عن مصطلح (الحداثة)
**********
إنَّ مصطلح الحداثة بالغ الغرابة عند الغربيين، إذ يبدو عند رينيه ويليك مصطلحاً قديماً فارغاً، أو هو مصطلح مطاط كما يرى روجر فاولر، وقد تعددت الآراء حول طبيعته، بحيث دفعت مالكوم برادبري إلى تأكيد أن «هذه التسمية تحتوي على الكثير من ظلال المعنى الذي لا تنجح في استخدامه بصورة دقيقة».
ولقد تأثر تحديد هذا المصطلح بتصورات مفكري التنوير الذين يؤكدون على العقلانية العلمانية والتقدم المادي والديمقراطية، كما قد اسهم في تأسيس أصوله مفكرون تميزوا بتمردهم على الأسس التقليدية، وجعلوا كثيراً من اليقينيات محط تساؤل، مثل التصورات الدينية، والاجتماعية، والأخلاقية، ولعل أبرز هؤلاء : فردريك نيتشه، وكارل ماركس، وسيجموند فرويد ـ ولذا فإن الحداثة تنطوي على قدر كبير من الاختلاف الجذري مع الأسس التقليدية للثقافة والفن في الغرب.
وتعبر الحداثة الغربية عن الفوضى الحضارية والفكرية التي عمت الحياة والتي جاءت بها الحرب العالمية الأولى، كما أنها تعكس صورة القوى الاجتماعية التي كونتها، بمعنى أنها جزء من «عالم يتجدد بسرعة، عالم التمدن والتقدم الصناعي والتكنولوجي »، ولذلك فإن المبدعين والرسامين قد «عكسوا في بياناتهم ومعارضهم ما بين 1909 - 1914 أهمية القوى والأشكال المستمدة من العالم المحكوم بالآلة والتكنولوجيا »، وفي ضوء هذا فإن الحداثة ليست وليدة قطر بعينه، وإنما هي حركة «عالمية ولدتها قوى مختلفة بلغت ذراها في دول مختلفة وأزمان مختلفة، كان مكوثها في بعض الأقطار طويلا وفي بعضها الآخر مؤقتا، في بعض الأقطار أساءت الحداثة إلى تراثها الموروث كالتراث الرومانسي، والفكتوري، والواقعي، والانطباعي، وفي أقطار عدت نفسها تطوراً لذلك التراث».
وتميزت الحداثة الغربية بخصوصيتها الزمانية والمكانية من ناحية، وبطبيعة التيارات الفكرية والفنية التي تشتمل عليها، من ناحية ثانية، إذ تبدأ الحداثة ـ زمانيا ـ في أواخر القرن التاسع عشر، وتبلغ ذروتها في الربع الأول من القرن العشرين، وتمتد مكانيا من روسيا إلى الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، وتضم مذاهب مختلفة في الفن والأدب كالمستقبلية والتصويرية والانطباعية والسريالية، ومن الملاحظ أن هذه المذاهب استخدمت مصطلحات أخرى غير مصطلح الحداثة تدل على إبداعها، فلقد استخدم إليوت مصطلح الصورية Imagism، وآثر أبولينيز مصطلح الشعر المحسوس أو المجسد concrete poetry،في حين تبنى آخرون السريالية والتكعيبية، وقد دفع هذا التمايز والتفاوت باحثا ـ صالح جواد الطعمة ـ إلى القول: إن الحداثة « ليست أحادية اللغة، وليست أحادية الأصل، وليست مرتبطة بمرحلة زمنية واحدة، بل متعددة اللغات، ومتعددة الأصول، ونتاج مراحل زمنية متداخلة».
وتثير الحداثة معضلات ماهيتها وتاريخيتها على السواء، فهي ليست مصطلحاً خاصاً بالنقد والأدب، ولكنها تشير إلى صيغ عديدة دالة على الحضارة والتقدم، فهي ابتداء، تدل على التغاير مع الأنماط السابقة، وتتمرد على خصائصها وسماتها، بمعنى أنها ليست « مفهوماً سوسيولوجياً، أو مفهوماً سياسياً، أو مفهوما تاريخيا يحصر المعنى وإنما هي صيغة مميزة للحضارة تعارض صيغة التقليد، أي أنها تعارض جميع الثقافات الأخرى السابقة أو التقليدية »، وقد قاد هذا إلى توصيفات مرافقة لتحديد دلالتها مثل: الحداثة الأولية : Proto - Modernism والحداثة البدائية : Pala - Modernism والحداثة الجديدة: New - Modernism وما بعد الحداثة : Post .Modernism
أما الدارسون العرب فإنهم يتفاوتون ـ أيضا ـ في تحديدهم لماهية الحداثة ووظيفتها، إذ لها خصوصيتها من الناحية اللغوية من ناحية، وصعوبة تحديد دلالتها الاصطلاحية من ناحية ثانية، فهي من الناحية اللغوية تستدعي معارضها أو نقيضها، إذ لا يقال: « حدث ... إلا مع قدم » «والحديث نقيض القدم »، بمعنى أن دلالة معارضها لا تغيب، وإن فاعلية نقيضها تسهم في تحديد ماهيتها، أما من الناحية الاصطلاحية فهي من الألفاظ المشوهة عند منذر عياشي، في حين تبدو عند الروائي عبد الرحمن منيف من «أكثر المصطلحات خلافية بسبب عدم تحدد معناه بدقة وعدم معرفة أسباب وظروف نشأته وبسبب عزله عن سياقه التاريخي وطغيان إحدى دلالاته الجزئية على المفهوم »، ويرى أدونيس أن الكلام عنها « يكاد يكون لغوا » ويذهب حمادي صمود إلى أن تحديد دلالتها أمر عسير، لأنها ما تزال غير محددة في أوربا، وإذا حددت فإنها تخضع للمواقع المختلفة، والانتماءات المتباينة للكتاب والتزاماتهم.
وقد أحدث تعريب مصطلحي Modernity وModernism إرباكا لدى القارئ العربي، إذ يبدوان مصطلحاً واحداً فتم تعريبهما بكلمة واحدة « الحداثة »، وميز آخرون بين الحداثة Modernity والحداثوية والحداثانية Modernism لأن المصطلح الأول لا يتقيد باشتراطات مذهبية أو مفهومية في أدب أمة معينة، أما الثاني فإنه يدل على حركة أدبية ونقدية معينة لها سياقاتها التاريخية والمعرفية والفنية في الأدب الغربي.
ويختلط مفهوم الحداثة بدلالة مصطلحات أخرى كالمعاصرة والتجديد، ويبدو عباس محمود العقاد أبرز من عني بدلالة الحداثة والمعاصرة في أوائل القرن العشرين، ويرفض ما توهمه الشعراء الإحيائيون من أن الحداثة تعني وصف المخترعات الحديثة في أشعارهم وآدابهم، ذلك أن الوصف فعل عقلي يسقط فيه الشاعر رؤاه الذهنية على سطح الأشياء الكائنة في الخارج، ويتبنى العقاد التعبير عن تجربة انفعالية متخلقة في أعماق الشاعر، ولذلك تتحقق الحداثة « عندما يشعر الشاعر أن له شيئا يقوله، ويستحق هذا الشيء أن يقال، وإن الشاعر الذي يصف الطائرة ليس بالضرورة شاعرا عصريا، والذي يصف الجمل ليس شاعرا قديما»..."
(كريم الوائلي)
من مقال طويل تحت عنوان:
تناقضات الحداثة العربية
د. أبو شامة المغربي
تعليق