
    ـ أنت لا تعيش بمفردك ، وعائلتك لا تعيش وحدها ..
    وأدنيت قبضتى من وجهه :
    ـ هذه مسئوليتى .
    لا معنى لوقف البنايات والأراضى دون استثمارها . العائلة ذات الألف فرد تكبر فى مدى سنوات ، وتتضاعف ..
    أقف أمام لجنة قسمة أملاك الوقف . جلساتها كل أحد ، من التاسعة حتى العاشرة والنصف صباحاً .
    أحاول أن أضع يدى على الأوقاف . أعيد التوزيع ، فينالها من يستحقها ..
    أظهرت اللامبالاة عندما طلب الموظف أن أظهر المستندات التى تدل على حقى فى الوقف ..
    قال الموظف :
    ـ هل أصبحت أموال الأوقاف سائبة ؟
    رمقته بنظرة لوم :
    ـ لماذا تخصنى بهذه الكلمات ؟.. أنا أطلب حقى ..
    ـ لقبك يختلف عن لقب الورثة ، واسمك ليس مدرجاً فى شجرة العائلة .. ولا ذكر لك فى سجلات أو أوراق ..
    ـ هذا ما تراه ، لكننى أملك الوثائق التى تثبت حقى ..
    ـ أين هى ؟
    ـ إذا لم أحصل على حقى بالود ، فسأحصل عليه بوسائل أخرى ..
    وضعت يدى على وقف الريعاوى . مساحات واسعة مترامية ، وفى مناطق مختلفة . أراض زراعية وعقارات وميادين وشوارع وأسواق .
    يدعى الورثة أنهم من السادة الأشراف ، ويمتد نسلهم إلى الإمام الحسين رضى الله عنه .
    لجأت إلى رفع دعوى بأحقيتى فى الميراث . تراكمت الأوراق ، والوثائق ، والملاحظات ، والمستندات ، وإثباتات الملكية ، والسجلات والأحكام ، والأحكام المؤقتة ، والتى تنقضها دعاوى مقابلة ، والحجج ، وبيانات شجرة العائلة ..
    الوقف لا يباع ولا يوهب أو يرهن ، ولا يجوز التصرف فيه . مهمتى أن أضع يدى على كل الأوقاف . يتعدد التأجيل والإلغاء ، وإعادة رفع الدعاوى ، وتقديم المذكرات ، ودفع الرسوم . يتنازل أصحاب كل وقف على جزء منه ، فأسقط دعواى ، وألتفت إلى أوقاف أخرى . يعنى المستفيدين أن يحصلوا على العائد ، كل ما يخصه ، بعيداً عن التقاضى والتأجيل وتقديم الأوراق والطعن فيها . يدركون أنه إذا طال عرض قضية الوقف ، فسيزيد عدد المتقاضين بطلب الوراثة ، أو من يجدون لأنفسهم حقوقاً فى الميراث ، وتتكاثر الدعاوى . تتضاءل قيمة الأموال بحيث لا تشجع على طلبها .
    نفض أكبر الحفدة زيتون التاجر بشارع الباب الأخضر يديه كمن ينهى أمراً ، وقال :
    ـ هذا حلم نمت فيه ليلة طويلة ، وكان لابد أن أصحو منه ..
    وزفر :
    ـ لا أريد وقفاً . أكتفى براتبى أول كل شهر !
    أدان الدعاوى والقضايا والخصومات التى لا تنتهى . قال إن الإنسان لا يحمل شيئاً عند رحيله من الدنيا ، فهو إذن ليس فى حاجة إلى أموال تزيد عن حاجة دنياه .
    فطنت إلى الربا وسيلة للاستيلاء على الأوقاف التى يعانى أصحابها ظروفاً قاسية . أعطيتهم ما يطلبون . أومئ بالزيادة . أدرك أن السهل يغرى بتناسى النتائج . تبلغ الديون ما يساويه الوقف ، أو أكثر . أبعث إلى البنك ما بحوزتى من إيصالات وشيكات ، وأنتظر .
    بدا لى وقف الجد عبد الرحيم مشكلة من الصعب حلها ..
    الرجل يعرف شجرة عائلته . هو الجذر ، يتفرع منها الأوراق ، الأحفاد ، من عاش ومن مات . حرص على تداخل القرابة ، فلا يتيح للغرباء أن يرثوا من الوقف . من يتحدث عن العاطفة ، يزجره بنظرة غاضبة ، يلزمه أن يتزوج من داخل العائلة .
    لم يزعجه ما أعد للحصول على إيرادات الوقف ، قدر انزعاجه من محاولة انتسابى إلى العائلة . يؤول إلى ورثته ما يمتلكه من الأراضى والعقارات والأموال . المخالفة تعنى ذوبان الجسد المعلوم فى الأجسام الغريبة .
    كان الجد عبد الرحيم ـ لإدراكه أن العمر سيطول به ، ربما أكثر مما ينبغى ـ قد أزمع البقاء فى سريره ، بالقرب من النافذة المطلة على شاطئ الأنفوشى . يوزع أراضيه وعقاراته على أحفاده الكثيرين ، ويلاحظ تصرفاتهم المعلنة والمستترة . يقرر ما إذا ظل فى موضعه ، أم يرفع عنه الغطاء ، ويعيد توزيع أملاكه على من يستحقها .
    أملاكه موزعة بين صحراء المتراس وأحياء القاهرة القديمة والأراضى الزراعية فى الغربية والشرقية والصحراء المتاخمة للحدود مع ليبيا والعريش .
    أثبتت السجلات وجود قطع أرض فضاء فى جبل ناعسة ، وأرض بور ـ بتأثير الملوحة ـ فى الطريق بين دمياط وبور سعيد ، وحدائق برتقال فى أنشاص ، ووابور طحين بالقرب من بلبيس ، ومساحات دكاكين فى كوم الدكة ، وخمسة وعشرين بناية مخصصة للتأجير فى منطقة الرمل ، وفرن فى شارع الميدان ، ودكان لبيع الكتب القديمة فى العطارين ، ومصبغة للملابس فى غربال ، ووكالة ذو الفقار كتخدا بالجمالية ، ووكالات أخرى فى أسوان ورشيد والسويس . حتى الدائرة الجمركية ، كان للعائلة مستودعات ومخازن وأرصفة ، يقتصر استخدامها على أبناء الجد عبد الرحيم وأحفاده .
    لو أنى تنازلت عما هو حق لى فى وقف عبد الرحيم ، فسيصبح التنازل هو المبدأ . ما عداه استثناءات قليلة ، ما تلبث أن تذوى وتتلاشى ..
    أشرفت بنفسى على وقوف القلابات فى نهاية مساحة اختلاط قطع الحجارة والتراب والرمال . تمتد المسافة إلى داخل البحر ، فوق المياه ، ثلاثة أو أربعة أمتار ، كل يوم . تذوب الفواصل بين أرض الدولة وأرض الوقف . يصعب على الجد عبد الرحيم إثبات ما تملكه عائلته ، وما هو ملكية الدولة . يضمنى إلى الورثة ، فأفصل بين ما للدولة وما لورثة وقف عبد الرحيم ..
    عرفت أن الجد عبد الرحيم يكتب أسماء المواليد وتواريخ الميلاد فى هوامش مصحف ، يحتفظ به أسفل جامع أبو العباس . يضعه ـ بأمر منه ـ مرعى خادم الجامع ، فى المسافة الفاصلة بين ضريح أبو العباس وأضرحة أبنائه . يعيده إلى الجد عبد الرحيم صباح ولادة كل طفل . يكتب الجد عبد الرحيم الاسم والتاريخ . عشرات الأسماء امتلأت بها هوامش المصحف . يستعيد الجد عبد الرحيم ـ بقراءتها ـ ما قد يكون نسيه من اسم حفيد . تظل الأسماء كلها حية فى الذاكرة .
    استندت بكتفى إلى منبر الجامع . تناثر فى الصحن الواسع رجال يتلون القرآن والأوراد ، تحت الأعمدة الجرانيتية ، ولصق الجدران . فى المواجهة نساء يطفن حول المقام المضوع بالبخور ، يلمسن المقصورة النحاسية بالأيدى ، ويطلبن الشفاعة والنصفة والمدد .
    أظهرت للخادم من النقود ما يزكّى طلبى بأن أهبط الدرجات المفضية إلى الضريح . ما يهمنى قوله ، يصعب أن أهمس به من خلال القضبان المحيطة بالمقام . عرضت أمنيتى أن أنزل إلى قرب الضريح . دسست فى يد الخادم نقوداً أخرى ، تزكية لطلبى .
    لم تطل وقفتى ، ولا انحناءتى السريعة ، فى الفاصل بين ضريح أبى العباس وأضرحة الأبناء . تأكدت من غياب النظرات ، ثم سجلت اسمى وتاريخ ميلادى . لم أزيف ، ولا ادعيت اسماً ، ولا تاريخاً يخالفان الحقيقة .
    هؤلاء الناس .. لماذا يتحدون ضدى ؟
  • د. حسين علي محمد
    كاتب مسجل
    • Jun 2006
    • 1123

    #2
    رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

    (2)
    *ما لا نــــــــراه*
    ....................

