الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

السيرة الذاتية بين الشعر والنثر

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • أبو شامة المغربي
    السندباد
    • Feb 2006
    • 16639


    #31
    أدب السيرة الذاتية بين البيئة والوراثة


    أدب السيرة الذاتية الإسلامية بين البيئة والوراثة

    يستطيع كل إنسان أن يستشعر بغموض حينا، وبوضوح أحيانا جميع تحولاته الذاتية، مهما كانت دقيقة، وبإمكانه كذلك أن يضبط إلى حد معين الأسباب القائمة وراءها أو المنتجة لها، على تنوعها واختلافها، ثم يميز بالتالي بين العوامل البيئية والعوامل الوراثية، الفاعلة في تكوين شخصيته، فهل صحـيح أن ثمة نوعين من الوراثة: إحداهما بيولوجية، منتسبة إلى علم الأحياء ( LA BIOLOGIE )، وهي تنتقل من الآباء إلى الأبناء بكيفية طبيعية مباشرة، ولا تتطلب أي جهد، والثانية اجتماعية وثيقة الصلة ورهينة بالمجتـمع، تستدعي من الإنسان بذل الجهد العقلي المتواصل، واعتماد الوعي المركز، واستحضار الانتباه؟
    إن في حياة كل فرد لحظات صحو ويقظة، محكومة بتكامل البعدين الفاعلين: البيئي والوراثي؛ وهي اللحظات التي يعيد فيها اكتشاف نفسه بموازاة مع اكتشاف العالم الخارجي، ويجد نفسه في كل مرة مضطرا إلى وضع السؤال وتمحيص الإجابة، وربما قد يصل به الأمر إلى صياغة رؤى وتصورات يتجاوز بعضها بعضا، أو صياغة وعي جديد ينفي به ما كان لديه من قناعات سابقة.
    كثيرا ما يتأمل الإنسان ذاته طمعا في معرفة بعض أسرارها الخفية، لكنه قد يستغرق من أجل هذه الغاية زمنا طويلا، أو قد ينفق معظم مراحل حياته في استقراء نفسه ومحاورتها، ومع ذلك فإنه لا يظفر في النهاية إلا بالقليل من خفاياها، خاصة وأن تأمله و تفكيره يظل موزعا بين عمق ذاته وسعة العالم الخارجي، وعندما يتحول في لحظة وجيزة كل من الذات، والزمان، والمكان، والأشياء إلى بوتقة معقدة، يهيمن فيها سلطان الروح والنفس الإنسانية على كثافة المادة، فإن الإنسان المتأمل يجد نفسه أمام واقع معنوي يثير فضوله.
    وفي لحظة إشراق تمتزج أحلام اليقظة بالمرئيات، وتتكاثف قوى الإدراك والوعي بالذات والعالم، وكأن الأنا في غمرة هذه الأجواء مدعوة إلى ارتقاء مراتب الخلاص من سجن المادة، حتى يتمكن جوهرها من الاتحاد بمظهرها، فتغدو خلقا ينبعث من جديد، وحياة تسوى للمرة الثانية في دنيا صاحبها.
    إن الإنسان عندما يختلي بنفسه ، فيعمد إلى المبالغة في بحث وتحليل دقائقها، نراه لا يخلص في النهاية إلا إلى ما يشعره بعجزه وضعفه، وفي سياق المجاهدة النفسية، يقف الإنسان على عتبة الاختزال الذاتي، وسرعان ما يتجاوزها ليحلق في فضاء روحي يسع ذاته، ويطرد شبحها المزيف من حياته، فيرد ذاته إلى حجمها الطبيعي، الذي تنكرت له في ساعات غفلتها وتجاهلها لمقامها وماهيتها.
    ثم إن مجال الاهتمام والسؤال يتسع كلما أخذت الحيرة والقلق بمجامع الإنسان، فهو يتفقد ذاته تارة، فيجدها صاحبة عمق رهيب، بخلاف إحساسه بضيق العالم الخارجي، وتارة ينظر إلى نفسه على أنها مجرد ذرة في صحراء تغص بالرمال، لكن رحابة الفضاء في الخارج تستوعبها ولا تضيق بها؛ إنها معاناة الكشف عن حقيقة الذات والعالم.
    إن حب الإنسان لذاته قد يدفعه إلى اعتزال الناس، و النظر إليهم من بعيد دون مخالطتهم في معترك الحياة، لكن هذا النزوع الذي يرتد بسببه المرء إلى نفسه لمساءلتها، والدخول معها في حوار تأملى، كثيرا ما يتخذ منعطفا إيجابيا ينتفي معه الإفراط في حب الذات، وتتغير على أساسه الرؤية الفردية إلى الناس والعالم، و لاشك أن الانغلاق العارض على النفس.
    ثم إن الانقطاع عن العالم الخارجي، غالبا ما يفضي بالإنسان إلى اتخاذ مواقف جديدة من خلال إعادة النظر، ونقد ومحاسبة الذات على جميع ما اقترفته من أفعال، بالإضافة إلى إدراك مواطن الخلل والفساد في السلوك الفردي، وبين الناس في الحياة الجماعية.
    إن كلا من عباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم يعود بأصول طباعه إلى والديه وما استقر فيهما من ميولات وسلوكات، ونقرأ في هذه العودة إثارة لمسألة الوراثة، التي حاول أكثر الأدباء، والعلماء، والمفكرين اقتفاء آثارها في ذواتهم والوقوف على معالمها ومظاهرها في أنفسهم، وما الذي كتبوه عن دقائق حياتهم وتحولاتهم إلا محاولة لتحليل ودراسة أثر الوراثة فيهم.
    ثم إن الإنسان يدرك جيدا مدى تأثير العوامل البيئية والوراثية في تكوين شخصيته، فقد لا يتوصل في بداية حياته إلى فهم محدد لبعض سلوكاته وطباعه، بقدر ما لا يعي العديد من الأفعال والمواقف الصادرة عنه، والتي يتخذها في مناسبات كثيرة، ومن البديهي أن يحاول الفرد في مبتدأ حياته أن يقنع نفسه بتأويلات خاطئة لما يصدر عنه، فيسقط من حسابه تأثير الوسط الاجتماعي والبعد الوراثي، لكنه مع مرور الوقت يتدرج في الاعتراف، عن علم طبعا، بسلطة البيئة والوراثة على الشخصية الإنسانية، فتهوي كل تأويلاته الاعتباطية السابقة تباعا، لتفسح المجال للذات من جديد، كي تتمثل نفسها وتعيد قراءتها في ضوء التأثيرات البيئية و الوراثية.
    بهذا التحليل تخلص الذات المسلمة إلى أنها أثر ونتيجة محدثة، لكن جذورها ضاربة في عمق القدم، وستظل هذه الذات حصيلة تاريخ معين، تضافرت معطياته وانصهرت بعض عناصره في بعض؛ إنها ثمرة عوامل كثيرة، وبناء إنساني معقد ومتشعب، أسهمت البيئة، والوراثة، والأحداث في صقله وتكوينه باستمرار، حتى انتهى إلى كائن اجتماعي، حامل لخصائص معينة، هكذا يعود الإنسان بطبيعته ومكونات شخصيته إلى أصولها الوراثية، فيتأمل كل ما دق من ميولاته، وطباعه، ونوازعه، وجميع الذي ترسب لديه دون وعي منه، والذات الساردة ترجع بجملة من خصائصها الفردية إلى الأم، باعتبارها إحدى المرجعيات الأساسية في بناء سلوكيات و معالم هوية الإنسان.
    إن الإنسان يتواصل مع بني جنسه ويقيم علاقات معهم بدرجات متفاوتة من القوة، لكن صلته بالأم، وهي أقرب الناس إليه على الإطلاق قبل وبعد ولادته، أقوى وأعمق من أي علاقة اجتماعية أخرى، لأن الأم بالنسبة للفرد طرف وراثي في شخصيته، وذاكرة حية من العواطف والمشاعر، والقيم والمبادئ، تسهم في بناء جانب كبير من مسيرة حياته، وهي ذات راصدة لعمق الإنسان بامتياز، وضمير يمارس نشاطا متواصلا في كيان الفرد بصمت وفي خفاء.
    ستظل الأم إذن من بين أسرار الإنسانية، التي لم تفقد ومضة واحدة من جاذبيتها، وستبقى أحد منابع قيمها السامية التي لا ينضب معينها، ولا تتلاشى معالمها في كل زمان ومكان؛ إنها عالم ثابت منذ القدم بقوة الوراثة الإنسانية وحياة رحبة للتأمل يسيح فيها الأحياء ويتمثلونها في حال حضورها وغيابها، بالقدر الذي يتألمون به لفقدانها.
    وإذا كنا نعثر على لفظة "الأم" دالة في المعجم على معنى أو مفهوم مجردة، فإن الأمر يختلف عندما نتجاوز الحدود الخطية أو الصوتية، أو البناء الحرفي، ذلك أن الإنسان حينما يستحضر في حياته الخاصة لفظة "الأم" يجدها في ذهنه كائنة حية ، فهي ليست رسما خطيا مطروقا، أو فكرة متداولة فقط في الوجود البشري؛ بل إنها تلك الإنسانة التي تحيط بها، بامتياز، هالة من الذكريات الطفولية، وما عاشه المرء من علاقات وتجارب، وشهده من أماكن وأحداث.
    أما الطرف الوراثي الثاني في شخصية الإنسان فهو "الأب"، الذي يتكامل مع الطرف الوراثي الأول: "الأم" على مستوى درجة التأثير في تكوين جانب مهم من ذاتية الفرد، فكل إنسان يمارس قراءة دقيقة لذاته، يستطيع أن يميز بين ما ورثه عن أمه من طباع وخصال، وما ورثه عن أبيه من سلوك ومزاج.
    ثم إن الإنسان يستشعر في النهاية حلول والديه فيه، ويعتقد أنه ليس سوى امتداد لحياتهما، وكائن اجتماعي جديد له ذات واحدة متكاملة، أو مركبة في المقام الأول مما ورثه عن والديه من صفات وخصائص متعددة ومتضاربة، لكنها تبقى من أصل إنساني مزدوج، أما الذات التي تتلقى الموروثات، فهي أحادية في الظاهر، ومتعددة في الباطن والجوهر.
    إن جميع المظاهر الوراثية التي وقفنا عليها في أدب السيرة الذاتية، تندرج ضمن الوراثة الفطرية البيولوجية والنفسية، التي يتأثر بمفعولها الإنسان، قبل وبعد ولادته ثم طوال حياته، لكن ثمة وراثة أخرى مكتسبة، تقوم على التقليد والمحاكاة بالدرجة الأولى، وخاصة في الأطوار المتقدمة من عمر الإنسان.

    إن الوراثة المكتسبة أساسا في عهد الطفولة، وهي وراثة اجتماعية عقدية، والتي تتشكل من مجموع التعاليم، والسلوكات، والتقاليد، والمعتقدات السائدة داخل البيت، والمتلقاة بين الوالدين ووسط الأهل والأسرة، وفي المجتمع عموما، هي وراثة مكملة للوراثة البيولوجية والنفسية، الفاعلة في تكوين شخصية الفرد.
    وإن كان الإنسان لا يستطيع أن يؤثر في ما ورثه عن أبويه على المستوى البيولوجي والنفسي، أو يغير شيئا منه، فإن بإمكانه أن يفعل ذلك إلى حد الثورة والرفض، عندما يتعلق الأمر بالوراثة الاجتماعية، ثم إن حياة الإنسان وشخصيته وحدة فردية مقيدة ومتأثرة بعنصرين اثنين:
    أولها: العنصر الوراثي ، وهو الذي بإمكاننا أن نوجزه في وراثة جنسية جسمانية أو بيولوجية، كما أسلفنا، وهي وراثة ذات صفة مزدوجة، متمثلة من جهة في وراثة خِلقية، لا تؤثر إلا في الصفات الجسمانية ولا علاقة لها بالميزات العقلية، التي هي نتيجة لتأثير الحياة الاجتماعية والاقتصادية، والبيئة الجغرافية، والعادات والتقاليد، والمعتقد الديني، ومتجسدة من جهة ثانية في وراثة نفسية لها تأثير مباشر على تكوين خلق الفرد وطبعه ومزاجه.
    ثانيها: العنصر البيئي، الذي يتغير باستمرار وإن طال مقام الإنسان في بيئة محددة، بخلاف العنصر الوراثي البيولوجي الذي هو أصل ثابت في الحياة البشرية، وهو عنصر لا تأثير للمكونات البيئية عليه، لكنه يسهم بقسط وافر في بناء و نماء شخصية الفرد، بحكم أن الكائن العاقل يتواصل ويتأثر بما ومن حوله، ويتفاعل مع كل ما يجري في وسطه الاجتماعي، فهو مظهر من مظاهر الجماعة الإنسانية، التي نشأ فيها واكتسب منها جملة الخصائص التي تسمها .
    تتأرجح الذات المسلمة في البلاد الأجنبية بين البيئة العربية الإسلامية والبيئة الغربية؛ إنها تجد نفسها أمام خيارين: إما الانفتاح على الوسط الجديد عليها بكل حمولته وتأثيراته، أو الإعراض عنه واعتزاله إلى حد القطيعة، لكن الفصول المثيرة لهذه التجربة تدخل منعطفا حاسما عندما تحاول الذات الفردية الوقوف على أرضية توفيقية، تجمع بين انفتاح سليم على العالم الغربي المغاير، ومحافظة واعية ودقيقة على الشخصية الإسلامية.
    ثم إن الفرد المسلم الذي يخوض هذا النمط من التجارب، الذي يتصل أساسا بمسالة الهوية والانتماء، حامل للتناقض والاختلاف الماثل في العالم الخارجي بين القيم والمبادئ العربية الإسلامية والموروثات الغربية، إذ أن الإنسان يعيش صراعا ذاتيا من أجل تحقيق سلام داخلي، ثم الخروج من عمق التجربة بتجاوز تلك الازدواجية العاصفة بوحدة الكيان البشري، خاصة وأن التأزم الفردي يبلغ ذروته القصوى نتيجة استسلام الذات لممارسات فعلية شاذة، يتم تبعا لها، بوعي أم بغير وعي، إخضاع ما هو أصيل في الهوية والشخصية العربية الإسلامية لمعايير دخيلة وغريبة.
    إن التأثير الذي تمارسه البيئة المعقدة على الذات الإنسانية، ليس هو نفس التأثير الذي تمارسه البيئة البسيطة، باعتبار أن احتكاك الإنسان بنمط بيئي معين يؤدي إلى إنتاج قناعات، ومواقف، ورؤى معينة، تتحكم فيها جميعا الخاصية التي يتسم بها الوسط الجغرافي، الذي يعمل بكيفية مباشرة على تكوين الشخصية وبنائها من الداخل، حتى إن الذات تكاد تطمئن إلى البيئة الريفية البسيطة، وهي راغبة في آن واحد عن البيئة الحضرية المعقدة، لاعتقادها بأن ثمة علاقة انسجام وتناسب بين بساطة البيئة الريفية والإسلام، بخلاف ما بين تعقيدات البيئة الحضرية والإسلام من تنافر.
    فهل من الممكن أن تكون البيئة الريفية عاملا مساعدا على الاقتراب أكثر من العقيدة الإسلامية؟ في حين تكون البيئة الحضرية عاملا معاكسا ، يحول دون البقاء قريبا من الإسلام؟
    لا شك أن الإنسان عندما ينتقل إلى البيئة الريفية، فيعمد إلى مقارنتها وتقويم تأثيرها مع البيئة المدنية، فإنه يجد في هدوء الأولى وصفائها راحة للعقل والروح، ويستمد من بساطتها وجاذبيتها توازنا واستقرارا في الرؤية إلى ذاته وإلى الجماعة الإنسانية، وإلى العالم ثم يستوحي من فضائها ومعالمها الجغرافية ما يكفي لتذكيره بحقيقته وقدره، ومدى قوته وعجزه، وأما البيئة الحضرية فتفتقر إلى حيوية، وتلقائية، وبساطة البيئة الريفية، إذ ليس لها نفس العمق، والإيحاء، والتوازن، وهي خصائص تتناقض مع ما تنطوي عليه البيئة المدنية من اضطراب، وزيف، وتعقيدات تدفع بروح الإنسان إلى النفور، وتكدر نفسه وتعبث بها.
    إن لجملة الأمور والوقائع و الملاحظات الدقيقة والمركزة، التي يصادفها الإنسان في مسيرته الحياتية، بالغ الأثر في تطوير و صقل شخصيته، ومن العوامل المساعدة كثيرا على التحول النفسي والفكري، تلك المعاينة والمعايشة المزدوجة لبيئتين متناقضتين، يؤدي فيها مبدأ المقارنة دورا كبيرا، ويكفي أن يكون هذا المبدأ قائما بين بيئة عربية إسلامية وبيئة أجنبية حتى تستشعر الذات وتدرك بجلاء درجة التباين الكبيرة بين الوسطين الاجتماعيين، بناء على معطيات محددة، يتصدر قائمتها كل من الجهل المتفشي في الوسط العربي الإسلامي، والعلم المتنامي والمتطور في الوسط الاجتماعي الأجنبي.
    هذا لا يعني أن تحول الأنا العربية المسلمة، على مستوى الوعي والإدراك الإنساني والحضاري، رهين بمبدأ المقارنة في حد ذاتها، بين نمطين من البيئة أو ضربين من الوسط الاجتماعي؛ بل إن التحول والتغيير على مستوى الوعي بالنسبة للذات العربية المسلمة موقوف على مدى استفادة هذه الذات من مؤهلاتها وقدراتها الذاتية والموضوعية، من خلال توظيفها المناسب في سبيل الارتقاء.
    إن تحقيق أي تحول على هذا المستوى من الأهمية ، هو غاية رهينة بمدى قوة الرغبة الفردية والجماعية في تجاوز أسباب وعلل الجمود الحضاري، ثم على درجة الاستعداد لترميم وبناء مقومات الشخصية العربية الإسلامية؛ هذه الشخصية التي تمتلك بفضل الإسلام قوة تغيير وتجديد هائلة، نابعة من جوهر الإنسان المسلم وغير مكتسبة من خارج ذاته، ولكن قوة التغيير تزداد عندما يتم توجيهها وتسخيرها باعتبار مختلف التجارب الإنسانية، فردية كانت أم جماعية، لتغدو في النهاية قوة فاعلة ومحركة.

    د. أبو شامة المغربي

    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي; 02-27-2006, 03:24 PM. سبب آخر: تصحيح

    تعليق

    • أبو شامة المغربي
      السندباد
      • Feb 2006
      • 16639


      #32
      أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية والبحث عن الذات



      أدب السيرة الذاتيةالعربية الإسلامية والبحث عن الذات
      لقد أرخ القرن التاسع عشر الميلادي لمرحلة البحث عن الذات العربية المسلمة، وتحديد مقومات شخصيتها وهويتها، لكن ما هي ظروف ومظاهر هذا النمط من البحث، التي عاشها الإنسان العربي المسلم في العصر الحديث؟
      ثم ما هي طبيعة التجربة والمعاناة، التي أفضت به إلى التعبير من خلال كتابة السيرة الذاتية عن انشغالاته وطموحاته؟ وكيف تم بناء الشخصية العربية الإسلامية حديثا؟ وتكوين تاريخها الفردي والجماعي؟
      هذه أسئلة لا بد من طرحها بقصد الاهتداء بأجوبتها إلى تحصيل فهم سليم خاص بطور الإحياء والمحاكاة في تاريخ أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، وطلبا لإدراك طبيعة وحقيقة الباعث و الدافع الرئيس إلى كتابة هذا اللون من الأدب الخاص.
      لقد عاش الإنسان العربي في عصر النهضة تمزقا تاريخيا بين الماضي وما انطوى عليه من تراث حضاري وثقافي عريق، والحاضر وما حفل به من تحولات، واتجاهات، وتناقضات، وإن كان المفكر الفرنسي المسلم روجيه غارودي ( ROGERGARAUDY ) يرى من الغريب أن يتم الإجماع على التأريخ لبداية عصر النهضة في العالم العربي الإسلامي باحتلال نابليون بونابارت ( NAPOLEONBONAPARTE ) مصر عام 1798 من الميلاد، في حين أن هذا الحدث لم يكن سوى عملية غرس لأسلوب حياتي دخيل باسم الحداثة والمعاصرة في عالم عربي منحط .
      وكانت قوى الاستعمار تراهن على هذه الخطة لتتحقق لها السطوة المطلقة على الشعوب العربية، التي ذهبت ضحية ذلك الالتباس بين مفهومي: الحداثة أو المعاصرة، التي اقترنت في ذهن الإنسان العربي بالتقليد الأعمى للغرب، ومفهوم التغريب ذي العواقب السيئة، والفاعلة في العالم العربي الإسلامي إلى يومنا هذا.
      ثم إن كثيرا من الأدباء، والنقاد، والمفكرين، والساسة في عصر النهضة، سواء من العرب أم من الأجانب، توهموا خلاص العالم العربي الإسلامي من انحطاطه وتخلفه في تجاوز تراثه الحضاري العريق، ثم خوض نفس التجارب والمراحل، التي عاشها وقطعها الغرب في أربعة قرون دفعة واحدة، إن أرادت الأمة العربية المسلمة اللحاق بالركب الحضاري، ولم يكن هذا الوهم يعني إلا أمرا واحدا، هو أن تتخذ هذه الأمة ماضي الغرب مستقبلا لها.
      وقد استطاع المبشرون بالتنصير، وطائفة من المستشرقين أن يمهدوا الطريق للهيمنة العربية على الشرق، وعلى باقي البلاد الغربية الإسلامية، فاجتهدوا في الإطلاع على التاريخ العربي الإسلامي، وتمكنوا من النفاذ إلى هذه المادة الحيوية، فاخذوا منها حاجتهم، ودسوا فيها ما شاءوا من الشوائب، وكان فعل الحركتين: التبشيرية والإستشراقية باعثا لرد فعل تجسد في إعادة كتابة التاريخ العربي والإسلامي، وكشف و إبراز دورهما في بناء الفكر الغربي والنهوض بالحضارة الغربية.

      أما النزعة العنصرية فكانت مدار كثير من الحركات والتيارات العرقية، التي قادتها قوى الاستعمار بهدف تجريد الأمم غير البيضاء من حريتها، وبث الريبة حول قدرات الأمة العربية المسلمة، وحول إمكانية إسهامها في البناء الحضاري الإنساني، إذ لم تكن الهيمنة التي مارسها الاستعمار الغربي على البلاد والشعوب العربية المسلمة طيلة حقبة من التاريخ البشري الحديث إلا جولة من صراع طويل، شهد القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي انطلاقته المتمثلة في الحروب الصليبية.

