
أدب السيرة الذاتية الحديثة في ظل الإسلام
(الجزء الأول)
إن للإنسان بعدا عقديا في هذا الوجود، لن يجد سبيلا إلى تجاهله أو الإعراض عنه مهما حاول، لأنه حقيقة ماثلة، وواقع قائم في أعماقه، والإسلام هو من يمثل هذا البعد المسلم به في عمق الحياة الروحية للإنسان، إذ ينسجم بقوة جاذبيته مع الفطرة التي يولد عليها كل فرد، ومن ثم فإن الإخلال بأركانه وتعاليمه يزج بالذات في متاهة من المعاناة والشقاء.(الجزء الأول)
وقد اتجه كثير من كتاب السيرة الذاتية العربية والغربية، في العصر الحديث إلى التعبير عن همومهم الذاتية، وذلك من خلال تصور إسلامي، يرى في الله عز وجل الملجأ والملاذ، وقد ساعدت عدة عوامل هؤلاء الكتاب على الاهتداء إلى كتابة تاريخهم الفردي ونشر تجاربهم الخاصة، وذلك في ظروف فرضت عليهم العودة إلى ذواتهم للبحث عن حقيقتها، والتأمل من خلالها في عزلة عن العالم الخارجي.
إن من بين العوامل الفاعلة في الأدب عموما، والباعثة للذات الإنسانية على كتابة التاريخ الفردي الخاص، نذكر في المقدمة طبيعة العصر الذي أظل الإنسان في التاريخ الحديث، وما نتج عن هذه الطبيعة من ظروف كان لها بالغ الأثر فيهم، ثم الإرث الذي خلص إليهم عبر الأجيال السابقة لهم، والمتمثل في مجموع الرؤى، والمفاهيم، والتصورات، والقيم، التي تحكم العلاقة ونوع التفاعل مع الذات من جهة، والغير من جهة ثانية، والعالم الخارجي من جهة ثالثة.
ولا يسع الباحث، وهو منكب على دراسة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، إلا أن ينظر في العلاقة القائمة بين محور الذات وقطب العقيدة الإسلامية، وهذا النظر يستدعي استقراء فضاء إنساني عقدي في ضوء تناول الذات المسلمة بالدرس والتحليل من خلال الإسلام، ثم بحث أدب السيرة الذاتية الإسلامية عن طريق الأنا الفاعلة فيه.
لقد دل لفظ "العقيدة" أو لفظ "الدين" على امتداد تاريخ الفكر الإنساني على كثير من المعاني والمفاهيم، قام بعضها بوحي من الله عز وجل إلى أنبيائه ورسله عليهم السلام، ونشأ البعض الآخر عن مزاعم و ادعاءات وأهواء، وعن ألوان وضروب من الرجم بالغيب، بينما نفت طائفة حقيقته وأنكرت وجوده، ثم اكتفت بالقول: إنه أسطورة من صنع خيال الإنسان، وأن لا شيء ثابت سوى العقل، وعرف آخرون الدين بمقولة "العالم الغيبي" وكل ما هو فوق الطبيعة .
منذ القدم ظل الإنسان بين العقل والدين في جدال، واضطراب، وحيرة من أمره، أينتصر للعقل؟ أم ينتصر للدين؟ أم ينتصر لهما معا ؟ أم لا يعير لأي منهما أدنى اهتمام، ويطلق العنان في المقابل للشك والعبثية ؟! خاصة وأن من العقول البشرية ما يعـشق "المادة" و"العلم" فقط، على الرغم من إحساسها بذلك المـيل الخـفي إلى الاعتقاد الروحي.
إن الإنسان قليلا ما يقر بأن العقل لا يناقض العقيدة السليمة في شيء، ولا الدين الصحيح يتعارض مع العقل أو ينتقص من قيمته، ويلغي وظيفته في الحياة الإنسانية، في حين كان على الكائن الاجتماعي العاقل أن يعي جيدا كون المعتقد السوي هو أقوى من الفكر البشري، بحكم أن الدين الحق هو الأصل والغاية، أما الفكر ففرع ووسيلة لبلوغ تلك الغاية.