    لا أذكر كيف ، ولا متى ، تنبهنا إلى قدرة أمنا على رؤية ما لا نراه . تغمض عينيها ، أو تشرد بهما . تهمس بالمتوقع والمحتمل .
    لم يعد يشغلنا حتى اختلاط أسمائنا على لسانها . الصحيح هو ما تتحدث به عن الصور التى تراها وحدها . تتوه عيناها ، ترحلان إلى نقطة بعيدة ، غير مرئية . تحك جبينها بأطراف أصابعها ، كأنها تستدعى الذاكرة ، أو تتثبت مما ترى . تتحدث عن الذين رحلوا ، والذين نرقب مجيئهم . تذكر أسماء لا نعرفها ، ولا سمعنا بها من قبل . ربما أقارب أو أصدقاء أو جيران ، أو متوارين فى الذاكرة من الأيام البعيدة . تتطلع إلى صورة أبى على الجدار ، تحكى له ما حدث فى يومها ، وما تتوقعه . تشكو متاعبها ، وتتحدث عن مخاوفها وقلقها . لا تعنى بتبين ما تقوله على وجوهنا ، وما إذا كنا نصدقه ، وإن صحت توقعاتها فى كل الأحيان ، وكانت تجيد قراءة أفكار الآخرين دون أن تأخذ منهم وتعطى . تشعر بالميل لمن تلتقى بهم ، أو يداخلها النفور ، بلا أسباب محددة .
    كانت أمى تتلو أدعية والمعوذتين وآية الكرسى ، قبل أن تطأ عتبة البيت فى خروجها إلى مقام سيدى كظمان القريب . تجلس بين يديه . تلتمس النصيحة والمشورة والنصفة والمدد . وكانت تتردد على المنجمين وقارئى الكف والفنجان والطالع ومفسرى الأحلام ، تتعلم صنع وسائل درء خطر العين والجان وأعمال السحر ، وأسرار الحروف والتصريفات والطلاسم .
    ربما أغلقت عليها حجرتها من الداخل . نرهف أسماعنا إلى الصمت السادر ، تقطعه لحظات من تلاوة القرآن والأدعية لطرد الأرواح الشريرة ، والابتهالات والأغنيات الحزينة كالتعديد .
    كانت تخاطب الشمس والقمر والنجوم والبحر والعتمة والفضاء . تشفق على الثور الذى يحمل الدنيا على قرنيه ، وإن لم تفقد الثقة فى أن الملائكة لن يتركوا النجوم من أيديهم ، حتى لا تسقط على الأرض .
    تتحدث عن قوة النوات وتأثيرها . تصدر حكمها على نزول المطر وغياب الشمس وارتفاع الأمواج وتكاثف السحب والمناطق الصالحة للصيد . تخرج إلى الساحات الخالية والخرابات والبيوت المهجورة . تخاطب من تلتقى بهم . تراهم ولا نراهم . أطياف وأشباح وكائنات مختفية . تهمس ، فى مواجهتهم ، تنفعل . تطيل الصلاة والتسابيح . تتجه بدعواتها فى اللحظات التى تأمل أن تكون فيها أبواب السماء مفتوحة . تلجأ إلى النوم لتجد توقعاتها فى الأحلام .
    قالت إنها رأت ـ فيما يرى النائم ـ أخى باسم فى حضنها ، قبل أن يبلغ عامه الثانى . هبط طائر ضخم ، فانتزعه بمخالبه ، ومضى فى أفق السماء . شددت على باسم ، فلم يخرج من البيت ثلاثة أيام كاملة .
    اعتادت الكوابيس التى تدهمها بما يخيفها .
    تصحو ـ بتأثيرها ـ متلفتة ، تحوقل ، وتبسمل . أشباح وظلال وكائنات تملأ الحجرة بأجسامها الغزيرة الشعر ، وعيونها التى تصدر ما يشبه النار .
    تعددت تحذيرات أمى من لدغات قناديل البحر ، والسباحة فى الغميق ، وجذب السمكة الرعاشة ، وأذى حيوان الطريق ، والحسد ، ومن العفاريت والمردة والغيلان ، ومن الأشكال التى تتخذها مخلوقات العالم السفلى ، كالثعابين والعقارب والكلاب والقطط . ولأن الماء طاهر ، فهى توصينا بالاغتسال فى ماء البحر . وكانت تتشاءم من العطس ، وتعتبر رفة رمش العين اليسرى نذير شؤم ، العكس يحدث من رفة العين اليمنى . وكانت تفسر الظواهر ، والأشياء الغامضة ، وما لا نستطيع فهمه ، أو إدراكه ، وتكشف عن المجهول ، وتخبر عن المغيبات . ترى ما يحدث فى الأماكن البعيدة . تجيد قراءة ما يترسب من بقايا القهوة فى قاع الفنجان ، وحوافه ، وبقايا الشاى فى الكوب ، والقواقع ، والأصداف ، والرمل .
    أدركت أن أرواحاَ شريرة ستطبق على روح جارنا شيخ الصيادين حسن سليمان .
    عنفها خالى أنور لأن الرجل صحته جيدة ، صوته يعلو بالزعيق من شرفته فى الطابق الثانى ، أسفل شقتنا .
    رأت أمى نجماً مذنباً يتهاوى فى أفق الأنفوشى .
    قالت كأنها تحدث نفسها :
    ـ مسكين يا شيخ عبد الصمد .. نجم حياتك يسقط !
    الشيخ عبد الصمد إمام جامع البوصيرى . نحبه ، ونتردد على دروسه بعد صلاة المغرب ، نسأله ، ويجيبنا , ونتعلم على يديه ، ونعقد حلقات الذكر من حوله .
    نفضنا رءوسنا من السؤال ، إن كان أجل الشيخ عبد الصمد قد حان . اكتفينا بالصمت ، عندما قدم أخى حجازى قبل العصر ، يعتذر بتأخره لأنه سار فى جنازة الشيخ عبد الصمد .
    لم نعد نملك التنبؤ بما يشغل أمى ، ولا التوقعات التى تراها .
    تراقب تقلبات الجو ، والكسوف ، والخسوف ، وتهاوى الشهب والمذنبات ، وتحليق الطيور ، ووميض البرق والرعد وسقوط الأمطار .
    ربما لجأت إلى عرائس البحر ، تراها ولا نراها ، تطلب عونها فى إنقاذ البلانسات التى تحدس أن الخطر يتهددها . تكتفى بالقول : صدقنى . وترفض القسم بالله ، أو بالرسول ..
    تحرص ـ ليلة كل جمعة ـ على كنس كل حجرات البيت والصالة والساحة الترابية الصغيرة أمامه ، لطرد سكان العوالم السفلية . تنتقل ـ بأوعية تمازج البخور والعنبر واللبان والمر والجاوى ـ وهى تتلو آية الكرسى ، بين حجرات البيت ، توزع روائحها فى الزوايا والأركان . تخرج من البيت فى غير موعد . تدس جسدها فى الثوب الأسود ، الواسع ، وتسدل على رأسها وكتفيها شالاً من القطيفة السوداء .
    لم تكن تطأ عتبة باب البيت إلا بعد أن تردد آيات القرآن والأدعية ، وتتوضأ . تسميه وضوء الطريق . يلى أداء الصلاة وما يسبقها من وضوء . تتردد على بيوت الجيران . تنصت إلى حكايات النساء عن أخبار النوات وأحوال البحر والصيد والزواج والطلاق والحمل والولادة .
    تمضى فى شارع السيالة إلى نهايته .
    تميل ناحية سيدى كظمان . تلمس المقصورة النحاسية ، والمقام ذا الثوب الأخضر . تقترب بشفتيها من المقام كأنها تهم بتقبيله . تهمس بما يصعب سماعه . تخص به الولى الثاوى داخل الضريح . تسكت ، وتصيخ سمعها .
    نحدس أنها تأخذ من ولى الله وتعطى ، تسأله ويجيب ، تطلب منه العون فيما يشكل عليها . تتلو ـ من الذاكرة ـ أدعية وابتهالات وأوراد . تثق فى استجابة السماء لدعواتها .
    تسلم نفسها ـ فى عودتها إلى البيت ـ لشرود ، نغيب ـ من خلاله ـ عن عينيها ، فى متابعتنا المشفقة .
    حين سافر خالى عبد المنعم لأداء فريضة الحج ، طلبت منه أمى أن يشترى لها كفناً مغسولاً بماء زمزم ..
    أبدى خالى انزعاجه :
    ـ لماذا ؟
    قالت أمى :
    ـ ربما مات المعلم شتا جارنا فى الطابق الأرضى ..
    ثانى يوم وضعت فيه أمى الكفن المغسول بماء زمزم فى دولاب حجرتها ، تعالى الصوات من شقة المعلم شتا ..
    أظهر خالى أنور استغرابه لما أوصتنى أمى ـ وهى تعطينى الزجاجة البيضاء الصغيرة ، بداخلها تراب ـ أن أضع الزجاجة فى يد خالتى نفيسة صاحبة المسمط أول شارع المسافرخانة :
    ـ لماذا فعلت ذلك ؟
    قالت :
    ـ لكى تتذكر أنها ستموت !
    توقعت أن تموت خالتى نفيسة . صح التوقع فى صباح يوم شتوى .
    عادت أمى بصدق حدسها إلى أولياء الله الذين يحيطون ببحرى ، ويعيشون فى قلبه ، بأضرحتهم ومقاماتهم ومساجدهم وزواياهم ومكاشفاتهم وبركاتهم التى لا تنتهى . قدمت النذور والهدايا ، كى يساعدها أولياء الله على ما تطلبه أو تتمناه .
    اقتصرت كلماتها على الإيمان والطهر والنجاسة والإثم والقيامة والجنة والنار والتوبة والسقوط والندم والقضاء والقدر والمكتوب والحساب والثواب والعقاب . تقرأ عدية ياسين لتسهيل الأمور وتحقيق المراد . تعيد تلاوتها بما لا يحصى من المرات . كلما استزادت من التلاوة ، صارت التلبية أقرب . تغمض عينيها ، تروح فى عوالم لا نتبينها .
    تحدث الجيران عن أعمال كأنها المكاشفات ، نسبوها إلى أمى . قالوا إن توازنها اختل وهى تنشر الغسيل فوق سطح البيت . سقطت على أرض الشارع الترابية . قامت دون أن يلحقها أذى . وقالوا إنها تتنبأ بالنوة من همس النخيل ، فى امتداد شارع رأس التين ، وقالوا إن لها قدرة ـ بمجرد لمس الطعام بإصبعها ـ على التأكد من طزاجته .
    حين طال عقم فاتن زوجة الصياد إبراهيم الخولى ، أرقدتها أمى على ظهرها ، ومسحت على بطنها براحة يدها ، وهى تتمتم بأدعية ، فظهر الحمل على فاتن قبل أن ينتهى الشهر .
    قيل إنها نادت على متولى الجرسون فى القهوة المقابلة للبيت . طالبته بأن يحذّر سكان البيت رقم ثلاثة فى شارع الكنانى ليخلوه قبل أن ينهد عليهم . أهمل السكان تحذير أمى ، حتى فاجأتهم قرقعة الأسقف الخشبية ، فجروا بالملابس وحدها .
    روى أخى باسم أنه استمع إلى أمى تطل من النافذة المطلة على الساحة المقابلة لسيدى نصر الدين ، تخاطب أطيافاً غير مرئية ، تسأل وتجيب .
    احتضنتها بنظرة إشفاق . حدست أن الصور والملامح تختلط فى ذهنها وتتشابك . تتشكل بما يخترعه خيالها ..
    لم نصدق ما قاله الشيخ رمضان خادم سيدى ياقوت العرش إن روحاَ شريرة تقمصت جسد أمنا . لكثرة ما تحقق من نبوءات أمنا صرنا نصدقها . نثق فى حكاياتها وما ترويه . نتوقع أن ما رأته ـ فى الصحو ، أو فى المنام ـ لابد أن يحدث .
    أطال خالى عبد المنعم التفكير فى قول أمى :
    ـ لا تترك لحمك ملقى على أرض الحلقة .
    قلب العبارة فى ذهنه ، يحاول أن يتوصل إلى المعنى الحقيقى لها ، وإن ظل على عادته فى الذهاب إلى حلقة السمك كل صباح ، يزاحم الصيادين والسماكين والطاولات والطبالى والقفف وألواح الثلج ورائحة الزفارة . يحصل على شروة ، يبيعها فى شوارع الرمل .
    أدرك خالى ما قصدته أمى بقولها ، لما رسا المزاد ـ فى صباحات متوالية ـ على معلمين من خارج الإسكندرية . عرف الطريق إلى قهوة الزردونى بشارع السيالة ، يشرب الشاى ، ويفكر فيما ينبغى عمله .
    اعتاد أخى حجازى أن يستكين إلى وضع رأسه ، على فخذ أمى ، فى جلستها المتربعة . تمسد رأسه ، وترقيه ، وترنو إلى فراغ الحجارة تتبين ما لا نراه .
    حين اشتدت السخونة فى جسده ، طلبت ماء مالحاً ، وبصقت فيه . دعكت جبهته ، ومسحت جسده ، فهبطت الحرارة ، وتماثل للشفاء .
    وعد حجازى أمى أن تصحبه إلى صخرة الأنفوشى . ولما نسى اصطحابها ، وركب الموج إلى الصخرة ، وجدها جالسة تنتظره .
    صار حجازى يستأذن أمى ، حتى فى التصرفات الصغيرة . ما لا تعرفه من ظروف حياته . يكتفى بإيماءة ، أو عبارة مقتضبة ، أو هزة رأس . يفسرها بالموافقة أو الرفض . تعد ما تذكره له بأصابع مرتعشة .
    غابت نوة قاسم ، فتصور الرجال أنها لن تجىء . ركبوا البحر فى البلانس " عواطف " . فاجأتهم النوة بعد أن جاوزوا البوغاز . غرق كل من فى البلانس ما عدا حجازى . عصمه الحجاب الذى دسته أمى بين ملابسه ، فعاد سالماً .
    أنهى حجازى أوراقه للعمل فى البلانس " ثريا " . رحلاته بين الأنفوشى وطرابلس الغرب .
    أدت أمى ـ فى حجرتها ـ صلاة استخارة ..
    غادرت الحجرة بملامح خائفة :
    ـ ابحث عن عمل آخر ..
    نوة قاسم أغرقت البلانس خارج الإسكندرية .
    احتفظت أمى بهدوئها وصمتها ، بين صيحات أخوتى وصراخهم ونحن حول طبلية الطعام . يتبادلون الاتهامات واللمز والشتائم ، ويتوعدون ..
    تكررت الأسباب ، فلا أذكر السبب ..
    علا صوتها بما لم نتوقعه . هزت يديها فى الفراغ تطلب الصمت . جالت فى ملامحنا الساكنة ، المتوترة ، بعينين حزينتين ..
    تملكنا الذهول حين قالت :
    ـ لا مستقبل لكم !
    توقفت يد أخى باسم باللقمة قبل أن تصل إلى فمه . استغرقتنا المفاجأة والصمت ، فى جلستنا حول الطبلية ، لا نقرب الطعام ، ولا نحاول حتى النظر إليه ..
    بدت العبارة كاللطمة القاسية . حل فى داخلى خوف : ماذا تعنى أمى ؟ لماذا لا تعيب على إخوتى أفعالهم ، وينتهى الأمر ؟
    ظل صوت أمى فى إلحاحه . أخاف ما لا أستطيع فهمه ، ولا التعرف عليه ، ولا مواجهته ، أشبه بالمخلوقات التى تشفق أمى من أن تؤذينا بأفعالها . تراها وحدها ، وتكلمها ، وتدعوها ـ بالرقى والتعاويذ والبخور ـ إلى لزوم حياتها .
    عمق من خوفى أنها تخلت عن إيمانها بالقوى الخارقة ، وبمكاشفات أولياء الله وبركاتهم .
    اختلطت مشاعرى وتشابكت ، وإن تغطى الأفق بسواد قاتم ..
    قاومت التردد فى وقفتى أمام حجرة الشيخ مبروك ، على يمين مدخل سيدى نصر الدين . أهمل ما بيده من قراءة ، واتجه ناحيتى بنظرة متسائلة ..
    تكلمت عن أمى . ما تراه ولا نراه . ربما طرأ على صوتها تغير . وكان التلعثم يعرو نطقها ، فيصعب عليها التعبير ، تتداخل الكلمات فى غمغمات غير مترابطة .
    لجأت إلى علم الشيخ مبروك . يحفظ الكثير من الحكم والأقوال المأثورة والمواعظ . يجيد التنجيم ، وقراءة الطالع ، وقراءة الأوراد . يكتب التمائم والأحجبة ، للشفاء من المرض ، والسلامة فى السفر ، والنجاة من التوقعات المخيفة .
    أوصانى ـ وأنا أهبط درجات الجامع إلى شارع السيالة ـ بأمى ، وبأنفسنا .
    طالت جلستى فى الصالة التحتية ، حتى لجأت إلى فراشها .
    ظللت خارج الباب ، أصيخ السمع لتلاوتها آيات القرآن ، وترديد الأدعية , وقراءتها فى كتب توصى إخوتى بشرائها ، أو تشتريها بنفسها ، من باعة شارع النبى دانيال . وكانت تدس تحت وسادتها حجر صغير أسود ، يطرد الأشباح والأرواح الشريرة والحقد والغضب والتسويف والمماطلة .
    حل الصمت فى العتمة ، وعلا صوت تنفسها . تسللت إلى موضع سريرها . أهتدى بالضوء الشاحب المنبعث من الطرقة .
    وشى شخيرها المتقطع بما عانته فى أثناء النهار . ترددت على أولياء الله فى بحرى ، واستغرقت فى تلاوة القرآن وقراءة الأدعية والأذكار ، وأطالت الوقوف فوق سطح البيت ، ترقب السماء ، وتبدلات الجو ، والأصوات المترامية من خليج الأنفوشى .
    كانت قد تمددت على جنبها ، وأسندت رأسها على راحتها المبسوطة .
    أدنيت الحجاب المطوى فى ورقة صغيرة كسيجارة ملفوفة . غالبت الارتباك والخوف وأنا أتأمل رقدتها الساكنة . بدا نفاذ الورقة المطوية داخل الشعر صعباً من زيق الإيشارب الملتف حول رأسها . فتحة الأنف بعيدة عن الموضع الذى يهمنى أن تصل إليه الورقة . دفعت بورقة الحجاب الصغيرة داخل فتحة أذنها . أحاذر صحوها ، أو تحركها . كتب الشيخ مبروك فى الورقة ما يهمنا أن تتوقعه أمى . ما يخالف رؤاها وأحلامها فى العوالم الخفية ، والكائنات التى تراها ، ولا نراها ..

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      كاتب مسجل
      • Jun 2006
      • 1123

      #3
      رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

      (3)
      *إغماض العين*
      .....................

