الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

صدرت مجموعة غابات الروح

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • طارق شفيق حقي
    المدير العام
    • Dec 2003
    • 11929

    #16
    رد : صدرت مجموعة غابات الروح

    المعادلاتالمحيرة



    الوردة النضرة تتمايلُ بين أصابعي، وأنا أتأمّلُها مليّاً: الآنَأحسستُ بشعورِكَ أيّها الحوت؛ كانت أحاسيسي تفيضُ وتدفعُني إلى شيءٍ أجهلُهُ،وغالباً لا أعرفُ منبعه، كانت أجوبة كل الأسئلة تطرقُ ذهني غير جواب واحد، وأشعرأنني حوتٌ أزرق.
    تحت الأمواج المتلاطمة كان الحوت الأزرق يخترقُ عبابَ الماءضارباً بزعانفه كُتلاً ضخمةً من مياه البحر مطوّحاً بها بعيداً... كان مضطرباً.. تتدفّقُ منه ينابيع الحيوية إلا أنّ عينيهِ كانتا حائرتين وهما ترقبان شيئاً ماأمامَهُ وهو يلاحقه.. ينعطفُ من أقصى البحار إلى أقصاها.. يغوص إلى الأعماق وكلجوارحه تدفعه إلى البحث عن شيء ما، لكنه ما كان ليعرفه، فما يحسّ بأنّ شيئاً مايظهر أمامَه حتى يلاحِقَهُ.. تشكّل أمامه مرةً فتركَ أشغاله وبدأ بملاحقته وراحيعبر الأعماق والحوت خلفه يكاد يلاصقه.. تجاوزَ سطح الماء واندفع الحوت خلفَهُ بكلقواه وقفزَ خارجاً من البحر وقطرات الماء تلمع تحت أشعة الشمس الذهبية وتحوّلَ إلىمجموعة من النوارس البيضاء الجميلة الرشيقة... خطف كلُّ واحد بجناحه وأطلقَ صوتاًرفيعاً وشق طريقه إلى العُلا.. كان قرصُ الشمس يلتمع في عيونهم.. وأخذ كل نورسطريقاً له.. من بين العديد من النوارس شق نورسٌ طريقه نحو الشاطئ... طار هناوهناك.. جاب الأصقاع والبقاع.. ما ترك مكاناً إلا وحلّق في سمائه، كان حائراً وكلجوارحه تدفعه للبحث عن شيء ما.. صاد الأسماكَ.. بنى عشاً.. تشاجر مع أقرانه.. علا.. ابتعد، لحقه طير جارح.. هرب.. نجا.. أوشك على الموت منجرح أصابه.. شفي.. عادللطيران والبحث عن ذلك الشيء وملاحقته وهو لا يعرف لماذا يلاحقه. في وسط السماء ظهرفجأة أمامَه فانعطف سريعاً ومال بجناحيه تاركاً الرياح لتدفعه بقوة عبر الشاطئ.. الجبال.. وظهر أمامه سهل فسيح.. لفحته رائحة عطرٍ حملها نسيم عليل.. كان سهلاًمليئاً بالورود والرياحين ومن كل الأصناف والألوان... سرعته ازدادت.. كذلك شوقه.. اندفع نحو السهل اقترب ذلك الشيء من الأزهار.. اقترب السنونو.. اختفى الشيء بينطيّات الأزهار وغاص النورس في الأزهار وارتفعت في الهواء أوراق الورود.. تطاولتهاأيدي الرياح ونثرَتْها في المكان.. واندفعت من نفس المكان عشرات الفراشات وطارتمتجولة في السهل