بعد صدور رواية قواعد العشق الأربعين للكاتبة التركية إليف شافاق ازداد اهتمام الجمهور العربي بمولانا جلال الدين الرومي، وبصديقه الصوفي الغريب شمس تبريزي، فما إن تولي وجهك شطر أي تظاهرة ثقافية أو معرض للكتاب في بلداننا العربية إلا وتسمع سؤال الشباب عن كتاب لشمس تبريزي! ذلك الصوفي الذي ركّزت الرواية على إظهاره أكثر من الرومي، ومن هنا تناقل القرّاء بضع مقولات أجريت على لسانه في الرواية اعتقادًا منهم أنه قائلها لا محالة، وليس للخيال دور في صياغتها، فضلاً عن عدّهم أن للعشق أربعين قاعدة قننها الدرويش الجوّال.
في السياق نفسه اهتمت دور النشر بطبع كل ما يتعلّق بالرومي وحياته وتعاليمه، فأطروحة الدكتوراه التي أجيزت في جامعة الأزهر في السبعينات تحت عنوان «جلال الدين الرومي بين الصوفية وعلماء الكلام»أعيد طبعها اليوم مرّات عدّة بعد أن أمست تراثًا من تراث الجامعة الأزهرية ولم يعد يهتم بها أحدٌ حتى صاحبها الشيخ عناية الله إبلاغ لم يعد يكتب عن التصوف بعدها.
كذلك فعلت بعض دور النشر العربية مع كتابات طُبعت في إيران سابقًا، لمّا رأت هذا الإقبال، من بينها دراسة المستشرقة الفرنسية إيفا دوفيتري ميروفيتش عن «جلال الدين الرومي والتصوف»التي نُقلت إلى العربية بقلم عيسى علي العاكوب، ودراسة أنّا ماري شيمل عن حياة الرومي وآثاره، ومؤخرًا جددت دار نينوى السورية طبع كتاب عطاء الله تديّن الأديب الفارسي نظرًا لعنوانه الملبّي لرغبات القرّاء: «بحثًا عن الشمس: من دمشق إلى قونيه».
من هو شمس؟
مَنْ ذلك الرجلُ الذي تولّى تغييرَ الروميّ تغييرًا تامًّا؟
ليس لدينا الكثير الذي نعرفه عنه،والحكايات التي حيكت حوله تظهره كشخصية قويّة جدًا وعلى قدر هائلٍ من الاعتداد الرّوحي، وقد طوّف في بلدان الشرق الأدنى بحثًا عن شيخ. ولم يستطع أحدٌ من صوفية ذلك الزمان أن يكون في نجوة من نقده اللّاذع. ويذكر هو نفسه في «مقالاته»أنه كان في وقت من الأوقات مريدًا لشيخٍ كان قد انصرف عنه أخيرًا :«كان في شيء لم يبصره شيخي، وعلى الحقيقة لم يره أحد قط؛ لكن سيدي مولانا رآه».
أحدُ المحققين المدقّقين في شأن شمس تبريزي والرومي قدّم إفادة لم تنل قبولاً عند عطاء الله تديّن في مؤلفه «بحثًا عن الشّمس»، محتوى الإفادة: «نعلم أن حياة شمس مغلفة بغلالة من الإبهام، وأن علاقة مولانا بهذا الرجل الطّاعن في السّنِّ إحدى أكثر الوقائع إثارة للعجب وانطواء على الأسرار».
اعتبر عطاء الله أن هذه العلاقة ليست لغزًا فمتى ما طالع المرء بعناية معجزات وكرامات العشق ودقّق في لطيفة العشق وتأمّل بشكل عرفاني أشعار مولانا لتبدد الوهم وكُشف الستر .لكن ذلك لم يمنع عطاء الله من أن يصف شمسًا بكونه محاطًا بهالة من الغموض، ويكرر ما وصفه به سبهسالار في رسالته في التعريف به قائلاً: «شمس الدين محمد بن علي بن مُلْك داد، سلطان الأولياء الواصلين، تاج المحبوبين، قطب العارفين، فخر الموحدين، صاحب الحال والقال».