      بعد أن أمضيت عشر سنوات فى سلطنة عمان ، كنت أغمض عينى ، وأصمت ، وأشرد . أبدّل قدمى فى طابور الواقفين أمام جوازات مطار السيب . أخترق الوحشة على جانبى طريق البستان . أتأمل البواخر الضخمة والحاويات من جلستى فى كورنيش مطرح ، أجول فى سوق نور الظلام . أطل على الخليج من قلعة الميرانى . أساوم على شروة روبيان من سوق السمك . أخترق أبواب مسقط القديمة . أتأمل ثقوب الشظايا والرصاص فى حصن جبرين . أعتذر للجندى الواقف وراء الباب الكبير بانطفاء الفانوس من هبة هواء مفاجئة ..
      قيمة إغماض العين ، أنك ترى ما تريد رؤيته . تظل العينان مفتوحتين ، فترى ما لابد أن تراه ، ما يطالعك بالفعل . لا تملك استبداله ، ولا تحويره ، ولا الإضافة إليه ، أو الحذف منه .
      العتمة لا نهاية لها ، آفاقها التصورات ، والحكايات التى تتمناها . يمتزج ـ بعد إغماض العين ـ ما رأيته بالفعل ، وما تتخيله . التخيل يرتبط بما جرى : الأحداث والتصرفات والاختلاف والحنين والرفض والخوف . ترى ما تحكيه . ما تكتمه لا تومئ إليه . لا أحد يرى ما ترى ، فلا يوجد ما يدفعك للحكى .
      المشاهد التى لا تتوقعها ، تتحول فى الظلمة إلى ما يشبه الكوابيس . تفتح عينيك مثلما تصحو . تتحدث عن الرؤى الجميلة ، وتهمس بالمعوذتين والأدعية لرؤية غير المتوقع . لا تنقل خوفك ، فتعانى الشماتة أو الإشفاق ..
      فطنت لغيابى عن الإسكندرية ، حين لاحظت ـ عند عودتى ـ ما حدث من تبدّل . حتى ميدان الأئمة الإثنى عشر ، اكتظ بالبنايات المتلاصقة . امتدت إلى مفارق الطرق ، وإلى جدران جامع أبو العباس ، فغابت المساحات الخالية والتعرجات .
      أغلقت عينى .
      حاولت ـ بالتركيز ـ أن أفتش عما غيبته الذاكرة . صعدت الدرجات الرخامية المفضية للباب الملكى . لم يعد مغلقاً قبالة شارع السيالة . ملت ناحية المقام المكسو بالجوخ الأخضر ، والأعمدة النحاسية ، وصناديق النذور ، وقطع القماش العالقة بالمسامير الصغيرة . حدقت فى الزحام المحيط يدعو بالنصفة والمدد . لم تواجهنى الأعين برد فعل ، فأدركت أنها لا ترانى . عالجت أقفال صناديق النذور . ملأت الحقيبة الجلدية بما أودعه المترددون على المقام .
      كررت ما حدث فى الأيام التالية .
      أزلت ما بدّل قسمات الميدان ، فعادت إلى ما ألفته منها . أعدت كل شئ إلى ما كان عليه : الموالد ، وفرق الصوفية ، والبيارق والأشاير والأعلام والخرق الملونة ، وحلقات الذكر ، وأكشاك الختان ، والخيام ، وسوق العيد ، والألعاب النارية ، والحواة ، ولمبات الكهرباء ، وعربات الأكل والحلوى ، وباعة المصاحف والسبح وكتب السيرة الشعبية ، ودوران مواكب الزفاف فى ساحة أبو العباس .
      أعرف أن ما أتصوره فى التخيل ، ما أحرص على أن يكون هو ما أريده ، يصعب أن أراه فى الواقع ، ولا أن أبدله . أتخيل ما لم يحدث . أخترع من اختلاط الصور العالقة فى الذهن ، أو التى أفلح فى استدعائها ..
      فتحت عينى ، فطالعنى ما توقعت رؤيته ..
      أغمضت عينى . ركبت الفلوكة من مرسى القوارب فى المينا الشرقية . ملت وراء نادى أساتذة الجامعة ، ومتحف الأحياء المائية ، وقلعة قايتباى ، ومساكن السواحل .
      طالعنى أفق البحر فى خليج الأنفوشى .
      لذت بجزيرة غير محددة المكان ولا التضاريس . آفاق المياه تحيط بها من كل الجوانب . يغيب خط البيوت الرمادى والمآذن ، فلا تطل على خليج الأنفوشى ، أو سراى رأس التين . حتى البلانسات والقوارب تغيبها الأمواج . لا أدرى كيف أدبر حياتى ، لكن الذين يواجهوننى بالعداء ، اختفوا تماماً . لم تعد تشغلنى تصرفاتهم الشريرة ..
      البنايات متناثرة فى غيط الصعيدى . التسمية تمتد من محطة الترام النهائية فى " الصينية " بمحرم بك إلى نهاية الغيطان . أتذكر ـ تشحب الصور ـ علاقات بينى وبين بنت عمتى زهرة . تتأكد من إغلاق باب السطح . الحركة فى الطريق الترابى أسفل البيت غائبة ، أو تكاد . البنايات فى مساحات متباعدة ، ذات طابق أو طابقين ، تغطت حتى الأسطح بأوراق اللبلاب والجهنمية وتكعيبات العنب . يتماوج الضوء والظلال فى جلستها لصق الجدار . تشبك أصابع يديها ، وتسندهما على صدرها . تنظر إلى قدميها الحافيتين على الكليم الأسيوطى . تتكلم ، وتتكلم . تجوس بى عوالم غريبة ومدهشة .
      أتمعن فى ملامحها ، وتعبيرات جسدها : العينين الواسعتين ، الشعر الأسود ، الناعم ، تركته ينسدل إلى ما وراء كتفيها ، الأظافر المطلية بلون الدم ، الابتسامة تزيد من عمق الغمازتين فى وجنتيها ، ومن جاذبيتها ، الروب الحريرى المنقوش بورود صغيرة ..
      تنطلق التصورات ، فأثبت نظرى على شىء ما ، كأنى أتأمله ، وإن ظل الصمت سادراً ، حتى يغلبها الضيق .
      تتجه ناحية باب السطح . تفتحه على آخره ..
      أعرف أن كتم التصورات يبدّل الصورة تماماً . تتحول الرؤى المستمرة ، الثابتة ، إلى ومضات تخبو ، ثم تتلاشى تماماً ، لا أستعيدها إلا بسؤال أو ملاحظة أو محاولة للتذكر . تتلاشى الغيطان وترعة المحمودية وأسوار شركة الدخان . تتلاصق البيوت . ترتفع طوابقها . تعلو الأصوات من الشوارع المسفلتة ، ومن النوافذ والشرفات والمقاهى . يتقابل الأذان من الجوامع القريبة . يبقى من أحاديث زهرة حكاياتها عن جنية البحر ، ما يتحقق فى لقائها من تبدل الأحوال ، والعيش فى عز بلا حد .
      تقول لى :
      ـ أنت الصياد ، وأنا جنية البحر ..
      ثم وهى تغمز بعينها :
      ـ إذا استجبت لنداء جنية البحر فستعيش فى السحر ..
      لم أفهم الكلمات التى كانت زهرة تعيدها ، وإن رسمت لجنية البحر ـ فى مخيلتى ـ صوراً لا تنتهى .
      أغمضت عينى . غصت فى أعماق البحر . لم أتوقف عن السباحة والتلفت ، حتى طالعتنى جنية البحر من بين الفجوات والكهوف والطحالب والأعشاب والتشكيلات الصخرية ..
      تصادقنا ، وهبطت بى إلى مدائن الأعماق ..
      عدت إلى الشاطئ محملاً بأثقال الذهب والفضة والجواهر والمعادن النفيسة والأموال بلا عد .
      شيدت قصراً يماثل ما وصفته زهرة . جدرانه طوبة من الذهب ، وطوبة من الفضة . أبوابه مرصعة بالياقوت الأزرق والزمرد الأحمر . تتضوع فى أرجائه روائح المسك والعنبر والكافور ، وتتناهى نغمات الموسيقا من أماكن خفية .
      لكى أضمن الإقامة الجميلة ، لم أستضف فى قصرى إلا من أخلصوا الود . أقمت حوله أسواراً تحمينى من العداء والمطاردة والتوقعات المخيفة ..
      لا أذكر متى ، ولا كيف ، فرض الخيال نفسه على الرؤى . أتخيل فى الناس والحيوان والطير والأشياء ما ليس فيها . يلح ما أتخيله . أجسده ، أحاوره ، آخذ منه وأعطى له ، أسأله ويسألنى ، نختلف ونتفق . ربما أخذنا النقاش ، فتحاورنا بالأيدى .
      رأيت ـ وأنا أغمض عينى ـ ما يجرى وراء الجدران فى البيوت المطلة على ميدان أبو العباس ، وما يجرى فى خيام الدحديرة الخلفية ، ومكاشفات المرسى للمترديين على مقامه ..
      حين غاصت قدمى فى مياه شاطئ الأنفوشى ، أدركت أنى لا أمتلك مكاشفات أبو العباس المرسى ولا كراماته .
      كان يطير إلى أعلى المئذنة ، يخترق الحوائط والجدران ، يطأ موج البحر بقدميه ، يسير فوقه إلى حيث يريد . تتحول المياه إلى أرض صلبة . يسرع فى خطواته ، لا يخشى الغرق ولا التوقعات القاسية .
      الجلوس أمام التليفزيون أنسب الوقت للتخيل . إغماض العينين ، والشرود فى آفاق لا نهاية لها . التقاط طرف الخيط ، ووصله بخيوط متقاطعة ، ومتشابكة ، إقامة عوالم تتصل بما رأيته ، أو يخلقها التصور . المشهد المكانى ، أو الملامح اللافتة ، أو العبارة التى تومئ بالتصورات التالية .
      اجتذبنى نطق الكلمات على شفتى مذيعة التليفزيون .
      كانت قد تحدثت ـ فى الليلة نفسها ـ عن كتاب " كيف تكسب الأصدقاء " . بدت لى الكلمات خلاصاً مما أعانيه .
      دعوت المذيعة إلى مجالستى على طرف الطاولة . شملنى ارتباك فلم أجد ما أقوله . ظلت صامتة ترنو إلى بنظرة توقع . طال ارتباكى ، وتعثرت الكلمات على شفتى . لم أستطع البوح بما كتمته فى نفسى ، وأخافه .
      استأذنت المذيعة فى أن تعود إلى داخل الجهاز لينهى التليفزيون إرساله .
      لم أكن تركت موضعى فوق السرير ، حين ملت من زاوية مرسى القوارب ، فى اتجاه سراى رأس التين ..
      كان الصباح رمادياً . قوارب الصيد تهتز فى المرسى بتوالى المد والجزر . السحب الداكنة تغطى السماء . الهواء محمل برائحة الطحالب والأعشاب . هياكل البلانسات والفلايك ساكنة على رمال الشاطئ . طيور البحر تهبط على صفحة الموج ، تلتقط طعامها من الأسماك الصغيرة ، وتعلو . على الرمال تناثرت زعانف سمك وزجاجات صغيرة فارغة ومزق أوراق وملابس وقطع أخشاب وبقايا أطعمة ، وعجوز تساند على الكورنيش الحجرى ، ثبت الغزل فى إصبع قدمه الممدة ، وانشغل بوصل الثقوب .
      البيوت العالية ـ فى الناحية المقابلة ـ ترتفع نوافذها الخشبية ـ ذات الضلف الأربع ـ إلى قرب الأسقف . تلقى ظلالها على الشارع ، المبلط بقطع البازلت السوداء ، الصغيرة . تقشر طلاء جدرانها عن أشكال وتكوينات من البقع الملحية . ألمح امرأة ـ فى شرفة خشبية ـ تفرد قطع الملابس المبتلة على المنشر ، وتثبتها بالمشابك . مقهى الصيادين خال من الرواد ، فيما عدا قلة تناثروا فرادى على الطاولات ..
      اخترقت الظلمة الشاحبة إلى أعلى السراى . واجهت السيوف والبنادق والمدافع بقبضة اليد ، والصيحات المحذرة ..
      علا صوت بهجت إسماعيل بالشتائم ، وصفعنى .
      قال إنى حاولت ملاينة فاطمة بنت المعلم شبلول شيخ الصيادين ، وخطب ودها ، فى ترددها على حلقة السمك .
      رميت القفاز فى وجه بهجت ، وقلت فى لهجة باترة :
      ـ بارزنى !
      أعددت نفسى لما هو متوقع .
      احتسيت شوربة كوارع فى مطعم بسوق راتب . عدت إلى البيت بفاكهة من شارع الميدان . استجاب الصيدلى ـ على ناصية وكالة الليمون ـ لهمستى المترجية . دس فى يدى حبه دواء ، وهز إبهامه دلالة الفعل المؤكد . لم أترك لعبة الصاروخ فى سوق العيد ، حتى اطمأننت إلى قدرتى على دفع أثقال الحديد ..
      بدا البحر أمامى هادئ الموج ، والسماء صافية الزرقة ، ومساكن السواحل ورائى مغلقة الأبواب والنوافذ ، ولا أحد فى الساحة الرملية الهائلة أمامها .
      أخرجت سيفى من غمده .
      لا أذكر متى ، ولا أين ، حصلت عليه . ربما اشتريته من باعة السلع القديمة بالعطارين ، ولعلى وجدته ضمن ميراثى العائلى ، أو أنه أهدى لى فى مناسبة ما . جريت بحده على المسن حتى اطمأننت إلى حدته . بارزت الهواء ، أضرب من أتصوره عدوى . لما أيقنت أنى سأجيد ما أعد له نفسى ، أعدت السيف إلى غمده ، وتنهدت مرتاحاً .
      عاد إمام أبو العباس إلى حجرته ، أيمن الباب المطل على المينا الشرقية . أطلت الوقوف حتى أنهى تصفح ما بين يديه من أوراق . اتجه ناحيتى بوجه أبيض مشرب بحمرة ، وملامح تقطر منها الهيبة ..
      فى تأدب يليق بمقامه ، رويت له ما يواجهنى به بهجت إسماعيل من عداء . تمنيت النصفة والطمأنينة وراحة النفس ..
      وضع الإمام يده على رأسى . مسدها ، وتمتم برقى ودعوات ، وهمس ـ بلهجة مترجية ـ أن يعيننى الله على ما يواجهنى ..
      التقينا فوق صخور الأمواج خلف قلعة قايتباى ، ولعلنا ارتقينا السور الحجرى للميناء الشرقية ، وربما اخترنا ساحة قبر الجندى المجهول قبالة ميدان المنشية ، وأذكر أنه صعد الدرجات المفضية إلى تمثال سعد زغلول ، وأنى صعدت وراءه حتى أسند ظهره إلى قاعدة التمثال ..
      سحبت بالسيف من غمده . رفعته عالياً . التمع حده بالألق فى ضوء الشمس . أطلقت صيحات المواجهة والتحدى ورفض المهادنة . طوحت بالسيف فى الهواء ، حتى زاغت عيناه . غاب عنه اتجاه السيف ، قبل أن أغمده ـ برشاقة ـ فى موضع القلب تماماً ..
      انبثق الدم ، وتمازجت صيحتا الألم والظفر ..
      أذهلنى ـ وأنا أهبط درجات المسرح الرومانى ـ تناثر الكثيرين فى الساحة الدائرية، ينتظرون مبارزتى ..
      زاد الرجال المجهولون من ملاحقتى . ألمحهم فى كل الأماكن التى أتردد عليها . حتى فى أثناء ركوبى ترام الرمل ، رأيت الرجل يقتحمنى بعينيه من أعلى مئذنة جامع القائد إبراهيم .
      نصحتنى صديقتى نجوى القاضى أن أسافر إلى الخارج ، حتى يكف العداء والملاحقة . اعتدت الغربة بالحياة أعواماً طويلة فى سلطنة عمان . أتوق للسفر والإبحار والموانى والمدن البعيدة والجزر والفنارات والبواغيز والأمواج التى بلا ساحل ..
      قالت نجوى القاضى :
      ـ لو أنك أسلمت نفسك للعداء فلن تفلت من الأذى .
      بدا لى إغماض العين عالماً لا نهاية لحدوده . يشغى بالرؤى والتصورات التى أثق فى وجودها ، أو أتمناه ، وأتطلع إليه ..
      أغمض عينى . تظل الصورة لحظات ، أو تختفى كالومضة الخافتة الملامح . ربما استغرقتنى الإغماضة ، لا أدرى إن كنت نائماً أم مستيقظاً . لكن الصور تتوالى ، تختلط وتتشابك . تبدو واضحة ، أو تميل إلى الشحوب . أغلق عينى على بشر وفضاءات وأضواء شموس وأقمار ووميض كواكب ونجوم ..
      صرت طائراً يحلق بمفرده ، أو فى داخل سرب . انطلق فى السماوات ، فوق البحار والصحارى والمدن والجبال والغابات . أتوقف حين تجتذبنى الطمأنينة . تستقر بى حيث يغيب العداء والتلفت ..
      عزلت نفسى عن كل ما حولى ..
      سرت فى شارع رأس التين ، ثم ملت إلى شارع أبو وردة .
      تسللت بين المارة والواقفين من الجنود وموظفى الجمارك وعمال الميناء والبحارة والمشتغلين بالاستيراد والتصدير .
      لم ألحظ التفاتة ، فأدركت أن أحداً لا يرانى . اخترقت الأرصفة والمخازن والحاويات . دفعت لصاحب الفلوكة خمسين قرشاَ . مضى بى إلى باب نمرة ستة . راجعت فى اللوحة الإلكترونية أقرب الرحلات . نابولى مدينة قريبة ، تطل على البحر المتوسط ..
      عرفت أن رؤيتى غير متاحة لمن يصادفنى . قفزت على السلم قبل أن ينفصل عن الباخرة ..
      طالت مراقبتى للقمرة ..
      تبينت أنها خالية . أغلقت الباب ورائى ، وسرحت فى التوقع .
      فى اللحظة التالية ، الومضة التالية ، فتحت عينى على آخرها . التفت حولى : ميدان محمد على ، والنخيل السلطانى ، والحديقة المستطيلة ، ومواقف السيارات ، وانحناءات الترام ، والبنايات ذات الطابع الإيطالى ، وتقاطعات الطرق ..
      أغمضت عينى لأستبدل الرؤى . أجوس فى الخيال بما أريده ..
      كررت إغماض العين ، لتفسح الرؤى المتلاشية موضعاً لرؤى أخرى ، أريدها .
      ظلت الصور ثابتة على مشاهد المدينة ، على ما ألفته : ترامى الأذان وأهازيج السحر من مئذنة أبو العباس ، زحام شارع الميدان ، باعة الصحف والفشار فى محطة الرمل ، ورش الصيادين على شاطئ الأنفوشى ، تسلل أشعة الشمس من ثقوب السقف المعدنى أعلى حلقة السمك ، أبراج قلعة قايتباى الصامتة ومزاغلها الحجرية ومدافعها الصدئة وكرات الحديد والأنفاق والسراديب المظلمة , ارتفاع الطائرات الورقية فى سماء بحرى ، سرادقات سوق العيد ، خيام الفرق الصوفية وبيارقها ، صندوق الدنيا ، ألعاب النشان والقوة والورقات الثلاث ..
      حاولت أن أغلق عينى ، لكنهما ظلتا مفتوحتين ..
      أدركت أنه كان ينبغى ألا أغمض عينى على غير ما ألفت . تسلمنى الظلمة إلى غربة ، لا أتصورها .
      اطمأننت إلى ثبات الصور ، فأهملت إغماض العين .