الفسيح.. من بين الفراشات فتحت فراشة جميلة لجناحيها حرية الاختيار فراحت تحط على الأزهار فهذه حمراء جذابة وتلك صفراء رقيقة تلتمع على أوراقها حباتالندى وتهف وريقاتُها مع هبوب النسيم.. ما تركت الفراشة زهرةً إلا وحطت عليها كانتتطير وتترك الأزهار وتلاحق شيئاً ما كان يظهر أمامها وتبقى حائرة فكلما شعرت بأنها وجدت ضالّتَها في إحدى الزهرات اليانعة حتى ما تشعر بظهور ذلك الشيء مرة أخرى.. فتلاحقه من هنا إلى هناك وهي لا تعرف لماذا كانت تلاحقه.. بالقرب من منزل صغير شعرتالفراشة بباعث جعلها تطير وتطير حتى دخلت المنزل كان الضوء مشتعلاً.. اقتربت من الضوء.. كان شيئاً مجهولاً بالنسبة إليها كان له جاذبية كبيرة.. كان يشعرها بشعورغريب يمتلك عليها نفسها لم تستطع إدراكه لكنها كانت تحس به.. اقتربت منه تريدالالتحام به.. اقتربت أكثر.. وضربت بجسدها المصباح الموجود أمام الطاولة.. من القربالشديد من المصباح أرجعت الفتاة وجهها من أمام ضوء المصباح لم تعد ترى جيداً تشوشتعيناها.. أحاسيس غريبة تمتلكها.. قلبت أوراق الكتاب أمامها.. تراجعت بكرسيها إلىالخلف.. مدت يدها إلى ربطة شعرها.. وأفلتت خصل الشعر الأسود الذي اندفـع بانسيابشلال أسود.. يتمايل على جانب كتفيها.. قامت من وراء طاولتها فتحت التلفاز.. هو ذامسلسلها المفضل قد بدأ.. دقائقَ كانت.. تركته ثم توجّهت إلى مسجلتها وضعت شريطاً لأغنية عذبة.. تركتها.. توجّهت إلى المطبخ تعد صحناً من الخضراوات وضعتها تحتالماء.. تركت الصنبور مفتوحاً.. توجهت إلى النافذة تركتها مفتوحة، تركت عينيهاتجولان في السماء مفتوحتين..
    في الصباح.. كانت تحس بباعث غريب جعلها تنهض منفراشها.. تفتح الباب.. تمشي نحو السهل تقترب من إحدى الأزهار.. تقترب أكثر.. أكثر.. لاصق أنفها رحيق الزهرة.. فطارت فراشة جميلة صغيرة ابتسمت الفتاة وراحت تركض خلفهاتحاول إمساكها والفراشة تأخذ اتجاهات ملتوية وتطير بخفة والفتاة تلاحقها برشاقة وهيلا تعرف لماذا تلاحقها.. تقفز من هنا إلى هناك.. تتناثر ضحكاتها في الأرجاء كنثائر عطر رقيق تنساب يميناً.. شمالاً.. كانسياب حبيبات الندى العذبة.. كانت مفعمةبالأنوثة وأحاسيسها تتفجّر بداخلها وتطير في كل الأنحاء كنورس أبيض رشيق.. فجأةأحست الفتاة بشيء غريب.. إحساس غريب كأن شيئاً بداخلها يتحرك كأن حوتاً ضخماً يسبحبداخلها وهو يسبح بقوة. توقفت الفتاة عن الركض، فتوقف الحوت فجأة. وتوقف النورس عن الطيران.. وهدأت الفراشة وحطّت على الزهرة النضرة التي تنساب بين أصابعي وهي طائرةلا تعرف لماذا كانت تطير.