      لقد حافظ أعلام الأدب والدعوة الإسلامية، سواء في عصر النهضة أم في القرن العشرين الميلادي، على التقاليد المتواضع عليها قديما في كتابة وتأليف السيرة الذاتية، بحيث ظلوا أوفياء لها، ومطمئنين إليها في التأريخ لحياتهم، ومعتمدين عليها في إخراج أعمالهم الأدبية مطبوعة بالأسلوب العتيق الذي ساد في سير العلماء والأدباء قديما.
      وكان من أصول النهضة في الأدب الذاتي، أن يقوم أدب السيرة الذاتية العربية على المحاكاة والتقليد قبل أن يدخل طور التجديد والابتكار، باعتبار أن كل نهضة تقوم في مستهلها على المحاكاة قبل أن ترتقي إلى الإبتكار، فكان اهتمام الأدباء، والمؤرخين، والعلماء العرب المسلمين أول الأمر بأدب الترجمة الذاتية، وهو اهتمام سبق عنايتهم بأدب السيرة الذاتية إلى غاية الربع الأول من القرن العشرين.
      لقد كان الانفتاح الحضاري والثقافي عاملا بالغ الأهمية، مكن الأدباء والنقاد العرب من أن يزدادوا معرفة بالآداب الغربية، واطلاعا على اجتهادات الكتاب الغربيين في أدب السيرة الذاتية، وإن كان أصحاب السير الذاتية الذين عاشوا هذا الظرف التاريخي ـ ومنهم عدد من أعلام النهضة الحديثة ـ أمثال أحمد فارس الشدياق ( 1805ـ1887م)، ومحمد عياد الطنطاوي ( 1810 ـ 1861م)، وعلي مبارك ( 1824 ـ1892م ) ، نهجوا أسلوب العلماء والأدباء العرب المسلمين القدماء في تأليف سيرهم و تراجمهم الذاتية ، بحيث تمسكوا بذكر أنسابهم، وضبط مراحل تعلمهم ابتداء من سن الطفولة.
      ثم إننا إذا القينا نظرة على سير بعض الأعلام المتأخرين في العصر الحديث، أمثال محمد عبده ( 1849 ـ 1905م)، ومحمد كرد علي المتوفى سنة 1954م، وجدناها تتفق مع روح السير والتراجم الذاتية التي واكبت حركة الإحياء والبعث الأدبي.
      ثم إنهم كانوا يستعرضون أسماء الأعلام الذين تلقوا عنهم العلم، ويخصون بالذكر بعض الذي عرض لهم من أمور، و عاشوه من مواقف، وخاضوه من تجارب وشؤون الحياة، وجملة من أهم الأحداث التي شاركوا فيها، وكانوا لا يغفلون التحدث عن مبادئ دعوتهم إلى الإصلاح والإسلام.
      ولم تكن السير الذاتية، التي صدرت في عصر النهضة العربية الإسلامية الحديثة، تتباين كثيرا عن الأعمال التي خلفها الأدباء والعلماء قديما، فهي من ناحية تمثل المحاولات الأدبية الأولى في أدب السيرة والترجمة الذاتية العربية والإسلامية بعد ركود طويل، وإحدى ثمرات حركة الإحياء الأدبي، لكنها من ناحية ثانية ـ وإن كانت تنطوي على قيمة تاريخية متميزة ـ لا تحمل قيمة فنية كبيرة، لأنها صيغت في معظم الأحيان بأسلوب جاف، وسرد إخباري تقريري، قليلا ما كان يفلت من شباك السجع وأنماط السرد التقليدية، وفي هذا النزوع جري على سنة الأسلاف، وباعث للرواد المحدثين على تأليف تراجمهم و سيرهم الذاتية.
      وعلى الرغم من ملازمة كتاب عصر النهضة الحديثة لكثير من قوالب التعبير القديمة، فانهم أمدوا سيرهم الذاتية المكتوبة بمضامين جديدة، تجسدت في كل ما تركته الثقافة الأجنبية، وأنماط الحياة الجديدة في الغرب من اثر في نفوسهم، فغدت بذلك أجزاء من سيرهم مسرحا لما رأوه في العالم الغربي، وشاهدوه لأول مرة منبهرين، ثم إن الأحكام تباينت في ضوء المقارنة بين الحياة في الشرق العربي و الحياة في الغرب، فانحصرت بين انجذاب واستحسان وإعجاب، وتحفظ واستنكار.
      وفي العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر الميلادي، عرف أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية عناية خاصة، وحركة إحياء جديدة في كتابات الأدباء، والعلماء، والمفكرين، الذين نظروا إليه من زاوية إثبات الذات، واعتبروه أداة للمواجهة والتحدي، وربط الحاضر بالماضي، وخطوة إلى الأمام على درب المسيرة الحضارية الإسلامية، وفضلا عن هذا كله رأوا فيه وسيلة للإصلاح والدعوة إلى الإسلام من جهة، والتصدي لمن يحارب دين الله عز وجل، ويحاول أن يطمس الإرث الإسلامي.
      ثم إن نفس الرؤية والغاية نالت اهتمام عدد من الكتاب العرب في القرن العشرين، وتجسدت في سيرهم الذاتية، التي تعكس صورة معبرة عن مدى قوة انبعاث الدعوة الإسلامية من جديد، وقيمة الجهود التي بذلت طلبا للعلم والمعرفة، ودفع الجهل عن الناس، ودعوتهم إلى المشاركة في الإصلاح، والتمسك بتعاليم الإسلام.
      ولقد كانت مرحلة البحث عن الذات طوال القرن التاسع عشر الميلادي حافزا على تعميق الشعور بالاستقلال الذاتي عن التبعية للاستعمار الأجنبي، ثم باعثا على قيام حركة الإصلاح الإسلامي، التي شملت مختلف مجالات الحياة العربية، وهذه كلها نتائج أدت بتفاعلها إلى ولادة أدب ذاتي معبر عن قوة الشعور بالشخصية العربية الإسلامية.
      نعم، بعد ركود دام طويلا، عادت السيرة الذاتية العربية الإسلامية لتأخذ مكانتها في الساحة الأدبية، ولتشهد أولى تحولاتها الكبيرة، بعد ما ساد الاعتقاد بسلبية الكتابة حول الذات الفردية وعدم نفعها، وبضرورة العناية بكل أمر يخص الذات الجماعية، ثم إنهم كانوا كثيرا ما يخلطون بين مدلول السيرة الذاتية وما تعنيه الترجمة الذاتية.
      والأكثر من هذا كله أنهم قرنوا كتابة التأريخ الخاص بالأعلام المشهورين، دون غيرهم من الأفراد المغمورين، وكانت هذه الأفكار حول السيرة الذاتية من أهم أخطاء المرحلة آنذاك، التي خلفت شبه غياب للكتابة التي تتخذ الذات العربية المسلمة موضوعا لها، والتي ما تزال تشوب الثقافة الأدبية المعاصرة .
      إن اضطراب الرؤية، وقصور الإدراك ـ لدى كثير من الكتاب المحدثين ـ كانا سببا في التقليل من شأن الأهمية التي ينطوي عليها أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية في العصر الحديث، بالإضافة إلى أن ضعف الإلمام بعمق و مغزى هذا الضرب من الأدب، واقترانه في الأذهان ـ كما أسلفنا ـ بالأعلام ذوي الشهرة، حال دون النفاذ إلى جوهره والغاية منه بكيفية سليمة، كما أنه منع من الاستفادة من آفاقه الواسعة، بخلاف ما كان عليه واقع الأمر في البلاد الغربية، حيث تطور مفهوم وبناء أدب السيرة الذاتية بشكل كبير.
      ثم هل صحيح أن الأدباء والمفكرين العرب يفتقرون في العصر الحديث إلى الصنعة الروائية؟ وأنهم في الغالب لا يدركون مدى الأهمية التي تنطوي عليها سيرهم الذاتية، التي من شأنها أن تجلي الكثير من الفضاءات المعتمة في حياتهم: الاجتماعية، الإبداعية، والفكرية؟

      د. أبو شامة المغربي

      kalimates@maktoob.com

      تعليق

      • أبو شامة المغربي
        السندباد
        • Feb 2006
        • 16639


        #33
        أدب السيرة الذاتية الإسلامية وموضوعة الموت





        أدب السيرة الذاتية الإسلامية وموضوعة الموت


        من الطبيعي أن يفكر الإنسان في انقضاء أجله كلما تقدم به العمر، وامتدت به الحياة بين الأحياء، ومن البداهة كذلك أن تمتلكه الرهبة من الموت، لأنه يتمثل هذا الواقع الحدث عالما مجهولا بالنسبة إليه، لا يعلم طبيعته أو ما الذي سيلقاه فيه، إذ الموت لا يخضع لأي شكل من أشكال الممارسة، ولا يتيح للإنسان خوض التجارب فيه، وأحيانا قد يسعى المرء جاهدا إلى الاحتماء بالنسيان وتجنب ذكر الموت، فيحاول قدر ما يستطيع أن ينأى بتفكيره عن هذه الحقيقة القائمة، وهذا الواقع المحتوم، على الرغم من علمه بكون الموت غاية ومنتهى كل حي في هذه الدنيا، وأنها سنة من السنن الكونية الجارية بين الخلق.
        وحتى إن حاول الإنسان التفكير في الموت، وأنفق زمنا طويلا في معرفته وتأمله، وتركيب صورة متخيلة له، فإنه في معظم الأحيان يحتفظ بهذا الجزء من نشاطه الذهني لنفسه، دون إطلاع الآخرين عليه، مع أن تدبر الموت من قبل الكائن العاقل يعد فعلا دالا على الوعي بمصير الذات الإنسانية، ولا شك أن الموت يبعث في كل إنسان ذلك الشعور القوي بالعجز والفناء، وتلك الرغبة المثيرة في الإحاطة بمعناه الدقيق، والنفاذ إلى سره العميق.
        وأما الخوف من الموت، باعتباره واقعا لا يعرف استثناء أو تمييزا بين الأحياء على وجه الأرض، إنما هو في العمق تعبير عن إحساس الإنسان بمرارة التقصير وثقل الآثام، وبضياع أكثر العمر في العبث، وإفصاح عن وعيه بأن ليس في وسعه أن يفر من الموت، أو أن يبدأ حياة جديدة.
        تتعاقب موضوعتا الحياة والموت، وتظل الذات ماثلة بينهما، تتمثل الحياة باندفاع كبير وفضول نشيط، وتعمل في الوقت نفسه بغير تهافت وحماسة على استيعاب دلالة الموت وإيحاءاته، باعتباره من أقوى أسرار هذا الوجود، التي تحمل في عمقها معرفة كامنة، مختزلة لسعتها في علامات، وإشارات، وتنبيهات كاشفة عن حقيقة الإنسان، الذي يسعى جاهدا إلى اقتفاء أثرها بهدف استكمال فهمه و رؤيته لذاته، وما تنطوي عليه من خفايا.
        ثم إن الموت واقع ينفي الخلود الإنساني في الأرض؛ هذا الخلود الذي طالما راود الذات في يقظتها ومنامها، وإن كانت الحياة بداية للإنسان، فإن الموت نهاية مؤجلة بالنسبة إليه، ثم إنه لا يملك لنفسه سلطانا عليهما، وكل ما في مقدرته هو أن يقطع المسافة الفاصلة بين مبدأ حياته في الدنيا ومنتهاها، على أن يظل شاهدا على الجسر الرابط بين الحياة والموت، ومتأثرا بتصادم الانفعالات النفسية الحادة، وتداخل الإيحاءات المتلاحقة والمثيرة.
        وفي هذه الأجواء التي يبلغ فيها التأمل حدا عميقا، تتحول الأزمنة إلى زمن واحد بملامح معقدة، يشتبك فيه المعلوم مع المجهول، وتتماهى نتيجة لذلك آثار الأحداث والذكريات لتفرز في النهاية مشهدا من وحي الزمن المتداخل، يستعصي على الذات الإمساك به في شباك الوصف والتحليل.
        ثم إنه الزمن النفسي الذي تسهم في تشكيله انفعالات ذاتية كثيرة، وتحرص الذاكرة على تطويره، والانتقال به من فضاء بسيط إلى آخر مركب ومعقد، بعدما يكون قد اتخذ أبعادا نفسية معينة، وكل هذا الاحتفال سيفضي في النهاية بالزمن النفسي إلى آخر أطواره، حيث سيتحول إلى ذكرى راسخة، وذلك بقدر قوة تشكله وتحوله في باطن الذات، وبناء على نوع وحجم ما سيجمعه من علاقات برواسب الأحداث والتجارب في الذاكرة الفردية، على أن الذكرى تظل محتفظة بمثيراتها في العالم الخارجي.
        وعندما تتأمل الذات آية الخلق في نفسها، ويخلص بها هذا الإنجاز الذهني إلى أن الثنائية العددية في الوجود الإنساني، ما هي في الأصل إلا نفس أحادية تفرع منها زوجها، ساعتها فقط تتمثل حقيقة ذاتها، وتكسب وعيا جديدا وعميقا في آن واحد بتلك الأنا الفردية المزعومة، ثم إن الإنسان يفاجأ في إحدى مراحل تاريخه الخاص بازدواجية الحياة، وبفناء العالم الذي يقيم فيه، والأحياء الذين يتواجد بينهم، فإن كانت الحياة ذات وجه معلوم ومألوف أكثر من وجهها الآخر المجهول، وهو الموت، فذلك لأن المرء في الغالب، حين يعيش حياته، ويعمل في كل لحظة من لحظات عمره، يفكر بالأنا الروحية العميقة، ولا يضع الموت في حسبانه، وكأن روحه لا تعرف الموت بطبيعتها .
        إن للموت في الذاكرة الفردية والجماعية صورا كثيرة مجردة، قد تتفق أحيانا وقد تختلف أحيانا أخرى، وهي صور يتم بناؤها في ضوء مرجعيات مركبة مما هو موروث عن الأسلاف، وما هو مكتسب عن طريق الرؤية، والسماع، والقراءة، والتجربة المعاشة كذلك، لكن الموت في حد ذاته يظل واقعا مجهولا بالنسبة للإنسان منذ ولادته وإلى غاية وفاته.
        ثم إن الآلام والأحزان تتراكم مع مرور الأيام في حياة الإنسان، الذي لا يستطيع دفعها عنه أو نسيانها، بينما تظل هي قابعة في ذاكرته إلى أن يذكي جذوتها المحرقة أحد المثيرات في العالم الخارجي، فتعود الذات الساردة إلى ترديد صدى تلك المعاناة القاسية والمريرة، فتجترها بالدمع والصمت بدلا من أن تسردها بالحديث، ثم يتفقد الإنسان الصبر ليقذف فيه بضعفه وحزنه، وهو محاصر بين الخوف واليأس، ومتطلع إلى الأمل والرجاء.
        وعندما كان المرض أوثق صلة بالموت، ولحظة من أبرز لحظاته، فإنه يوقظ في ذات الإنسان قوة التأمل، والترقب، والصحوة الفطرية، والمحاسبة والمراجعة الذاتية، التي تتشكل على أساسها شخصية الفرد من جديد، ويعاد في ضوئها بناء قناعاته ومستوى إدراكه.
        ثم إن الذات الإنسانية لا تستطيع أن تتجاهل الموت، باعتباره قضاء محتوما؛ بل حتى النسيان لا يمكنها من التنكر له أو الهروب منه، لأنه ليس بإمكانه أن يحول دون استمرارية نقيضه، وبالتالي لا يستطيع أحدهما أن ينفي الآخر نفيا مطلقا، إذ أن وجودهما في ثنائية يعد أمرا محتوما كذلك، مع أن النسيان المتعمد في مثل هذه الحال، يدخل في تركيبة الجهل، في حين يقترن التذكر بالمعرفة والعلم، من حيث البعد الفلسفي للمسألة عموما.
        إن المرض تجربة يتقاسمها الناس في ظروف معينة من حياتهم، ثم إنها باعث قوي لهم على تأمل الذات في لحظات ضعفها وأوقات عجزها، واستحضار الموت والفناء، وعندما تجتمع عناصر هذه التجربة وتتكامل مكوناتها الطبيعية، ساعتها يجد الإنسان نفسه في وضع اختبار وحال ابتلاء، وليس له من خلاص سوى الرجاء في الله عز وجل، والتمسك بعروة الإيمان الوثقى، وللمتلقي أن ينظر في ما يجتازه الإنسان في حال المرض من تقلبات بين الخوف والشجاعة، وبين اليأس والأمل، وله أن يتأمل صورة حياتية ليس غريبة عنه، يتدافع فيها السواد والبياض، والنور والظلمة، وتتردد في عمقها أصداء الحيرة والقلق، وتموجات المعالم والأطياف المتخيلة؛ إنها تجربة تدعو الإنسان إلى معرفة قدره وجوهره حق المعرفة.
        إن الليل مثير للتفكير والتخيل، خاصة إذا ضاعفت آثار المرض حدة إيحاءاته، وكل تفكير أو تخيل في هذه الحال يتسم بالقسوة والمعاناة الشديدة، لأن المرض بدوره عامل مثير لذاكرة الفرد، وإن كان يعد من بين العوامل الداخلية، وفي هذا الوضع تصير الذات والذاكرة محاصرتين حصارا مزدوجا: خارجيا من قبل الليل، وداخليا من طرف المرض؛ فالليل يغشى الذات بإيحاءاته من ناحية، ويثير بعضا مما حفظته الذاكرة من ناحية ثانية .
        ولا شك أن مواجهة الموت بالنسبة إلى الإنسان، هي لحظة تفجير وانبعاث ما تختزنه ذاكرته، وما يضطرب بأعماقه من مشاعر وأحاسيس؛ إنها تجربة رهيبة وعميقة على الرغم من استغراقها مدة زمنية قصيرة جدا، وكأنها صوت عابر ينبه المرء إلى ما هو فيه من زيغ وانحراف عن سواء السبيل، ويذكره بضعفه وفنائه، ويحثه على مراجعة نفسه ومحاسبتها قبل أن يأتيه اليقين، أو هي دعوة موجهة إلى هذا المخلوق العاجز، الذي لا يقدر الموت حق قدره، ويسارع إلى مبارزة الله عز وجل بالمعاصي والآثام.
        ثم إن جميع الأشياء تنتفي عندما يستسلم الإنسان مضطرا للمسافة المتبقية و الفاصلة بين الحياة والموت، ولا يبقى إلا ذلك الحيز الزمني في دنيا الأحياء، الذي تستشعر الذات خلاله قساوة الوحدة، وتخوض تجربتها الأخيرة مع سكرات الموت، وعندها يجد المرء نفسه وجها لوجه مع آثامه وظلمه لنفسه ولغيره، فلا يطمع حيال هذه المواجهة الحتمية إلا في رحمة الله تعالى، وكريم عفوه ومغفرته.
        ونحن نجد أن الفضول يدفع الإنسان إلى طلب الإلمام بكثير من الأسرار، التي تسكن ذاته وتحيط به من كل جانب، بدءا بسر الوجود وانتهاء بسر الفناء، وقد يقيم المرء لنفسه بعض المفاهيم والرؤى على أساس عجزه وقصوره، وانطلاقا من جهله بحقائق الأمور، فيرى أن الحياة مسخرة للبناء والخلق وأن الهدم وظيفة من وظائف الموت، مما يجعله لا ينظر إليهما معا في وحدة متكاملة، ولا يعتبرهما قوة واحدة وجدت بقصد الابتلاء وامتحان الإنسان في حياته الدنيا.
        وعندما لا تستسيغ الذات النظر إلى الحياة والموت على أن كلا منهما بالنسبة للآخر بمثابة الجسد والروح، فإنها تكون بذلك قد تبنت فهما سطحيا في الموضوع، خاصة الذات المفتقرة إلى المعتقد الصحيح، التي كثيرا ما يؤدي بها هذا القصور في الفهم إلى مناصبة العداء مع الموت، بحكم أنها ترى فيه معول هدم كاسح لنضارة الحياة وجمالها، وتتمثله سيلا جارفا لكل ما يدب في باطنها من حياة.
        ثم إن الذات الإنسانية قليلا ما تتنبه إلى كون الموت هو الذي مكنها من أن تضع مدلولا معينا للحياة، وأن ترسم في آن واحد لهذه القوة صورة في ذهنها، كذلك الحياة يسرت للإنسان وضع صورة ومدلول للموت في قلب ذهنه، وهذا يعني أن الكائن العاقل استقى معنى الحياة من الموت، واستوحى معنى الموت من الحياة، مما يدل دلالة مباشرة وواضحة على أن لا معنى ولا مدلول لأحدهما دون استحضار الآخر.




        د. أبو شامة المغربي


        تعليق

        • أبو شامة المغربي
          السندباد
          • Feb 2006
          • 16639


          #34
          أدب السيرة الذاتية الإسلامية في ظل الصحوة الإسلامية




          أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة في ظل الصحوة الإسلامية


          لا يختلف اثنان في كون المواجهة التي نشبت بين الشرق العربي العالم الغربي، تعتبر ظرفا تاريخيا حاسما، سعت فيه قوى الاستعمار إلى طمس هوية الذات والأمة العربية المسلمة، مما دفع بالإنسان العربي المسلم إلى المقاومة والتحدي من أجل الحفاظ على شخصيته وكيانه، وعلى انتمائه ومعتقده، لا سيما وأن القوى الأجنبية ظلت تستهدف الإسلام في المقام الأول، إذ رأته مركز قوة بالنسبة للإنسان العربي والحضارة الإسلامية، وقد بذلت أوربا كل ما في وسعها من أجل إتلاف الفكر الإسلامي، الذي رأت فيه خطرا يهدد مصالحها الاستعمارية.

          لم يكن أمام الإنسان العربي المسلم خيار سوى العودة إلى ما كان عليه السلف الصالح من نهج، بقصد إحيائه وبعثه من جديد، والاهتداء بمعالمه إلى الحياة الإسلامية الحقة، خاصة وأن العرب بعد مجيء الإسلام لم يكونوا يفصلون بين العروبة والإسلام، بحكم تلازمهما، ومن ثم رأى دعاة الإصلاح في العصر الحديث أن لسلف الأمة المسلمة سيرة يجب أن تتبع، وأن ما يعرفه العالم العربي من انحطاط و تخلف ما هو إلا نتيجة طبيعية لبعد العرب عن الإسلام.

          و لقد كانت الدعوة إلى الإصلاح والتقويم، وكذا الاقتباس من الغرب بعلم ووعي نقدي ضرورة ملحة في مطلع النهضة العربية الإسلامية الحديثة، لكن هذا الصوت الذي ارتفع للمناداة بالإصلاح، والمطالبة بالحد من هيمنة الركود، ثم لدفع الفساد والانحراف عن طريق الجادة، والدعوة إلى الاستقامة، لم يكن الوحيد؛ بل إن صوتا آخر تعالى بدوره داعيا إلى اتباع نهج الغرب، وهي دعوة تمثل الخيار الوحيد، حسبما يرى أصحابها، للخروج من دوامة الجمود والقضاء على الجهل والتخلف عن الركب الحضاري.