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        كاتب مسجل
        • Jun 2006
        • 1123

        #4
        رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

        (4)
        *هذه الليلــــــة*
        ......................

        طال ترقبه لهذه الليلة . تختلف عن ليال سابقة وقادمة . خير من ألف شهر ، فهى تساوى أضعاف عمره ..
        فتح ـ فور استيقاظه ـ نافذة غرفة جدته المطلة على الأرض الخلاء ، خلف البيت . تطلع إلى السماء . واصل التطلع إلى السماء من نوافذ البيت ، وفى الطريق والمدرسة . يبحث عن علامات الليلة الموعودة ، كما وصفها إمام جامع أبو العباس : شمس الصباح المستوية ، تغيب عنها الأشعة ، لأنه يغيب عنها الشيطان . القمر الساطع ، الساكن ، الجو الذى لا هو حر ولا برد ..
        قال إمام أبو العباس :
        ـ تنزل فيها الملائكة يتقدمهم الملك جبريل .. يطوفون فى كل أركان الأرض ، حتى مطلع الفجر ..
        خاف على السر من ملاحظة أبيه :
        ـ أخشى أن تمطر فجأة ..
        غالب انفعاله :
        ـ لا يمكن لهذه السماء الرائقة أن تمطر ..
        لما عرض الفكرة على أبيه ، سخفها . قال إن الاعتكاف لمن تقدمت به السن . هل تنفتح الطاقة للكبار وحدهم ؟ وإذا نفذ ما تطلبه الليلة ، ألا تستجيب لحظة النور لدعائه ؟..
        قال أبوه منذ عامين :
        ـ غداً ليلة القدر .. أنت الآن فى السابعة ، فلماذا لا تبدأ الصوم ؟
        أضاف أبوه لنظرته المتسائلة ، عن الليلة المباركة ، وعن قيام الليل وتلاوة القرآن والأذكار والعبادة والتهجد ورواة السيرة وخيام الصوفية والتزاحم حول مقام أبو العباس ..
        أحس ـ عند أذان العصر ـ بقرصة الجوع . أصر أن يظل على الصوم ، فلا تفوته ليلة العمر . لو أنه أمسك نفسه . عمل بما أمر به إمام أبو العباس . لازم الطهارة وتلاوة القرآن ـ فى حجرة جدته ـ وقراءة الأحاديث والأدعية ، وعدم التكلم إلا فى الخير ..
        ردد الأولاد أمام دكان عم عبد السلام الحلاق :
        الدكان ده كله عمار .. وصاحبه ربنا يغنيه ..
        طردهم الرجل ، فرددوا :
        الدكان ده كله خراب .. وصاحبه ربنا يعميه ..
        لحق الأولاد فى جريهم ، وإن لم يردد ما قالوه . حتى عندما شتمه الولد نصر ، لم يرد عليه شتيمته . سافرت الجدة إلى خالته منذ ثلاثة أيام ، تقضى ما تبقى من رمضان وأيام العيد . رضخت لإلحاحه أن يذاكر ـ بمفرده ـ فى الحجرة ..
        لم يخرج من الحجرة إلا لقضاء حاجته . يمسك الكتاب فى يده ، ليدرك الجميع أن المذاكرة تأخذ وقته ..
        تأكد من انفراجة ضلفتى النافذة بما يأذن بتسرب الضوء ، وإن حرص ـ منذ حلت العتمة ـ على أن تظل نظراته إلى الأرض . فى باله ما روته جدته عن الأعمى المستند على جدار أبى العباس . أطل النور من طاقة ليلة القدر قوياً ، باهراً . لم يحول الرجل عينيه ، أو يغلقهما ، فأصابه العمى ..
        قالت الجدة إن ليلة القدر لا تحدث إلا لمن ينساها . ينتظرها ، ويتعمد أن ينسى موعد ظهورها . يتلو ما يحفظه من آيات القرآن . يتجه بها إلى الله . لا يقصد إلا التلاوة . ينشغل بالقراءة دون هدف شخصى . استغرق فى تصور دلالة الكلمات : تنزل الملائكة والروح فيها ، بإذن ربهم من كل أمر . سلام هى حتى مطلع الفجر ..
        هل ينزل الملائكة إلى الأرض فى هذه الليلة ، أو أنهم يأتون ـ منذ بداية رمضان حتى أيام العيد ـ بدلاً من الشياطين والعفاريت والجان والأشباح الشريرة . تقيد بالسلاسل ، فيأمن الناس أذاها ؟ وهل السلام يعنى غياب الشتائم والمشادات بين سكان الحارة ؟
        حرص على أن يخطف النظر إلى السماء فى أوقات متقاربة . يظهر كالومضة قرص كبير من النور . ينشق إلى نصفين ، ثم يعود إلى أصله ، ويغيب .
        فى هذه اللحظة التى تستغرق أقل من ثانية ، عليه أن يكون قد أعد دعاءه . ينطقه بسرعة ، وواضحاً . ينتظر الاستجابة . ما يطلبه فى هذه اللحظة ، الومضة ، الليلة الموعودة ، لابد أن يتحقق ..
        استعاد سورة يس . نصحت جدته أباه بأن يكرر قراءتها ، فيتحقق له كل ما يطلبه ..
        مل تكرار السورة ، فعلا صوته بما يأتى على باله من آيات القرآن ، يطرد تذكره لما يريده . يخشى ـ إذا تذكر ـ أن يضيع سهر الليلة . لا تعود ثانية إلا فى العام التالى . هو يريدها هذه الليلة ..
        أغمض عينيه ، يستدعى ما يشغله أن يضمنه الدعاء . يختار أهمها ، فلا تغيب الومضة قبل أن يطلبه ..
        قال : يا رب ، بصوت تعمد ألا يكون مرتفعاً ، فلا يصل إلى خارج الحجرة . فتش عن الدعاء الذى يلى الكلمة . ثمة أبوه ، وأمه ، وجدته ، وأخوته ، ومدرس الرياضة ، وإمام الجامع ، وبائع العصير أمام المدرسة . هؤلاء هم من يجب أن يشملهم دعاؤه ..
        حين مد أبوه الورقة المطوية إلى أمه ، وقرأتها ، انعكس الحزن فى وجهه على ملامحها . اكتفت بالقول :
        ـ ماذا نفعل ؟
        رنا إليها بنظرة منكسرة :
        ـ ليس أمامنا إلا تدبير أنفسنا ..
        أردف فى نبرة يخالطها التأثر :
        ـ المرتب ينقص بالمعاش إلى النصف ..
        أزمع أن يصل النداء : يا رب ، بالقول : ابعد المعاش عن أبى . يعرف أن المعاش ليس شخصاً ، ليس رجلاً . يدعو الله فيبتعد عن أبيه . هو أمر يأتى بالشر إلى حياتهم ، وإن لم يخمن له ملامح محددة ..
        أعاد النداء : يا رب ، فى تذكر إمام أبو العباس . تكررت أحاديثه عن جنة المؤمنين ، والنار التى تحرق من يعصون الله . لو أنه يصل النداء بكلام عن الجنة التى يحب دخولها ..
        فاجأه الإمام بالقول وهو يجلس وسط نصف الدائرة المحيطة بكرسيه :
        ـ الله يعاقب الإنسان على إيذائه لنفسه ..
        ثم وهو يمسد لحيته بأصابعه :
        ـ حدد الله لنا الأيام التى نصوم فيها ..
        أدرك أن أباه أبلغ الإمام باعتزامه صوم الأيام كلها . اجتذبه وصف الإمام للجنة . الضياء الشامل ، والأرض المكسوة بالذهب ، والأنهار ، والأشجار ، والطعام ـ قبل أوانه ـ يصل إلى الأيدى قبل تشهيه ، والأنغام السماوية ، والعوالم المسحورة ..
        طالعه أبوه فى انحناءة الطريق من الحجارى إلى الموازينى .
        كان يتبع الأولاد بالفانوس والأدعية . لمبات الزينة أضاءت الشارع ، فاستغنت الدكاكين عن إضاءة واجهاتها .
        حاول أن يندس وسط المصلين الذين أدوا صلاة التراويح فى جامع طاهر بك . لحقه صوت أبيه ، فتوقف بتظاهر المفاجأة ..
        رفض اقتراح أخيه أن يشترى له أبوه فانوساً من البلاستيك كى لا يحرق جلبابه . قال :
        ـ سأحمل فانوسى القديم ..
        أظهر أبوه تأثره :
        ـ أخوك يخاف عليك ..
        ـ لم يحدث من قبل ما يخاف منه ..
        ولفه شعور بالسعادة وهو يحمل ـ وسط الأولاد ـ فانوسه الزجاجى ذى الشمعة المتراقصة ..
        قال أبوه :
        ـ حمل الفانوس لغاية أداء التراويح ..
        سأل فى اهتمام :
        ـ هل هذا ما يقوله الدين ؟
        ـ لا شأن للدين بالفوانيس .. ذلك ما اعتدناه ..
        ثم وهو يضحك :
        ـ دع فرصة للمسحراتى ..
        لم يطلب من أبوه أن يعود إلى البيت ، فجرى ناحية الأولاد ..
        ترامى صوت دقات على طبلة ، يرافقها نداءات بأسماء ناس من الجيران . حتى اسمه نطق به الرجل . قرر أن يردد عبارات عم بشندى المسحراتى . ربما ـ كما يقول إمام أبو العباس فى درس المغرب ـ هى التى تأتى بالكنز من الطاقة ، وتضوع روائح العنبر والمسك والكافور والقرنفل والصندل ، والأشجار المثمرة ، والطعام فى غير أوانه ، وألوان الشراب ، وتداخل العوالم المسحورة ، والهمس بلغة الإشارة ، والحكمة ، والأحلام ، والرؤى المدهشة ..
        تساندت ظهور الأولاد إلى جدار أبو العباس ، يحتضنهم ظل البناية العالية . توالى إطفاء الأنوار أضفى على المكان ظلمة شفيفة ، فيما عدا اللمبات الملونة أعلى مئذنة الجامع ، والأضواء المنبعثة من أخصة النوافذ المغلقة ، ومن واجهات الدكاكين القليلة التى لم تغلق أبوابها ، والكلوبات على عربات اليد فى نواصى تقاطعات الميدان والشوارع المفضية إلى الموازينى والحجارى والأباصيرى والسيالة والمسافرخانة ..
        أعاد الولد نصر ما حكاه أبوه وأصدقاؤه . ما دفع أجساد الأولاد إلى الالتصاق ، والإنصات فى سكون : ظهور عفاريت القيالة للمترددين على مقابر العمود ، الحمارة التى ركبها الرجل ، فعلت به ، وعلت ، ثم أطارته من فوقها ، فسقط على عنقه ، القطة فى انحناءة الدحديرة المفضية للموازينى ، تحورت ، فأصبحت كرة لهب اندفعت ناحية الشيخ بخيت العدوى إمام سيدى نصر الدين ، لم تنقذه منها إلا التلاوة الملهوفة لآية الكرسى ، الترسة المقلوبة على ظهرها فوق عربة يد ، أول الطريق إلى قلعة قايتباى . تلفت صياد الطراحة جابر العقدة ، فلم يصادف مارة ولا جالسين . تجرأ فاقترب من الترسة ، ولمس رأسها . انطلق من الرأس شرر ، تضاءل فيه العقدة فصار فأراً . جرى ناحية البحر . اختفى فى الشقوق بين حجارة الشاطئ ..
        لاحظ نصر اهتمام الأولاد . قال وهو يشير ناحية السيالة :
        ـ هل ظهر لأحدكم عفريت ؟
        تبادل الأولاد النظرات ، وسكتوا ..
        ـ فى الخرابة المواجهة لمقام سيدى كظمان عفريت يظهر للسائر بمفرده ..
        قال الولد ربيع غزلان :
        وهل ظهر لك ؟
        ـ مرة وحيدة ..
        وشى صوت ربيع بسخرية :
        ـ ماذا فعلت له ؟
        فوت نصر نبرة السخرية :
        ـ قرأت آية الكرسى فانصرف ..
        قال الولد رفعت الإمام فى خوفه :
        ـ لماذا هذه الحكايات ؟
        قال نصر :
        ـ لا خوف .. العفاريت مقيدة ..
        الفوانيس والزينات الورقية المدلاة من الشرفات والنوافذ ، والمعلقة على الحبال بين البيوت المتقابلة . يمشى وسط الأولاد والبنات ، يهزون الفوانيس الصغيرة بأيديهم ويغنون : يا رمضان يا عود كبريت .. يا مقيد كل العفاريت . يتخيل رمضان ملكاً له جناحان ، هو الذى يقيد العفاريت والجن فى قماقم من النحاس . يطلبون العادة : الدكان ده كله عمار .. وصاحبه ربنا يغنيه . يفرحون بالمكسرات والفطائر والنقود الفضية . تتجمع الفرق الصوفية فى ميدان أبو العباس . حلقات الذكر والرايات والبيارق والسيوف الخشبية ومجامر البخور ودقات الطبول والدفوف ورنين الصاجات والأوراد والأدعية والابتهالات وصيحات المجاذيب والأردية الملونة . ينطلق الموكب من شارع الأباصيرى إلى ميدان الخمس فوانيس . يمضى إلى شارع إسماعيل صبرى ، فشارع الميدان . يبدأ طريق العودة من زاوية الأعرج إلى الموازينى ، ثم ميدان أبو العباس .
        قبل أن تترك جدته البيت ، بسملت ، وحوقلت ، ورشت الملح فى الأماكن التى كان الجن يرتادها قبل رمضان . أضافت دعوات فتفر الجن من قماقمها ـ عقب صلاة آخر مغرب فى رمضان ـ إلى خارج البيت ، حتى لا تسجن مرة أخرى : يا رمضان يا صحن نحاس .. يا داير فى بلاد الناس .. سقت عليك أبو العباس .. تبات عندنا الليلة ..
        تظل بركات رمضان فى البيت . تعود الجن إلى أماكنها فى الخارج ، لا تضل طريقها إلى أماكن فى داخله . تحذر الجدة من أن العفاريت ستذهب إلى الأماكن التى اعتادت الإقامة فيها : الخلاء والخرابات والأركان المظلمة ..
        صحبه أبوه إلى شارع الميدان :
        ـ بدأت الليالى التى نتوقع فيها ليلة القدر .. قد ألزم فيها زاوية الأعرج ..
        ليلة القدر !..
        خير من ألف شهر . تنزّل الملائكة والروح فيها . بإذن ربهم من كل أمر . سلام هى حتى مطلع الفجر . كره الآيات والعصا فى يد المدرس تستحثه على القراءة ، لا يبطئ ولا يتلعثم ولا يخطئ . حفظها فاحب تلاوتها . يرددها بينه وبين نفسه ..
        تحدث أبوه عن نيته فى شراء الياميش من شارع الميدان . عدت أمه أسماء البندق واللوز والفستق وأبو فروة وعين الجمل وصناديق جوز الهند والملبن المشكل والقراصيا والتين ولفائف قمر الدين ..
        قالت :
        ـ هات بالمرة هدوم العيد ..
        قال أبوه :
        ـ على قد الفلوس ..
        وهى تحتضنه بنظرة مشفقة :
        ـ ربنا يعينك ..
        الزحام والبضائع المصفوفة خارج الدكاكين وعربات اليد ومكبرات الصوت . سوق النقلية فى نهاية الشارع . أجولة وصناديق ولفائف تبظ منها أنواع الياميش ..
        قال أخوه الصغير مدحت :
        ـ هل عين الجمل تؤكل ؟!
        قالت أمه :
        ـ هذا هو اسمها .. لكنها من الياميش ..
        قال أبوه وهو يدفع إليه بالكيس البلاستيك :
        ـ ما نشتريه اليوم يظل فى النملية حتى صباح العيد ..
        رنا إليه بنظرة متسائلة :
        ـ أليس عيد الكعك ؟
        أومأ برأسه :
        ـ وعيد الياميش أيضاً ..
        ثم وهو يربت كتفه :
        ـ علينا أن نوفر لوازم العيد ..
        لما ترامى أذان الفجر ، شعر أنه يعلو من أجله هو . من أجل جلسته التى تنتظر ما يبدل حياته . فتش عن الأدعية ، ما حفظه ، وما يأتى فى باله ..
        لاحظ أبوه أن جدته تقول أدعية تختلف عما يردده الخطباء فى التليفزيون ، أو يترامى من مئذنة أبو العباس ، أو حفظه أبوه ـ ويردده ـ من أدعية . لم يستمع هو نفسه إليها ، ولا إلى ما يذكره بها فى هيام مولد أبو العباس ، ولا حلقة الذكر أمام البوصيرى ، ولا أهازيج السحر قبل أذان الفجر . يعلو صوتها بما يدهشه ..
        قالت لإلحاح سؤاله :
        ـ أنا أدعو الله بما أطلبه بالفعل .. ما يهمكم ويهمنى ..
        يغمض عينيه . يحاول ترتيب الأدعية بما يريده لنفسه ، ولأمه وأبيه وجدته وإخوته . تختلط المعانى التى يشغله التعبير عنها . يطيل تأمل الكلمات ، يضيف ، ويحذف ، ويبدّل . يحاول أن يستبدل الكلمة ، فيستبدل العبارة كلها ..
        تنبه إلى تشابك أصوات خارج الحجرة . تبين نداء أبيه باسمه . تداخل النداء فى الأصوات المختلطة . لم يميز بينها . حدس أنهم يبحثون عنه . ظل فى مكانه يتطلع إلى النافذة التى تسلل منها ضوء النهار . كتم تهيئه فى أن يدلهم على مكانه . أزمع أن يظل فى تطلعه إلى النافذة . يتلو آيات القرآن ، ويكررها . يستعيد الدعاء كما رتبه فى ذاكرته . تظهر ومضة الضوء . ينطق الدعاء بالسرعة نفسها ، فيتغير الحال .