    حـلـب 7/6/2001



    +++


    تعليق

    • طارق شفيق حقي
      المدير العام
      • Dec 2003
      • 11929

      #17
      رد : صدرت مجموعة غابات الروح


      عملية جراحيةفي جسد الذاكرة



      أنين خافت يصدر من مكان ليس ببعيد يعلو , يخفت , في الطريقوحيداً كان يسير , ساقته رجلاه إلى باب عال جلس دون أن يفتحه ,لاح له الباب بمسكته القديمة صامتاً , هي ذي القبضة نفسها , ما غير فيها الزمن غير مسحة من قدم عندالباب الأمور أكثر تعقيداً فيما يعتقد , لاحت له جملة من أفكار تطاولت كبناية الية , عريضة تشبه سداً منيعاً , كان يحسبها قوية, كل تلك الطوابق من المعتقداتكانت تهزل في موقف ما وما يعرف لماذا , حين كان يدخل إليها كان يحسب نفسه منيعاً وما إن يقف أمامها ويبتعد قليلاً حتى تظهر كبناية من ورق ... ما ذلك الشيء الخفيالمروع فيه والذي يجعلها سداً منيعاً تارة ومكاناً هشاً تارة أخرى ... يزداد الأنينأكثر , تعب هي الحياة , أمام الباب وقف وأحس بصبره باختيار قرار واضح , هو دائماً يريدأن يقرر لكنه يشغل نفسه في شتى الأوقات , الآن عرف ضعفه ,اكتشف بأنه مليىء بشيء خفيغرز فيه لكنه ظهر بشكل سد , اصطدم بجداره العالي , الآن اكتشف بأنه يخاف من الزمنكانت دقات الساعة أكثر الأمور صعوبة , الزمان مر يتلبس أشكال عديدة , يمشي بشكلمستمر فتحسبه متواصلاً لكنه منفصل تماماً وتتراءى لك أجزاؤه بين الحين والآخر ,هو كان يرى أجزاء هذا الزمان وكان يحس بأنه كالماء يتقلص ويتمدد فحين يتمدد تحس باناللحظة أصبحت بحجم بحيرة وحين يتقلص تحس بأن الساعات الطوال أصبحت قطرة صغيرة . يعرف كل هذا ويشغل نفسه ولا يخلو بها ويهرب منها , نظر إلى الباب العالي , الآن تحسبه كما تحس به للمرة الأولى , وتمتلك الشجاعة , فتمد يدك وتدخل لن تحاول أن تمشيسريعاً أو أن تشغل نفسك بتلك الأفكار أو تعبث بعينيك بأمور لا قيمة لها , مشى الهوينى وهو يدخل الحديقة , صار ينظر نظرات عمومية ويلتقط الأمور بشموليتها , المنظرواضح جلي شجرة على يمينه تصطف ورائها شجرة أخرى وهكذا في صف طويل الأرض تمتد منحوله منبسطة هنا وغير منبسطة هناك , الحديقة صامتة وكأن لا حراك بها كل شيء جـامد لاصوت يسمـع , سكـون عجيب , هدوء مخيف يحيط بكل شيء , ظلمة ثقيلة تحجب البعيد مع أنالحديقة واضحة أمامه , وتنظر نظرات شاملة في هذه الحديقة الواسعة الممتدة ,الآن تكتشف بأنه باستطاعة الإنسان أن يتخلى عن مادية الأفكار , كان يحسب أن الدخول إنمايكون بالتفكير المعقد وبالبنايات العالية وما يعرف أن حمل البنايات ثقيل وما يستطيعالدخول و الطيران بها , يأخذ كميات من الهـواء أحس به الآن بشكل آخر ضعيفاً رطباً يشبعه , وعرف أن عليه أن يرمي بكل بناياته ويكتفي بجملتين تطيرانه بعيداً حيث يشاء,لكنه كان يأبى إلا أن يطير بها أما الآن, فسلم للجملتين الأمر وأخذ يطير ويطير ويجدنفسه ضعيفاً كطير صغير. تلوح منه التفاته إلى الوراء ينظر فيرى كل بناياته تطيروراءه , الآن يعجب من الحقيقة التي تأبّى عنها , الآن تزداد ذاكرتك ,أكثر ويصبح بصركأقوى وسمعكم أقوى وحواسك أقوى وأنت تستعملها كما استعملتها المرة الأولى , الآنتعرف بأن الانعتاق سهل بسيط , تمتد بك قدماك إلى الأمام طاولة خلفها كرسي ... كتابمفتوح ... إبريق من الماء , تحن إلى لك الكرسي وما تعرف للحنين سبباً تزداد ذاكرتكيشتد حنينك.

      ينظر إلى اليمين يرى طفلاً صغيراً يجري دون صوت كأن أذنيك لا تعملان تحاولأن تتبعه يختنق فجأة تقترب من شجرة أحنت غصناً لها وطأطأت أوراقها ومالت مقتربة من الأرض .