ثم إن الذات الإنسانية إذا ما حاولت أن تتجاوز شعورها وحسها العقدي، أو تنسلخ بالأحرى عن الإسلام، فإنها حتما واقعة في الخلل، بمعنى أن الفكر البشري لا بد له في النهاية من الامتثال لدين الله تعالى، والانسجام معه قلبا ومظهرا، لأن قوة العقل البشري من قوة هذا الدين، أما قوة الإسلام فقائمة بأمر الله عز وجل وبقدرته ومشيئته، وهي غير متحولة أو متبدلة، بخلاف ما تنطوي عليه الذات من فكر محدود الطاقة ومتحول غير قار، وهو في حاجة دائمة إلى مركز صلب يشده إليه، ويقيم توازنه، ويسدد اعوجاجه.
إن الذات المعتقدة في الإسلام لا تخوض صراعا ضد الطبيعة، أو ضد الزمان والمكان، وهي أيضا لا تقود حربا ضروسا ضد السنن الكونية، وإنما هي تجاهد للحفاظ على فطرتها وعقيدتها الإسلامية من كل أنماط و أشكال الانحراف السائدة في الحياة الإنسانية، بحكم وعيها وإدراكها للتكامل القائم بين الفطرة، التي طبع الله عز وجل الناس عليها، والشريعة المتمثلة في ذلك النهج القويم والكامل، المسخر لتنظيم الحياة الإنسانية الدنيوية، ومما لا شك فيه أن سعادة الإنسان وثيقة الصلة باقتران وتكامل كل من الفطرة والشرع، اللذين خرجا من مشكاة واحدة.
ثم إن الذات المسلمة، سواء كانت عربية أم أجنبية، تسعى جاهدة على أساس رؤية إسلامية واضحة إلى إقامة نظام صلب ومتماسك لعلاقة سليمة بينها وبين عالمها الدنيوي ببعديه: الذاتي والموضوعي من جهة، وبينها وبين عالم الغيب من جهة ثانية؛ فهي ذات إنسانية تميل أكثر بفطرتها المتجذرة إلى التوافق، والاستقرار، والإصلاح، وقد كان الإسلام ولا يزال يعمل على ترسيخ هذه الأساسيات و غيرها من القيم الراقية.
ولا شك أن الإنسان المسلم ينزع إلى الانسجام بدل الدخول في مواجهة مدمرة وعنيفة مع كل جزئية في هذا الكون؛ إنه كوني بطبعه، وهذه الخاصية تجنبه صدامات كثيرة هو في غير حاجة إليها، كما أنها تمكنه من تمثل ذاته أكثر فأكثر في وجود كتب عليه أن يشهده، وأن يبتلى فيه إلى أجل مسمى.
لكن الإنسان المسلم يخوض صراعا من طبيعة أخرى و موقع آخر، وهو مؤازرة بمناعة دينية قوية ضد كل ألوان الشر والانحراف، وضد كل ضروب العبث والفساد، ثم إنها مناعة يشهرها في وجه كل محاولة أو فعل معاكس يستهدف فطرته السوية أو سلوكه الإسلامي القويم، لأنه يحرص أشد الحرص على أداء الرسالة أو الأمانة، التي تولى حملها في حياته الدنيوية، على الوجه الأفضل والأمثل.
إذن لا طاعة ترجى من الإنسان المسلم في سبيل الغوايات، والنزوات، والأهواء؛ إنه صاحب مسؤولية كبرى محددة، لا يحيد عنها طوال حياته، ومن أجل تحملها يتحول لديه الصراع من المفهوم المتداول وضعيا بين الأحياء من الناس إلى مفهوم المجاهدة النفسية أو الجهاد الأكبر.
أ ـ الذات العربية والإسلام
لقد عاشت الذات العربية في العصر الحديث تحولات كثيرة، ومعاناة رهيبة ذات صور وأشكال متباينة في الغالب من حيث منطلق كل ذات وموقعها، ويكفي أن الإنسان في العالم العربي الإسلامي شهد وعاش هزات عنيفة اجتماعية وسياسية، وعقدية، واقتصادية، ارتسمت ملامحها بقوة منذ أزيد من قرن تقريبا، وخلفت آثارا سيئة جلية، سواء في زمن حدوثها أم في الأزمنة التي عقبتها.