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          كاتب مسجل
          • Jun 2006
          • 1123

          #5
          رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

          (5)
          *محو الذاكرة*
          .................

          بعد أفاض السلطان فى توضيح وجهة نظره ، تهيأ الشيخ محجوب السكرى لمقارعة الحجة بالحجة . أعد نفسه جيداً ، ما يجب قوله ، والحقائق التى أغفلها الرجل .
          دبر الكلمات فى فمه ، وتهيأ لقولها ..
          حين بدأ الكلام ، غلبه ارتباك ، وارتج عليه لأن ما كان قد حفظه ، انمحى وزال . محيت المسائل كلها من ذاكرته . لم يعد يتذكر شيئاً مما أعد له نفسه . مئات القوانين كان احتفظ بها فى ذاكرته ، ما لبث أن نسيها كأنها لم تكن . لم يتذكر مسألة واحدة مما كان قد استظهره . بدت ذاكرته كالورقات البيضاء ..
          أغمض عينيه ، وضغط بإصبعيه على جبهته . يحث الذاكرة . يستدعى الكلمات التى كان أعدها ليضمنها كلماته . يثق أنها كلمات مهمة ، تضع التاريخ فى إطاره الصحيح . اختفت كل الكلمات والصور والتواريخ . أجاد ترتيبها ، يعرضها فيقنع الحضور . حتى ما قد يثيره السلطان ـ أو أعوانه ـ من أسئلة ، أعد لها ـ بالتوقع ـ ردوداً مسهبة ، فلا يترك معنى للمصادفة ، أو يقذف به فى الغموض ..
          ظلت الكلمات مستعصية وغائبة . نثار من اختلاط الحروف والكلمات تصدر عن فمه ، فلا تقول شيئاً له معنى ..
          محو الذاكرة هو ما كان يطلبه السلطان ..
          ذاع بين الناس أنه أجاد أفعال السحر ، وصنع الطلاسم والمشاهرات ، والتنجيم ، وقراءة الرمل ، ومخاطبة النجوم .
          كان يلجأ إلى محو ذاكرة من يأذن لهم بمخاطبته ، لينسوا حقوقهم . يضع سحره فى عينى الواقف أمامه . تتجهان إلى رأسه ، فتنمحى ذاكرته . يتلاشى كل ما اختزنه من تواريخ الزمن القديم وأحداثه وشخصياته . تظل سيطرة السلطان على كل شىء ..
          حتى تغيب حكاياتنا القديمة عن الذاكرة تماماً ، ألغى السلطان الكتاتيب ، ورواة الملاحم والسير والطباشير والأقلام وألواح الإردواز .
          اقتحم جنود السلطان ـ بأمر منه ـ ما فى المدينة من مكتبات عامة وخاصة وأقبية . أخذوا ما بها من كتب ووثائق ومخطوطات . كل ما سجل فى أوراق ، وضعوه فى كومات وسط الميادين ، وأشعلوا فيه النيران .
          علا الدخان والحرائق سماء المدينة ..
          أدركنا أن الأوراد والدعوات وحلقات الذكر والابتهالات والأشعار والأذان فى مواعيد الصلوات الخمس .. ذلك كله لا يعنى شيئاً ما لم نحافظ على ذاكرتنا ..
          حتى لا تنقضى الأعوام ، فتغيب الذاكرة تماماً ، لجأنا إلى الجدات ، إلى ما يحتفظن به من حكايات وحواديت وسير وملاحم وأمثال وألغاز . كل ما احترق فى الأوراق تحفظه الصدور . ذاكرة الجدات من المستحيل محوها . ليست كلمات فى الأوراق ولا على الجدران ، فتمزق أو تمسح ، ولا يترددن على مجلس السلطان ، فيلحقهن سحره ، ولا هو يستطيع أن يتجه بسحر العينين إلى الجدات فى داخل البيوت . الجدات يروين لحلقات الأبناء والحفدة ، يروونه لأبنائهم وحفدتهم ..
          بعد أن تزول سطوة السلطان ، ربما بعد مائة عام ، أو مائتى عام ، أو ما شاء الله من السنين ، تظل الذاكرة حية . يعرف من يحيون فى المستقبل كيف كان الماضى ، فلا تتشوش الذاكرة ، أو تضيع .

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            كاتب مسجل
            • Jun 2006
            • 1123

            #6
            رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

            (6)
            *القلعـــــة*
            .................

            بدت رسائل والى الإسكندرية مغايرة للرسائل التى يتلقاها السلطان من ولاة الأقاليم . الثغور آمنة ، والمؤن مرفوعة ، والأذى منفى ، والحق قائم . الإسكندرية وحدها تسئ إلى أمن السلطنة ، وتشوش صورته . تعددت أعمال السلب والنهب ، والخروج على القانون ..
            قال السلطان فى حيرة :
            ـ لماذا الإسكندرية ؟.. كل الأقاليم هادئة ..
            قال كاتب السلطنة :
            ـ ادعى أهلها نفاد الأقوات وخلو الأسواق مما يحتاج إليه الناس .. شكوى غريبة بررت بها عصابات الزعر فى الأقاليم الأخرى جرائمها ..
            أعاد السلطان سؤاله :
            ـ لماذا الإسكندرية ؟
            ـ لو أننا نحينا الوالى وحل آخر فى موضعه ..
            أمر السلطان ، فاستبدل بالوالى والياً آخر .
            زاد السلطان ، فأمر أن يبدأ الوالى أيامه بقطع رأس كل من تسول له نفسه الخروج على أولى الأمر والجماعة. الإطاحة برأسه من فوق قلعة قايتباى . تطير الرأس المفصولة إلى قلب المياه ، فتلتهمها الأسماك ..
            هتف الوالى :
            ـ لابد أن يكونوا عبرة لمن يخرج علينا ..
            عاد الجند بعشرات الزعر والحرافيش ، تسللوا إلى قصور الأعيان والوجهاء وكبار موظفى الدولة . ألقى الجند على ظهورهم ما كانوا قد سرقوه ، وأركبوهم الدواب فى وضع مقلوب ، والنداء يسبق الموكب : هذا جزاء من يفعل الشر !
            أطار المشاعلى عشرات الرءوس من أجساد أصحابها . ارتطمت بالمياه فى دوائر ، اتسعت واتسعت ، ثم تلاشت ..
            ما حير الوالى ، والمشاعلى ، والجميع ، أن الرءوس ظلت طافية فوق المياه ، فلم تقربها الأسماك .
            صارت الحيرة ذهولاً لما لاحظت الأعين المتطلعة أن الرءوس تكاثرت وتكاثرت . غطت وجه المياه من أسفل القلعة إلى نهاية الأفق ..
            فرك الوالى عينه ليتأكد من أن الوهم هو ما رآه . الرءوس تصعد مع الأمواج المرتطمة بجدران القلعة ، تنفذ من الكوات والمزاغل والنوافذ الصغيرة ..

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              كاتب مسجل
              • Jun 2006
              • 1123

              #7
              رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

              (7)
              *الانتظــــــار*
              .....................

              صاح الحاجب :
              ـ عبدة النار فى مدخل بهو القصر !
              أهمل السلطان صيحة الحاجب . يعرف أن عبدة النار فى مناطق بعيدة ..
              سأل السلطان منجميه عن الموعد المناسب لمقاتلة عبدة النار ، وإعادة نشر الإسلام فى المناطق التى احتلوها ..
              رجع المنجمون إلى كتب الفلك والسحر ، وتأملوا مواقع النجوم والكواكب ، وطرحوا الأرقام والمعادلات ، وطرحوا التوقعات والأسئلة ، وأداروا نظراتهم إلى الآفاق المحيطة . دخلوا على السلطان . قبلوا الأرض تحت قدميه ، ولثموا طرف ردائه ..
              قال كبير المنجمين :
              ـ قدوم عبدة النار شائعات لنشر الخوف بين رعاياك ..
              نقل الأرصاد والعائدون إلى السلطان رؤيتهم لأفراد وجماعات من عبدة النار فى البلاد القريبة . أحرقوا مضارب القبائل ، وجعلوا مزارعها بوراً ، وأعدموا الماشية ، وانتهبوا كل ما صادفوه من الأموال والحواصل . أعملوا سيوفهم فى كل من خرج لمقاومتهم من الرجال ، وعادوا إلى بلادهم بالرءوس المعلقة على أطراف الرماح ، وسبوا النساء والذرارى ..
              تكرر سؤال السلطان لمنجميه . تكرر انصرافهم إلى كتب السحر والفلك والتطلع إلى الآفاق المحيطة ، وتكرر قولهم :
              ـ قدوم عبدة النار مجرد شائعات ..
              ألقى قائد عبدة النار بالعباءة ذات اللونين على كتفه . تقدم نحو السلطان فى جلسته الخائفة ، يتبعه أعوانه شاهرى السيوف ..
              همس السلطان من شفتين مرتجفتين :
              ـ كيف ؟
              ـ ما قاله لك الأرصاد صحيح ..
              ـ والمنجمون ؟
              ـ أعطيناهم ، فنصحوا بالانتظار !

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                كاتب مسجل
                • Jun 2006
                • 1123

                #8
                رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

                ( 8 )
                *الإشـــارة*
                .................

                استعدوا للمعركة . ارتدوا أزياء القتال والدروع . أمسكت الأيدى بمقابض السيوف والخناجر ، وتحسست الغدارات والعصى . اتجهت النظرات ناحية الباب ، تنتظر إشارة التحرك ..
                تناهى وقع أقدام ..
                حدسوا اقتراب الموعد ..
                طالعهم الرجل بقامته الضئيلة ، وعينيه الرماديتين ، وابتسامته الشاحبة ، ولحيته المختلطة السواد بالبياض ..
                تبادلوا نظرات التساؤل والدهشة ..
                قال :
                ـ لم يحن موعد المعركة بعد ..
                قالوا :
                ـ كيف عرفت ؟
                قال بلهجة باترة :
                ـ أعرف ..
                قالوا :
                ـ من أنت ؟
                قال :
                ـ صديق لا تعرفونه !
                اندس فى وسطهم ، وقال :
                ـ إن أردتم .. سأروى لكم حكايات حتى يحين موعد المعركة ..
                ظل الجالسون فى أماكنهم ، وعاد إلى الجلوس من وقفوا للقتال ..
                روى لهم حكايات السندباد وهارون الرشيد وعلى الزيبق وسندريلا وست الحسن والجمال والشاطر حسن والسفيرة عزيزة وزوجة العزيز ، وحكايات المدن البعيدة والبساط السحرى والبلورة المسحورة والصبايا والإغراء والفتنة والأحلام والبخور وروائح العطر والأضواء الملونة والبهجة ..
                اهتزت الرءوس بالرغبة فى النوم ..
                واصل الحكى حتى استغرقوا فى النوم تماماً ..
                أعطى الإشارة ، لينهى الحكايات .