      تأتيك ذاكرتك , بدراجة يعتليها غلام يسرع في الحديقة ولا يتفادى أوراقتلك الشجرة فتصطدم بجبهته وتلسعه قليلاً تقترب منها , تصدمك الأوراق تغمض عينيك ولاتحس بنفس الشعور , الشجرة نفسها لكن الوقت تغير , وما تفلت من ماديتك حاولت الولوج بالشكل الخاطئ وتجد نفسك أمام المدخل , تدخل الحديقة نفسهـا الأشجـار الأحجار,الطاولة,الأحجار,الكرسي, تلك الشجرة المطأطئة الأوراق , يأتيك نفس الغلام على الدراجة تقترب من الشجـرة تغمض عينيك يهـف قلبـك , تلسعك الأوراق هو ذا الشعور نفسه,تقع على الأرض تستلقي تنظر إلى السماء , تلوح لك بزرقة عجيبة وغيوم عجيبة , تسبحبعينيك فيها , ما رأيتها أجمل وأقرب كما الآن , أهذه هي السماء تراها كما لو أنكتراها للمرة الأولى ... المرة الأولى التي نظرت فيها إلى السماء كنت صغيراً وصغيراًجداً , كنت تحمل على الأكتاف , ياه ... زادت ذاكرتك أكثر ... وأنت تنتعق أكثر ... الآن تشعر بتلك الأشياء الخفية الصغيرة المغروزة فيك بحار تشعرك بشعور غريب بحارلا أمواج فيها , تفقد الإحساس بالأمور ... ينساب من حولك شعور غريب , تحس الأشجارتتماوج , نظراتك الآن مختلفة , تزداد ذاكرتك , بناياتك أصبحت طيوراً محلقة , ظهرأمامك شاب قوي البنية , سيتكرر الموقف نفسه لكنه سيختلف , يصافحك , ترى في يدكبرودة إنها برودة المادة ... يكلمـك تفهم من كلامه أمورا أخرى , بعيداً تحاول عيناك .

      أن ترى ما وراء عينيه , غير أن المادة لا تخترق المادة تغمض عينيك لوهلة , تشعربه تحاول القبض على جسده , تحسبه هو تفتح عينيك تلامس الخفي من جسـده , تحس بشيءيبتعد , الآن تشعر بالأمور كما لم تشعـر بها , ما تشعـر بجسدك , ببشرتك , بماديتك,تزداد خفة تزداد انعتاقاً , تزداد ذاكرتك , يزداد حنينك تجري في الحديقة , تصطدم بالأشجار , بالطاولة , بالأحجار , بالمدخل , تجري ساعات وساعات أكنت تستطيـع ذلكسابقاً , انهارت كل السـدود وتدفقت البحار , وأنت كالقشة في تلك البحار , تزدادسباحة ويزداد الموج علواً , تعصف الدنيـا بك , وأنت تهيـج وتركض وتسقط , تنزف دماءً ، يرض جسدك , تقـع فوق صخرة تكسـر ساقـك , لا تحس بها , تكمل , تعرج وما تحس بشيء تسمع قدمك خلفك وما تحس بشيء تسقط أرضاً تكسر يدك , تلتوي , يصبح منظرك مرعباً ، وما تزال تدور وتدور وما تعرف إلى أين وفي كل لحظة تزداد ذاكرتك أكثر تحس بنفسكطفلاً صغيراً , الكـل يقترب منك يقبلك , يهتم بك , تزداد اهتياجاً , صراخ في ظلمةثقيلة يتردد , تزداد ذاكرتك قوة , تشعر بمكان آخر , كون آخر , يزداد حنينك , يزدادافتتانك , تزداد هياجاً , وما تشعر بكل الأحزان التي حلت بك , فتصطدم بالأشجار وماتراها , تسقط , تكمل , تبحث عن المخرج , يزداد حنينك تصيح بلى ... بلى... يا اللهوفي لحظة يغيض ماء البحار وتختفي القشة ويظهر أمامك المتحرك خلف تلك الشجرةالمطأطئة الأوراق وأنت على دراجتكتسير سريعاً تصدمك أوراقها تغمض عينيك , تلسعكالأوراق , تسقط أرضاً الحقيقة اكبر من أن تصدق وتتحمل , ما كان عليك أن تلجها بقوةلان الانعتاق يحصل تدريجياً وتزداد ذاكرتك قوة بيسر وروية ويختلف حينها إحساسكبالأمور حين يزداد حنينك فتأتيك على حين غفلة , دون أن تحس بها , الآن تعرف بانماديتك هي العنصر الأساسي في الامتحان كي تختلف الأمور وكي تبنى تلك البناياتالثقيلة ثم تحاول أن تطير بها , قبل أن تلج المخرج خلف الشجرة تحس بصفعة قوية وتسقطأرضاً , تحاول الاستيقاظ , العودة إلى الإحساس أمر صعب , الدماء تنزف منك , كسورتملئ الجسد , تحس بكميات من المخدر تسري في جسدك , تتألم من الأضرار التي حلت بك ... لقد نجحت العملية يا صديقي لكن كانت عملية صعبة للغايةحلب 2001