          وكان منتظرا أن يسود الخلاف بين مختلف التيارات (الإصلاحية)، وهذا ما حدث بالفعل، فاتخذ الصراع على اثر ذلك بعدا مزدوجا: فهو من ناحية تطور و تشعبت أشكاله ومظاهره، ومن ناحية ثانية استمر إلى يومنا هذا، حيث لا يزال الصراع قائما على أشده بين من يدعو إلى الخيار الإسلامي و من يدعوا إلى الخيار الغربي.

          أما حركة الإحياء أو البعث، فقد شملت عددا من المجالات الحيوية: الأدب، والدين، والفكر، والسياسة، والاجتماع، وجاءت عبارة عن رد فعل في وجه الغزوالاستعماري بكل أشكاله، ومن ثم شغلت حقبة كاملة من التاريخ العربي الإسلامي الحديث، فأرخت بذلك لمرحلة البحث عن الذات، وإعادة بناء الحياة والشخصية العربية الإسلامية، ومن مظاهر هذه الحركة الإحيائية ما تم إنجازه على مستوى التأليف في منتصف العقد الرابع من القرن العشرين، إذ صدر في أقل من سنة (عام 1935ميلادية تحديدا) ما يزيد عن عشرين مؤلفا حول موضوع الإسلام.

          لقد شهد هذا الظرف التاريخي حركتين لتغيير الوضع العربي الإسلامي، وبقدر ما كان بين الحركتين من تكامل، بقدر ما كان بينهما من التناقض الشيء الكثير، أما الحركة الأولى فقد انتصرت للتراث العربي الإسلامي، وسعت بإحيائه إلى الحفاظ على هوية الذات العربية المسلمة، وكيان الحياة والحضارة الإسلامية، وذلك ردا على المحاولات العدائية التي كانت تهدف إلى المس بمقومات وأسس الوجود الإسلامي.

          وأما الحركة الثانية فقد غلب عليها طابع التغريب، إذ حاولت أن تنقل مظاهر الحياة الغربية إلى البلاد العربية الإسلامية، وتستوحي الفكر والأدب الغـربي، وقد بذلت جهودا للانسلاخ عن الثقافة العربية الإسلامية، والارتماء في أحضان الثقافة الغربية والأجنـبية عموما، لكن هذه الحركة على أي حال لم تخل من إفادة وإضافة أغنت الثقافة العربية.

          إذن فبحلول القرن التاسع عشر الميلادي، بدا العالم العربي الإسلامي نهضته، واتقدت جذوة الإحساس بضرورة تكسير الجمود واللحاق بركب الحضارة، هذا بالإضافة إلى مواجهة تحديات الغرب، والتمسك بالحياة الروحية والفكرية العربية الإسلامية، فكان القرن التاسع عشر الميلادي بداية حقيقية لتاريخ الفكر العربي الإسلامي الحديث، وحقبة زمنية صادفت قيام عدد من الحركات الإصلاحية، نذكر منها:

          أولا: الحركة الفكرية التي دعا إليها رفاعة الطهطاوي المتوفى عام 1873 للميلاد، وبث بوادرها في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز).
          ثانيا : الحركة السلفية التي أقام جمال الدين الأفغاني ، المتوفى عام 1897 للميلاد، من خلالها دعوته إلى إحياء مجد العروبة و الإسلام، مع الأخذ باللازم النافع من أساليب الحضارة الغربية الحديثة، وقد اقتفى أثره في هذه الدعوة تلميذه محمد عبده المتوفى عام 1905 للميلاد، الذي سعى بدوره إلى الإصلاح الديني، والسياسي، والاجتماعي، واللغوي، وذلك باعتماد التربية وسيلة لخط سير حركته الإصلاحية، ولنا في سيرته الذاتية جانبا هاما من دعوته.

          وكان طبيعيا أن تأتي الصحوة الإسلامية الحديثة ردة فعل قوية، بعد أن لاحت أولى مظاهرها من قلب النهضة العربية، واتضحت معالمها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي عام 1868 للميلاد، وهي الحقبة التاريخية التي كانت بحق منطلقا للبعث الإسلامي الذي تنامى بشكل سريع في القرن العشرين.

          ثم إن الاضطراب والقلق اللذين سادا عصر النهضة العربية، واللذين جسدتهما المعارك والنكبات المتوالية في حياة الأمة المسلمة، قد أسهما بقسط وافر في تكوين الوعي الفردي والجماعي العربي، وتعميق الإحساس بأهمية التاريخ للذات، وإحياء كل تقليد تراثي مساعد على اكتساب مناعة حضارية تحفظ الهوية اللغوية والعقدية.

          وقد احتضنت السير الذاتية المواكبة لعقود القرن التاسع عشر الميلادي صورة ضافية لعدد من التيارات الفكرية وحركات الإصلاح، التي لم تعد سوى ثمرة عصر شاهد على الصدام العنيف بين جمود الفكر في الشرق وحركته النشيطة في الغرب، ثم إن ما كتب من نصوص موسومة بطابع السيرة الذاتية، خاصة في مستهل طور التجنيس، في كافة أرجاء العالم العربي الإسلامي، كان وثيق الصلة بالفقهاء، والعلماء والأدباء على حد سواء، إلا أنه كان مجسدا لطلب العلم بامتياز.




          د. أبو شامة المغربي


          تعليق

          • أبو شامة المغربي
            السندباد
            • Feb 2006
            • 16639


            #35
            ميثاق قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الجزء الأول)

            ميثاق قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
            (الجزء الأول)
            إن معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة لا يكتفون بتوظيف العناوين الدالة على جنس خطابهم الأدبي، وحقيقة الباعث لهم على الكتابة؛ بل إنهم يدرجون في مؤلفاتهم فقرة أو فقرات معدودة وجيزة جدا، يعبرون من خلالها عن نيتهم في إنجاز وعرض مشروع تاريخهم الفردي، ويفصحون في ذات الوقت عن العامل أو العوامل، التي حفزتهم على إنجاز هذا المشروع الأدبي.

            ثم هي مقاطع نصية أو تصديرات يتوجهون بها ـ عادة ـ إلى القراء في مستهل حديثهم عن أنفسهم، أو قد يلجأون إلى بناء عقد القراءة عن طريق الاستعانة بأفعال خطابية يكمل بعضها بعضا، وهي مواثيق يصطلح نقاد أدب السيرة الذاتية على تسميتها بمواثيق القراءة، أو المواثيق التلفظية، أو عقود التلقي، لكن هل الميثاق التلفظي هو بالفعل رابط الاتصال بين الذات الكاتبة والمتلقي، وهو ما يميز أدب السيرة الذاتية عن باقي الأجناس الأدبية؟
            وإذا كان ميثاق القراءة الخاص بالسيرة الذاتية الإسلامية الحديثة فعلا خطابيا متنوع الأشكال، فإنه دال في قلب الخطاب الأدبي على أمرين:

            أولهما: هوية النص (سيرة ذاتية).

            ثانيهما: باعث الكتابة (مقصد الكاتب).

            إن كاتب السيرة الذاتية يدرك جيدا مدى الخلط والمأزق الذي قد يسقط فيه المتلقي، حينما يتعذر عليه ضبط هوية الخطاب الأدبي ضمن منظومة الأجناس الأدبية، وتفاديا لحدوث هذه المسألة، يعمد صاحب السيرة الذاتية إلى إبرام ميثاق أو عقد خاص بهدف أن يثبت للخطاب هويته، ويوفر على القارئ جهد البحث عن جنس الإنتاج الأدبي الذي يتلقاه.

            ومن ثم فإن شرط الإفصاح عن ميثاق تلقي السيرة الذاتية هو الفاصل بين جنس السيرة الذاتية وباقي الأجناس الأدبية، ويعتمد الكاتب لهذه الغاية أشكالا من المواثيق والعقود التي يبرمها مع المتلقي، أبرزها العنوان، والتقديم، والإهداء، وضمير الخطاب، وغيرها من الأفعال الخطابية، أو المكونات النصية التي تؤدي وظيفة التواصل المباشر مع القارئ.

            والظاهر أن خطاب السيرة الذاتية ذات الصفة الإسلامية مرآة عاكسة لنوايا، ومقاصد، وأهداف مسبقة، إذ الملاحظ في ذات الخطاب الأدبي أن الكاتب المسلم لا يميل إلى الإخلال بشرط الإفصاح عن عقد القراءة، طلبا للوضوح، ورغبة منه في أن يكون له السبق في التعبير عن ذاته، ومن العبث أن نتصور سيرة ذاتية لكاتب مجهول.

            كما أنه من العبث أن يتم تلقيها من طرف قارئ غير معروف، ولا شك أن غياب ميثاق القراءة من خطاب السيرة الذاتية، سيؤدي بالذات القارئة إلى اتخاذه مرآة لها، فتسقط عليه ما شاءت من التجارب والمواقف لا تصل المؤلف في شيء، ومن ثم يظل الميثاق التلفظي هو المكون الخطابي الذي يضفي في المقام الأول على السيرة الذاتية الطابع المميز لها عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى.
            إن الميثاق الخاص بقراءة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة أداة خطابية، يحيل الكاتب بواسطتها المتلقي على هوية النص وجنس الخطاب الأدبي من ناحية، وعلى فضائه وعناصره الإبداعية الفنية من ناحية ثانية، وهو عنصر يكشف به تطابقه مع الذات الساردة، والشخصية الرئيسة، وذلك حتى لا ينعث عمله الأدبي بكونه سيرة ذاتية تخييلية، أو سيرة ذاتية روائية، أو سيرة ذاتية ذاتاسم مستعار، أو رواية تخييلية.

            أما الميثاق المرجعي، فأداة خطابية ثانية، يحيل صاحب السيرة الذاتية عن طريقها القارئ على خارج النص الأدبي، أي على الإطار الواقعي الخاص به، بحكم انتماء تدوين التاريخ الفردي إلى ما يعرف بالأعمال الأدبية المرجعية، التي تدعو القارئ إلى النظر في مرجعيتها خارج النص المكتوب، إما بشكل صريح أو ضمني، وهي مرجعية متمثلة في واقع يمكن للمتلقي أن يتأكد من وجوده.
            فإذا كان ميثاق تلقي السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث يمثل العلاقة التي يقيمها الكاتب بين تاريخه الفردي المكتوب و متلقيه، والركن الأساس ـ بالإضافة إلى باقي الخصائص الداخلية في متن السيرة الذاتية ـ في تعريف هذا الجنس الأدبي ، فإن السؤال يبقى مطروحا حول ما إذا كان ذلك العقد أو الميثاق السير الذاتي (Lepacteautobiographique) كافيا للدلالة على جنس السيرة الذاتية؟ أم أن هذا الميثاق قاصر وغير مؤهل لذلك، وأن على المتلقي أن يبحث عن مدى الانسجام الداخلي في أي سيرة ذاتية؟

            أ ـ العــنــوان

            نقصد بالعنوان في سياق موضوع بحثنا كل ما يسمى به المؤلف سيرته الذاتية المكتوبة من لفظ أو عبارة، وهو الذي يمثل بامتياز نسبي ـ دون غيره من أشكال الميثاق ـ بوابة حقيقية، تمكن القارئ من العبور إلى خطاب السيرة الذاتية، ولا شك أن تنوع المضامين والمكونات الكبرى لهذا الخطاب هو الذي يتحكم في صياغة عناوين أدب التاريخ الخاص، وغالبا ما يتم اختيار تراكيبها بدقة وأناة.
            ثم إنها عناوين ترشح تصريحا، أو تلميحا، أو ضمنا بالحس الزماني من ناحية ـ سواء منه الحقيقي أم الوجودي ـ كما يفشي بعضها حدة المعاناة، وقلق البحث الطويل عن الحقيقة، ويكشف بعض آخر منها عن قوة العلاقة القائمة بين الشعور الذاتي بالمكان والرؤية الفردية إلى الحياة والعالم.

            ولا شك أن عنوان أي سيرة ذاتية إسلامية ـ كباقي العناوين ـ هو بنية مستقلة له دلالة خاصة، مثله في هذه الخاصية مثل العمل الأدبي، ثم إنه دال على هذا العمل بطبيعة الحال، بالإضافة إلى كونه يختزل وظائف أخرى غير الدلالة، نذكر منها: التعريف، والإشارة، والبداية، والقصد، والسمة، والأثر، والعلامة، وهو موسوم بالإيجاز والإقتضاب، إذ غالبا ما يكون كلمة أو عبارة ولا يتجاوز الجملة.

            ثم إن العنوان ضرورة نصية و عتبة خطابية كثيرا ما تثير فضول القارئ، وتغريه بتلقي العمل الأدبي، خاصة وأنه يحقق لديه جملة من التصورات والأفكار، ويكون سببا في إنتاج آثار جمالية في ذهنه؛ إنه ليس زائدة لغوية؛ بل هو أداة تواصلية تصل ما بين القارئ والكاتب، الذي يؤسس من خلاله سياقا دلاليا، يهيء القارئ عبره لتلقي العمل الأدبي.

            ومن المؤكد أن للعنوان طبيعة إحالية ومرجعية، فضلا عن انطوائه على إيحاءات أو رموز معينة، قد تسمه بطابع الخصوصية والانفراد من جهة، وبطابع الاشتراك والجماعية من ناحية ثانية، فهو خاص في علاقته بين من يكتب سيرته الذاتية، وبالماضي الذي يشكل حياته الشخصية المنقضية، وهو مشترك في علاقته بما يعنيه بالنسبة إلى الآخرين (الجماعة الإنسانية)، باعتبار ما يدل عليه من مضامين وأفكار متعارف عليها بين الجميع.
            ثم إن العنوان غالبا ما يشتمل على أبعاد تناصية، فهو دال إشاري، ومن جملة ما يصطلح عليه بالعتبات النصية أو النصوص الموازية، إنه يجلي معنى النص الأدبي، إذ يختزل المكتوب ويحيل على خارج الخطاب في ذات الوقت، فهو أداة لتكثيف المعنى، ونواة يلتحم بها نسيج الخطاب، ومن ثم فإن للعنوان وظائف جد هامة في تشكيل أدب السيرة الذاتية على سبيل المثال.
            ولا شك أن مجرد إلقاء نظرة أولية على عناوين السير الذاتية الإسلامية الحديثة، التي تجسد مدارات جد دالة، تمكننا من استعراض عدد من الموضوعات، التي تختزل شحنات دلالية كلية ومكثفة، لها من القوة والهيمنة حظ وافر ـ في صميم الخطاب ـ على دلالات جزئية، تتوزع على امتداد الفضاء الداخلي للسير الذاتية ذات السمة الإسلامية.
            وبالرغم من عثورنا على تلك الجزئيات الدلالية مغلقة في معظم الأحيان، إلا أنها تتجاوز في الأصل حدودها اللفظية لتتحول إلى بؤرة خطابية عميقة، ومحاور تقاطع دلالي جد حساسة، ومولدة في آن واحد لتواصل وتداخل خطابي، وبالتالي فإن كل العناوين المفردة أو المركبة، هي عبارة عن قواعد وأرضيات لتنامي مجموعة من العلاقات، التي تنشأ في عمق خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
            إن "الحياة"، و"الشك"، و"الإيمان"، و"السجن"، و"المنفى"، و"الحرية"، و"الذات"، و"الزمن "، و"الذكرى"، و"الإسلام " وغيرها من الموضوعات، تشغل أهم فضاءات أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، مما يضفي على مختلف العناوين المختزلة لها قيمة خطابية، خاصة إذا نظرنا إليها في داخل السياق وخارجه؛ فهي مقاطع نصية بسيطة ومركبة، دالة على جنس الخطاب الأدبي، ومفاتيح لفظية ذات وظيفة تأويلية.
            وقد يتخذ من العناوين ما يشتمل على شحنة دلالية عميقة، ترمز إلى تجربة معينة، عاش أطوارها من يكتب بعضا من سيرته الذاتية، ونذكر في هذا السياق ـ على سبيل المثال ـ لفظة (العريس) التي انتقاها صلاح الوديع لتكون عنوانا لعمله الأدبي، والملاحظ على صعيد آخر، هو أن عناوين ومتون السير الذاتية الإسلامية الحديثة، تنتظم في نسيج دلالي واحد ففي الوقت الذي يضع فيه من يكتب سيرته العنوان لغرض الإيجاز والاختزال، يتولى السرد في المتن إلى جانب الوصف والحوار الوظيفة التفصيلية.
            ومن خلال العناوين الكبرى نستشعر تلك الإشارة المميزة إلى جدلية الصراع بين الحق والباطل، وبين الضلال والهدى، وبين الخير والشر، وهي من أقدم المواجهات المحفوظة في التاريخ البشري، كما أنها إشارة من جهة ثانية إلى ما تعرفه الذات الكاتبة من تحول نوعي، وانتقال من الاضطراب إلى الاطمئنان والاستقرار، ومن الاختلال إلى التوازن، ثم إنها إشارة إلى تطور الوعي العقدي الفردي، من خلال تجاوز الشك إلى اليقين، والخلاص من الكفر والإلحاد لمعانقة الإيمان والدخول في الإسلام.

            ثم بإمكاننا أن نميز كذلك بين ثلاثة محاور بارزة ومستخلصة من جملة عناوين السير الذاتية الإسلامية الحديثة، وكل محور تدل عليه وتوحي به مجموعة من العناوين، وأما المحاور الثلاثة فهي:

            أولا: تمثل الذات واستكشافها عبر مختلف أطوار الحياة الفردية.

            ثانيا: التأريخ للذات في المنفى وداخل السجن .

            ثالثا: العودة إلى الإسلام و الدخول فيه.

            وعندما يثبت مؤلف السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة على غلاف كتابه ميثاقا لفظيا معينا، سواء كان عنوانا، مثل: "حياتي"، و"قصة حياتي"، و" قصتي مع الحياة "، و"حياتي في نصف قرن"، و"لمحات من حياتي "، و"أيام من حياتي "، أم عبارة فرعية ملحقة بالعنوان، مثل: "سيرة ذاتية "، فإنه يقصد من خلال هذه الصيغ اللفظية التعبيرية المتنوعة وغيرها إلى عقد ميثاق تواصلي ـ قد يزكيه بميثاق مرجعي ـ مع من سيقرأ سيرته.

            إن العنوان الذي تحمله أي سيرة ذاتية إسلامية حديثة، هو بمثابة العتبة الأولى التي ينفذ من خلالها القارئ إلى فضاء الخطاب، ثم إنه باعث في حد ذاته للمتلقي على تبادر جملة من الأسئلة إلى ذهنه، ومفتاح لإنشاء أفق انتظار معين، يوجه الذات القارئة أثناء رحلتها داخل فضاء السيرة الذاتية، وهي الذات التي تجهل كل شيء عنه، وتسعى إلى اكتشافه.
            أما إذا ألحق صاحب السيرة الذاتية صيغة نصية من نوع آخر بالعنوان الأصلي لمؤلفه، مثل: "رواية ـ سـيرة ذاتية"، أو "سيرة ذاتية روائية"، فإن المتلقي سيتعامل من العمل الأدبي على أنه خطاب مزدوج، بمعنى أنه سيتلقى إنتاج الكاتب باعتباره "سيرة ذاتية" من جهة، و"رواية" من جهة ثانية، مما يحتم على عملية التلقي أن تكون بدورها مزدوجة أو مركبة، يستند القارئ في إنجازها على مرجعيتين:
            الأولى: مرجعية خاصة بجنس السيرة الذاتية.

            الثانية: مرجعية خاصة بجنس الرواية.

            وما دام من يكتب سيرته يلجأ إلى الربط بين الكتابة عن الذات والكتابة الروائية، فكذلك القارئ سيبني تلقيه على هذا الأساس، إذ سيجد نفسه مضطرا إلى قراءة السيرة الذاتية من زاويتين: الذاتية والموضوعية، لكن هذا لا يعفي صاحب السيرة من الإفصاح عن هوية وجنس ما يكتب، وذلك بقصد إزالة اللبس والغموض، وإعفاء القارئ من الدخول في متاهة يتعذر عليه التعرف فيها على جنس الخطاب، وميثاق القراءة ركن أساس في حال تبني الأسلوب الروائي من قبل الكاتب لصياغة سيرته الذاتية .

            إن شرط " الحوارية " الذي يجسد فعل التواصل بين المؤلف والمتلقي، يتطلب ممن يرغب في كتابة سيرته الذاتية أن يفصح عن القصد من خطابه بأي أسلوب شاء، وذلك حتى يتم الإقرار بنمط الحوارية وجنس الخطاب، الذي لا يمكن أن ينسلخ عن شروط إنتاجه، أو بالأحرى عن سياقه، المتمثل في ميثاق ثقافي يجمع بين الكاتب والمتلقي.

            و لا شك أن الميثاق الثقافي هو الذي سيسمح للذاتين: الكاتبة و القارئة بالتفاهم والتجاوب، وكذا بالاختلاف وتحقيق الحوار الإبداعي، وهذه أسباب ذاتية و موضوعية تخول لهما معا ذاكرة مشتركة ونامية، هذا إذا علمنا بأن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينطوي على نداءات محددة، على القارئ تلبيتها والتفاعل معها.

            ثم هناك أمر آخر، وهو أن القارئ قد ينخدع بمجرد قراءة عـناوين معـينة ـ مثل: "مذكرات"، أو "ذكريات"، أو "اعترافات" ـ فيحسب أنها مطابقة لمتون الأعمال الأدبية المعروضة عليه، في حين أنها عناوين لم توضع بالدقة الكافية، على مستوى الحمولة الاصطلاحية، وذلك حتى تفضي بالمتلقي إلى ما تعنيه وتدل عليه؛ بل إنها في الغالب لا تكفي للوقوف على الهوية الحقيقية للأعمال الأدبية، وبالتالي فهي ليست بالمعيار المناسب الذي سيمكن القارئ من التمييز بين ما هو "سيرة ذاتية"، وما هو "مذكرات"، أو "اعترافات" شخصية.

            د. أبو شامة المغربي

            kalimates@maktoob.com

            تعليق

            • أبو شامة المغربي
              السندباد
              • Feb 2006
              • 16639


              #36
              ميثاق قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الجزء الثاني)



              ميثاق قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
              (الجزء الثاني)
              ب ـ الضمائر الخطابية

              ثمة مسألة أخرى لا بد من الوقوف عندها ـ في سياق الحديث عن ميثاق السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ـ وهي مسألة الضمائر الخطابية، التي يوظفها الكاتب عادة أثناء سرده لتاريخه الخاص، وهي عناصر خطابية أثارت كثيرا من الاهتمام، والجدل، والاستفهام بين نقاد أدب السيرة الذاتية، بحكم ارتباطها الوثيق بميثاق القراءة، ولأن أي ضمير خطابي يعتمده صاحب السيرة الذاتية، هو أداة تدخل في تنظيم مسار الخطاب وضبط حركة السرد، وعامل مساعد على بناء ميثاق واضح وصريح، يمكن الذاتين: الكاتبة والمتلقية من تحقيق تواصل سليم و جلي.