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  كاتب مسجل
                  • Jun 2006
                  • 1123

                  #9
                  رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

                  (9)
                  *السلطــان*
                  ..................

                  عاد إلى بلاده من المدينة البعيدة . أنصت إلى أحاديث الناس عن ضيقهم بتصرفات حاشية السلطان ، وقسوة جنده ، والأسوار التى عزلت قصوره ، فلا يتاح لأحد بالمثول بين يديه ، أو رفع رقاع التظلم ..
                  تحدث عما رآه ـ فى المدن البعيدة ـ من حرية الناس فى إبداء الرأى والاختلاف والقراءة والسماع والمشاهدة والسهر والغناء والنوم والتنقل وإطلاق الضحكات ..
                  لما تحدث الناس عن زوار الليل ، يأمرهم السلطان بأن يداهموا البيت فى أوقات الليل المتأخر ، يلقون القبض على من همس بشائعة ، أو التقى بالآخرين فى أماكن مظلمة ، أو رسم الحزن على ملامحه ، طالب الناس أن يختاروه سلطاناً عليهم ..
                  بدا حل المشكلات فى اختياره سلطاناً ، ليقضى على ما فى حياة الناس من مشكلات . يكرر القول ـ كلما رأى ما يضيق به الناس ـ إن اختياره سلطاناً سيقضى على هذه المشكلات تماماً ..
                  كان إلغاء منصب السلطان أول ما أصدره السلطان الجديد من مراسيم!

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    كاتب مسجل
                    • Jun 2006
                    • 1123

                    #10
                    رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

                    (10)
                    *لقــــــــــاء*
                    ...................

                    طرق باب السلطان ليخلصه مما يعانيه ..
                    كانت البيانات قد ألصقت على الجدران والأعمدة وأبواب المساجد والزوايا وأشجار الطريق . تدعو إلى العدل والمساواة بين الناس . تعد بالنصفة من يطرق باب السلطان ..
                    أعد فى نفسه ما ينبغى قوله . تعددت زيارات جابى الضرائب إلى كوخه الخشبى المطل على النهر . أخذ أعوانه كل ما فى الكوخ . حتى الثوب الوحيد أجبروه على نزعه ، والحياة شبه عار . حتى الأرض التى كان يقتات من زراعتها ، نسبها الجابى إلى رجل له سحنة تشبه سحنته . ذلك ما أزمع أن يحدث به السلطان . كل السحن متشابهة . لا فرق فى الملامح ، ولا فى التصرفات ، بين الجابى والمحتسب وقائد الشرطة وسواهم من أعوان السلطان ..
                    أذن له الحارس بالدخول . اجتذبته الرهبة ، فشرد عن الأبهة التى تنطق بها القاعة الفسيحة ..
                    تنبه إلى صيحة الحاجب بأنه يقف بين يدى السلطان ..
                    غالب ارتباكه ، ورفع رأسه ..
                    ندت عنه صرخة ، لم يقدر على كتمها . طالعته السحنة نفسها التى قدم بها إليه فى كوخه الخشبى ، زواره من أعوان السلطان .

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      كاتب مسجل
                      • Jun 2006
                      • 1123

                      #11
                      رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

                      (11)
                      *القاضي ولسعة الكرباج*
                      .....................................

                      فاجأ السلطان قاضى المدينة والحضور ، حين أمر المشاعلى أن ينزع عن القاضى ثيابه ..
                      نطق الفزع فى عينى القاضى . حدس أن نفس السلطان تغيرت عليه لسبب لا يعرفه ، فهو سيأمر المشاعلى أن يطيح برأسه ..
                      أدرك السلطان ما يعانيه القاضى . لزم الصمت حتى يزيد فى قلقه وخوفه ..
                      كانت رقاع كثيرة قد رفعت إلى مقام السلطان ، تعيب على القاضى أنه يأخذ بالشدة فى كل أحكامه ، لا يستثنى حتى المخالفات البسيطة التى لا تستدعى المؤاخذة ..
                      قالت الرقاع إن القاضى يحكم على من يقفون بين يديه بالجلد ، وأنه ينفذ الأحكام بنفسه ، لا يلقى الكرباج ـ أحياناً ـ إلا بعد أن يلفظ المتهم أنفاسه ..
                      قال السلطان :
                      ـ أنت تصدر الأحكام منذ عشرات السنين . لا بأس من أن نصدر عليك حكماً لمرة وحيدة ..
                      قبل أن يعلو صوت القاضى بالسؤال ، أو بالتذلل ، أشار السلطان إلى المشاعلى بإصبع متجهة إلى أسفل ، دلالة أن يضرب ظهر القاضى العارى ضربة واحدة ..
                      هوى المشاعلى بالكرباج على ظهر القاضى الذى تواصل نحيبه وصراخه ، لا يوقفه حتى أمر السلطان له بأن يصمت ..
                      قال السلطان :
                      ـ هاأنت تتألم من لسعة كرباج واحدة .. ألم تفكر فى تأثير ضربات كرباجك على ظهور الناس ؟!

                      تعليق

                      • د. حسين علي محمد
                        كاتب مسجل
                        • Jun 2006
                        • 1123

                        #12
                        رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

                        (12)
                        *فتــــــــوى*
                        ..................

                        عاد العلماء والفقهاء وأصحاب الرأى إلى الجوامع والمعاهد والمدن والقرى . أغلقوا على أنفسهم أبواب صوامعهم . انشغلوا بقراءة ما على الأرفف من مجلدات ومخطوطات وحجج ووثائق . يحاولون التوصل إلى ما طلبه السلطان من معنى ، يدير به أمور السلطنة ..
                        كان السلطان قد دعا العلماء والفقهاء وأهل المشورة من العاصمة ومدن الأقاليم . امتلأت بهم القاعة الكبرى فى القصر . من لم يجدوا مقاعد اكتفوا بالوقوف ، وإن وقف الجميع ـ احتراماً ـ لما أعلن الحاجب دخول السلطان ..
                        جلس السلطان فى موضع الصدارة ، عن يمينه ويساره قادة الجند والأمراء وكبار الموظفين ..
                        تأمل الحضور الذين شكلوا ما يشبه الحدوة ..
                        قال :
                        ـ دعوتكم لأمر خطير ..
                        أضاف لنظرات الخوف المتسائلة :
                        ـ هو أمر لا يخص فرداً ولا مجموعة أفراد ، لكنه يخص كل الناس ..
                        وقال للصمت السادر ، والتوقعات التى بلا حد :
                        ـ الشائعات تملأ الأسواق أننا اغتصبنا الحكم بقوة السلاح ..
                        أردف فى لهجة فاهمة :
                        ـ أعرف أن هناك أحكاماً فقهية تعترف بشرعية الحاكم عندما يغتصب الحكم بقوة السلاح ..
                        وعلا صوته فى كلمات باترة :
                        ـ عودوا إلى الكتب ، واستنبطوا الأحكام الفقهية التى تناصرنا ..
                        رجع العلماء إلى المجلدات والمخطوطات وأحكام الدين ، وروايات التاريخ . طالت مراجعاتهم لأنفسهم ، ومناقشاتهم لبعضهم البعض ..
                        طالت المراجعات والمناقشات ، والأخذ والرد ، وتكومت مئات الفتاوى فى ديوان السلطان .
                        طالب السلطان موظفيه أن يطيلوا قراءة الآراء والاجتهادات ، ويختصروها فى كلمات محددة ..
                        وصل الموظفون الليل بالنهار فى تقليب ما بين أيديهم من فتاوى ..
                        فى يوم تاريخى ، حضره كل من دعوا فى البداية ، وحُشِدت جموع الناس ـ فى حراسة الشرطة ـ خارج القصر ، أعلن كبير الياوران أن خلاصة الاجتهادات تقول : " هذه إمامة المتغلب . الناس فيها راضون ، والسلطان وعد الناس بالعدل .. فلم لا نثق فى صدق وعده ؟ " .

                        تعليق

                        • د. حسين علي محمد
                          كاتب مسجل
                          • Jun 2006
                          • 1123

                          #13
                          رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

                          (13)
                          *حقائق الجدار*
                          ......................

                          ـ 1 ـ
                          أستلقى على ظهرى . تتقاطع اليدان خلف الرأس ، أتأمل تكوينات النشع فى السقف ، وفى أعلى الجدران ..
                          أحدثت الرطوبة نشعاً ، تقشر به طلاء الجدران عن أشكال ، صغيرة وكبيرة ، مستطيلة ، ومربعة ، ومستديرة ، ومفرطحة ، ومشرشرة ، ومتداخلة . أتصور الملامح والشخصيات والأحداث .
                          تفاجئنى الأشكال بتحورها . يتلاشى ما كنت قد أطلت تأمله فى الليلة السابقة . تحل أشكال جديدة ، لها استداراتها وانبعاجاتها .
                          ألجأ إلى التخيل ، إلى قدرتى عليه ، أضيف إلى الشكل ، وأحذف منه ، أتخيله فى الصورة التى أريدها ، وما يكتمل به المشهد ، الحركات والسكنات والمعانى التى يعبر عنها .
                          إذا لم تعبر التكوينات على الجدار عن أشكال محددة ، ولا قسمات يسهل التعرف عليها ، فإن الخيال يضيف إليها ، ويحذف منها ، ويحورها . ثمة وجوه وأجساد وعربة يد ومشنة سمك وعصفور وبقرة وسنارة صيد ووردة ومقعد وكوب وميكى ماوس وسماعة طبية وطبق وكتاب وقلم وفازة وسكين وعروسة مولد وقادوم وساعة حائط وفرشاة ودراجة وأباجورة وسماعة تليفون ومئذنة وديك ومسبحة وعملة معدنية وحذاء وشجرة .
                          كانت جدتى تفارقنى إلى حجرتها ، بعد أن تروى لى ما أحبه ـ ويخيفنى ـ من حكايات على الزيبق ، والشاطر حسن ، والسفيرة عزيزة ، وست الحسن والجمال ، والسندباد البحرى ، وطائر الرخ وجنيات البحر ، وجزر الواق الواق ، وأبو رجل مسلوخة ، والعفاريت ، والجان ، والمردة ، والأشباح ، والأطياف .
                          الضوء المنبعث من الطرقة يضيف إلى ما أتصوره فى تكوينات نشع الجدار . تتجسد ، وتتحرك ، وتتلاقى ، وتتباعد ، وتفعل ما أتصوره مما روته لى جدتى . يبلغ الأمر حد مغادرة الجدار ، والاتجاه ناحيتى بعينين تقدحان شرراً ، أو يدين تتحولان إلى مخالب ، أو أنياب تهم بالتهامى ..
                          يتجسد أمامى الرجل ذو الساق الحبلى ـ فى حدوتة جدتى ـ بدلا من زوجته المريضة ، الأميرة فى قصرها تنصت إلى توسل الشاب بأن تعطيه مما فى قصرها من عنب للمريض فى بيته . الصراصير الكثيرة التى تملأ البئر تلبية لأوامر العجوز الشريرة : يا بير يا بير .. اديها صراصير كتير !
                          يسلمنى النوم إلى أحلام وكوابيس ، لا تنتهى ..
                          ـ 2 ـ
                          فى الصباح ، أغمض عينى ، ثم أفتحهما ، لأتبين ما إذا كانت الأشكال لا تزال فى مواضعها ..
                          ألاحظ التغيرات التى تحدثها الرطوبة فى تكوينات النشع . تأخذ أشكالاً جديدة . ظهرت تفاحة لم تكن موجودة فى زاوية الجدار . تشوشت مساحة الشجرة . بدت أخطبوطاً له العديد من الأيدى المتشابكة ، المتباعدة . لامست ما تصورته أوزة لها عنق ومنقار وجسد ممتلئ . توقعت أن تحتضنها فى اتساع مساحات النشع ، أو تؤذيها ...
                          أتنبه إلى أنى استغرقت فى النظر إلى الجدار . شردت حتى عن محاولة تأمل التكوينات ، وتصور ما تعنيه .
                          أحاول تجاوز ما أعانيه . أسحب كتاباً من الكومودينو المجاور ، أو أدير المسجل الصغير ـ فى صوت خافت ـ على أغنيات ، لا أعطيها انتباهى . ربما حاولت تناسى الأمر برشفات متباطئة من كوب شاى .

                          ـ 3 ـ
                          انتفضت ـ بتلقائية ـ لسقوط حشرة من السقف فوق رأسى . تأملت نثارها فوق الملاءة ، وعلى الأرض ..
                          بدا التكوين مسدساً فى يد بلا ذراع . لم أكن أفكر فى معارك ولا قتال ، ولا ما يحرض على العنف . ألح التكوين على اجتذابى إليه . بدا مغايراً لكل ما على الجدار من ملامح وقسمات .
                          تداخلت الأشكال ، ناقصة ، ومبتورة ، ومنفصلة عن اكتمالها : خرطوم فيل ، سنم جمل ، وجه كلب ، عصا مكسورة ، سبحة منفرطة الحبات .
                          أذهلنى تحرك ما بدا أنه ثعبان ضخم . زحف بجسده ناحية الأجسام الصغير المتناثرة فى اتجاهها . ابتلعها ، فم يعد إلا شحوب لون الجدار .
                          تحولت النقط المتناثرة فى زوايا الجدار إلى ما يشبه الحشرات ، أو الحيوانات الصغيرة ، تختلط وتتشابك .
                          حين انطلقت من الجدار ، وحلقت فى سماء الحجرة ، أدركت أنها تحولت إلى طيور سوداء متلاصقة ، تضفى ظلالاً داكنة على الضوء الخافت أصلاً .
                          أبحث عن الونس فى ترامى هدير الأمواج من النافذة المواربة ، وأغنيات الراديو القريب ، ونداءات جرسون المقهى ، وضربات النرد ، وصيحات الرواد ، ومواء قطط ، أخمن أنها تتعارك حول كومة زبالة .
                          هبت ـ من النافذة الصغيرة ـ دفقة هواء مفاجئة . تحركت لها ظلال اللمبة المتدلية من السقف . رسمت تكوينات لبشر تختلط فيما يشبه العراك .
                          التحمت التكوينات . صارت تكويناً واحداً ، أشبه باستدارة وجه ، وإن تشوهت الملامح فى جانب الرأس ، والجبهة والذقن . بدت العينان متماثلتين فى المساحة والاتساع . تحدقان أمامهما بنظرة ثابتة ، والشفتان منفرجتان فى هيئة الغضب .
                          ـ 4 ـ
                          ظلت تكوينات نشع الجدار فى حياتى ، وإن لم يعد لها التأثير المخيف ، القديم . أترقب ـ فى أثناء النهار ـ تلك اللحظات التى أنظر فيها إلى الجدار . ألتقط الكلمات من الكتاب بين يدى ، أدير الراديو ، أصيخ السمع إلى ترامى النداءات ، وتلاغط الأصوات ، وصيحات الطيور ، وهدير الموج من ناحية الأنفوشى .
                          أسرح فى تصورات السكون والحركة والملامح والقسمات والتعبيرات . يضيف إليها ما بداخلى من مشاعر الأسى والطمأنينة والخوف والراحة والحزن والألم والتوقع . أستعيد حكايات عشتها طيلة أيامى السابقة . أصلها بما أتوقع أو أريده . أستعيد ملامح أعرفها . أتخيل ما لا أعرفه . أتذكر ما كنت قد نسيته تماماً .
                          أهمل النظرات المتسائلة . أظل صامتاً ، وإن أومأت برأسى لقول جار الطابق الأول :
                          ـ جاءوا أكثر من مرة ..
                          يضيف بلهجة مشفقة :
                          ـ ابتعد حتى يزهقوا !
                          أومئ بهزة الرأس . أصعد درجات السلم . أتأكد من إحكام رتاج الباب الخارجى ، وإغلاق الحجرة فى طرف السطح . أوارب النافذة الوحيدة المطلة على الشارع الخلفى .
                          أعيد النظر إلى الحائط . أعيد التأمل . أحور فى التكوينات . أصلها بأحداث اليوم . أتصور قسمات مغايرة لم أرها من قبل . لكن الصورة تظل ثابتة : المسدس فى اليد التى بلا ذراع ، يتجه ناحية باب الحجرة المغلق .