      +++

      تعليق

      • طارق شفيق حقي
        المدير العام
        • Dec 2003
        • 11929

        #18
        رد : صدرت مجموعة غابات الروح

        شطارة




        الأستاذ رؤوف إنسان اجتماعي اعتاد زيارة أصحابه وأقاربه، ومتى وجه أحدهماللوم له فإنه يهرع معتذراً بأسلوبه السمح الذي يعبر عن بساطة وطيبة.. وحين وجه لهجاره أبو محمود دعوة لزيارته كان يتوسط الجلسة في إحدى ليالي الشتاء التي يحلو فيها الحديث ويطيب، وحيث يبعد دفء الأحاديث برودة الجو القارس. بدأ الأستاذ رؤوف بسرد أخباره الشيقة أخذت العيون تتبع شفتيه بتلهف واضح كي لا يفوتها أية كلمة وحين سرت لحظات صامتة قطعت الجو بعد ضحكات الجميع..

        تلفت الأستاذ ثم حرك أرنبة أنفهيميناً ويساراً وقال: ما هذه الرائحة يا أبا محمود.. استجاب أبو محمود لتلك الإشارةوأخذ يشمشم في الهواء ولكن لم تصله أي تنبيهةٍ.. وقال مجاملاً ضيفه: هيا يا أممحمود ربما نسيت شيئاً ما على النار في المطبخ.. وبعد لحظات لحق بها أبو محمودمسرعاً، وسمعه الأستاذ رؤوف حيث كان جالساً في غرفة الضيوف على مقربة من المطبخ .

        هل وجدت شيئاً يا امرأة ؟

        لا، ولكن هلا ألقيت نظرة إلى غداء اليوم فلربما الرائحة منه، فمد أبو محمود رأسه بعد أن فتح غطاء الوعاء وسحب نفساً عميقاً: إيه ما أطيب هذه الرائحة.. أتعرفين يا أم محمود كيف حصلت على هذه الخضروات التيصنعتِ لنا منها أكلة المحشي اللذيذة.؟ لا والله.. كيف ذلك يا ابن العم؟

        تصوري وأنا راجع من العمل.. كان أبو وصفي بائع الخضرة يقف في رأس الحارةويبيع على عربته كالعادة فجئت له قائلاً: أما تعرف أن الوقوف هنا ممنوع فأنت تسد الشارع وبعد مجادلة قصيرة أسكتني بهذه الخضروات الطازجة. ضحكت أم محمود وقالت: ( وأنا بنت عمك يا أبو محمود). استغرب الأستاذ رؤوف هذا الكلام وهو يسمع أممحمود تصف لزوجها كيف حصلت على الرز من جارتها التي تبيع المواد التموينية لجاراتهادون رخصة وهي تحذرها بأن زوجها بحكم عمله لا يقدر أن يسكت على ذلك!! وبعدضحكات صغيرة كان أبو محمود بكرشه المتهدل يدخل الغرفة: - لم نجد شيئاً ياأستاذ، ربما الرائحة من عند الجيران.. لم يكمل كلامه حتى نادته أم محمود فهرعنحوها: انظر.. أعتقد أن هنالك رائحة بين هذه العلب.. نظر أبو محمود متفحصاً وعلاماتالاستغراب تنطق من وجهه، وفتح إحدى العلب ثم الثانية وابتسم قليلاً وهو يفتح العلبةالثالثة ونظر إلى زوجته :

        أتدرين يا أم محمود، إن هذه البهارات حصلت عليهابشطارتي وبطريقة طريفة. نظرت أم محمود وهي تحث أبا محمود بتعـابير وجههـا على الاستئناف، نعم.. نعم .