              ولا شك أن أشكال المواثيق والعقود، ودقة إحالتها على ضمير المتكلم، تعتبر مدارا حاسما بالنسبة لخط سير عملية التلقي، إذ انطلاقا من شكل الميثاق المبني على أحد الضمائر الخطابية الخطابية يتحدد نوع تعامل القارئ مع خطاب السيرة الذاتية.
              ثم إن علينا أن لا نخلط بين مسألة الضمائر الخطابية : "أنا" ـ "أنت" (بفتح التاء وكسرها) ـ "هو / هي" ومسألة الهوية في أدب السيرة الذاتية، فقد يكون توظيف ضمير المتكلم المفرد (أنا) في متن أدبي معين موهما بأن ما يتلقاه القارئ هو سيرة ذاتية، في حين أنه بعيد كل البعد عن دائرة هذا الجنس الأدبي.
              إن السمة الغالبة على السيرة الذاتية أن تكتب بضمير المتكلم المفرد (أنا)، لكن هناك استثناءات، بحيث قد يتم تأليفها بضمير الغائب المفرد (هو)، أو بضمير المخاطب المفرد (أنت)، وقد ساد الاعتقاد ـ منذ زمن غير بعيد ـ بكون السيرة الذاتية هي المحكي الشخصي أو السرد الفردي، المبني على ضمير المتكلم، وأما غيرها من السـير الذاتية، التي يوظف فيها الكاتب ضمير المخاطب أو الغائب المفردين، فليست من جنس السيرة الذاتية في شيء، وهذا بالضرورة اعتقاد زائف.

              لقد أسقط هذا الاعتقاد ـ المفتقر إلى أي أساس علمي ـ البعض في خطأ مزدوج، بحيث اعتمدوا من جهة ضمير المتكلم المفرد (أنا) في التمييز بين جنس السيرة الذاتية وباقي الأجناس الأدبية، وأقاموا من جهة ثانية تباينات ـ على المستوى الوظيفي ـ بين الضمائر الخطابية، خاصة بين ضمير المتكلم وضمير الغائب، في حين أن جميع هذه الضمائر لا يمكن اعتبارها مواثيق/ عقود قراءة مبرمة بين صاحب السيرة الذاتية ومتلقيها، إلا على أساس مبدأ التطابق بين الذات الكاتبة وأحد الضمائر النحوية الخطابية، الذي يفصح عنه المؤلف بوضوح.

              فمن الكتاب من يوظف ضمير المتكلم في إنتاجه الأدبي ولا يقصد به شخصه، كما أن منهم من يتخذ ضمير المخاطب/ المخاطبة، أو الغائب/ الغائبة قناعا يختفي خلفه إلى حين، بعد أن يكون قد أوهم المتلقي بأن مدار خطابه الأدبي كان حول شخص آخر، لكن لا أحد بإمكانه أن يجادل في كون السيرة الذاتية جنس أدبي منفتح على ضمائر نحوية خطابية متعددة، مع أن ضمير المتكلم هو الأداة الخطابية المهيمنة و المترددة في أغلب السير الذاتية، وفي معظم السير الذاتية الإسلامية الحديثة بصفة خاصة، والملاحظ أن كتاب هذه الأعمال الأدبية اختاروا توظيف هذا الضمير طلبا للمباشرة والوضوح في توجيه خطابهم إلى القراء.

              لقد دأب أكثر كتاب السيرة الذاتية، سواء القدماء منهم أم المحدثون، على توظيف ضمير المتكلم المفرد، حتى صار تقليدا متبعا في كتابة هذا اللون الأدبي، بخلاف طائفة ممن كتبوا سيرهم الذاتية، والذين يتخذون ضمير الغائب أو المخاطب قطبا لخطابهم الذاتي، أو يوظفون ـ تبعا لنهج سردي فني معين ـ الضمائر الثلاثة، وذلك رغبة منهم في تحقيق غاية فنية معينة، لكن هل يمثل ضمير الأنا المتكلم الحضور الفعلي للذات الكاتبة في متن وخطاب السيرة الذاتية؟
              ثم هل توظيف ضمير الأنا يعني وقوف صاحب السيرة الذاتية على عتبة الاعتراف؟ أم أن استعمال الضمائر في الكتابة السير الذاتية هو نوع من المراوغة، والإستغماء، والتواضع الذي يتخذ قناعا للكبرياء؟ وأن اعتماد (الأنا) في الخطاب لا يعني دائما التمركز حول الذات والاهتمام بها، بقدر ما لا يدل توظيف ضمير الغائب المستعار (الهو / الهي) على النية في التجرد من النرجسية.

              ثم إننا نلمس عند البعض من كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة هذا النزوع إلى تحقيق درجة فنية بسمات متميزة في سيرتهم الذاتية المكتوبة، وتجليات نزوعهم هذا بادية من خلال تعاملهم مع مختلف ضمائر الخطاب، وخاصة تلك المراوحة التي نستطيع رصدها ـ في مواطن وسياقات محددة ـ بين ضمير المتكلم (أنا) وضمير الغائب (هو)، وهي مقامات خطابية تنتقيها الذات المسلمة الكاتبة في غير إسراف، ومراوحة تنهجها لغاية مقصودة.
              ولا شك أن طبيعة هذا النزوع لا تقل أهمية، وإثارة، وتحفيزا على التساؤل عن وظيفة السرد بضمير الغائب والغرض منه، إذ المسافة التي يقيمها الكاتب بينه وبين ذاته، هي حتما أحد الأسرار المنتجة لجمالية السرد بوجه عام، وأسلوب عملت على إنضاجه أبعاد ذاتية وأخرى موضوعية، وذلك من خلال الارتقاء بأدب السيرة الذاتية من غلبة النزعة الفردية إلى البعد الجماعي والأفق الكوني.
              ثم إن محاولة الارتقاء هذه، هي التي تبعث من يكتب سيرته الذاتية على اتخاذ ذاته موضوعا للتأمل، والوصف، والتحليل، في حين أنها تجسد الخطاب الضمني الذي يدعى القراء عبره إلى تلقي العمل الأدبي على أنه مجرد سرد أو حكي لسيرة ذات فردية، عاشت في ظل ظروف وأحداث معينة، بعد أن خرجت إلى الوجود فارتبطت نشأتها وتدرجها في الحياة بإحدى البيئات الإنسانية.
              إن توظيف ضمير الغائب المفرد ينطوي على رغبة دفينة في قراءة الذات، بقصد الاستمتاع والاستفادة من موقع خارجي ومقاوم موضوعي، ومنتهى هذه الرغبة في رأينا، هو أن كاتب السيرة الذاتية يطمح إلى أن يجعل حظه شبيها بحظ القارئ من الإنتاج الأدبي‏‏؛ إنه النزوع الذاتي إلى رؤية موضوعية للذات الفردية.
              وعندما يسلك كاتب السيرة الذاتية ـ في ما يسرده على المتلقي ـ توظيف ضمير الغائب المفرد (هو/ هي)، فإنه ينزع إلى التحدث عن نفسه، كأنه ينظر إليها منفصلة، وهذا المسلك الذي ينهجه ينطوي على دعوة موجهة إلى القارئ حتى يصير مشاركا في عملية السرد.
              إن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينطوي بدرجات متفاوتة على أصداء وآثار النزوع إلى توظيف ضمير الغائب، لكن هل صحيح أن لجوء من يكتب سيرته إلى استعمال هذا الضمير، بدلا من سرد تاريخه الخاص بضمير المتكلم المفرد، هو دليل على احتماء الكاتب به خوفا من مواجهة القارئ؟ على الرغم من كون هذا الضمير ليس سوى ستار شفاف لا يخفي ذات الكاتب.

              ثم أصحيح أن اختفاء صاحب السيرة الذاتية وراء صيغة الغائب، يعود إلى عدم قدرته بالفعل على المواجهة، وإلى افتقاره للشجاعة والجرأة؟ أم أن هذا الاختفاء أو الاحتماء بضمير الغائب، ليس سوى مظهر من مظاهر هذه الصيغة، وغرضا من أغراضها؟
              هذه أسئلة نستطيع أن نصل إلى الإجابة عليها بمجرد القيام بعملية استقراء دقيقة في خطاب السيرة الذاتية الإسلامية ـ قديمها وحديثها ـ، وذلك من خلال رصد هذا الضمير الغائب، الذي يتطابق ويتماهى مع الذات الكاتبة في جملة من الأعمال الأدبية، وبناء على حصيلة تلك العملية الاستقرائية، يمكننا التنبيه إلى أن توظيف صيغة الغائب في السرد السير الذاتي له مقاصد وأهداف مختلفة، وهي غايات شديدة الارتباط بنوايا الكاتب.

              فليس كل من يعمد إلى توظيف صيغة الغائب في سرد سيرته الذاتية، يريد الاحتماء، أو الاختفاء والتواري، كما أن استعمال ضمير الغائب في المحكي الذاتي لا يعني دائما نية الهروب من المواجهة ومخاطبة الآخر، أو الرغبة في التحدث إلى القارئ من وراء حجاب؛ بل إن اعتماد هذه الصيغة في الخطاب قد يخدم أغراضا أخرى يعيها صاحب السيرة الذاتية جيدا، مثل التقليل من عنصر الذاتية والتخفيف من كثافته، وفصل الكاتب بينه وبين ذاته، والفصل بين وجوده في الحاضر وذكرياته عما حفل به ماضيه، أو المباعدة بينه مثلا وبين أحداث عصره طلبا لرصدها من بعيد بعين موضوعية، وإعمال النظر فيها بأسلوب الحياد.

              وقد يعتمد الكاتب هذه الصيغة ـ التي هي نوع من التجريد والتحويل لضمير المتكلم ـ في ما يكتبه عن نفسه تجنبا للدفق الانفعالي، وتحقيقا لمسافة لغوية وعقلية، تتيح للذات تأمل نفسها بوصفها فاعلا للاسترجاع من ناحية، وموضوعا للتأمل من ناحية ثانية، باعتبار أن توظيف الخطاب الغير المباشر، هو الأداة والوسيلة إلى ذكر الحقيقة الموضوعية، وقد يكون في اعتماد نفس الصيغة حرص من طرف صاحب السيرة على تبرئة ذاته من العجب، والتمجيد، والرياء، ثم إننا نعثر لهذه الأغراض التي ذكرناها على أصداء و تمثلات في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.

              ولعل أهم غرض حرص عليه كتاب هذا الضرب من الأدب الإسلامي، عند توظيفهم لضمير الغائب في ما يروونه عن ذواتهم، هو البراءة من شائبة العجب الذاتي، وشبهة التمجيد النفسي، وغيرها من الشوائب التي يوحي بها ضمير (الأنا)، والمتمثلة في فتنة الغرور.
              ولا شك أن الذات الكاتبة المسلمة تعمل جاهدة ـ وهذا ما وقفنا عليه من قرب ـ على تطهير محكيها الذاتي من نزعة الرياء، والتباهي، والغرور، وعلى الرغم من أنها توظف في أكثر الأحيان ضمير المتكلم في ما تحكيه عن نفسها، فهي تحاول عن طريق الإنزياح من الذاتي إلى الموضوعي إفراغ (الأنا) من نزعة الاستعلاء، وذلك حتى تكون قريبة من القراء، متواصلة معهم في تواضع تام، بعيدا عن تلك النظرة الدونية.
              ومن الملاحظ أن الذات المسلمة تعي جيدا ما يحف الحديث عن النفس من شبهات، لذلك فهي تحرص أشد الحرص على أن تكون تحت المجهر ، ناقدة لذاتها بكل صرامة، ومتحدثة عما أنعم به الله تعالى عليها من نعم ، ثم مجتهدة في كشف الحقيقة أمام القارئ مجردة من كل إيهام أو غموض، ومتمسكة كذلك بمبدإ الصدق في جميع ما تفضي به إليه من حديث.

              ثم هل صحيح أن ضمير الغائب أكثر روائية من ضمير المتكلم؟ وهل يحقق بالفعل ـ دون غيره تلك الألفة الاجتماعية لأدب الرواية، باعتباره علامة على ما يجمع الكاتب والمجتمع من ميثاق؟
              ثمة سمة أخرى يجب ذكرها، وهي أن طائفة ممن كتبوا سيرهم، كانوا يتنقلون في سياقات معينة ـ تبعا لبواعث مختلفة قد يصعب ضبطها ـ من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، وذلك في فقرات قد تطول وقد تقصر، وكأنهم يعبرون عن رغبتهم في الانفصال عن الذات بين الحين والحين، وهم ينهجون هذا الأسلوب لما يوحي به من رصد خارجي للنفس وتجرد ذاتي.

              ثم إن جميع ضمائر الخطاب النحوية المفردة (أنا ـ أنت ـ هو/ هي) يمكن أن تعتمد في بناء خطاب السيرة الذاتية، مع التذكير والتنبيه ـ طبعا ـ إلى أن كل عمل أدبي تمت صياغته، سواء بصيغة الحاضر أم بصيغة الغائب، ليس بالضرورة سيرة ذاتية، فقد يكون ـ كما أسلفنا ـ إنتاجا تخييليا لا علاقة له بواقع الذات الكاتبة، مما يدل على أن الضمير النحوي الموظف في الخطاب السردي ليس معيارا دقيقا لتحديد هوية النص الأدبي.
              فالقصد الموضوعي الذي تفشيه مواثيق السير الذاتية الإسلامية الحديثة، سواء كانت عناوين، أم تصديرات لازمة للمؤلف، أم ضمائر نحوية خطابية يمتاز على تجليات الذات الضيقة، وهذه ملاحظة تفيدنا في الوقوف على هوية الرؤية الزمنية، التي ينطوي عليها المتن العام لمواثيق القراءة، وهي في رأينا رؤية مستقبلية، باعتبار أن النزوع إلى تقديم ما هو موضوعي على ما هو ذاتي، واتخاذ الذات جسرا لتبليغ خطاب حامل لأبعاد إنسانية عامة، يعد دليلا على قيام نظرة تشق طريقها نحو المستقبل، أكثر ما تعنى بالعابر في الزمن الحاضر.







              د. أبو شامة المغربي

              تعليق

              • أبو شامة المغربي
                السندباد
                • Feb 2006
                • 16639


                #37
                بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الجزء الأول)

                بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
                (الجزء الأول)
                يتفق معظم النقاد والباحثين على أن إقبال القراء على قراءة أدب السيرة الذاتية، لا يرجع إلى إعجابهم بهذا النوع من التعبير، وإنما هو نتيجة لنزوعهم نحو البحث عن ذواتهم في سير الآخرين، ورغبتهم في الكشف عن مختلف جوانب الحياة المشابهة لما عاشوه ومروا به من تجارب، ولا شك أن القارئ الحديث والمعاصر يرغب في أن يرى ذاته في حياة غيره من الأدباء، والدعاة، وأهل الفكر، والعلماء، والمؤرخين، والساسة وغيرهم من ذوي الخبرة، والاختصاص، والموسوعية، والتجارب الإنسانية الحية.

                ثم إن متلقي هذا اللون الأدبي حريص على المشاركة الوجدانية، يبعثه على ذلك التطلع إلى المثل العليا، والوقوف على ما يزخر به واقع الحياة من صور وتجليات، وكذا النفاذ إلى ما هو ماثل في مختلف السير الذاتية من مظاهر القوة وأسباب الضعف، ثم اتخاذ هذه الأعمال الأدبية مراء تساعده على اكتشاف نفسه، فيتنامى شعوره بها وإدراكه لها، من خلال ما يصادفه ـ في كل سيرة ذاتية يقرأها ـ من تجارب ومواقف كثيرة ومتنوعة، منها ما يبعث على التفكير والتأمل، ومنها ما يثير في النفس انفعالات متفقة وأخرى متناقضة، ومنها ما هو للذكرى وللاعتبار.

                ومما لا ريب فيه أن الذات المتلقية في حاجة دائمة إلى نتاج الذات الكاتبة، بقدر ما أن مؤلف الأعمال الأدبية عموما، وصاحب السيرة الذاتية بصفة خاصة هما في حاجة مستمرة كذلك إلى القارئ، علما بأن الذات، سواء كانت كاتبة أم متلقية، تحاول الانفصال عن نفسها إلى حين، وذلك بقصد تعميق تجربتها الفردية في ضوء تجارب الآخرين وخبراتهم، وهذا النزوع الجدلي هو الذي يمكن الكائن الاجتماعي من تحقيق ذاته عبر التواصل الإنساني.

                وبناء على ما تقدم من استقراء، نلاحظ أن في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ما يثير لدى القارئ جملة من ردود الأفعال، وهذا طبيعي إذا ما علمنا أن الذاكرة المشتركة بين الكاتب والقارئ هي الأساس في اشتغال نظام الأفعال ومختلف ردودها ضمن سياق فني معين، لا سيما وأن لجميع الناس تجارب وخبرات مماثلة، هي من بين القواسم المشتركة بينهم، حتى إنه لا نستطيع أن نقر بشيء لا يعني غير فرد واحد دون سائر الناس.
                ثم إن المقصود بالذاكرة المشتركة أو الجماعية ، تلك المواضعات الأدبية والقيم المتنوعة من جهة أولى، ومجموع العوالم، والظواهر ومناحي الحياة، التي تمثل قواسم مشتركة بين الذوات من جهة ثانية، وكذا تلك التجارب الواقعية التي تتشابه ملامحها و معطياتها، وتصل بخيط رفيع حياة الكاتب بحياة القارئ.
                إن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة خطاب مثير بالنسبة إلى القارئ، الذي يتوفر على مرجعية وشبكة معقدة من التجارب الفردية والجماعية، فضلا عن مخزونه الثقافي، إذ الملاحظ أن ثمة توازيا بين التأثير الذي يحدثه خطاب السيرة الذاتية ذات الصفة الإسلامية الحديثة في ذهن المتلقي، والأثر الذي يستشعره الكاتب أثناء قيامه بعملية السرد أو الحكي الذاتي.

                ولا شك أن فعل القراءة المنجز من طرف المتلقي هو المسؤول الأول، والعامل الأساس في تحديد طبيعة التواصل الأدبي بين صاحب السيرة و متلقيها، الذي يجد نفسه متقلبا بين التماهي والقبول، والانفصال والتعارض؛ إنها قراءة ذاتية في المقام الأول، يتفاعل من خلالها المتلقي مع هذا اللون من الإنتاج الأدبي، ذي الطبيعة المتميزة والرؤية الخاصة، وهذا من شأنه أن يغذي فضاء الإنتاجات المقروءة بكثافة حوارية، ويبعث في مسارها حركة نقدية منتجة.

                فما يسرده المؤلف من تجارب ذاتية لا يعكس فقط حياته الخاصة؛ بل إنه يجلي في آن واحد حياة القارئ، وهذه الوظيفة التي تبدو للوهلة الأولى ـ في نظر البعض ـ غريبة عن جنس السيرة الذاتية، قد أقرها كثير من المتمرسين في هذا الفن الأدبي، الذي يمثل مرآة إبداعية ينظر فيها المتلقي إلى نفسه، ونافذة يطل منها على ذاته، وغالبا ما يعثر على ما يماثل بعضا من تجاربه الحياتية معروضا أمامه إلى درجة التماهي في كثير من الأحيان.

                ومؤكد أن القارئ يتحول إلى شخص معني بما تفشيه العديد من المقامات الخطابية، والمقاطع السردية، والوصفية، و الحوارية من أسرار، ومواضيع، وقضايا، ومن بين ما يثبت لنا هذه الحقيقة ويشهد لها ـ على سبيل المثال ـ تجارب الطفولة والمراهقة، التي تشغل حيزا جد هام في أدب السيرة الذاتية، وتأخذ من ناحية ثانية باهتمام القارئ، بحيث إذا كان الكاتب يحاول أن يبعث ماضيه ليحياه ثانية، فإن القارئ يطمح إلى الغاية ذاتها دون أدنى شك، لا سيما وهو يلتمس لدى صاحب السيرة الذاتية تلك القدرة على الإفصاح عما يحس ويشعر به؛ إنه يطمع في أن ينجح الكاتب ـ باعتباره مؤهلا بامتياز ـ في ما فشل فيه هو.

                ثم إن ما نستطيع تسجيله من جملة الملاحظات في المتن العام لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ـ وإن كانت هذه الملاحظة/ الظاهرة ليست وقفا عليه بطبيعة الحال ـ تلك الفراغات أو البياضات المتمثلة في نقط الحذف المبثوثة هنا وهناك في سياقات مختلفة، وهي في الغالب تفشي للقارئ بحمولتها المخفية أو الضمنية، وكأن الذات الكاتبة توجه دعوة من خلال تلك الفراغات إلى القارئ حتى يسهم بمخيلة وسرعة بديهته في ملئها وإنطاقها، وسيكون بذلك قد أضاء ما هي فيه من عتمة، وخلصها من قيود الصمت.

                ونحن نعتقد بأن القارئ يبحث جاهدا عن التعبير الذي يعكس حقيقة نفسه من خلال أدب السيرة الذاتية، ولا يخفى ما لنهج كتاب السيرة الذاتية في الحياة من تأثير كبير على سلوك المتلقين لأدبهم الذاتي، وهو في الغالب تأثير مفيد، لأن قراءة العديد من السير الذاتية من طرف المتلقين تسمو بهم إلى حيث يتكامل الفكر والإبداع.