ومن الواضح أن الإنسان العربي المسلم ، الشاهد على هذا العصر، مدرك تمام الإدراك لما يعانيه من أزمات نفسية قوية لم يعرف لها التاريخ العربي الإسلامي الحديث وحتى المعاصر مثيلا، إذ يجد نفسه في مواجهة كبرى شرسة ضد قوى الشر والفساد، وفي صراع دائم مع حضارة مادية ملحدة، تسعى إلى محاصرته بمختلف ضروب الفتن، واقتلاع جذوره العربية الإسلامية، والعبث بمكونات شخصيته وقيمه السامية.
ومن المؤكد أن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة شاهد على حقيقة ما أصاب الذات العربية المسلمة من مآس وآلام، كانت بحق منعطفا تاريخيا متسلسل الحلقات، وعلى واجهتين: الداخلية والخارجية، ثم إن جانبا من معاناة الإنسان العربي المسلم يعود إلى تاريخ بدء الحركة الاستعمارية الأجنبية، التي تمتد جذورها التمهيدية إلى الحروب الصليبية، تلك الهجمة الشرسة التي كان العالم الغربي قد شنها على المسلمين والبلاد الإسلامية منذ سنة 1095 للميلاد، ودامت قرنين من الزمان تقريبا.
لقد حاول الغرب منذ زمن بعيد، بكل ما أوتي من قوة، أن تكون له الهيمنة على معظم الديار العربية الإسلامية، كما اجتهد ما وسعه الاجتهاد في طمس معالم الفكر الإسلامي والشخصية الإسلامية، سواء من خلال تشجيعه للغزو المغولي سنة 1206 للميلاد، أم بواسطة حركة الاستشراق، المتمثلة في إرسال البعثات الأوربية إلى العالم العربي الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي، أم باعتماد التدخل الاستعماري المباشر في البلاد العربية الإسلامية، وذلك منذ الحملة التي شنها نابليون بونابارت ( NAPOLEON BONAPARTE ) على مصر سنة 1798 للميلاد.
ثم إن الشعوب العربية المسلمة ابتليت بصراع طويل ضد قوى الغرب الاستعمارية والعنصرية، التي زعمت بشأن الإسلام أنه عقيدة غير صالحة للقرن العشرين، استنادا إلى شبهة مفتراة، غدت مع مرور الزمن اعتقادا وهميا راسخا لدى معظم الغربيين، واقتناعات واهية شائعة للأسف في الغرب، تجسدت في الاعتقاد بكون الإسلام دين السيف، والوحشية والتخلف، وهي صور ارتسمت في أذهان الأوربيين في العصور الوسطى التي واكبت الحملات الصليبية، وعمل الساسة الغربيون بقدر ما عملت الكنائس الغربية على تغذيتها بعناية.
ولما تقاسم الاستعمار الغربي الإمبراطورية العثمانية، وانفصلت الدول المنضوية تحت لوائها، كان سقوط الخلافة نتيجة حتمية، وتم على إثر هذا السقوط استعمار عدد من البلدان العربية الإسلامية ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وهو التاريخ الذي صادف انطلاقة الهيمنة الاستعمارية الغربية، فنشبت المواجهة وانتهت أخيرا بالاستقلال.
ولكن مخلفات الاستعمار الأجنبي أحدثت شروخا عميقة في وحدة العرب المسلمين، نشأ بسببها صراع داخلي بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، مما أفرز تناقضات بينة واختلافات كثيرة على الساحة العربية الإسلامية، وفي غمرة هذه التحولات انبعثت الصحوة الإسلامية في بداية القرن العشرين، فنمت ونضجت في العقود الأخيرة من نفس القرن، وهي في نظر معظم المؤرخين، والباحثين، والمفكرين أهم حركة تغييرية وتجديدية في العصر الحديث.