        فمرة كنت أنا وأصحابي نتمشى في السوق وكان هنالك دكان في الزاوية صاحبه رجل عجوز كنت قد رأيته مرة يشتري مواد مهربة فقلت لنفسي، هذه هي الفرصة المناسبة..

        رفع الأستاذ رؤوف حاجبيه وهو مستغرب كل الاستغراب من تلكالتفاصيل التي سردها أبو محمود وكيف استغلوا ذلك الرجل العجوز وقاموا بحيلة باعثين أبا محمود لكي يخبره بأمر دورية قادمة فيأخذوا منه على قدر سكوتهم عن طريق أبي محمودالذي حذره..
        ورنت ضحكات أبي محمود وهو يسخر من ذلك الرجل وحين جاء دور أم محمودلتسرد شطارتها وقف الأستاذ رؤوف وخرج إلى فناء الدار ومنه إلى الباب الخارجي وهويهز رأسه ويضرب كفاً بكف فقد عرف مصدر تلك الرائحة العفنة التي تسربت إلى أنفه منحيث لا يدري.

        حلب 2000



        +++


        رجل من غير هذا الزمان






        ـ هذا الرجل يقـف وكأنـه في قفص زجـاجي , ينظر شزراً وكأنه ابن غيرهذا الزمان وكأنه لا يحس بطعم الواقع تحت لسانه , يحمل رأياً متفرداً أيما تفرد ينكره قومه أشد إنكار , يقف متأملاً هذه الحشود التي تدخل قلعة حلب , كأن هذا اليوم عيد فيه احتفالات واجتماعات الحرس على الأبواب عليه ثياب أنيقة , يتعجب الغريب لهاويظنهم أمراء أو ملوكا

        الطرق تتلألأ , الأدراج غسلت وزينت الممرات وأنيرت القلعة فغدت كأنها سراجٌ وهاجٌ يلتمع في هذا الليل المظلم ويحسبها القادم منالبعيد كأنها من غير هذا الزمان كأنها قلعة شيدت لما سيأتي من الزمان وما يتحضر لهالقوم من احتفالات في قاعاتها وساحاتها . الممتلكين فكراً ثاقباً ورأياً ناضجاًأورثته لهم خبرة الزمان وأكد ذلك السير الطبيعي للتطور , وباركه اطمئنان الإنسانلغدرات الأيام , وقلبها لموازين البشر , وسـأل نفسـه ذلك الواقـف وهو يحمـل فكرة في رأسه , ماذا تراهم سيفعلون وتحرقت نفسه فضولاً , ما بال هذه الجموع تقدم وتحتشد , كبار العلماء وكبار القادة والأمراء والمفكرين والأدباء والشعراء يدخلون هذه القلعةوالناس يتفرجون عليهم مذهولين مسرورين , الأولاد جمدوا على غير العادة , حشود تتقدمكل يدخل بدوره .. نظام دقيق وتساءل هل لي من مكان واستشاط فضوله وتدافعت أهواؤهوراودته المغامرة وخفت له العواقب , فلمعت الفكرة وبان له الرأي , أسرع نحو أحدالوفود وسلم على أحد المدعوين سلاماً حاراً , وظل يسلم عليه ويسأله عن أحوالهوأخباره وأهله وأقربائه وكأنه صديق قديم , حتى دخل معه جوف القلعة والحراس لاينكرون مجيئه , وفي ساحة القلعة عقد مؤتمر حفته الهيبة والوقار وزانه جلال الأفكاروالآراء فكان كل خطيب يأتيه الدور يقف ويبدي فكره حول موضوع شغلهم وأرادوا له حلاً . لصلاح هذه الأمة ولرقي شعبها العريق , لقاء فكري يتناقل القوم الرأي ويقلبونهوالكل متقد الفكر والعاطفة وقد نرى أحدهم يهمس لجارة : انظر هذا هو العالم الجليلوذلك المفكر الوقور وبجانبـه الأديب المعروف والشاعر شاغل الناس , كل جلس في مقعدهالمخصص من هذا المجلس وهذا الزمان , ترى أحدهم فلا يعجبك منظره وتواضعه وما إن يتكلم حتى ترى بحراً يتدفق وشموساً تتلألأ وحكمة تنثال , كل كان هذا حاله إلاصاحبنا وكأنه ابن غير هذا الزمان يمقت هذه الاجتماعات الغليظة , يقتله التفكير العقلي الجامد الذي لا يجد حلاوة فيه , ويكره إيغال المتكلمين في المجردات التي لايجد لها قيمة أو وزناً , ويمقت العموميات المعرفية التي يتفق عليها القوم وكأنهم درسوا في صف واحد , ينظر يميناً فيرى القوم صامتين جامدين وكأن الطير على رؤوسهم , وكلهم إدراك ووعي وتلهـف وشـوق لمـا يقـال في المجلس, ويهزون الرؤوس معاً وكأنـهم شخـص واحـد , تفتح أفواههم في ذات اللحظة وكأنهـا فم واحد , ينظر شمالاً فيرى قوم الشمـال نظيراً لليمين , وقد أصبحوا كأنهم رجل واحد .