                          ـ 5 ـ
                          اتسع النشع فملأ مساحة الجدار . أخذ شكل الدائرة ، أو البيضة الهائلة . حاولت أن أتبين ما لم أره من قبل : تكوينات تختلف عن التى صنعت حكايات الليالى السابقة . ما يشبه السحاب ، يهمى نثار النقط الصغيرة ، كأنه تساقط الأمطار .
                          تلاقت الخيوط المتباعدة ، تشابكت ، صارت خيطاًَ واحداً ، نهايته تكوين غير متناسق الحواف ، أشبه بطائرة ورقية انطلقت فى مساحات لا نهائية .
                          بدأ التكوين فى التغيّر . تحول إلى ما يشبه سمكة القرش ، هى سمكة القرش بانسيابية الجسد ، والفكين المفتوحين .
                          بدا أن الصور فى الزاوية اليمنى ، تتجه إلى خارج الجدار ، تريد الخلاص من الحصار داخل المستطيل ، تطلب الحركة والانطلاق .
                          ـ 6 ـ
                          تحورت تكوينات الجدار . أخذت أشكالاً جديدة . اختفى ما يبدو كلباً له ذيل ، وما يبدو مسدساً ، والطائرة الورقية التى طارت بعيداً . تحركت التكوينات ، استطالت إلى خارج الجدار . اختلطت ، وتشابكت ، بتكوينات لم أكن التفت إليها فى الجدار الجانبى . أحس كأنها قد اصطدمت ، وثارت رياح وزوابع وأعاصير .
                          قال جار الطابق الأول فى لهجة ذات مغزى :
                          ـ لا تستهن بالشمعة التى فى يدك ، هى ضوء قد لا يبدد الظلمة ، لكنه يخفف منها ..
                          ـ 7 ـ
                          أعاود النظر .
                          تطالعنى التكوينات بتغير . يغيب ما كنت اطمأننت إلى قسماته . وجدت فى التكوينات الجديدة ما لم يكن قد خطر لى من قبل .
                          بدت المساحة ـ بالكاد ـ كقطعة الشطرنج .
                          لاعبت نفسى . حركت العساكر والوزير والطابية والفيلان . نقلت الأجسام الصغيرة على المربعات ، لأواجه الملك بالهزيمة . لا يشغلنى سقوط العساكر ولا الوزير . الملك هو الهدف الذى أناور كى أصل بحصارى إليه . أجده فى موضع العزلة ..
                          تعالت دقات الأحذية الضخمة فوق السلالم ، ترافقها همسات ونداءات وعبارات محذرة وقرقعة سلاح . انتهت عند البسطة ، أمام الشقة . ارتفع ـ بعدها ـ صوت آمر :
                          ـ افتح !
                          لفتنى ارتجافة حين ارتسم ـ فى جانب الجدار ـ ما يشبه المشنقة . تدلى حبل ، فى نهايته أنشوطة .
                          أعدت النظر . تماوج الحبل ، وتقطعت الأنشوطة إلى نثارات ..
                          أرجعت تصورات الأشكال والتكوينات إلى ما بداخلى ، ما أعانيه .
                          لم أزايل موضعى . ظللت ممدداً ، نظراتى محدقة إلى الجدار ، أتأمل اختلاط التكوينات بما لم أتوقعه . اختفت الأشكال المتداخلة . حلت ـ بدلاً منها ـ أشكال أشبه بالمسدسات والقنابل اليدوية . اعتدلت فى موضعى بحيث واجهت الباب المغلق . حركت إصبعى كأنى أضغط على زناد . علا صوت انطلاق رصاصة . توالى تحريك إصبعى . تعالت أصوات الرصاص والصيحات ..
                          فى داخلى إصرار على المواجهة ..
                          يظل إصبعى فى وضع الضغط على الزناد .

                          تعليق

                          • د. حسين علي محمد
                            كاتب مسجل
                            • Jun 2006
                            • 1123

                            #14
                            رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

                            (14)
                            *مواجهــــــة*
                            ....................

                            الطريق تتلوى صاعدة فوق الجبال المتلاصقة ، تمضى إلى نقطة غير مرئية . زرقة السماء صافية ، إلا من سحب صغيرة ، متباعدة ، وثمة نسائم خريفية باردة ..
                            افترش الناس الأرض فى دائرة واسعة . النساء خلف الرجال ، فى مواضع تتيح لهن الرؤية . على الأسطح ، وفى الشرفات ، وعلى مقاعد أمام الجدران ..
                            الديكان يتصارعان . الجسدان هائلان ، والحركة رشيقة ، والقدرة لا حد لها على العراك . إما أن ينتصر أحدهما ، يقضى على الآخر ، يلقيه هالكاً على الأرض ، أو يموت . تتعالى دقات الطبول والصيحات الوحشية ، الصاخبة ، تحرض على العنف والقتال حتى الموت : إدبك فى عين زنبيله .. لا تفلته .. اكسر جناحه قبل أن يكسر جناحك . يتقاتل الديكان حتى يفقدا القدرة على الحركة . الأعين تلتمع بنشوة غامضة ..
                            نادى الشيخ على الديكين ...
                            دخل الرجلان قلب الساحة الدائرية . بيد كل منهما ديك ، يختلف لونه عن الآخر ..
                            اتجه الشيخ إلى على حمدون :
                            ـ هل أنت على ثقة من هذا الديك يصلح للمصارعة ..
                            قال على حمدون :
                            ـ أتيت به لينتصر لا ليموت ..
                            ـ تعرف أنه لابد من غالب ومغلوب .. قاتل ومقتول ..
                            وهو يهز رأسه :
                            ـ أعرف ..
                            أدركه اليأس من أن يتعلم الديك المصارعة . تكوم على نفسه ، لا يقاوم ضربات الديك الآخر ، ولا نقراته المتوالية . لاحظ الديك إشارته إلى الولد ليحمله إلى الداخل . أولى به المطبخ . فاجأه بنقر الديك المهاجم فى عينيه . فى العينين تماماً ، فانبثق الدم . صرخ الديك المهاجم . ارتفع ، وهبط ، وتقلب فى الأرض .
                            أشار على حمدون إلى الولد . ترك الديك الأبيض فى موضعه ، وحمل المتداخل اللونين الرمادى والأبيض إلى الداخل ، للتعجيل بذبحه ..
                            تكرر الأمر فى مصارعات تالية . يظل الديك الأبيض على تكومه ، وتحمّله للضربات والنقرات . فى لحظة غير متوقعة ، يفز فى وجه الديك المهاجم . يثقب العينين ، فينبثق الدم ..
                            عنى على حمدون بعلاج الديك من الجراح التى أدمت جسده . أدرك أنه لا يميل إلى المصارعة ، وإن دافع عن نفسه حين يزداد الألم ، ويعلو إيقاع الخطر . ضربة واحدة ، فى لحظة غير متوقعة ، يثأر بها لنفسه . يعود إلى موضعه ، ويتكوم ..
                            قال الحكم الشيخ :
                            ـ أنا أشفق على هذا الديك ..
                            قال على حمدون :
                            ـ لو أنك رأيته فى المجاولة فسيذهلك ..
                            قال الحكم :
                            ـ جئت به للمصارعة أم لينتحر ؟
                            ـ لولا أنى أثق فيه ما دفعته إلى المجاولة ..
                            ولجأ إلى تعبيرات يديه :
                            ـ إن ديكى يفعل ما لا أستطيع أن أفعله !
                            أهمل شعور الخذلان فى داخله لنظرات الناس المستخفة إلى ديكه الأبيض . يعلو رأسه النحيل عرف أحمر ، متهدل ، ومنقاره رفيع ..
                            تمنى ـ بينه وبين نفسه ـ لو يتحرك الديك فى اللحظة التى لا يتوقعها هو نفسه . ينقر الديك البنى فى وجهه ، فى عينيه . يجبره على الفرار . يقضى على النظرات المستخفة ..
                            تواجه الديكان ..
                            تراجع الديك البنى إلى الوراء . نبش فى الأرض الرملية . نفش ريشه . رفرف بجناحيه فوق الديك الأبيض . مال بمخالبه . ضرب الديك الأبيض ، ثم استعاد وقفته على الأرض . اقترب حتى لامس الديك المنكمش . غرس منقاره فى جسده . نقر وجهه وعنقه ورأسه . حتى عينيه ، بدا أن الديك الأبيض أغمضهما قبل أن يخترقها منقار الديك البنى ..
                            ظل الديك الأبيض على تكومه ..
                            يعرف أن عبد الحكيم الطائى وضع " البيسة " فوق الأخرى ، حتى اشترى ديكاً هندياً . هو أفضل أنواع الديكة . رفض الديوك العربية والهولندية والتايلندية والتركية . الهندى أشرس الديوك . عضلاته قوية ، حجمه كبير ، صورته تسر النظر . يخرج منتصراً أمام خصومه ..
                            أشار الطائى إلى سلسلة الجبال المتداخلة الألوان ، لا أفق لنهايتها :
                            ـ هل يوجد فى المنطقة ما هو أضخم من هذا الجبل ؟
                            ـ لا أعرف ..
                            قال فى لهجة باترة :
                            ـ لا يوجد !.. هذا شأن ديكى .. لا يوجد ما هو أقوى منه ..
                            تخلى على حمدون عن توقعه بأن الديك الأبيض سينقر عينى البنى فى اللحظة التى يختارها . لحظة ما قبل الإغماء ، أو الموت . ظل الديك منكمشاً على نفسه ، طوى مخالبه تحت جناحيه . غطت الدماء ريشه وعرفه ورأسه دون يغادر تكومه الذليل . يدرك على حمدون أن ديكه الأبيض لا يهاجم إلا من يهاجمه . يظل منطوياً على نفسه ، منكمشاً ، يتحمل الضربات ، دون أن يبدى تألماً ، ولا مقاومة ، لكنه استغرق فى الانكماش ، فلا يبدو إن كان صاحياً أم راح فى النوم . عكست نظرات الحلقة المحيطة إشفاقاً من أن الديك الأبيض ليس نداً لخصمه ..
                            أومأ على حمدون بالموافقة على أن يفصل الحكم بين الديكين ، يعلن ـ لعدم التكافؤ ـ فوز الديك البنى . تخلى عن ثقته بأن ديكه سيتحرك فى لحظة يختارها ، يطيح بالديك البنى ، فيعلن الحكم فوزه . لا يعرف متى ولا كيف ، لكن ذلك ما توقعه . لم يتصور أن الديك يخذله ، يظل فى انكفائه حتى يقتله الديك البنى تماماً ..
                            تهيأ الجميع للانصراف . توقعوا أن الديك البنى قضى على خصمه . لكن الديك الأبيض ـ فى لحظة لا يتوقعها أحد ـ تماسك ، واستجمع قوته . قفز من فوق ساعد الرجل ناحية خصمه . فى اتجاه العينين . نقرهما فى المنتصف تماماً ، فانبثق الدم ..
                            طار الديك المثقوب العينين فوق الرءوس ، وجرى .
                            فز الجالسون ، وجروا وراءه . لم يصدقوا أنه ترك المجاولة وهو يكاد يقضى على خصمه . حتى الحكم الشيخ تردد فى إعلان النتيجة . توقع عودة الناس بالديك الهارب ، فيقضى على الديك الأبيض ، ويعلن فوزه ..
                            لكن الزمن طال ، وامتد . بدأت الحلقة فى الانفضاض ، ونزل النسوة من فوق الأسطح ، وتركن الشرفات والمقاعد ، وأغلقن أبواب البيوت ..
                            تنبه على حمدون إلى وقفته فى الساحة الخالية ، والديك الأبيض فى التكوم الذى ألفه . حتى الأضواء المتناثرة توالى إطفاؤها فسادت الظلمة ..
                            انحنى ..
                            حمل الديك . عدل الدشداشة على جسده ، وثبت المسرة فوق رأسه ..
                            مضى ناحية القرية ..

                            تعليق

                            • د. حسين علي محمد
                              كاتب مسجل
                              • Jun 2006
                              • 1123

                              #15
                              رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

                              (15)
                              *جدتي رقيـة*
                              ....................