لقد واكبت الصحوة الإسلامية في بوادرها الحديثة عصر النهضة في العالم العربي الإسلامي، وكان على رأس الأسباب الباعثة لها : الهيمنة الاستعمارية، وتوسع الحركة التبشيرية، والإساءة إلى الإسلام وإلى شخص الرسول عليه الصلاة والسلام من خلال حركة الاستشراق العالمية، وكتابات عدد من المستشرقين، ثم فراغ الحياة الثقافية من المعرفة الإسلامية، بالإضافة إلى ضعف الوازع الديني الذي دب في أوصال المجتمعات العربية.
ولا شك أن الصحوة الإسلامية أعطت نفسا جديدا للذات العربية، بحيث كان لها بالغ التأثير الإيجابي في تكوين شخصية الإنسان المسلم على جميع المستويات الحيوية والمصيرية، فلاحت أولى نتائجها في مستهل سنة 1927 للميلاد، والتي تجسدت في نشأة جمعيات إسلامية كثيرة.
ثم إن هزيمة العرب في حربهم ضد إسرائيل سنة 1967 للميلاد كانت صدمة شديدة، ارتجت لها أعماق الإنسان العربي المسلم، الذي بدأ يطرح جملة من القضايا، ويستفهم حول مواطن الخلل في مجتمعه، وفي شأن عدة أمور مصيرية، فارتفعت أصوات النقد الذاتي والموضوعي، وتعالت نداءات من جميع أركان العالم الإسلامي تطالب بضرورة الإصلاح الشامل، مؤكدة على العودة إلى الإسلام.
لقد كان العقد السابع من القرن العشرين ظرفا تاريخيا حاسما في حياة الشعوب العربية المسلمة، التي صارت ترى في الإسلام خلاصها من الفتن، والشقاء، والهزائم، وتطالب به بديلا عن ركام من النظريات، والشعارات، والتجارب السابقة المنحرفة، ومن ثم صارت مواد الإسلام الروحية، والعلمية، والفكرية تستقطب كل من يبحث عن ذاته، وهويته، وجذوره.
وتعد التجربة الروحية الفردية من أهم روافد السيرة الذاتية الإسلامية، والكاتب يكون عادة أقرب إلى التعبير الجيد حين تلتصق تجربة العودة إلى الله عز وجل وإلى الإسلام بنفسه أو تنبع منها، فيمتلك ساعتها قدرة تعبيرية أقوى من قدرة الكاتب الذي يتعامل مع تجاربه الفردية خارج ذاته، خاصة وأن الدين قريب من روح الإنسان ونفسه، وأكثر ما تتضح هذه الحقيقة في الأزمات التي تنزل بالإنسان، وفي الظروف العسيرة التي يمر بها، إذ ساعتها لا ملجأ إلا إلى الله عز وجل، والعودة إلى النهل من معين الإسلام.
ففي أوقات الشدة تضطرب النفس، و يأخذ الجزع بمجامعها، فلا تجد شيئا بين يديها تدفع به ما هي فيه من ضيق، وقلق، ورهبة، غير الإقبال على الله عز وجل، ثم التسليم بقضائه وقدره، والإنسان في مثل هذه المواقف يكون في حاجة ماسة إلى الإيمان الراسخ، الذي يغذي العقل والقلب معا،ثم إن الكثير من التجارب الواقعية تفضي بالذات الإنسانية إلى إدراك القيمة الثمينة التي تنطوي عليها نعمة الإيمان بالله تعالى، الذي يسع عباده برحمته بعد قنوطهم.
ثم إن الإنسان ساعة الشدة والجزع يجد نفسه أمام خيارين اثنين: إما أن يطمئن بالإيمان ويرضى بالابتلاء، أو يسلم القياد لليأس ويذعن للقنوط والقلق، ففي الخيار الأول عزاء ورجاء، بينما في الخيار الثاني تمزق وشقاء كبير.