ويؤرخ عطاء الله للقاء شمس بالرومي في السادس والعشرين من جُمادَى الآخرة من عام 642هـ، فقد لقيَ الرّومي في هذا اليوم في «خان تجّار السُّكَّرِ في قونيةَ درويشًا رثَّ الثياب، يقول بعض الباحثين إنه من نسل إسماعيلية قلعة ألَمُوت، وكان يبدو أنه حادُّ الطّبْع. وأحسّ بنوعٍ من العشق الإلهي أو المحبّة العميقة اللامتناهية إزاء هذا المعشوق المعنوي أو الرّباني. كان هذا الشيخ الرثّ الثياب شمسًا التبريزي، الذي كان ذا مشربٍ صوفيٍّ حادّ».
حول مذهبه
يكتفي عطاء الله تدين هنا بنقل رأي أحد الباحثين، دون تسميته أو الإشارة إلى المصدر الذي حدد مذهب شمس، لكنه في سياق آخر لا يكتفي بالنقل، ويقطع في مسألة مذهبية شمس قائلاً: «يعلم شعبُ إيرانَ أنه شمس الدّين مُحمّدُ بن علي بن مُلك دادـ،وكانت أسرته من أهل تبريزَ، وله ارتباط من جهة النسب بـ(بُزُركَ أُميد) الذي تولّى في المدّة بين 607 و618هـ الحُكمَ في قلعة ألَموت. نعم، هو من إسماعيلية ألموت. إنه رجلٌ عظيم القدر».
يعلّق عيسى علي العاكوب على قول عطاء الله تديّن السابق، قائلاً: «حُكمُ المؤلّف هذا متسرّعٌ كثيرًا. وقد أنكر بعض الباحثين المحققين ذلك، ومنهم الأستاذةُ المرحومةُ أنِّيماري شيمل».
لكننا لا نظفر بتعليق على تردد الكاتب وتناقضه فيما يسوقه من حوار على لسان جلال الدين الرومي، يرى فيه أن شمسًا ليس من الإسماعيلية: سأل أحدهم جلال الدّين البلخي: هل صحيحٌ أن شمسًا من نسل كِيا بُزُرْك أُميد، إمام الفرقة الإسماعيلية، وترك الآن المذهب الإسماعيلي؟ فكان الجواب (المتخيل) من قِبل عطاء الله تدين: هو مُسلمٌ، تلقّى تعليمَه الأوليَّ في تبريز، وسلك طريقة التصوف [….] وأعتقدُ أنه ليس مرتبطًا بالإسماعيليين، ولا بالفرق المختلفة، وعنده في شأن ماهية الوجود ووحدة الوجود آراءٌ جديدة، مستمدة من فكر ابن عربي.
لم يكن عطاء الله تدين وحده من اعتقد في مذهبية شمس (الإسماعيلية) ففي عام 2007 انتهى شفيق ن. فيراني من تأليف كتابه «صراع البقاء: الإسماعيليون في العصور الوسطى»، وفي هذا الكتاب يخصص فصلاً للحديث عن الإمام الإسماعيلي شمس الدين محمد، ويفسح مجالاً لمحاولة تبديد الظلال الكثيفة التي تحيط بشخصية شمس، معتمدًا على جملة من المصادر الإسماعيلية والدراسات الحديثة التي كُتبت حول (شمس تبريزي) كمقالة إيفانوف، وغيره من المستشرقين، وإذا كان الدرس الاستشراقي المبكّر تبنّى وجهة النظر التي تعتبر شمس تبريزي معلم الرومي أحد الإئمة الإسماعيليين، فإن الدرس المعاصر أيضًا لم يدقق في هذه النسبة أو يمنحها مزيدًا من الاهتمام، مما يجعل التعرّف على عالم شمس أمرًا بالغ الصعوبة ويحتاج إلى كثير من التحرّي والبحث.