                إن الخلاصة التي بإمكان المتلقي أن يخرج بها من مجموع التجارب الإنسانية، التي يصادفها عند قراءته لأي سيرة ذاتية إسلامية حديثة، لا تخلو من متعة ذهنية، بقدر ما أنها لا تفتقر إلى مواد معرفية متنوعة ومفيدة تغني حياة القارئ، ويكفي أنها تشتمل على عصارة التفاعل المتبادل من جهة بين الإنسان ومجموع أفكاره، واقتناعاته، ومعتقداته، وبينه وبين الجماعة الإنسانية التي ينتمي إليها ـ بحكم ما هو مشترك بينهما من بيئة، وثقافة، ودين، ولغة، وغيرها من الخصائص الرئيسة المجسدة للهوية الإسلامية من ناحية ثانية.
                وعلى هذا الأساس سيظل أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من أبرز الآداب العالمية تميزا وإثارة، ويكفي أنه يمثل علامة ثقافية مضيئة، وإسهاما معرفيا لا يمكن تجاوزه أو تجاهله، في وقت أخذت فيه السيرة الذاتية بوجه عام شكل الظاهرة الثقافية في العالم بأسره، وإذا كانت السير الذاتية تشهد إقبالا كبيرا من طرف القراء في العالم الغربي المعاصر، فإن هذه الحقيقة بدأت تشمل قراء العالم العربي الإسلامي.
                وإذا كان الكتاب يفصحون عن بعض البواعث لهم على تأليف سيرهم الذاتية، فكيف السبيل إلى الكشف عن بواعث قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة؟ والقراء خلافا للكتاب لا يفصحون عادة عن الأسباب الباعثة لهم على قراءة السير الذاتية.
                ثم إذا كان أصحاب السير الذاتية عاجزون عن بلوغ المعرفة الدقيقة باهتمامات القراء المسبقة بأدب السيرة الذاتية، وبحقيقة ما يبعثهم على تلقي هذا الضرب من الأدب، فإنهم على ما يبدو يراهنون على فضول القارئ في المقام الأول، ولا يعملون على إثارة هذه الخاصية أو القوة الكامنة فيه أصلا، وكثيرا ما يتمكنون من استدراج المتلقي، وتوجيه اهتمامه إلى النص السير الذاتي، باعتباره علامة مجهولة بالنسبة إليه، وبؤرة أسئلة وحقائق متعددة، ومتشابكة، ومثيرة أحيانا، وما نعتقده كذلك في سياق هذا المحور، هو أن بواعث قراءة السير الذاتية عموما، والسير الذاتية الإسلامية الحديثة خاصة، تتجسد في نمطين من الفضول الفردي:
                الأول : فضول فردي صريح، لا يجد القارئ المتلقي حرجا في الجهر به، والكشف عنه، بناء على إدراك يطمئن إليه، ووعي يتمثل فصوله من خلاله، باعتباره رغبة إنسانية سوية غير منحرفة، تبعثه على معرفة أمور يجهلها، وتوجهه إلى قراءة أدب السيرة الذاتية، لكونه من الآداب التي تستجيب لحاجاته، الثقافية، والنفسية، والروحية، وتتلاءم مع طبيعة فضوله ورغبته في توسيع مداركه المعرفية.

                الثاني: فضول فردي غير صريح، لا يتم الإعلان أو الكشف عنه من طرف القارئ، بحيث يحتفظ به لنفسه ويخفي حقيقته؛ إنه ضرب من الفضول الذاتي الذي ينشأ من بواعث يصعب على المتلقي الإفصاح عنها، وهي غالبا متمثلة في نزوعه ـ بناء على رغبة فردية واعية أو عير واعية ـ إلى رفع الحجاب عما يجتهد صاحب السيرة في ستره ومواراته، إما لأنه من العورات، وإما أنه من جنس ما يخدش الحياء، ويمس بالأخلاق و المروءة.

                وبالإمكان أن نتحدث عن ضرب آخر من البواعث على قراءة أدب السيرة الذاتية، ومنه بطبيعة الحال أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وهو نمط مغاير يتجاوز دائرة الفضول العفوي أو التلقائي إلى دائرة الفضول المنهجي أو العلمي، القائم على طلب المعرفة القصوى بقضايا وظواهر معينة.
                ثم إن جميع البواعث المندرجة في حقل هذا النمط من الفضول الذاتي المكتسب صادرة عن هاجس علمي، يكتسبه القارئ بفعل تراكم الخبرات لديه، وتفاعله مع التجارب التي عاشها في حياته العامة والخاصة، ومن بين أهم بواعث قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ـ بناء على ما وقفنا عليه من قراءات وتلقيات في كتابات طائفة من نقاد هذا الأدب ـ الصادرة عن هذا الجنس من الفضول، نذكر:
                أولا: باعث المقارنة والبحث عن الذات، وهو أحد الأسباب التي تدفع بالقارئ إلى عقد مقارنة بينه وبين صاحب السيرة، وهو في هذه الحال يهدف إلى التعرف على ذاته، وإيضاح غموض شخصيته، والنفاذ إلى عمق حياته الفردية، أكثر مما يهدف إلى الإحاطة النسبية بذات المؤلف، ومن الخطأ أن يعتقد المرء بأن شريط ذكرياته لا يؤثر إلا فيه دون غيره؛ بل إن صدق كاتب السيرة الذاتية في الكشف عن نفسه كفيل بمنح الفرصة للآخرين حتى يكتشفوا ذواتهم.

                ثانيا: باعث الاكتساب المعرفي، وهو سبب آخر يثير ما لدى القارئ من فضول منهجي أو علمي، فيجعله يتناول أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رغبة منه في تحصيل معرفة محددة أو جملة من المعارف الإنسانية: تاريخية كانت، أم أدبية، أم نفسية، أم اجتماعية، أم فكرية وغيرها، أو محاولة منه لاكتساب خبرة معينة أو نهج في الحياة، وهذا الباعث متعدد الأوجه، لأن المتلقي غالبا ما يترصد في السيرة الذاتية ما يكتبه صاحبها بصفته شاهدا على نفسه من ناحية، وشاهدا على ما يحيط به من جهة ثانية.

                د. أبو شامة المغربي

                kalimates@maktoob.com

                تعليق

                • أبو شامة المغربي
                  السندباد
                  • Feb 2006
                  • 16639


                  #38
                  بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الجزء الثاني)

                  بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة

                  (الجزء الثاني)


                  ثالثا: باعث البحث عن الحقيقة، وهو دافع يلتمس القارئ في ظل تأثيره وفاعليته معرفة حقيقة معينة أو مجموعة من الحقائق، ظل يستفهم بشأنها ـ لمدة قصيرة أو طويلة ـ كثيرا، وربما تحول لديه بعضها إلى هاجس وقلق ملازم له طوال الوقت، وهذا الباعث بدوره له مظاهر متنوعة، إذ قد يسعى القارئ إلى العثور بين ثنايا أي سيرة ذاتية على حقيقة تاريخية، أو اجتماعية، أو عقدية، أو سياسية وغيرها.
                  ومن المؤكد أن بواعث قراءة السيرة الذاتية الحديثة ذات الصفة الإسلامية، ترتبط أصلا ببواعث كتابتها والغايات المرجوة منها، بالإضافة إلى صلتها الوثيقة بمنازع الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه عموما، فشأن بواعث القراءة والتلقي ـ من حيث الكثرة والتنوع ـ كشأن بواعث الكتابة، باعتبار أن هذا اللون من الأدب الإسلامي لا يتم إنتاجه استجابة لباعث واحد، وإنما يتشعب منحى الدافع إلى التأليف، بقدر ما يتشعب مسار الباعث على الكتابة.

                  فما هي بواعث القراءة القائمة و الكائنة من ناحية، والممكنة والمحتملة من ناحية ثانية، إذا ما حاولنا استخلاصها وتحديدها من خلال طبيعة، ومضامين، وعوالم هذا الضرب من الأدب الإسلامي الحديث؟ وفي ضوء الكيفية التي يتم بها تلقيه من طرف نقاد أدب السيرة الذاتية؟

                  في مستهل الإجابة على هذا السؤال، تقتضي الضرورة المنهجية أن نشير إلى أن قراء هذا اللون من التعبير الأدبي ذي الصبغة الإسلامية ليسوا طائفة واحدة، تتواصل مع أصحاب السير الذاتية أو في ما بينها بلغة واحدة، كما أنهم لا ينتمون إلى حضارة وثقافة واحدة، ولا يدينون بنفس العقيدة؛ بل إنهم متلقون تختلف ألسنة تخاطبهم وتواصلهم، وتتمايز بيئاتهم وعقائدهم، إذ هم باعتبار عنصري: اللغة والدين أربع طوائف:
                  أولا: طائفة القراء العرب
                  ثانيا: طائفة القراء العرب المسلمين
                  ثالثا: طائفة القراء الأجانب
                  رابعا: طائفة القراء الأجانب المسلمين
                  فتبعا لهذا التصنيف، نلاحظ أن بين الطائفتين: الأولى والثانية قاسما مشتركا يتمثل في عنصر اللغة، ومن ثم فإن لهما ذاكرة لغوية مشتركة، كذلك نفس القاسم يجمع بين الطائفتين: الثالثة والرابعة، في حين أن عنصر العقيدة الإسلامية يمثل قاسما وذاكرة مشتركة بين الطائفتين: الثانية والرابعة، ومن جهة ثانية نرى أن نذكر في هذا المقام بأن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة غير صادر عن ذات واحدة، بحكم الخصائص التالية المميزة له، وهي: الانتماء القومي والتواصل اللغوي، والتراث الثقافي؛ إنها خصائص تدل على أن هذا الخطاب موزع بين فئتين من الكتاب:
                  الأولى: يمثلها الكتاب العرب المسلمون
                  الثانية: يمثلها الكتاب الأجانب المسلمون
                  ثم إن لكل قارئ، ولكل طائفة من القراء ـ كما سبق ورأينا ـ زوايا اهتمام مفترضة ومحتملة بأي سيرة ذاتية إسلامية حديثة، وهي كثيرة يصعب حصرها، ومختلفة يعسر ضبطها، لكنها شديدة الارتباط بنوع التساؤلات من ناحية، وبطبيعة الانشغالات الفردية والجماعية من ناحية ثانية، وهي استفهامات واهتمامات يغذيها حظ غير قليل من الفضول والحدس، سواء كانا ذوا طبيعة تلقائية أم منهجية، وبإمكاننا أن نلمح بجلاء مدار احتفال المتلقي بأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، والذي يتمثل في ثلاثة محاور:
                  الأول: محور الإسلام (العقيدة)
                  الثاني: محور الذات المسلمة (الإنسان المسلم)
                  الثالث: محور التجربة الإسلامية الواقعية (الفعل و الحدث)
                  إن أهم بواعث القراءة والتلقي، المتصلة بهذه المحاور الثلاثة، هي بواعث كبرى، يكاد خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينفرد بها، بفعل الخصائص الإسلامية المميزة له، دون سائر الخطابات الأدبية، التي لا يدين أصحابها بالإسلام، وهي ذات الخصائص التي ستجعله يستقطب اهتمام مختلف القراء، سواء العرب منهم أم الأجانب.

                  فالمسألة تتعلق أصلا بالرغبة في التعرف على حقيقة العلاقة التي تجمع بين الإنسان والعقيدة الإسلامية، وبين الإنسان والتجربة الإسلامية الواقعية من ناحية ثانية، مما يسمح للمتلقي بتمثل ومقارنة تجليات التواصل بين الذات العربية والإسلام مع تجليات التواصل بين الذات الأجنبية والإسلام، ثم مساءلة التجربة الإنسانية ذات الطابع الإسلامي في إطار هذه الشبكة من العلاقات التواصلية.

                  والراجح في ما يجعل من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة محط اهتمام من طرف الذات المتلقية، وباعثا متشعب الأبعاد و الغايات على إنجاز قراءات خصبة وعميقة، هي مادته المتنوعة، وكثافة القضايا والمواضيع الغنية المطروحة فيه، ولم يكن هذا الخطاب ليعدم قاعدة واسعة من أصناف القراء وأنماط القراءات، بدليل انفتاحه على مجالات ينشط فيها الإنسان كثيرا.
                  ويكفي أن نذكر أهم المحاور الخطابية الأكثر حضورا، والتي تبعث المتلقي في الغالب، سواء كان عربيا أم أجنبيا، على تغذية فضوله المعرفي، وعلى اكتشاف ما انفردت به الذوات من تجليات، واستطلاع ما اختزنته الذاكرات من فضاءات زمانية، ومكانية، وحدثية:
                  الأول: يتجسد في ظاهرة الصحوة الإسلامية الحديثة في العالمين: العربي وغير العربي، بحيث أن جانبا كبيرا من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يشغله فعل التأريخ للصحوة الإسلامية بمختلف مظاهرها وآثارها، وهو تأريخ في ذات الوقت لمعاناة الذات العربية المسلمة في سبيل التمسك بتعاليم الإسلام والحرص عليها، ثم الدعوة إليها بعد ركود حضاري طويل، وفي عصر نشط فيه الاضطهاد، وصار فيه الفراغ الروحي شبه سائد، واستشرى أمر العداء ضد كل ما هو نابع من الإسلام، أو له صلة بالعقيدة الإسلامية.

                  الثاني: يتمثل في ظاهرة الدخول في الإسلام، والتي تعتبر بدورها موضوعا مثيرا لفضول القارئ، وإن كانت تمثل مظهرا للصحوة الإسلامية، التي يشهدها العالم اليوم قاطبة، وهي لا تخلو من أهمية في تقدير المتلقي لها وحكمه عليها، باعتبار أن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينطوي على فعل الشهادة من جهة، والتأريخ لتجربة الاهتداء إلى الإسلام، الغنية بما تجتازه الذات الأجنبية من معاناة من أجل العثور على الدين الحق، وذلك في وسط اجتماعي ينتقص ويزدري كل إنسان يهتدي إلى الإسلام و يدخل فيه.

                  ثم إن الذات القارئة تحاول إعادة التوازن المفقود لديها من خلال الاحتفاظ بقيم معينة، وتجاوز الأخطاء والعثرات؛ إنها تجربة يدخل المتلقي غمارها لبناء ذاته من جديد في ضوء تجارب وخبرات الذات الكاتبة، ومن ثم فإن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يحقق غاية مزدوجة يتقاسمها الكاتب والقارئ على حد سواء، باعتبار أن فعلي: الكتابة والقراءة يمثلان متنفسين متميزين، ينفرد الإنسان بالاستفادة منهما، ومن خلالهما تستعيد كل من الذاتين: الكاتبة والقارئة الكثير من انسجامهما وتوازنهما الطبيعي، وتتأملان بعمق وجودهما بمختلف أبعاده.

                  هذه حلقة أدبية نقدية نضيفها إلى سلسلة المقالات التي سردناها في باب أدب السيرة الذاتية، وهي حلقة تثير موضوع تلقي هذا اللون من الأدب، وعسانا مستقبلا بتوفيق من الله تعالى وسداد منه نسهب الحديث في شأن هذا الموضوع المحوري والهام ...

                  د. أبو شامة المغربي

                  kalimates@maktoob.com

                  تعليق

                  • أبو شامة المغربي
                    السندباد
                    • Feb 2006
                    • 16639


                    #39
                    أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة الأحلام والرؤى المنامية






                    أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة الأحلام والرؤى المنامية


                    إذا كان النوم يستغرق حوالي ثلث حياة الإنسان، فإن الأحلام والرؤى المنامية لها حيز تشغله في هذا الثلث، بحيث أن ذهن الإنسان النائم لا يكون في حالة سكون تام، فقد تثير المنبهات الخارجية أو العضوية الداخلية ألوانا من الصور الذهنية يراها النائم، وقد تنطوي على معان ذات دلالات، وإذا كان من الأحلام المنامية ما له صلة بمجريات النهار، وبما يرد على الذهن من الخواطر والأفكار في حال اليقظة، فإن منها ما له علاقة بما عاشه الإنسان من أحداث وخاصة من تجارب في حياته الماضية، وخاصة ما يكتسي منها سمة الانفعال والصدمة.

                    إننا لا نستثني من المكونات الكبرى لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الأحلام والرؤى المنامية)، ذلك لأننا نعتبرها بحق مكونا مثيرا ونشيطا، سواء بشكل صريح أم ضمني، ليس فقط في هذا اللون من الأدب الإسلامي أو في أدب السيرة الذاتية عموما؛ بل حتى في باقي الأجناس الأدبية وفي مختلف ألوان التعبير النثرية والشعرية، ولو أنه نادرا ما يحتفل به الكتاب المبدعون، وقل ما يلتفت إليه نقاد الأدب، حتى أن أي كاتب ـ حسب علمي ـ من المتقدمين أو المحدثين في حدود العالم العربي الإسلامي، وربما حتى في البلاد الغربية، لم يبادر إلى تأليف كتاب يسرد فيه أحلامه ورؤاه المنامية مجردة أو مصوغة بأسلوب أدبي معين.
                    ثم إن هذا الباب من الكتابة جدير بأن يلجه المبدعون، ويهتم به الباحثون والنقاد، خاصة وأن الأحلام والرؤى المنامية ما هي إلا امتداد لنشاط ذهن الإنسان، فهي مادة بإمكانها ـ إن تم توظيفها الجيد ـ أن تكون فتحا جديدا في الخطاب الأدبي، ومن شأنها أن تكون سببا في ميلاد شكل أدبي حديث ونحن نرى بأن (الأحلام والرؤى المنامية) بعض من واقع الحياة الإنسانية ومكون من مكوناتها، الذي لا زال غريقا في بحر الإهمال والجهل به، مع أنه مكون حياتي يجب اعتباره والاهتمام به.
                    ويكفي أن للأحلام والرؤى المنامية من التأثير على مسار الحياة اليومية للفرد ما لا يستطيع أن ينكره أحد، ثم إنه يمثل أحد ضروب المعرفة البشرية، الذي بإمكانه أن يساعد كثيرا على فهم الذات الإنسانية، ويسهم في إضاءة جملة من الزوايا المعتمة، واستكشاف كثير من مجاهل وخفايا الإنسان، هذا فضلا عن كون الأحلام والرؤى هي مواد تستقى منها الأفكار، والصور، والمشاهد وغيرها من العناصر.
                    ولا شك أن كل حلم منامي وكل رؤيا منامية عالم قائم بذاته، لهما تركيب، ومنطق، وسرد خاص، وفيهما يتراءى للنائم كثير من الأشخاص والمخلوقات ما يعرفه منها وما ينكره، وكذا الأزمنة، والأمكنة، والمشاهد، والأحداث، التي قد يكون طرفا مشاركا وفاعلا فيها، أو متابعا لها فقط، ثم إن من الأحلام والرؤى المنامية ما لا يخلو من الرمز، والوصف، والحوار، والخطاب الأحادي.
                    ثم إن أحلام المنام تختلف عن أحلام اليقظة، إذ يجد الإنسان نفسه في حلم أو رؤيا المنام يصدق ما يراه ويعتبره من الواقع، وإذا كانت أحلام اليقظة تتسم ببعض التماسك المنطقي والواقعي، فإن أحلام ورؤى المنام تتداعى تداعيا حرا، فحوادث الحلم والرؤيا تجري بسرعة غير مهتمة بحدود الزمان والمكان، بحيث أن الحالم أو الرأي يرى في نومه القصير أحداثا يستغرق وقوعها في اليقظة شهورا وسنوات.
                    وقد ذهب البعض إلى أن الأحلام في المنام حياة ثانية ذات تأثير على الحياة الأولى في عالم اليقظة، ثم إنها تمكننا من التعرف على ذواتنا والعالم من حولنا، ثم إن الأحلام هي وسيلة يتم عن طريقها استعادة الذات لتوازنها النفسي، فضلا عما لها من وظيفة تعبيرية.
                    ونحن نذكر من بين الكتاب العرب المسلمين في العصر الحديث الذين لم يتجاهلوا هذا المكون الخطابي (الأحلام والرؤى المناميـة) في ما تحجثوا به عن أنفسهم: أحمد أمين، وعائشـة عبد الرحمان، ونجيب الكيلاني، وعبد الكريم غلاب، ومحمد أسد، ومالكولم إكس، وكاترين دولورم، وماري ولدز وغيرهم.
                    وقد وضع محمد المختار السوسي عنوانا فرعيا في إلغياته اختزله في عبارة (متع الأحلام)، وذكر محمد المختار السوسي من جملة لقاءاته المنامية، ذلك اللقاء الذي جمعه في رؤيا منامية بطه حسين، والمثير هو أن الكاتب استغل خلاصته لبناء مقالة أدبية نقدية تخييلية، اعتمد فيها الحوار الثنائي الذي دار بينه وبين طه حسين في المنام.


                    وتكفي هذه المبادرة من الكاتب حجة على نبوغه الإبداعي، ولا أظن أن أحدا من أدباء الثلاثينات ـ على سبيل المثال ـ قد وفق إلى فكرة محمد المختار في إبراز شكل تعبيري جديد من الأدب وإخراجه إلى الوجود، والذي تلتقي فيه أحلام المنام بمجريات اليقظة، فتصير مادة واحدة ونسيجا متفردا من التخيل والحقيقة.


                    ولا شك أن محمد المختار استطاع أن يضفي طابع الرؤيا المنامية على مقاله الطويل من بدايته إلى منتهاه، إذ تمكن من توظيف كل ما تذكره واستحضره من رؤياه المنامية في حال اليقظة، والمثير للإنتباه، هي الكيفية التي استغل بها هذه الرؤيا، بحيث وفق إلى تحويلها إلى قاعدة ومنوال صالحين لبناء وصياغة مقال حواري متميز، تفضي بعض أفكاره إلى بعض.
                    إن الذي يضفي سمة مميزة على جميع المكونات الخطابية للسيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث ـ بوجه خاص ـ هو ارتباط الذات المسلمة المنتجة لها بأحداث وأطوار تاريخية متميزة، شهد العالم العربي الإسلامي بعضا منها، وعرفت البلاد الغربية والأجنبية عموما بعضها الآخر، مما أكسب خطاب السيرة الذاتية ذات الطابع الإسلامي الحديث قيمة مضافة، وذلك بفضل الكتابات التي تفسح فيها السمات و المعالم الذاتية / الشخصية البحتة المجال للمعالم الموضوعية المرتبطة بالعصر.
                    ولا شك أن هذا الإنجاز الثمين الذي حققه كتاب هذا اللون من الأدب الإسلامي الحديث، سيضع بين أيدي الأجيال اللاحقة مرجعا قويا في غزارة مادته الأدبية، والتاريخية، والفكرية، والنفسية، والاجتماعية، والسياسية وغيرها من المواد التي لا سبيل إلى الاستغناء عنها من قبل أي جيل منشغل بماضيه، وحاضره، ومستقبله، ومهتم باكتساب ثقافة شاملة ذات جذور ثابتة، في ظل الطموح إلى تجاوز أخطاء وعثرات الأجيال السابقة.


                    إن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يعكس ـ في ضوء مكوناته الكبرى ـ مدى تحول الذات المسلمة إلى موضوع إبداعي، وفي آن واحد يكشف عن العديد من نقط التماس في الحياة، التي يلتقي عندها الحس الذاتي بالحس الموضوعي، والوعي الفردي بالوعي الجماعي، فينشأ من هذا اللقاء ما يصح أن نصفه بسحر الخطاب السير الذاتي المتميز عن باقي الخطابات الأدبية.