إن الإنسان عندما يستشعر حقيقة ومبلغ ضعفه، ويضطر في وقت معين إلى الاختلاء مع نفسه، متأملا ومحاسبا إياها، فإنه في الغالب يقر بدونية شخصه وعجزه تحت حكم الله تعالى، لأنه ذو طاقة محدودة، وذرة في كون فسيح يشمل موجودات أشد منه خلقا، إنها لحظة الوعي بالذات والعالم، ووقفة في مجرى الزمن يتحدث أثناءها المرء إلى نفسه تارة، ويحاورها تارة أخرى، وينادي خالقه نداء خفيا؛ بل هي لحظة التوبة والعودة إلى الله عز وجل، التي قد لا تكتب للإنسان الضال إلا مرة واحدة في حياته، والتي قد يحول الموت بينه وبينها في أية لحظة، إنها اللحظة التي تعادل عمر الإنسان كله.
ثم إن شبه القطيعة القائمة بين الذاتية العربية وحقيقة الإسلام لا تزال تحول دون تحقيق التوازن الطبيعي للحياة الإسلامية في العالم العربي، لأن عمق الانفصال الذاتي العقدي، سواء عن قصد أم عن جهل، أفرز وهما سرعان ما تحول إلى قناعة زائفة بجدلية الاغتراب المتبادل بين الإنسان العربي والإسلام، الذي صار كما جاء لأول مرة غريبا بين الناس، بعدما اطمأنت إليه النفوس واحتمت به من أي زيغ أو انحراف محتمل، أما اليوم فإن استبداله يتم في العالم العربي بمتاهة القيم والنظريات الوضعية، ودوامة التجريب، بدعوى التغيير، والتجديد، والحداثة.
إنها تجربة الانسلاخ عن الإسلام، التي تخوضها الذات العربية تحت تأثير الجهل و تأليه أهوائها، فترى الدين مضيعة لدنياها وحياتها، وقرينا ملازما للجمود، والموت، والأحزان المتراكبة، وعندما ينغمس الإنسان في طلب وإيثار الجانب المادي من الحياة، ويعكف على إثارة نزواته و نفسه الأمارة بالسوء، فإنه يتوهم العثور على السعادة بعيدا عن الدين، لكنه عاجلا ما يرى ذاته محاصرة بالضياع و الفراغ الروحي.
ثم إن الإنسان العربي الضال عن عقيدته الإسلامية عندما ينظر في نهج حياته ملتمسا له معنى أو وزنا وقيمة يطمئن إليها، فإنه لا يصادف سوى الحيرة، والشك والاضطراب، ولا يعثر في مجمل سلوكه على أي دليل يشهد له بسواء السبيل، في حين يصطدم بالخيبة، والعبث، والفوضى، وخلال هذه اللحظة فقط تسقط غشاوة الجهل والانبهار بالحياة المادية، فتعود الذات إلى وعيها بنفسها وبعقيدتها.
إذن فمن قلب التجربة الفردية، تستخلص الذات العربية درجة انحرافها وزيغها عن تعاليم عقيدتها، وتكتشف مدى ابتعادها عن جوهر الدين الإسلامي، ومبلغ ضياعها في غمرة الفهم السطحي للإسلام، مما جعلها تسقط في محاكاة السلوك الشاذ عن الفطرة السليمة، وتعاني من غياب التوافق بين معتقدها ونهجها في الحياة.
إنه انفصام الشخصية العربية، وانحراف الذات المسلمة، التي استبدلت عن جهل الذي هو خير بالذي هو أدنى، فعاشت تكابد آلاما وشقاء مفترسا، نتج عن سوء الاحتكاك بالحياة الغربية الأجنبية، والإحساس بالنقص والدونية، الذي أخل بتوازن الإنسان العربي المسلم، وأذكى فيه اندفاعا وتهافتا أعمى على مظاهر الحياة الغربية المناقضة من حيث الغاية والوسيلة للروح الإسلامية.
إن مبدأ الثنائية الذي يعبر عنه الإنسان بجسده المادي من جهة، وبالحياة الروحية التي تدب فيه من جهة ثانية، لهو دليل يهتدي به من خلال العقل إلى أن الوجود بأكمله متألق من عنصري المادة والروح، وقائم على اعتدالهما وانسجامهما، إذ ليس لأحدهما سلطان على الآخر، وليس لكليهما سلطان على الأفراد، فقط وحده الإنسان هو الذي يملك السلطان في حدود التوفيق بينهما، والحفاظ على توازنهما.
تعليق