                              لم تعد جدتى رقية تقدر على النزول من الطابق الثانى ، أو الصعود إليه . عانت تورم قدميها ، وأبطأت الشيخوخة حركاتها . حتى ما كانت تثيره من أسئلة ، لم يعد يشغلها ..
                              ضايقتها فكرة أنها لن تستطيع الخروج من حجرتها ، هبوط درجات السلم ، السير ـ عبر الشوارع الضيقة والحوارى والأزقة ـ إلى شاطئ البحر ، التطلع إلى الأفق ، حيث شاهدت البلانس يغرق بمن فيه ..
                              كانت تمضى ـ كل صباح ـ إلى شاطئ البحر . تسحب العباءة السوداء من شماعة الجدار . تتأكد من إحكام الإيشارب حول رأسها ووجهها . تدس قدميها فى الشبشب ، وتمضى خارج الحجرة . فى بالها أن ترى البحر قبل أن تموت ، تحدق فى الأفق ، تواجه ما عجزت عن مواجهته فى غرق البلانس أمام عينيها ..
                              كانت جالسة على الكورنيش الحجرى لشاطئ الأنفوشى وحدها . الدنيا فى غبشة الفجر . اكتست المرئيات بلون الرماد .
                              وضعت جدتى رقية كفها على عينيها ، تحدق فيما لم تتأكد من رؤيته فى الأفق : لنش سواحل ، بلانس ، باخرة ركاب . التأرجح فوق الأمواج العالية جذب انتباهها . حدست أن الجسم الطافى يصارع الأمواج ، يقاوم الغرق .
                              أرادت أن تنبه إلى ما يحدث . خذلها صوتها . شعرت أنها عاجزة عن النطق . أشارت بيدها إلى الجالسين فى المقهى وراءها ، وإلى النوافذ المفتوحة . نزعت الإيشارب الأسود من رأسها . طوحت به . لكن البلانس غرق ، ابتلعه البحر . لم يعد على السطح سوى بقايا الجزء العلوى من الصارى . لما وجدت جدتى صوتها ، كان البلانس قد غرق فى البحر تماماً ..
                              تغيرت جدتى رقية من يومها . أمضّها الإحساس بالذنب . صارت شخصاً آخر ، ينتمى لدنيا أخرى . تحاسب نفسها ، تناقشها ، تأخذ منها وتعطى ، تعيب عليها ما اعتبرته تقصيراً فى إنقاذ البلانس ..
                              ـ من لم ينقذ نفساً استغاثت به فقد قتلها ..
                              ثم فى تألم :
                              ـ خذلنى صوتى !
                              احتضنتها أمى بنظرة إشفاق :
                              ـ لم يكن فى استطاعتك فعل شىء !
                              لم تصدق ما اعتاد أبناء بحرى قوله ، عندما يغيب البلانس فى الأمواج ، فإن عرائس البحر يجتذبن من يرون اصطحابه إلى عوالمهن فى قاع البحر . عروس البحر تتزوج من تختاره . تنجب منه الأولاد والبنات . لا تعيده إلا بعد أن تدركه الشيخوخة ، معه أموال وفيرة ومجوهرات ونفائس . يحيا على نعمته ما تبقى من عمره . عرائس البحر يجتذبن البشر فرادى . أما الأمواج فتختطف البلانس بكامله . للأمر صلة بعوالم البحر ، ما يحفل به من أسرار وعجائب ..
                              واصلت جدتى سيرها ـ قبل بياض النهار ـ إلى شاطئ الأنفوشى . تخترق شوارع السيالة فى اتجاه البحر . تجلس ـ صامتة ـ على الكورنيش الحجرى . الموضع نفسه الذى شاهدت منه غرق البلانس . يداخلها تأثر للحظات انبثاق الفجر . اختلاط الظلمة بضوء النهار الوليد يغلف الكائنات برمادية شفيفة . النهار قادم إذن . لن يظل الليل قائماً . يخيفها الظلام . تظهر قلقها إذا علت الإضاءة . تخشى انقطاعها فيقتحمها الخوف . استقر فى داخلها الإحساس أنها ستموت قريباً . تتعمد الكلام لمجرد طرد التوقعات القاسية والعدم . تمتد أحاديثها وتتشابك . تتحدث عما لم نعشه ولا نعرفه . ربما جاء فى مسامرات أبى وأمى ، أو أخوالى ، أوقات الليل . كازينو الأنفوشى ، ليالى رمضان فى حديقة سراى رأس التين ، إعادة بناء أبو العباس وقت الحرب العالمية الثانية ، نزول أول بلانس بالموتور فى مياه البحر . تحذر من أن يجرى السماك جابر الأباصيرى على رقبة الترسة إلا بعد أن يتم بيعها بالكامل . يدفع كل مشتر ثمن ما يريده حتى يكتمل وزن الترسة ، فيذبحها .
                              ظلت جدتى على حالها من الخوف مما تراه ولا نتبينه . أكثرت من التردد على مقامات أولياء الله الصالحين : أبو العباس ، ياقوت العرش ، نصر الدين ، وغيرهم من الأولياء . تحرص على الاستحمام ليلة الزيارة . تتطهر قبل أن تدخل الجامع . هذه بيوت الله ، وهؤلاء أولياؤه الذين نلجأ إليهم فى طلب النصفة والمدد . تقف أمام المقام . تلمس المقصورة . يتهدج صوتها بأدعية وابتهالات . كتب لها الشيخ فلان خادم جامع طاهر بك ـ فى ورقة صغيرة ـ آيات من القرآن الكريم . وضعها فى كوب ، امتزجت فيه قطع السكر المذاب بماء الورد . تجرعه على ريق النوم . صنع لها حجاباً ، غلفه بما يشبه المحفظة الجلدية الصغيرة . طالب أن تحرص على أن تعلقها فوق صدرها من الجانب الأيسر ، يكون فى موضع القلب . لجأت إلى التعاويذ والعمل وتمائم العين والجعران وخمسة وخميسة . أدارت مجمرة البخور فى حجرات البيت والسلم والقاعة التحتية والمطبخ والحمام . حتى مدخل البيت تضوع فيه امتزاج روائح العود والصندل والمستكة والجاوى والفسوخ والفخمة والشوش الأحمر ..
                              انشغلت جدتى رقية بالتردد على المشايخ فى أزقة بحرى ، والجلوس إلى الغجريات أمام باب البيت . حياتها فى السحر وقراءة الكف والفنجان والرمل والودع والمندل ، وقراءة السحب والبرق وأوراق الشجر والعمل والنفخ فى العقد والتطلع إلى الرؤيا ، واستحضار الأرواح وتجسيدها . تحدثت عن قوى الجان ، أفلحت فى الاستعانة بها ، خصصت لها الذبائح ، توزع لحمها على الغلابة والمعوزين . تقف على باب البيت ، ترافقها فى خطواتها . تدفع عنها الأذى . سخرتها ـ بواسطة الأعمال المؤكدة التأثير ـ لكى تؤدى دورها ، بالتعازيم والطلاسم والرقى . تصعق المتسللين ـ أو المقتحمين ـ بنيران الأعين ، أو تغيبهم فلا يراهم أحد . عادت بحفنة تراب من مقام سيدى أبو العباس ، نثرتها أمام باب البيت ، وفى المدخل ..
                              مالت جدتى إلى العزلة . تلزم حجرتها ، لا تتركها . تشغل معظم وقتها بأداء الصلاة ، أو بقراءة الأذكار والأوراد . تساعدها أمى على تناول طعامها ، وعلى قضاء حاجاتها ، وتحممها ، وتجيب عما يشغلها من أسئلة ، وتأخذ منها وتعطى ، فلا تشعر بالوحدة .
                              كانت تعانى إذا غادرت حجرتها إلى الحمام ، وتجر قدميها المتورمتين . يحزنها أنها أصبحت فى أعيننا بلا فائدة ، وأن البقاء فى البيت هو ما يجب أن تفعله ..
                              ـ أنا عجوز تنتظر الموت ..‍
                              قالت أمى :
                              ـ الموت نهاية كل حى ..‍
                              ـ أشعر أنى بيت آل للسقوط ..
                              أردفت فى صوت كالهمهمة :
                              ـ تأخر الموت كثيراً .. ‍
                              ***
                              ما رأته جدتى فى المنام ظل يتراءى لها . أدركت أنها لن تنام جيداً. ربما لن تنام على الإطلاق، إذا ظل ما رأته فى داخلها ، تحتفظ به لنفسها. يضايقها اتصال ساعات الأرق. وإن سرقها النوم ـ وهى جالسة ـ فى أوقات مفاجئة ..
                              رأت رجلاً يعتلى صارى بلانس . هو البلانس الذى شاهدت غرقه ، أو يشبهه . كان الرجل يرتدى زى الصيادين : السروال الأبيض الضيق عند الكاحلين ، فوقه فانلة بكمين طويلين ، عليها صديرى كثير الأزرار ..
                              كان الرجل يلوح بيده ، ويعلو صوته كأنه يستغيث ، أو يبتهل فى حضرة ولى ، وقفز راكبو البلانس فى أمواج البحر العالية . ابتلعتهم ، ثم عاد البحر حصيرة كما كان .
                              علا نعيق غربان سود ، وتشابك ، فتسلل إلى داخل جدتى انقباض ، وتوقعت ما لا يؤذن بخير . كانت الغربان تحوم فوق البلانس . تتقارب حتى تتلامس أجنحتها فيما يشبه السحابة الصغيرة . تختفى وراء قلعة قايتباى ، وتنطلق فى الأفق إلى ما بعد سراى رأس التين ، ثم تعود إلى تحليقها الصاخب فوق البلانس ..
                              أصاخت جدتى سمعها ، تتبين ما يقوله الرجل ..
                              علت الأمواج فى المد ، ونعيق الغربان ، فغاب صوت الرجل . صرخ بالاستغاثة ، لكنها تركته للأمواج . انحسرت الأمواج فى الجزر ، وتباعد نعيق الغربان ، فتبينت جدتى قول الرجل :
                              ـ لماذا البحر يبتلعنا ؟
                              ظلت جدتى فى إنصاتها الملح . لم يتغير ما قاله الرجل عن العبارة نفسها ..
                              قالت أمى :
                              ـ هذا الحلم لأنك مشغولة بما حدث ..
                              قالت جدتى :
                              ـ ما رأيته كان فى موضع غرق البلانس ..
                              ـ البحر يبتلع الكثير من المراكب والبشر ..
                              وشوحت بيدها مهونة :
                              ـ وجودك على الشاطئ مجرد مصادفة ..
                              هزت جدتى رأسها :
                              ـ لو لم يخذلنى صوتى كنت أستطيع إنقاذهم ..
                              ربتت أمى على كتف جدتى :
                              ـ أتى أجل من كانوا فى البلانس فأخذهم ..
                              ***
                              لم تصدق جدتى تفسير أبى لرؤيتها سيدى أبو الحسن الشاذلى فى المنام ..
                              قال إن رؤية الشاذلى فى ميدان الأئمة تعنى النجاة من النار ، أما مصافحتها للإمام فى حضرة أولياء الله من الأقطاب والمريدين ، فهى بشير بالأمان يوم الحساب ..
                              استعادت جدتى ما حدثت به الشاذلى من ظروف غرق البلانس ، وأنها لم تقدر على الصراخ لإغاثة الصيادين ، فحدث ما حدث ..
                              طمأنها القطب الأعظم بأن الله يرى حتى الجنين فى بطن أمه ، حتى خائنة الأعين وما تخفى الصدور ..
                              قال أبى :
                              ـ لست مسئولة عن غرق البلانس ولا عن موت أحد ..
                              أردف :
                              ـ أحياناً يركب البحر البلانس بدلاً من أن يركب البلانس البحر ..
                              أرجعت جدتى قول أبى إلى إشفاقه عليها ، قلقه مما تعانيه . قالت إن الأولياء يشفعون ، أما الخلود فى الجنة أو النار ، فالأمر لله وحده ..
                              ***
                              لم تعد جدتى تبدى ضيقاً ولا مللاً فى اعتكافها داخل حجرتها . تعزل نفسها عن كل ما حولها . تخلو إلى تلاوة آيات من القرآن ، أو إلى أدعية وابتهالات . ربما وشى صوتها بالحزن وهى تقول كلمات منغمة كالتعديد .
                              اعتبرت أمى ما تبديه جدتى نوعاً من الفضفضة والتنفيس عما يشغلها من توقعات قاسية . ما أخافها أن جدتى كانت ـ فى بعض الأوقات ـ تطلب أن نغلق عليها باب الحجرة ، فلا ندخل لأى سبب .
                              كنا ننفذ ما تطلب ، دون أن نسألها ، وإن اقتصر تصورنا على أنها ربما تريد أن تركن إلى النوم . طال ـ ذات ضحى ـ إغلاق باب الحجرة ، فأدارت أمى أكرة الباب ، ودخلت ..
                              كانت جدتى جالسة على السرير . دلت ساقيها ، ووضعت ذقنها على راحة يدها ، كأنها تتأمل ، أو ترى ما لم تتبينه أمى ..
                              ـ أطلت إغلاق الباب ..
                              ـ كانوا يزوروننى ..
                              أضافت وهى تومئ برأسها :
                              ـ إنهم يزوروننى دائماً ..
                              ـ من هم ؟
                              ـ أولياء الله ..
                              أردفت :
                              ـ أحزنهم ما أعانيه منذ عجزت عن إنقاذ البلانس ..
                              ـ لم يكن بيدك فعل شىء ..
                              ـ هذا ما يقولونه . يزيدون عليه كلمات تريح القلب ..
                              ***
                              لما طالعتنا جدتى رقية ، بوقفتها أعلى السلم ، مستندة على الدرابزين ، كنا نتناول طعام الإفطار فى الصالة التحتية ..
                              علا صوت أمى بالسؤال :
                              ـ لماذا تركت حجرتك ؟
                              أضاف أبى فى لهجة مشفقة :
                              ـ لا تستطيعين الوقوف على قدميك ..
                              قالت جدتى :
                              ـ كما ترى .. أقف ولا أشكو شيئاً ..
                              رقى أبى درجات السلم. أسند ذراع جدتى على كتفه. هبط بها إلى حيث نجلس حول الطبلية. أفسحنا ـ أبى وأمى وأخوتى ـ لجدتى بيننا مكاناً بيننا . بدت هادئة النفس ومطمئنة. عابت على أمى ـ وهى تصطنع غضباً فى ملامحها ـ أنها تمنع الفول المدمس عن طعامها، وهو ما ستحرم عليه بعد ذلك تماماً. لا أحد يعرف طعام الجنة ، وإن اختلف ـ بالتأكيد ـ عن طعام الدنيا ..
                              قالت وهى تضع اللقمة فى طبق الفول :
                              ـ أريد عربة تقلنى إلى الأنفوشى ..
                              أردف لنظرة الدهشة المتسائلة فى أعيننا :
                              ـ عرفت فى الحلم ما أراح ضميرى ..
                              وشى صوت أبى بإشفاق :
                              ـ حلم جديد ؟
                              ـ للأحلام تفسيراتها ..
                              قالت إن الملكين ناكر ونكير ، الكرام الكاتبين ، زاراها فى نومها . طالباها بالتهيؤ للقائهما فى القبر . رجتهما أن يطلعاها على صحيفة حياتها ، ما كتباه من أفعالها فى الخير والشر . كل شىء ـ بالأمر الإلهى ـ سجلاه . سألتهما عن البلانس ، ما إذا ابتلعته الأمواج ، أم اجتذبته عرائس البحر . أكدا أن ما حدث لم يكن لها فيه حيلة . هى امرأة مسكينة ، بلا حول ، حتى الصراخ حاولته ، وإن احتبس الصوت فى حلقها . بشرها الملكان بأن كفة الحسنات ـ فى حياتها ـ ترجح كفة السيئات ، والله غفور رحيم ..
                              قالت جدتى ما قالته دفعة واحدة . كأنها تستعيد ما حفظته جيداً ..
                              ***
                              ماتت جدتى فى الضحى .

                              تعليق

                              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                              حفظ-تلقائي
                              إدراج: مصغرة صغير متوسط كبير الحجم الكامل إزالة  
                              أو نوع الملف مسموح به: jpg, jpeg, png, gif, webp

                              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                              صورة التسجيل تحديث الصورة
                              يعمل...