                    د. أبو شامة المغربي

                    تعليق

                    • أبو شامة المغربي
                      السندباد
                      • Feb 2006
                      • 16639


                      #40
                      رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر



                      أدب السيرة الذاتية الحديثة في ظل الإسلام

                      (الجزء الأول)
                      إن للإنسان بعدا عقديا في هذا الوجود، لن يجد سبيلا إلى تجاهله أو الإعراض عنه مهما حاول، لأنه حقيقة ماثلة، وواقع قائم في أعماقه، والإسلام هو من يمثل هذا البعد المسلم به في عمق الحياة الروحية للإنسان، إذ ينسجم بقوة جاذبيته مع الفطرة التي يولد عليها كل فرد، ومن ثم فإن الإخلال بأركانه وتعاليمه يزج بالذات في متاهة من المعاناة والشقاء.
                      وقد اتجه كثير من كتاب السيرة الذاتية العربية والغربية، في العصر الحديث إلى التعبير عن همومهم الذاتية، وذلك من خلال تصور إسلامي، يرى في الله عز وجل الملجأ والملاذ، وقد ساعدت عدة عوامل هؤلاء الكتاب على الاهتداء إلى كتابة تاريخهم الفردي ونشر تجاربهم الخاصة، وذلك في ظروف فرضت عليهم العودة إلى ذواتهم للبحث عن حقيقتها، والتأمل من خلالها في عزلة عن العالم الخارجي.
                      إن من بين العوامل الفاعلة في الأدب عموما، والباعثة للذات الإنسانية على كتابة التاريخ الفردي الخاص، نذكر في المقدمة طبيعة العصر الذي أظل الإنسان في التاريخ الحديث، وما نتج عن هذه الطبيعة من ظروف كان لها بالغ الأثر فيهم، ثم الإرث الذي خلص إليهم عبر الأجيال السابقة لهم، والمتمثل في مجموع الرؤى، والمفاهيم، والتصورات، والقيم، التي تحكم العلاقة ونوع التفاعل مع الذات من جهة، والغير من جهة ثانية، والعالم الخارجي من جهة ثالثة.
                      ولا يسع الباحث، وهو منكب على دراسة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، إلا أن ينظر في العلاقة القائمة بين محور الذات وقطب العقيدة الإسلامية، وهذا النظر يستدعي استقراء فضاء إنساني عقدي في ضوء تناول الذات المسلمة بالدرس والتحليل من خلال الإسلام، ثم بحث أدب السيرة الذاتية الإسلامية عن طريق الأنا الفاعلة فيه.
                      لقد دل لفظ "العقيدة" أو لفظ "الدين" على امتداد تاريخ الفكر الإنساني على كثير من المعاني والمفاهيم، قام بعضها بوحي من الله عز وجل إلى أنبيائه ورسله عليهم السلام، ونشأ البعض الآخر عن مزاعم و ادعاءات وأهواء، وعن ألوان وضروب من الرجم بالغيب، بينما نفت طائفة حقيقته وأنكرت وجوده، ثم اكتفت بالقول: إنه أسطورة من صنع خيال الإنسان، وأن لا شيء ثابت سوى العقل، وعرف آخرون الدين بمقولة "العالم الغيبي" وكل ما هو فوق الطبيعة .
                      منذ القدم ظل الإنسان بين العقل والدين في جدال، واضطراب، وحيرة من أمره، أينتصر للعقل؟ أم ينتصر للدين؟ أم ينتصر لهما معا ؟ أم لا يعير لأي منهما أدنى اهتمام، ويطلق العنان في المقابل للشك والعبثية ؟! خاصة وأن من العقول البشرية ما يعـشق "المادة" و"العلم" فقط، على الرغم من إحساسها بذلك المـيل الخـفي إلى الاعتقاد الروحي.
                      إن الإنسان قليلا ما يقر بأن العقل لا يناقض العقيدة السليمة في شيء، ولا الدين الصحيح يتعارض مع العقل أو ينتقص من قيمته، ويلغي وظيفته في الحياة الإنسانية، في حين كان على الكائن الاجتماعي العاقل أن يعي جيدا كون المعتقد السوي هو أقوى من الفكر البشري، بحكم أن الدين الحق هو الأصل والغاية، أما الفكر ففرع ووسيلة لبلوغ تلك الغاية.
                      ثم إن الذات الإنسانية إذا ما حاولت أن تتجاوز شعورها وحسها العقدي، أو تنسلخ بالأحرى عن الإسلام، فإنها حتما واقعة في الخلل، بمعنى أن الفكر البشري لا بد له في النهاية من الامتثال لدين الله تعالى، والانسجام معه قلبا ومظهرا، لأن قوة العقل البشري من قوة هذا الدين، أما قوة الإسلام فقائمة بأمر الله عز وجل وبقدرته ومشيئته، وهي غير متحولة أو متبدلة، بخلاف ما تنطوي عليه الذات من فكر محدود الطاقة ومتحول غير قار، وهو في حاجة دائمة إلى مركز صلب يشده إليه، ويقيم توازنه، ويسدد اعوجاجه.
                      إن الذات المعتقدة في الإسلام لا تخوض صراعا ضد الطبيعة، أو ضد الزمان والمكان، وهي أيضا لا تقود حربا ضروسا ضد السنن الكونية، وإنما هي تجاهد للحفاظ على فطرتها وعقيدتها الإسلامية من كل أنماط و أشكال الانحراف السائدة في الحياة الإنسانية، بحكم وعيها وإدراكها للتكامل القائم بين الفطرة، التي طبع الله عز وجل الناس عليها، والشريعة المتمثلة في ذلك النهج القويم والكامل، المسخر لتنظيم الحياة الإنسانية الدنيوية، ومما لا شك فيه أن سعادة الإنسان وثيقة الصلة باقتران وتكامل كل من الفطرة والشرع، اللذين خرجا من مشكاة واحدة.
                      ثم إن الذات المسلمة، سواء كانت عربية أم أجنبية، تسعى جاهدة على أساس رؤية إسلامية واضحة إلى إقامة نظام صلب ومتماسك لعلاقة سليمة بينها وبين عالمها الدنيوي ببعديه: الذاتي والموضوعي من جهة، وبينها وبين عالم الغيب من جهة ثانية؛ فهي ذات إنسانية تميل أكثر بفطرتها المتجذرة إلى التوافق، والاستقرار، والإصلاح، وقد كان الإسلام ولا يزال يعمل على ترسيخ هذه الأساسيات و غيرها من القيم الراقية.
                      ولا شك أن الإنسان المسلم ينزع إلى الانسجام بدل الدخول في مواجهة مدمرة وعنيفة مع كل جزئية في هذا الكون؛ إنه كوني بطبعه، وهذه الخاصية تجنبه صدامات كثيرة هو في غير حاجة إليها، كما أنها تمكنه من تمثل ذاته أكثر فأكثر في وجود كتب عليه أن يشهده، وأن يبتلى فيه إلى أجل مسمى.
                      لكن الإنسان المسلم يخوض صراعا من طبيعة أخرى و موقع آخر، وهو مؤازرة بمناعة دينية قوية ضد كل ألوان الشر والانحراف، وضد كل ضروب العبث والفساد، ثم إنها مناعة يشهرها في وجه كل محاولة أو فعل معاكس يستهدف فطرته السوية أو سلوكه الإسلامي القويم، لأنه يحرص أشد الحرص على أداء الرسالة أو الأمانة، التي تولى حملها في حياته الدنيوية، على الوجه الأفضل والأمثل.
                      إذن لا طاعة ترجى من الإنسان المسلم في سبيل الغوايات، والنزوات، والأهواء؛ إنه صاحب مسؤولية كبرى محددة، لا يحيد عنها طوال حياته، ومن أجل تحملها يتحول لديه الصراع من المفهوم المتداول وضعيا بين الأحياء من الناس إلى مفهوم المجاهدة النفسية أو الجهاد الأكبر.

                      أ ـ الذات العربية والإسلام
                      لقد عاشت الذات العربية في العصر الحديث تحولات كثيرة، ومعاناة رهيبة ذات صور وأشكال متباينة في الغالب من حيث منطلق كل ذات وموقعها، ويكفي أن الإنسان في العالم العربي الإسلامي شهد وعاش هزات عنيفة اجتماعية وسياسية، وعقدية، واقتصادية، ارتسمت ملامحها بقوة منذ أزيد من قرن تقريبا، وخلفت آثارا سيئة جلية، سواء في زمن حدوثها أم في الأزمنة التي عقبتها.
                      ومن الواضح أن الإنسان العربي المسلم ، الشاهد على هذا العصر، مدرك تمام الإدراك لما يعانيه من أزمات نفسية قوية لم يعرف لها التاريخ العربي الإسلامي الحديث وحتى المعاصر مثيلا، إذ يجد نفسه في مواجهة كبرى شرسة ضد قوى الشر والفساد، وفي صراع دائم مع حضارة مادية ملحدة، تسعى إلى محاصرته بمختلف ضروب الفتن، واقتلاع جذوره العربية الإسلامية، والعبث بمكونات شخصيته وقيمه السامية.
                      ومن المؤكد أن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة شاهد على حقيقة ما أصاب الذات العربية المسلمة من مآس وآلام، كانت بحق منعطفا تاريخيا متسلسل الحلقات، وعلى واجهتين: الداخلية والخارجية، ثم إن جانبا من معاناة الإنسان العربي المسلم يعود إلى تاريخ بدء الحركة الاستعمارية الأجنبية، التي تمتد جذورها التمهيدية إلى الحروب الصليبية، تلك الهجمة الشرسة التي كان العالم الغربي قد شنها على المسلمين والبلاد الإسلامية منذ سنة 1095 للميلاد، ودامت قرنين من الزمان تقريبا.
                      لقد حاول الغرب منذ زمن بعيد، بكل ما أوتي من قوة، أن تكون له الهيمنة على معظم الديار العربية الإسلامية، كما اجتهد ما وسعه الاجتهاد في طمس معالم الفكر الإسلامي والشخصية الإسلامية، سواء من خلال تشجيعه للغزو المغولي سنة 1206 للميلاد، أم بواسطة حركة الاستشراق، المتمثلة في إرسال البعثات الأوربية إلى العالم العربي الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي، أم باعتماد التدخل الاستعماري المباشر في البلاد العربية الإسلامية، وذلك منذ الحملة التي شنها نابليون بونابارت ( NAPOLEON BONAPARTE ) على مصر سنة 1798 للميلاد.
                      ثم إن الشعوب العربية المسلمة ابتليت بصراع طويل ضد قوى الغرب الاستعمارية والعنصرية، التي زعمت بشأن الإسلام أنه عقيدة غير صالحة للقرن العشرين، استنادا إلى شبهة مفتراة، غدت مع مرور الزمن اعتقادا وهميا راسخا لدى معظم الغربيين، واقتناعات واهية شائعة للأسف في الغرب، تجسدت في الاعتقاد بكون الإسلام دين السيف، والوحشية والتخلف، وهي صور ارتسمت في أذهان الأوربيين في العصور الوسطى التي واكبت الحملات الصليبية، وعمل الساسة الغربيون بقدر ما عملت الكنائس الغربية على تغذيتها بعناية.
                      ولما تقاسم الاستعمار الغربي الإمبراطورية العثمانية، وانفصلت الدول المنضوية تحت لوائها، كان سقوط الخلافة نتيجة حتمية، وتم على إثر هذا السقوط استعمار عدد من البلدان العربية الإسلامية ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وهو التاريخ الذي صادف انطلاقة الهيمنة الاستعمارية الغربية، فنشبت المواجهة وانتهت أخيرا بالاستقلال.
                      ولكن مخلفات الاستعمار الأجنبي أحدثت شروخا عميقة في وحدة العرب المسلمين، نشأ بسببها صراع داخلي بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، مما أفرز تناقضات بينة واختلافات كثيرة على الساحة العربية الإسلامية، وفي غمرة هذه التحولات انبعثت الصحوة الإسلامية في بداية القرن العشرين، فنمت ونضجت في العقود الأخيرة من نفس القرن، وهي في نظر معظم المؤرخين، والباحثين، والمفكرين أهم حركة تغييرية وتجديدية في العصر الحديث.
                      لقد واكبت الصحوة الإسلامية في بوادرها الحديثة عصر النهضة في العالم العربي الإسلامي، وكان على رأس الأسباب الباعثة لها : الهيمنة الاستعمارية، وتوسع الحركة التبشيرية، والإساءة إلى الإسلام وإلى شخص الرسول عليه الصلاة والسلام من خلال حركة الاستشراق العالمية، وكتابات عدد من المستشرقين، ثم فراغ الحياة الثقافية من المعرفة الإسلامية، بالإضافة إلى ضعف الوازع الديني الذي دب في أوصال المجتمعات العربية.
                      ولا شك أن الصحوة الإسلامية أعطت نفسا جديدا للذات العربية، بحيث كان لها بالغ التأثير الإيجابي في تكوين شخصية الإنسان المسلم على جميع المستويات الحيوية والمصيرية، فلاحت أولى نتائجها في مستهل سنة 1927 للميلاد، والتي تجسدت في نشأة جمعيات إسلامية كثيرة.
                      ثم إن هزيمة العرب في حربهم ضد إسرائيل سنة 1967 للميلاد كانت صدمة شديدة، ارتجت لها أعماق الإنسان العربي المسلم، الذي بدأ يطرح جملة من القضايا، ويستفهم حول مواطن الخلل في مجتمعه، وفي شأن عدة أمور مصيرية، فارتفعت أصوات النقد الذاتي والموضوعي، وتعالت نداءات من جميع أركان العالم الإسلامي تطالب بضرورة الإصلاح الشامل، مؤكدة على العودة إلى الإسلام.
                      لقد كان العقد السابع من القرن العشرين ظرفا تاريخيا حاسما في حياة الشعوب العربية المسلمة، التي صارت ترى في الإسلام خلاصها من الفتن، والشقاء، والهزائم، وتطالب به بديلا عن ركام من النظريات، والشعارات، والتجارب السابقة المنحرفة، ومن ثم صارت مواد الإسلام الروحية، والعلمية، والفكرية تستقطب كل من يبحث عن ذاته، وهويته، وجذوره.
                      وتعد التجربة الروحية الفردية من أهم روافد السيرة الذاتية الإسلامية، والكاتب يكون عادة أقرب إلى التعبير الجيد حين تلتصق تجربة العودة إلى الله عز وجل وإلى الإسلام بنفسه أو تنبع منها، فيمتلك ساعتها قدرة تعبيرية أقوى من قدرة الكاتب الذي يتعامل مع تجاربه الفردية خارج ذاته، خاصة وأن الدين قريب من روح الإنسان ونفسه، وأكثر ما تتضح هذه الحقيقة في الأزمات التي تنزل بالإنسان، وفي الظروف العسيرة التي يمر بها، إذ ساعتها لا ملجأ إلا إلى الله عز وجل، والعودة إلى النهل من معين الإسلام.
                      ففي أوقات الشدة تضطرب النفس، و يأخذ الجزع بمجامعها، فلا تجد شيئا بين يديها تدفع به ما هي فيه من ضيق، وقلق، ورهبة، غير الإقبال على الله عز وجل، ثم التسليم بقضائه وقدره، والإنسان في مثل هذه المواقف يكون في حاجة ماسة إلى الإيمان الراسخ، الذي يغذي العقل والقلب معا،ثم إن الكثير من التجارب الواقعية تفضي بالذات الإنسانية إلى إدراك القيمة الثمينة التي تنطوي عليها نعمة الإيمان بالله تعالى، الذي يسع عباده برحمته بعد قنوطهم.
                      ثم إن الإنسان ساعة الشدة والجزع يجد نفسه أمام خيارين اثنين: إما أن يطمئن بالإيمان ويرضى بالابتلاء، أو يسلم القياد لليأس ويذعن للقنوط والقلق، ففي الخيار الأول عزاء ورجاء، بينما في الخيار الثاني تمزق وشقاء كبير.
                      إن الإنسان عندما يستشعر حقيقة ومبلغ ضعفه، ويضطر في وقت معين إلى الاختلاء مع نفسه، متأملا ومحاسبا إياها، فإنه في الغالب يقر بدونية شخصه وعجزه تحت حكم الله تعالى، لأنه ذو طاقة محدودة، وذرة في كون فسيح يشمل موجودات أشد منه خلقا، إنها لحظة الوعي بالذات والعالم، ووقفة في مجرى الزمن يتحدث أثناءها المرء إلى نفسه تارة، ويحاورها تارة أخرى، وينادي خالقه نداء خفيا؛ بل هي لحظة التوبة والعودة إلى الله عز وجل، التي قد لا تكتب للإنسان الضال إلا مرة واحدة في حياته، والتي قد يحول الموت بينه وبينها في أية لحظة، إنها اللحظة التي تعادل عمر الإنسان كله.
                      ثم إن شبه القطيعة القائمة بين الذاتية العربية وحقيقة الإسلام لا تزال تحول دون تحقيق التوازن الطبيعي للحياة الإسلامية في العالم العربي، لأن عمق الانفصال الذاتي العقدي، سواء عن قصد أم عن جهل، أفرز وهما سرعان ما تحول إلى قناعة زائفة بجدلية الاغتراب المتبادل بين الإنسان العربي والإسلام، الذي صار كما جاء لأول مرة غريبا بين الناس، بعدما اطمأنت إليه النفوس واحتمت به من أي زيغ أو انحراف محتمل، أما اليوم فإن استبداله يتم في العالم العربي بمتاهة القيم والنظريات الوضعية، ودوامة التجريب، بدعوى التغيير، والتجديد، والحداثة.
                      إنها تجربة الانسلاخ عن الإسلام، التي تخوضها الذات العربية تحت تأثير الجهل و تأليه أهوائها، فترى الدين مضيعة لدنياها وحياتها، وقرينا ملازما للجمود، والموت، والأحزان المتراكبة، وعندما ينغمس الإنسان في طلب وإيثار الجانب المادي من الحياة، ويعكف على إثارة نزواته و نفسه الأمارة بالسوء، فإنه يتوهم العثور على السعادة بعيدا عن الدين، لكنه عاجلا ما يرى ذاته محاصرة بالضياع و الفراغ الروحي.
                      ثم إن الإنسان العربي الضال عن عقيدته الإسلامية عندما ينظر في نهج حياته ملتمسا له معنى أو وزنا وقيمة يطمئن إليها، فإنه لا يصادف سوى الحيرة، والشك والاضطراب، ولا يعثر في مجمل سلوكه على أي دليل يشهد له بسواء السبيل، في حين يصطدم بالخيبة، والعبث، والفوضى، وخلال هذه اللحظة فقط تسقط غشاوة الجهل والانبهار بالحياة المادية، فتعود الذات إلى وعيها بنفسها وبعقيدتها.
                      إذن فمن قلب التجربة الفردية، تستخلص الذات العربية درجة انحرافها وزيغها عن تعاليم عقيدتها، وتكتشف مدى ابتعادها عن جوهر الدين الإسلامي، ومبلغ ضياعها في غمرة الفهم السطحي للإسلام، مما جعلها تسقط في محاكاة السلوك الشاذ عن الفطرة السليمة، وتعاني من غياب التوافق بين معتقدها ونهجها في الحياة.
                      إنه انفصام الشخصية العربية، وانحراف الذات المسلمة، التي استبدلت عن جهل الذي هو خير بالذي هو أدنى، فعاشت تكابد آلاما وشقاء مفترسا، نتج عن سوء الاحتكاك بالحياة الغربية الأجنبية، والإحساس بالنقص والدونية، الذي أخل بتوازن الإنسان العربي المسلم، وأذكى فيه اندفاعا وتهافتا أعمى على مظاهر الحياة الغربية المناقضة من حيث الغاية والوسيلة للروح الإسلامية.
                      إن مبدأ الثنائية الذي يعبر عنه الإنسان بجسده المادي من جهة، وبالحياة الروحية التي تدب فيه من جهة ثانية، لهو دليل يهتدي به من خلال العقل إلى أن الوجود بأكمله متألق من عنصري المادة والروح، وقائم على اعتدالهما وانسجامهما، إذ ليس لأحدهما سلطان على الآخر، وليس لكليهما سلطان على الأفراد، فقط وحده الإنسان هو الذي يملك السلطان في حدود التوفيق بينهما، والحفاظ على توازنهما.



                      د. أبو شامة المغربي
                      kalimates@maktoob.com

                      تعليق

                      • أبو شامة المغربي
                        السندباد
                        • Feb 2006
                        • 16639


                        #41
                        رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر

                        أدب السيرة الذاتية الحديثة في ظل الإسلام

                        (الجزء الثاني)

