كالعادة ، تتكرر التفاصيل اليومية لظهيرتي الباهتة : عدت من عملي و تناولت غدائي ثم استلقيت على سريري . تنزّ دماملي القديمة و تحاصرني رياح البكاء الثلجية .
قرأت ذات مرة أن طول زمن التعايش مع الحزن يورث تبلد الحس ، ولكنه بالنسبة لي أورث المزيد من الألم ! .
ذاك الحزن المعتّق المترسب في أعماقي كجنين ميت يابس ، من سيجتثه ؟ !
. الصمت روح تسكن أوصال شقتي الصغيرة .لا شيء سوى دقات الساعة وخرير الماء المتسرب من ماسورة المطبخ المشروخة .
أحدق في الفراغ ، أبحث عن النوم و أعبث بأوراق مبعثرة متدلية من درج الدولاب : رسالة من أمي ، و فاتورة كهربا ء ، وورقة طلاق ! .
جرس الهاتف يرن فتمزق نغمته الحادة السكون المطبق على البيت . رفعتُ سماعة الهاتف فجاءني صوت ابنة الجيران
: أمي تريدك يا خالة .
تركَت الصغيرة سماعة الهاتف وركضَت لتنادي أمها .
لم تتصل بي جارتي منذ فترة طويلة ! . لا بد أنها اشتاقت إليّ. سرت في جسمي دفقة من الفرح حين سمعت صخب أبنائها وهم يتعاركون ليمسكوا سماعة الهاتف ويتحدثون معي . بغتة صفعني صوتها المزمجر : ـ
ما هذا الإهمال ! .الماء المتسرب من مطبخك أغرق مطبخي . كم مرة أخبرتك بهذا ! .
: لم أعثر على سباك . غدا سأواصل البحث.
بلعتُ غصتي حين اكتشفتُ أنها وضعت السماعة دون أن تسمع ردي .
نهضتُ من السرير وطفقتُ أتسكع في الشقة . اتكأت على باب المطبخ أتأمل شرخ الماسورة الآخذ في الاتساع . اقتربت منها وانحنيت فوق بركة الماء الصغيرة التي تجمعت بجوار البالوعة ، فاكتشفت أن دموعي تتساقط تباعا فيها .
عدت إلى سريري.
بدأ النعاس يراودني . ما أجمل الهروب إلى النوم !.
تهدهدني دقات الساعة فأطفو في فراغ الحجرة وأستشرف شواطئ النوم الدافئة .
فتحت عينيّ بقوة حين تناهى إلى سمعي تغريدك قرب النافذة . تمتمتُ :
عصفور هنا ! .
نهضت متثاقلة لأفتح النافذة ،فرأيتك على سطح منزل قريب .
لعلك يا عصفور تعبت من التحليق فتوقفت هنيهة لترتاح . تكومتُ في فراشي أصغي إليك ، تارة يعلو تغريدك قويا فرحا ، وتارة يخفت متراخيا حزينا ، وتارة أخرى يتقطع كنشيج مكتوم . لعلك تبث همومك إلى عصفور آخر قريب منك أو غائب عنك ، إلا أن تغريدك لا يشبه قط تغريد العصافير الذي اعتدت أن أسمعه في طريق عودتي من العمل ! .
النعاس يثقل أجفاني. حاولت أن أظل مستيقظة لأصغي إليك ولكن النوم غلبني ، وحين استيقظت لم يكن ثمة تغريد .
وقفت على النافذة فرأيتك تقف على سطح بعيد ، تغرد فتدثر غلالة تغريدك الأزقة الباردة والأبواب القديمة المتآكلة . تقف هناك وحيدا ، تتقافز على الحبال بين مشابك الغسيل ، تنظر تارة إلى الأفق البعيد فتطيل النظر ، ثم تنظر إلى نافذتي و إلى الزقاق الضيق حيث يحاول صبي جاهدا اصطيادك بمطاطته . تلتقط بمنقارك فتات الخبز الناشف من شرفة ما ثم تحلق بعيدا في السماء ، تبتعد وتبتعد حتى تبدو نقطة دقيقة في صفحة زرقاء ، ثم تتلاشى لتعود مرة أخرى تتقافز على حبال الغسيل .
ابق هنا يا عصفور . اقترب مني أر يد أن أحدثك . نظرتَ إليّ من بعيد ثم سبحتَ في الفضاء فيبست الكلمات في حلقي. ها أنت تحط على نافذة قريبة مني ، حسنا ، إصغ إلي يا عصفور:
هل تعيش وحيدا ؟ !
وهل أدماك صقيع الغربة ؟ عندما ينساك الآخرون ؟ وعندما تدمن البكاء ، وحين تهبط كريشة في هاوية لا قرار لها ؟ .
هل يستوطنك الإحساس بأنك غصن مقطوع تدحرجه الرياح إلى أراض بعيدة موحشة ؟ .
هل تبحث عن شيء تحتمي به عندما تسحقك عواصف الخوف فلا تجد إلا الفراغ ؟ .
أنت لا تجيب ، بل تنظر إليّ بعينين دقيقتين مغمورتين بالحزن .
من أي سماء أتيت ؟ ، ولمَ آثرت التغريد هنا على نوافذ متربة لبنايات قديمة ، شرفاتها تحتضن أصص زهور ميتة ؟ .
ألا تحنّ إلى بلادك البعيدة؟ !.
حلقتَ بعيدا ثم حططتَ على مصباح مكسور في الزقاق .
مازلتَ بعيدا عن نافذتي ، وأنا تعبتُ من الوقوف .أسدلتُ ستارة النافذة فاحتد تغريدك واضطرب . لعلك تناديني ، ولكنك تتحاشى الاقتراب من نافذتي ! . خفَتَ صوتك بالتدريج ثم تلاشى .
ابتعدتُ عن النافذة و أويتُ إلى الصمت ودقات الساعة والخرير المتواصل . لحظات مضت وأنا أتقلب على الفراش . آه ، ليتك تعود يا عصفور ! .
ربما استوحشتَ في هذا المكان المنسي فقررت أن لا تعود ، أو لعل ذاك الصبي اصطادك!.
لا بأس ، لقد فقدتُ كثيرا من أحبتي ! وها أنا من جديد أفقد عصفورا ! .
تشاغلتُ عن رغبتي في البكاء بمراقبة عنكبوت يروح ويجيء عند باب الحجرة . غطيتُ رأسي بالوسادة فسمعت تغريدك .
لعلي أحلم ! . جلستُ و حدقتُ مليا بستارة نافذتي التي تضطرب بقوة . وثبتُ باتجاه النافذة وسحبتُ الستارة فوجدتك على حافة النافذة ! .
من سيصدقني عندما أؤكد لهم أن العصافير تبتسم ؟! .
من مجموعتي القصصية الأولى ( سرداب التاجوري ) التي صدرت قبل خمسة أشهر .