                        ثم إن من عادة الإنسان أن يؤجل كثيرا من الأعمال والمبادرات التي تجول بخلده، على الرغم من الأهمية البالغة التي تنطوي عليها في كثير من الأحيان، حتى بحث المرء عن ذاته والوقوف على حقيقتها، وكذا محاولة العثور عن إجابة الكثير من الأسئلة المصيرية يتم تأجيلها مع مرور أيام الحياة الدنيوية القصيرة؛ بل حتى التوبة إلى الله عز وجل مؤجلة، وكأن الذات الإنسانية تستشعر عجزها عن مقاومة هذا التأجيل في حاضر وجودها، ولا تترقب تجاوزه إلا في المستقبل، فهل هذا دليل على إن نزوع الإنسان إلى التأجيل هو جزء من حياته اليومية؟
                        إن العناء كل العناء في أن يفقد المرء كل معنى لحياته، ويستسلم للقلق والشك، والأوهام والهواجس التي تعبث بنفسه وعقله، وتحجب عنه الغاية من وجوده بين الأحياء؛ فالإنسان غالبا ما ينتصر للجانب المادي من الحياة، ويتخذ المادة هدفا ومطلبا له دون الجانب الروحي، فيخيل إليه أن الدين عامل معاكس يقيد نشاطه، ويحد من حركته، ويحول بينه وبين السعادة المنشودة.
                        ولا شك أن شقاء الإنسان ومعاناته تتضاعفان كلما أمعن في الاستعلاء بالعقل على صوت الفطرة، اعتقادا منه بأن الكائن العاقل مؤهل دون باقي المخلوقات للإحاطة بعالم الغيب، لكن لما تعذر عليه نيل وتحصيل المعرفة الغيبية، فإنه نفى وجودها، ولم يقر ويعترف إلا بما هو محسوس مادي، ثم استبعد الشك في قصور وعجز عقله، وزج بنفسه في غمرة الإلحاد، ونحى بها وجهة شاذة لا تطيق المضي فيها.
                        إن الجدل والعناد من طبائع البشر، إذ الإنسان يسرف كثيرا في الثقة بنفسه والاعتداد بعقله، ويسرف أكثر في إطلاق الأحكام والانتصار لها بغير علم، في حين يجهل الوظيفة الحقيقية والطبيعية للعقل، ولا يعي جيدا الحدود الأصلية التي تنشط فيها هذه الملكة وهذه الطاقة الحيوية التي أودعها الله عز وجل فيه، حتى إذا سقط في أسر أناه المتضخمة، وخدعته جاذبية ذاته، لم يتبين الغاية من حياته الفكرية، والهدف من ممارسة التفكير، والنظر، والتأمل.
                        وأول ما يغيب عن المرء سهوا أو تجاهلا منه، هو أن أصل ماهيته مشترك بين المادة والروح، فيفضي به هذا الجهل المركب إلى تأليف قناعات واهية حول الحياة، والكون، والإنسان، وباقي الكائنات الحية، ثم الاحتفال بالمحسوس من الموضوعات دون المجرد منها، مع الإغراق في جدال عقيم في شأن وجود الله تعالى، ومدى قدرة الإنسان العقلية وقوته الذهنية، ثم إن صوت الفطرة السليمة لم يضعف في أي زمن من الأزمان أمام نداء العقل، لأن الفطرة والعقل صوت واحد، ونداء موحد نابع من مشكاة واحدة، يهتدي به الإنسان في حياته الدنيا من أجل بلوغ الحياة الأخرى بسلام.
                        أما الإحساس بالاختلاف أو التناقض بينهما فهو من قبيل الوهم البشري، لأن كلا من العقل والفطرة هما مجرد وسيلة مسخرة ليخلص الإنسان إلى حقيقة ونهاية واحدة، وهي الإيمان بوجود الله وتوحيده، ثم الاعتقاد في الإسلام الذي ارتضاه الخالق تعالى لعباده جميعا.
                        إنه الاعتراف بالإيمان والاعتقاد في الله عز وجل، القائم على ثلاثة مستويات، هي: الوراثة، والشعور، والتفكير؛ إنه إيمان راسخ عن طريق التقليد والمحاكاة، والقلب، والعقل، وهذه ثلاثة مصادر تستقي منها الذات الإنسانية استواء إيمانها، ثم إن الإيمان المقصود في هذا السياق، يبدو للوهلة الأولى مركبا من مصادر متكاملة، أدناها الوراثة أو التقليد، وأعلاها التفكير أو العقل، بينما هو في واقع الأمر ليس كذلك، لأننا أمام ثلاثة ضروب من الإيمان، كل منها قائم بذاته ومستقل بطبيعته، لكنها مصادر إيمان لا ينفي بعضها بعضا، وإن كان الإيمان بالوراثة هو غير الإيمان بالقلب أو العقل.
                        إن الإيمان بالله عز وجل، الذي يستند إلى الفطرة والعقل معا، هو الذروة في الاعتقاد والعبادة، لأن الخالق تعالى لا يعبد بالجهل، وكذلك الإسلام لا يتخذ دينا بكيفية اعتباطية، أو حسب أهواء المخلوق؛ بل إن الاعتقاد في الله عز وجل وفي الإسلام يقوم على العلم و يرسخ به.
                        ب ـ الذات الغربية و الإسلام
                        إن اللقاء الذي يجمع بين الذات الإنسانية والعقيدة في فضاء أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يزداد إثارة وقوة عندما يتم بين الأنا الغربية وغير العربية عموما والإسلام، لأنه لقاء بين كائن مضطرب حائر وعقيدة ثابتة ومعتدلة، تقوم على توازن تام وانسجام متكامل، ثم إنه لقاء بين إنسان ضائع لا يستقر على حال ونظام تغمره الحياة.
                        ولا شك أن الذات الغربية هي أفضل من يقر للإنسان العربي المسلم بتفرد حياته، ويعترف بامتياز عقيدته، وذلك بناء على تجليات ملموسة بسند علمي، والأمثلة متعددة في هذا الباب، نكتفي منها بذكر ما خلص إليه جاك بيرك ( JAQUES BERQUE )، و هو أحد أعلام الاستشراق الغربيين، الذي رأى في علاقة الغرب بالشرق، أو عما أسماه الخطيئة الأولى، سببا رئيسا في الصراع الكبير الذي نشأ داخل المجتمع العربي، وفي قلب الذهنية العربية أيضا.
                        لقد ذهب جاك بيرك ( JAQUES BERQUE ) إلى الاعتقاد في كون الدافع الذي كان من وراء اعتناق عدد من الغربيين الإسلام، قد تمثل في ضيقهم الشديد بالحضارة الغربية المستعبدة من طرف المادة والآلة، وشعورهم بأن الحقيقة الأزلية كامنة في البلاد الشرقية، حيث السلوك العربي الإسلامي يتمثل في التكامل والانسجام مع الطبيعة، بعيدا عن عوامل وأسباب القلق، والشك، والتمزق، التي تمثل جوهر الصراع الدائم في عمق الذات الغربية.
                        ولا شك أن قوة الجذب التي تعد من العناصر الأساسية التي تميز الإسلام كان لها عظيم الأثر على طائفة من الشعوب الغربية، التي رأت في هذا الدين تتمة للنصرانية، ومن ثم لم تجد نفسها غريبة داخل الوسط الإسلامي، فكانت تجربة الدخول في الإسلام فريدة من نوعها، ونتيجة للحظة اكتشاف ويقظة في وسط اجتماعي ينكر وجود الله عز وجل، ويتخذ المادة إلها معبودا، والتقدم المادي دينا، وداخل محيط فاسد مختل تلسع الإنسان فيه عزلة رهيبة.
                        إن الشك العقدي الذي قاد إلى الثورة على الدين في العالم الغربي، بقدر ما كان نتيجة للصورة المشوهة التي أعطتها الكنيسة الأوربية للعقيدة المسيحية من ناحية، وتضييقها الخناق على العلماء والحركة العلمية، وإلزامها الناس كرها بالخرافات والأكاذيب باسم الخالق من جهة ثانية، بقدر ما كان سببا مباشرا وباعثا لدى فئة عريضة من الغربيين بوجه عام على إثارة مسألة البحث عن بديل ديني خارج البلاد الغربية، ثم إعادة النظر في العديد من المفاهيم والقيم، وعلى رأسها مصدر الوجود البشري والكوني، ومفهوم الحياة، وممارسة النقد الذاتي والاجتماعي، من خلال تقييم التجارب الحياتية الفردية والجماعية في العالم الغربي على كافة المستويات.
                        إن حضور الذات الغربية المسلمة بمختلف تجاربها الواقعية يضفي على السيرة الذاتية الإسلامية واقعا فريدا من نوعه، يعكس تجليات الوجود الإنساني المتأثر بالإسلام، وهذا ما حدا بعدد من الكتاب الأجانب إلى سرد تاريخهم الخاص، بقصد الإدلاء أولا بشهادة في حق الإسلام، الذي له من الفضل عليهم بإذن الله عز وجل ومشيئته ما لا يستطيعون له حصرا، وثانيا بهدف أن تكون شهادتهم تلك أحد أسباب الدعوة إلى الإسلام، وتعبيرا على وعيهم بحقيقة ذواتهم المعتقدة، ثم منبرا أدبيا يتحدثون منه إلى غيرهم بنعمة الله تعالى عليهم.
                        ثم إن اهتمامات وتوجهات الذات الأجنبية شكلت لديها معاناة من طبيعة خاصة، فقدت في غمرة حيرتها وقلقها معنى الحياة الهادئة المستقرة والآمنة، خاصة أن الدين عند النصارى يكتسي صبغة شخصية، وأن مجال تدخله ينحصر فقط في الأخلاق والمعتقدات، ولا يتجاوزها إلى العلم والسياسة، ومن ثم تعددت العوامل المعاكسة التي حولت وجود الذات الغربية إلى جحيم لا يطاق، وزجت بالإنسان الأوروبي في متاهات وضياع شبه مطلق.
                        ويذكر روجيه جارودي ( ROGER GARAUDY ) عددا من أدباء الغرب، الذين أدركوا القرن التاسع عشر، وكانت لهم آراء متفقة في كثير من الأحيان، ومتضاربة في حالات نادرة حول الشرق العربي والإسلام، فقد ألف وركب كل من فيكتور هيجو (VICTOR HUGO )، وفلوبير
                        ( FLOBERE ) بخيالهما شرقا تافها لا قيمة له، وكذلك فعل شاتوبريان فرنسوا روني دي
                        (CHATEAUBRIAND FRANCOIS - RENE DE )، وكان بدوره حاملا لإرث ضخم من الأحكام الجاهزة و الملفقة على الشرق، تراكمت في عدة قرون، بحيث لم تكن نظرته إلى الشرق إلا من زاوية رومانسية انطباعية، متهما المسلمين بجهل الحرية، وعبادة القوة، أما لامارتين ( LAMARTIN ، وجرار دي نرفال ( GERARE DE NIRVALE ) فلم يجدا في الشرق سوى الفراغ والجهل.
                        ثم إن رولان موسينييه ( ROLAND MOUSSINIER ) يرى بأن صورة الإنسان العربي المسلم في ذهن الإنسان الغربي تتمثل في ذلك التركي أو ذلك الشرقي الذي يقف معه على طرفي نقيض، مثل ما يناقض الشرق العربي الإسلامي البلاد الأوروبية، ومن بين أمثلة الرأي الآخر المعاكس في العالم الغربي، اعتراف هيردر ( HIERDERE ) بأن العرب كانوا أساتذة أوربا.
                        وكتب غوته يوهان وولفكانك فون ( GOETHE JOHANN WOLFGANG VON ) في أواخر القرن الثامن عشر سنة 1774 للميلاد شعرا يمدح به الرسول عليه الصلاة والسلام، و دعا إلى الهجرة نحو الشرق ليستمد منه أهل الغرب دما جديدا، وكان غوته ( GOETHE ) يرى في الإسلام عقيدة تقيم بناء المجتمع على العمل لا على التواكل.
                        إن دراسة الإسلام في كثير من مؤلفات الكتاب الغربيين، وكذلك نظرتهم إلى الشرق العربي، لم تتم بكيفية موضوعية، وفي أجواء بريئة من التعصب العقدي والفكري؛ بل إن معظم الأعمال سخرت لطمس حقيقة الإسلام وحضارة الشرق العربي معا، ولم يكن هذا الواقع العدائي أمرا مثيرا أو موقفا غير منتظر، ذلك لأن الإنسان الغربي كان كثير الشرود في أوهامه، وأحقاده، وتصوراته حول الإسلام، والمسلمين، والبلاد العربية، التي كانت بالنسبة إليهم مسرحا للأساطير المختلفة، وأرضا مغمورة تغري باكتشاف مجاهلها وخوض المغامرات فيها.
                        ولا ريب في كون هذا الحكم المسبق، وهذه الصورة المظلمة المأخوذة عن الإسلام والمسلمين، والتي يكتسي تكسيرها ونقضها من قبل الذات الغربية المهتدية إلى الإسلام أهمية بالغة في وسطها الاجتماعي، تعكس أحد الأسباب المتعددة، التي تكرس على مستوى آخر اغتراب وعزلة الإنسان الغربي المسلم في العالم الغربي.
                        إن المواجهة بين العالمين: الغربي والعربي الإسلامي كانت حضارية شاملة، ومن ثم تحول الإسلام إلى عقدة مترسخة في الذاكرة الغربية الجماعية، هذا بالإضافة إلى أن الحركة الاستشراقية غذت النظرة العدائية لدى الإنسان الغربي تجاه الإسلام، من خلال نشاطها المكثف الذي لم يكن في أساسه بحثا علميا خالصا، وإنما كان عبارة عن حملة تبشير حاقدة على الإسلام، تهدف إلى خدمة الكنيسة والقوى الاستعمارية؛ لقد كان العالم الإسلامي وما يزال في الثقافة والعقلية الغربية بنية سياسية إيديولوجية عدائية.
                        ثم إن الأصوات التي ارتفعت داعية أهل الغرب إلى إنصاف الشرق واحترامه، ودراسة الإسلام بعد الإطلاع والتعرف عليه بعيدا عن الأحقاد والأحكام المسبقة، وذلك بالتخلي عن جميع أخطاء القرون الوسطى، سواء منها الفكرية أم العقدية، التي أوهمت الإنسان الغربي بدونية شعوب الشرق، وصورت له الإسلام عدوا للمسيحية، وبؤرة للفساد والجهل، وسفك الدماء؛ جميع تلك الأصوات تعالت أيضا منتقدة العالم الغربي من خلال قيمه، ومفاهيمه، ومظاهره الزائفة، حتى إن جميع الشهادات الواردة في هذا الشأن تتفق وتتكامل في الكشف عن قمة الشقاء والانحراف في حياة المجتمعات الغربية.
                        لقد أدرك كل من دخل في الإسلام، من الغربيين خاصة، أن العلاقات الإنسانية في المجتمع الغربي قائمة على الزيف، والخداع، والخبث، واستثارة الغرائز، وتهييج الشهوات الحيوانية، ذلك أن رعاة الحضارة الغربية يعلمون تمام العلم أن هذا النمط الحضاري يتغذى على الخلاف والتمييز العنصري، وعلى الأكاذيب والحجج الواهية، كما يجتهدون ما وسعهم الاجتهاد في سبيل طمس فطرة الإنسان، والقضاء على مشاعره، وقتل رغبته في معرفة الحقيقة.




                        د. أبو شامة المغربي
                        kalimates@maktoob.com

                        تعليق

                        • أبو شامة المغربي
                          السندباد
                          • Feb 2006
                          • 16639


                          #42
                          رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر


                          أدب السيرة الذاتية الحديثة في ظل الإسلام
                          (الجزء الثالث)

                          إن السمات التي تطبع أدب السيرة الذاتية الإسلامية الأجنبية ـ قديمه وحديثه ـ كون الذوات المهتدية والمنتجة له لا تكتفي بسرد أطوار تحولها من الكفر إلى الإيمان، والقول بأن الإسلام هو الدين الحق؛ بل إنها تزيل القناع عن وجه الحضارة الغربية المادية بقصد كشف زيفها؛ إنها تتخذ من حدث دخولها في الإسلام مناسبة للإسهام في تعرية ما تعيشه الأوساط المجتمعية الغربية من تمزق روحي، وما يتلاطم في عالمها من أباطيل ومعتقدات غريبة، ينفر منها عقل الإنسان السوي وتنكرها روحه.
                          ثم إن جميع الأصوات الغربية التي تعالت منتقدة حضارة الغرب على غلوها المادي، ومآخذة على الأوساط الاجتماعية الغربية إسرافها في التحامل على الشرق العربي الإسلامي وعلى شعوبه المسلمة، بقدر ما كانت شاهدة على قوة الإسلام وبراءته مما ينعت به من قبيح الصفات، وما يحاك حوله من شبهات وافتراءات، بقدر ما لم تتردد في توجيه انتقادات شديدة ودقيقة جدا إلى الإنسان العربي المسلم، بحكم الصورة الباهتة التي يظهر بها إلى جانب قوة ووضوح الإسلام.
                          فمالكولم إكس ( MALCOLM X ) مثلا يستغرب من درجة التقصير التي بلغها العرب المسلمون، والإهمال الذي اقترفوه في حق الدعوة إلى الإسلام، ويؤاخذ عليهم إنكارهم للأهمية التي يتسم بها الحوار مع غير المسلمين في سبيل الدعوة الإسلامية، وضعفهم البين في كيفية التواصل مع الشعوب غير المسلمة باعتماد وسائل تبليغية مناسبة، إذ يعتقد الكاتب أن توظيف مشهد الحج لوحده خارج العالم العربي الإسلامي من شأنه أن يضاعف ثلاث مرات عدد المهتدين إلى الإسلام، باعتبار ما تنطوي عليه صورة هذا المشهد من رسالة روحية عميقة الدلالات، يستطيع كل إنسان أن يقرأ مضامينها دون عناء أو مشقة.

                          فالذات العربية المسلمة في العصر الحديث، في نظر الغربيين وغيرهم ممن اعتنقوا الإسلام، هي ذات ضعيفة بالمقارنة مع أسلافها، إذ تفتقر إلى الثقة بالنفس، وترغب عن طلب العلم، وتنأى عن تجديد إيمانها بالله عز وجل وبالعقيدة الإسلامية في حين تتخذ التقليد الأعمى منهجا لها في الحياة، وتتهافت على ثقافة الغرب الدائرة حول وثنية المادة.
                          ثم إن من الشهادات الانتقادية الموجهة إلى الإنسان العربي المسلم، والتي نصادفها في خطاب السيرة الذاتية الغربية الإسلامية الحديثة، ما اكتشفته إميلي براملت
                          ( EMILIEBRAMLET ) القادمة من أمريكا حيث تسود القيم المادية إلى البلاد العربية حيث تكسر أفق انتظارها، إذ وجدت العرب المسلمين يتهافتون على المنصب والمال، ويسرفون في الاهتمام بالمظاهر بدل الانشغال بالجوهر، فهم يجمعون بين الصلاة لله عز وجل وظلم بعضهم بعضا، ومما استرعى انتباهها أنها وجدت القرآن الكريم بينهم مهجورا، بحيث لا يقرؤونه إلا ليطربوا بأصواتهم أو ليتخذوه زينة في المناسبات فقط.
                          أما محمد أسد ( LEOPOLD WEISS ) فينتقد العرب المسلمين مستفهما إياهم ومستغربا في ذات الوقت من فقدهم الثقة في أنفسهم ؟‍‍!! و هي التي مكنت أسلافهم في الماضي من نشر الدين الإسلامي في أقل من مائة سنة، ومن استسلامهم في ضعف شديد لعادات الغرب وأفكاره، وسقوطهم في وثنية المادة التي تردى فيها العالم الغربي، حتى صاروا أمة محتقرة، ثم تنكرهم للإسلام الذي أنار العالم، في زمن كان فيه الغرب غارقا في الجهل والهمجية ؟‍‍‍!!
                          ويتوجه عبد الكريم جوصو بالنصح للمسلمين، وهو نصح نقرأ فيه كثيرا من النقد الموضوعي الذي يشمل ظاهر المسلمين وباطنهم في آن واحد، بحيث أن الكاتب يحث المسلمين من خلال الشعب التونسي، بعد أن وقف على حقيقة الإسلام ودخل فيه، على التمسك بتعاليم دينهم الحنيف، والحفاظ على أصالتهم والإرث المجيد الذي خلفه أجدادهم، مذكرا إياهم بما للتقليد الأعمى، واتباع آثار الغربيين من عواقب وخيمة، وأن المهابة والإحترام لا تكتسب باعتماد هذا النهج في الحياة.
                          إن الإنسان العربي المسلم الحديث في مرآة كل من دخل الإسلام من أهل الغرب، هو ذات مقصرة في حق نفسها أولا، وفي حق الرسالة أو الأمانة التي كلفت بتبليغها ثانيا، وفي حق من لا يعرف عن الإسلام شيئا، أو من يجهل الإسلام الحقيقي ثالثا، ومدار هذا التقصير في القيام بالواجب هو إغفال وتجاهل الدعوة إلى الله وإلى الإسلام، وعدم بذل الجهود في سبيل تعريف غير المسلمين بآخر الرسالات وتقريبهم من حقيقتها.
                          وأما إيبيانك مودوا دي ساراواك ( IBIANKMODWA DE SARAWAK ) فتتوجه بالنقد من جهة إلى المسلمين، وخاصة العلماء بالدين الإسلامي منهم، الذين لم يعملوا على نشر الإسلام في سائر بقاع العالم، ولم يكلفوا أنفسهم عناء التعريف بتعاليمه، والاجتهاد في تبليغه بكيفية مناسبة، كما تتوجه بنقدها من جهة ثانية إلى أكثر أبناء بيئتها الغربية، الذين لم يبادروا إلى البحث عن الدين الحق، ولم يحدثوا أنفسهم بالسعي إلى معرفة الإسلام.
                          وإذا كانت الذات المهتدية إلى الإسلام تحرص على كشف ما تواريه الكنائس في البلاد الغربية من خداع وأكاذيب، وما يخفيه رجالها من ممارسات وطقوس، فإنها كذلك تنقد العرب المسلمين، وتسدي إليهم النصح، وتحثهم على التمسك بتعاليم الإسلام، والغيرة عليه، واتخاذ تلك التعاليم سلاحا في وجه من يكيدون لهم في الخفاء والعلن.
                          ولقد تنكر رعاة الحضارة الغربية لكل ما يصل الحياة الروحية بسبب، إلا المادة فإنهم اتخذوها مدارا لإنشغالاتهم، ومبلغ علمهم في حياتهم الدنيوية، إذ لما تعذرت عليهم معاينة الروح أنكروا وجودها، ثم جردوا العلم والمعرفة من كل هدف أخلاقي، فأسقطوا حضارة الغرب في دوامة الفوضى و متاهة الغموض.
                          أما روجي جارودي ( ROGER GARAUDY ) فيرى أن ما يسمى بالعلم الغربي ما هو إلا نتاج عقل مشوه، لا يطرح من الأسئلة إلا ما يتـصل بالكيفية، في حين لا يحاول أن يسأل لماذا؟ وهذا يعني أن ثمة فصلا وقطيعة في (العلم) الغربي بين الاستفهامين: (لماذا؟) و(كيف؟)، أو بالأحرى هناك تغييب مقصود للسؤال الرئيس: "لماذا؟"، وبهذه القناعات الفردية خرجت الذات الغربية من تجربتها الروحية بكل أبعادها في وسط اجتماعي يسوده الاختلال والفراغ الروحي، إذ بعد أن استعرضت متلقية ومنتقدة جميع ما عاينته بكل قواها وحواسها الإدراكية، وبكامل وعيها السليم، تأتى لها أن تتجاوز واقعا منحرفا ومناقضا لطبيعة الإنسان وطموحه إلى السمو، وبذلك تمكنت من العثور على ماهيتها في الإسلام.



                          د. أبو شامة المغربي

                          تعليق

                          • أبو شامة المغربي
                            السندباد
                            • Feb 2006
                            • 16639


                            #43
                            رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر


                            أدب السيرة الذاتية الحديثة في ظل الإسلام
                            (الجزء الرابع)

                            ثم إن الذات الغربية الباحثة عن الدين الحق تستجمع قواها المدركة في أجواء خانقة، لتنظر في محيطها الاجتماعي نظرة متفحصة، وذلك بقصد الكشف عن أسباب فساده ودماره، لكنها تفاجأ وهي على درب اللقاء بالإسلام بعالم يعبث به أهله بقدر ما يعبثون بأنفسهم؛ إنهم تبع للأهواء والشهوات التي تقذف بهم في متاهة الشقاء ودوامة المآسي.
                            وتقف الذات الغربية المهتدي إلى الإسلام، بعد رحلة بحث طويلة عن حقيقة المعتقد الروحي، ليدلي بشهادة حية من قلب المجتمع الغربي، ثم إنه يتخذ من نفسه عبرة للآخرين، ويبسط أمامهم كل المظاهر التي تقيد بها في سابق حياته المظلمة، من أهواء، ونزوات، وانحرافات، وضلال بعيد، حتى إن جميع الذي يسرده تصريحا يعد في آن واحد تلميحا للعديد من الممارسات والسلوكيات المتنافية والمتعارضة مع الفطرة البشرية السوية.
                            ثم إن بؤرة الاهتمام الأولى لدى الإنسان الغربي محصورة في البحث عن مركز ثابت في عالم لا يزداد إلا اختلالا واضطرابا، وللعثور على هذا المركز الثابت لا بد من الاستعانة بالتأمل والتدبر في فضاءات موحية خارج الذات، لكن بشرط أن تتم هذه التجربة الروحية بتجاوب مع عناصر الكون، وليس من خلال الدخول في صراع معها، ولابد كذلك من أن ينسحب الأثر الفعلي للتجربة على عمق الكيان الإنساني، لأن بناء الذات من الداخل وتطهيرها هو المقصود والغاية المتوخاة في النهاية.
                            إن الذات الغربية المهتدية إلى الإسلام تهدف من وراء مبادراتها الاعترافية وشهاداتها إلى إسقاط القناع عن وجه السعادة الوهمية التي يدعيها أهل الغرب الضالين، ثم إنها ترغب في أن تجعل من نفسها مرآة ينظر فيها كل من حول حياته إلى أنفاس تتصعد في شقاء ومأساة إنسانية كبيرة.
                            ولا شك أن الذات الغربية تصطدم في وسطها الاجتماعي بالتقاليد العقدية المبتدعة والغريبة جدا، والمتضاربة إلى أقصى حد، والسلوكيات الشاذة، ومن ثم تغدو مسألة الاختيار والمفاضلة، وحتى المقارنة في ما بين التوجهات الدينية المزيفة بالنسبة إلى هذه الذات سياجا من الحيرة، والقلق، والشك، يحيط بها من كل ناحية، وجميع هذه العوامل المؤثرة تدفعها إلى السقوط في صراع وهمي بين حياتها العقلية وحياتها الروحية، فتزداد حدة معاناتها.

                            ففي قلب وضع متأزم، وعلى عتبة اليأس والإحباط، تبحث الذات الغربية عن ملجأ تأوي إليه، وعن قوة تعصمها من الضياع والضلال، فلا يسعها في نهاية المطاف إلا أن تستغيث بالله عز وجل خالقها وهاديها إلى الحق، وعندما تصطدم الذات الغربية بواقعها المأساوي، في وسط اجتماعي يسوده الفراغ الروحي، فإنها تعمل على بناء قناعات جديدة، وتقوم بهدم كل فكرة مسبقة، أو حكم موروث، قد يتسبب بشكل مباشر في إبعادها عن الحق ومعرفة الوجهة السليمة؛ إنها تهدف بمجموع ردودها الفعلية إلى بناء معنى جديد ودلالة مغايرة لوجودها، ولعلاقاتها مع الذوات الأخرى من جهة، ومع موضوعات وعناصر العالم من حولها.
                            لقد كانت حياة ماري ويلدز ( MARIE WELDS ) قبل اهتدائها إلى الإسلام عبارة عن رحلة في ظلمات متراكبة من الشقاء، واليأس، والغربة، والضياع؛ إنها كانت تنظر بغضب إلى جميع ما يحيط بها، فبدت لها حياتها وحياة الناس من حولها عبثا، ولم يكن أمامها من خيار للنجاة من تأزمها سوى أن تبحث عن الأسباب الحقيقة لما تعانيه من صراعات وتناقضات، وأن تحاول العثور على الأجوبة الجوهرية في الحياة.
                            ولا شك أن هذه التجربة تعتبر قاسما مشتركا بين الغربيين، الذين يفضي بهم البحث عن المعتقد الحق إلى الدخول في الإسلام، إذ أن أول سؤال يتعين على الذات الغربية أن تحسم في الإجابة عليه هو: أين الدين الصحيح، الذي لا زيف فيه ولا تحريف، وسط هذا الكم من العقائد الموضوعة والمحرفة؟
                            صحيح أن الذات الغربية لما تضع هذا السؤال على رأس الاستفهامات، بعد الاعتقاد طبعا في وجود الله عز وجل، تجد نفسها حائرة في مفترق طرق عقدي، ويذكرنا هذا الوضع أو هذا الموقف بالتجربة التي عاشها إبراهيم عليه السلام قديما، وذلك عندما شرع في البحث عن الخالق تعالى، فوجد نفسه مضطربا حائرا بين الشمس، والقمر، وأحد الكواكب، وكذلك يجد الإنسان الغربي، الذي يبحث عن الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، نفسه في حيرة من أمره بين البوذية، والمجوسية، واليهودية والمسيحية المحرفتين.
                            وإذا كان أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام قد اهتدى في النهاية إلى عبادة الله الملك الحق، فإن الإنسان الغربي يهتدي إلى الإسلام بعد بحث قد يطول وقد يقصر، بعدما كان يستشعر بداخله تلك الحاجة إلى منارة يهتدي بها في عتمة الشك والحيرة إلى دين يطمئن إليه، ويستطيع أن ينهج تعاليمه المتكاملة في الحياة، وهو واقف على عتبة الهداية.
                            إن الذات الغربية تكتشف بداية تحولها السريع على مستوى الشخصية بمجرد ما توحد الله عز وجل وتخلص له العبادة، وعلى درب الحقيقة تأخذ حياة الفرد العائد إلى الله تعالى مسارا مغايرا، وتتبدد كل الأوهام التي كانت تحجب عنه الرؤية السليمة، بحيث تنهار جميع للقيم المزيفة، والإقتناعات الواهية التي كانت تقيده، ومن ثم تخلو الذات بنفسها بعيدا عن سجن الحياة المادية العبثية، المرتدية لألف قناع وقناع، والمثقلة بكثير من ألوان الإغراء، لتتحقق أخيرا من أن الوحدة في باطن ذاتها وفي عمق الكائنات هي الجوهر والأصل، بينما الذي كانت تعانيه من تأزم وتمزق ما هو إلا دخيل عليها وعارض لها.
                            إن الحاجة الملحة إلى تحقيق كيان إنساني متوازن تتخذ شكل حلم فردي، وذلك على امتداد المسافة الفاصلة بين بداية التحول الذاتي، الروحي والعقدي، ونهايته، وهذا الشكل الذي تتبناه الذات الغربية، وهي في طريقها إلى الدخول في الإسلام، يقوم على مبدأ الوحدة والتكامل بين أبعاد الجسد المادية وأبعاده الروحية.
                            ثم إن الذات الغربية المعتقدة في إمكانية الخروج بهذا الحلم المبدئي إلى حيز الواقع، تطمح بكل قواها ومجامع كيانها إلى الحياة في عمق وحدة ذاتية وموضوعية، متمازجة ومنسجمة، ينتفي بها الصراع المفتعل بين المادة والروح، وبين الذات والعالم، وما من شك في أن الإسلام هو ذلك الحلم الراسخ بقوة الفطرة في الذات الإنسانية، وتلك الحياة التي لم تتمكن الأنا من ضبط ملامح صورتها واستكمال بنائها دفعة واحدة، باعتبار أنها استغرقت زمنا ليس بالقصير في اكتشافها بكيفية متسلسلة، من خلال جدلية السؤال والإجابة بين الكائن الاجتماعي والعالم من حوله، وأيضا عن طريق الانطباعات التلقائية والملاحظات الدقيقة.
                            إن المثير في هذا النمط من الاكتشاف، هو أنه ليس تعرفا على واقع مجهول أو حياة غريبة للمرة الأولى؛ بل إنه وقوف على حقيقة مألوفة وقوة منظمة، تضرب بجذورها في تاريخ البشرية، ويحس الإنسان بتردد صداها في أعماقه، ذلك أن الإنسان الغربي لم يألف دينا يوازن بين المادة والروح، ويخاطب العقل والروح في آن واحد؛ بل اعتاد على أحد أمرين: إما نبذ المادة والاتجاه إلى الروحانيات، أو تبني كل ما هو مادي وتجاهل ما له ارتباط وثيق بالروح.
                            فمن زاوية هذا الاكتشاف تخرج الذات الغربية بنظرة جديدة إلى نفسها، ثم تضع مسألة اعتقادها في الإسلام داخل إطار محدد، بعد أن تتم صياغتها على شكل رؤية، لا تخلو من اجتهاد ذهني نابع من إرادة ومبادرة فردية.
                            إنها قراءة فاحصة لمختلف تجارب الحياة الخاصة والعامة، ونتيجة دراسة مسؤولة وغير مقيدة بأي خلفية مسبقة أو حكم جاهز، وبالتالي فهي إنجاز واستكمال لحلقات اكتشافية حول الإسلام؛ إننا أمام نموذج إنساني لا يرضى إلا أن يكون صريحا مع نفسه، ولا يغير عقيدته الدينية لسبب تافه، ذلك أن الذات الغربية المهتدية إلى الإسلام مدركة لما تعيشه من تحول روحي، وواعية بما يعنيه الدخول في دين الله عز و جل.
                            ثم إن روجي ( ROGER ) يؤكد على كونه ليس نتاج طفرة عقائدية، وإنما هو حصيلة حوار عميق وشامل مع مختلف العقائد، من مسيحية ويهودية، وماركسية وغيرها، وقد كان هذا الحوار طور اختبار شاق اجتازه الكاتب الغربي، ومنه خلص إلى الدخول في الإسلام، وهذا الحدث بالنسبة إليه نتيجة كبرى، وثمرة لمسيرته الحياتية، وليس محطة في طريق.
                            فبهذه الدقة في التحليل والوضوح في الرؤية، يبسط الإنسان الغربي مفهوم دخوله في الإسلام، وما يعنيه هذا الحدث البارز من بعد ودلالة، وما ينطوي عليه من تصور جلي، انطلاقا من اجتهادات فردية معينة، إذ الإنسان الذي يكون حديث عهد بالإسلام هو مؤهل أكثر من غيره لتحديد السبب المباشر في اهتدائه، وكذلك للتعريف بالخطوات الفعلية التي كانت من وراء متابعته لأطوار ميلاد ذاتية جديدة في داخله.
                            إننا أمام ذات تقرأ تحولها الفكري والعقدي من منظور علمي، فهي تصل النتيجة بالسبب، وتقسم مسيرتها الحياتية إلى تحولات متلاحقة من جهة، ونتيجة كبرى متجسدة في الدخول في الإسلام، الحدث الذي يمثل منعطفا مصيريا، وثمرة حوار كوني عميق وشامل، تتحد من خلاله الذات بالموضوع، ويطبعه التفرد والتميز.
                            ثم إننا إزاء تجربتين كبيرتين تعدان من أهم التجارب التي خاضها الإنسان حديثا، وتميز بها تاريخ القرن العشرين، إذ نستطيع أن نجمل كلتا التجربتين في قوة التمسك بالإسلام والثبات عليه، ثم في رحلة البحث المضنية والمثيرة، التي تخوض الذات الغربية غمارها، في سبيل العثور على الدين الحق والدخول فيه، وعيا منها برسالتها المتفردة والمتمثلة في الحفاظ على الأمانة التي حملها الإنسان، والقيام بأمر الخلافة العادلة والخاضعة لأمر الله عز وجل.


                            د. أبو شامة المغربي

                            تعليق

                            • أبو شامة المغربي
                              السندباد
                              • Feb 2006
                              • 16639


                              #44
                              رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر

                              أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة الأحلام والرؤى المنامية


                              إذا كان النوم يستغرق حوالي ثلث حياة الإنسان، فإن الأحلام والرؤى المنامية لها حيز تشغله في هذا الثلث، بحيث أن ذهن الإنسان النائم لا يكون في حالة سكون تام، فقد تثير المنبهات الخارجية أو العضوية الداخلية ألوانا من الصور الذهنية يراها النائم، وقد تنطوي على معان ذات دلالات، وإذا كان من الأحلام المنامية ما له صلة بمجريات النهار، وبما يرد على الذهن من الخواطر والأفكار في حال اليقظة، فإن منها ما له علاقة بما عاشه الإنسان من أحداث وخاصة من تجارب في حياته الماضية، وخاصة ما يكتسي منها سمة الانفعال والصدمة.
                              إننا لا نستثني من المكونات الكبرى لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الأحلام والرؤى المنامية)، ذلك لأننا نعتبرها بحق مكونا مثيرا ونشيطا، سواء بشكل صريح أم ضمني، ليس فقط في هذا اللون من الأدب الإسلامي أو في أدب السيرة الذاتية عموما؛ بل حتى في باقي الأجناس الأدبية وفي مختلف ألوان التعبير النثرية والشعرية، ولو أنه نادرا ما يحتفل به الكتاب المبدعون، وقل ما يلتفت إليه نقاد الأدب، حتى أن أي كاتب ـ حسب علمي ـ من المتقدمين أو المحدثين في حدود العالم العربي الإسلامي، وربما حتى في البلاد الغربية، لم يبادر إلى تأليف كتاب يسرد فيه أحلامه ورؤاه المنامية مجردة أو مصوغة بأسلوب أدبي معين.
                              ثم إن هذا الباب من الكتابة جدير بأن يلجه المبدعون، ويهتم به الباحثون والنقاد، خاصة وأن الأحلام والرؤى المنامية ما هي إلا امتداد لنشاط ذهن الإنسان، فهي مادة بإمكانها ـ إن تم توظيفها الجيد ـ أن تكون فتحا جديدا في الخطاب الأدبي، ومن شأنها أن تكون سببا في ميلاد شكل أدبي حديث ونحن نرى بأن (الأحلام والرؤى المنامية) بعض من واقع الحياة الإنسانية ومكون من مكوناتها، الذي لا زال غريقا في بحر الإهمال والجهل به، مع أنه مكون حياتي يجب اعتباره والاهتمام به.
                              ويكفي أن للأحلام والرؤى المنامية من التأثير على مسار الحياة اليومية للفرد ما لا يستطيع أن ينكره أحد، ثم إنه يمثل أحد ضروب المعرفة البشرية، الذي بإمكانه أن يساعد كثيرا على فهم الذات الإنسانية، ويسهم في إضاءة جملة من الزوايا المعتمة، واستكشاف كثير من مجاهل وخفايا الإنسان، هذا فضلا عن كون الأحلام والرؤى هي مواد تستقى منها الأفكار، والصور، والمشاهد وغيرها من العناصر.
                              ولا شك أن كل حلم منامي وكل رؤيا منامية عالم قائم بذاته، لهما تركيب، ومنطق، وسرد خاص، وفيهما يتراءى للنائم كثير من الأشخاص والمخلوقات ما يعرفه منها وما ينكره، وكذا الأزمنة، والأمكنة، والمشاهد، والأحداث، التي قد يكون طرفا مشاركا وفاعلا فيها، أو متابعا لها فقط، ثم إن من الأحلام والرؤى المنامية ما لا يخلو من الرمز، والوصف، والحوار، والخطاب الأحادي.
                              ثم إن أحلام المنام تختلف عن أحلام اليقظة، إذ يجد الإنسان نفسه في حلم أو رؤيا المنام يصدق ما يراه ويعتبره من الواقع، وإذا كانت أحلام اليقظة تتسم ببعض التماسك المنطقي والواقعي، فإن أحلام ورؤى المنام تتداعى تداعيا حرا، فحوادث الحلم والرؤيا تجري بسرعة غير مهتمة بحدود الزمان والمكان، بحيث أن الحالم أو الرأي يرى في نومه القصير أحداثا يستغرق وقوعها في اليقظة شهورا وسنوات.
                              وقد ذهب البعض إلى أن الأحلام في المنام حياة ثانية ذات تأثير على الحياة الأولى في عالم اليقظة، ثم إنها تمكننا من التعرف على ذواتنا والعالم من حولنا، ثم إن الأحلام هي وسيلة يتم عن طريقها استعادة الذات لتوازنها النفسي، فضلا عما لها من وظيفة تعبيرية.
                              ونحن نذكر من بين الكتاب العرب المسلمين في العصر الحديث الذين لم يتجاهلوا هذا المكون الخطابي (الأحلام والرؤى المناميـة) في ما تحجثوا به عن أنفسهم: أحمد أمين، وعائشـة عبد الرحمان، ونجيب الكيلاني، وعبد الكريم غلاب، ومحمد أسد، ومالكولم إكس، وكاترين دولورم، وماري ولدز وغيرهم.
                              وقد وضع محمد المختار السوسي عنوانا فرعيا في إلغياته اختزله في عبارة (متع الأحلام)، وذكر محمد المختار السوسي من جملة لقاءاته المنامية، ذلك اللقاء الذي جمعه في رؤيا منامية بطه حسين، والمثير هو أن الكاتب استغل خلاصته لبناء مقالة أدبية نقدية تخييلية، اعتمد فيها الحوار الثنائي الذي دار بينه وبين طه حسين في المنام.
                              وتكفي هذه المبادرة من الكاتب حجة على نبوغه الإبداعي، ولا أظن أن أحدا من أدباء الثلاثينات ـ على سبيل المثال ـ قد وفق إلى فكرة محمد المختار في إبراز شكل تعبيري جديد من الأدب وإخراجه إلى الوجود، والذي تلتقي فيه أحلام المنام بمجريات اليقظة، فتصير مادة واحدة ونسيجا متفردا من التخيل والحقيقة.
                              ولا شك أن محمد المختار استطاع أن يضفي طابع الرؤيا المنامية على مقاله الطويل من بدايته إلى منتهاه، إذ تمكن من توظيف كل ما تذكره واستحضره من رؤياه المنامية في حال اليقظة، والمثير للإنتباه، هي الكيفية التي استغل بها هذه الرؤيا، بحيث وفق إلى تحويلها إلى قاعدة ومنوال صالحين لبناء وصياغة مقال حواري متميز، تفضي بعض أفكاره إلى بعض.
                              إن الذي يضفي سمة مميزة على جميع المكونات الخطابية للسيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث ـ بوجه خاص ـ هو ارتباط الذات المسلمة المنتجة لها بأحداث وأطوار تاريخية متميزة، شهد العالم العربي الإسلامي بعضا منها، وعرفت البلاد الغربية والأجنبية عموما بعضها الآخر، مما أكسب خطاب السيرة الذاتية ذات الطابع الإسلامي الحديث قيمة مضافة، وذلك بفضل الكتابات التي تفسح فيها السمات و المعالم الذاتية / الشخصية البحتة المجال للمعالم الموضوعية المرتبطة بالعصر.
                              ولا شك أن هذا الإنجاز الثمين الذي حققه كتاب هذا اللون من الأدب الإسلامي الحديث، سيضع
                              بين أيدي الأجيال اللاحقة مرجعا قويا في غزارة مادته الأدبية، والتاريخية، والفكرية، والنفسية، والاجتماعية، والسياسية وغيرها من المواد التي لا سبيل إلى الاستغناء عنها من قبل أي جيل منشغل بماضيه، وحاضره، ومستقبله، ومهتم باكتساب ثقافة شاملة ذات جذور ثابتة، في ظل الطموح
                              إلى تجاوز أخطاء وعثرات الأجيال السابقة.

                              إن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يعكس ـ في ضوء مكوناته الكبرى ـ مدى تحول الذات المسلمة إلى موضوع إبداعي، وفي آن واحد يكشف عن العديد من نقط التماس في الحياة، التي يلتقي عندها الحس الذاتي بالحس الموضوعي، والوعي الفردي بالوعي الجماعي، فينشأ من هذا اللقاء ما يصح أن نصفه بسحر الخطاب السير الذاتي المتميز عن باقي الخطابات الأدبية.





                              د. أبو شامة المغربي
                              التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي; 04-12-2006, 03:00 PM.

                              تعليق

                              • أبو شامة المغربي
                                السندباد
                                • Feb 2006
                                • 16639


                                #45
                                رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر


                                إحياء أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث

                                لقد ساد في البداية الحذر الشديد لدى الذات العربية المسلمة من مقاصد الكتابة حول النفس، نتيجة لهيمنة الاعتقاد في كون التحدث عن "الأنا" أو الذات الفردية يوقع في اقتراف إحدى الكبائر المتمثلة في الرياء أو الشرك الأصغر، وكان إطلاق هذا الاعتقاد سببا أولا رئيسا في إحجام الكثيرين عن كتابة سيرهم الذاتية .
                                أما السبب الثاني، وهو عامل موضوعي عقدي صرف، فتمثل في ظهور الإسلام الذي أسهم بوضوح في تأجيل كتابة السير الذاتية حقبة من الزمن داخل البلاد العربية الإسلامية، لان التحول من الجاهلية إلى الإسلام كان حدثا كبيرا، إذ استقطب اهتمامات الإنسان العربي المسلم، وصار موضوعا لجميع اجتهاداته وتوجهاته في الحياة الاجتماعية والثقافية، فقد غدا القرآن وسيرة الرسول عليه السلام المدار والمعين الجديد الذي يغذي وينظم الحياة الإنسانية.
                                إن الكتابة عن الذات، ودور هذا اللون من الأدب في إغناء الثقافة العربية الإسلامية لم تتضح بشأنهما الرؤية سريعا، لكن مع حلول طور التأسيس لهذا النمط من التعبير، بدأت الذات المسلمة تتجاوز حذرها الشديد والمبالغ فيه كثيرا، وتراجع موقفها من فعل التحدث عن النفس، سواء شفاهة أم كتابة.
                                وبالفعل خاضت الذات المسلمة تجربة التاريخ الخاص ابتداء من القرن الثالث الهجري، لكن مختلف الأعمال والمحاولات الأولى غلب عليها الطابع التاريخي، وكان منتظرا أن يسود هذا المنحى في فضاء تلك المحاولات، التي تؤرخ لطفولة أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، باعتبار أنها تمثل أهم مظاهر طور التأسيس، الشاهدة على بزوغ وعي جديد مهد الطريق أمام هذا الكائن الأدبي.
                                ثم توالت القرون، وتراكمت بموازاة معها العديد من الإنتاجات والمحاولات المتنوعة، التي يرجع لها الفضل في إرساء عدد من قواعد وتقاليد الكتابة عن الذات؛ لكن فترة الركود التي سادت قرابة أربعة قرون - ابتداء من القرن العاشر الهجري وإلى غاية القرن الثاني عشر أو الثالث عشر الهجري - عرقلت نمو هذا الأدب ومسيرته الطبيعية، وكادت تنهي وجوده لو لم يشهد العالم العربي الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي نهضته ويقظته، التي تجسدت بوجه خاص في بعث التراث الأدبي، بما فيه جملة من الأعمال التي ألفها القدماء حول أنفسهم.
                                وكان على أدب السيرة الذاتية في البلاد العربية الإسلامية أن يمر بطورين من التكوين قبل أن يدخل عصر تجنيسه في القرن العشرين الميلادي، حيث عرف تطورا ملحوظا، دلت عليه الملامح والخصائص المميزة له بين باقي فنون القول والكتابة.
                                إن الركود الذي ساد البلاد العربية الإسلامية مدة طويلة، كان بمثابة هوة فاصلة بين أوج العطاء الإسلامي وانحطاط الأمة العربية، وكان طبيعيا أن يتعرض العالم العربي لفتور شديد نتيجة الفتن و الثورات من جهة، والجمود والجهل الذي ساد طوال القرون الوسطى من جهة ثانية.
                                ولا شك أن المظاهر المتراكبة لهذا الانحطاط أثرت بشكل كبير على مسيرة الأدب العربي الإسلامي، وقد بلغ هذا التأثير السلبي المعاكس أوجه وحدته بتضافر عدد من الأسباب والعوامل الداخلية والخارجية، ويأتي في مقدمتها التدخل الأجنبي في العالم العربي الإسلامي، الذي كان إعلانا عن بدء الاصطدام الحقيقي والمباشر بين الذات العربية المسلمة والذات الأجنبية، وهو احتكاك بين حضارتين، وثقافتين، وتراثين حضاريين.

                                د. أبو شامة المغربي
                                kalimates@maktoob.com

                                تعليق

                                يعمل...