        كأنهم عقل واحد وكأنهم فم واحد , يصغون السمع ويحبسون الأنفاس حتى كأنهم أصنام حجرية , يا لهذا الملل ويا لهذا الضيق , ما لهؤلاء لا يغادرون في الأمر كبيرة ولا صغيرة إلا وتكلموا فيها , زهقت روحي وأناأستمع إليهم , ما لهذه الحياة كم هي مملة أشد الملل ماذا لو أنهم اجتمعوا في هذاالمكان لسماع صوت عذب وعزف على وتر وتمايل قدٍّ فارع وعطر فائح ونظرات هائمة وقلوبسكرى وأغمض عينيه وحلم أنه في غير هذا الزمان زمان يوافق أفكاره , ويشيع الهوى بين الناس كأنه عدوى أو وباء , فتح عينيه فبهت شاهـد العجائـب والغرائـب , يوم كأنـه اليوم الموعود , وفود تتقدم كأنها عاد أو ثمود .. تمر من أمامه سيارات فارهة يخاف منها أشد الخوف ويغيب فكره لها , لكنه يرى من بداخلها غادة هيفاء جميلة كأنها جنية منالجان تحمل ألواناً من الزينة ما عرفها ولا ألفها , القلعة هي هي والناس ما هم بنفس الناس , استعـدادات تفـوق الاستعدادات ونظام وشرطة وأضواء وأوراق ما هذا الذييرى , وسأل شاباً بجانبه عن هذا الاجتماع فقال له الشاب هو يحسبه من فرقة الفنونالشعبية إنه مهرجان الأغنية , فطار عقل صاحبنا وما حط , هو ذا الذي أراد وابتغى وحلم وتخيل وتمنى وعندما شاهد وفداً يلبسون لباسه ولج بينهم ودخل القلعة إنها القلعة ذاتها لكن تطورات حصلت لمدرجها, أضواء غريبة عجيبة وأخذ مقعده , الكل متزين متعطر وكأنه فلقة القمر , حسناوات ما رأى أجمل منهن , يلبسن لباساً ما رأى أكشف منه , يلحن لحناً ما رأى ألحن منه , واعتلت المغنية المسرح فأحس بقلبه يعلو ويهبط ويوشك أن ينزل إلى المسرح لولا أن شيئاً يمنعه , كان الوقار والهيبة يظهران على وجوهالحاضرين , كِبر خيلاء وتصنع وكأن أحدهم ملكاً أو أميراً هذا يلف رجلاً على رجلوذلك يقلب كفيه أو يلعب بشعره وذلك يرتب ثيابه وآخر يلاعب جهازاً بيده لازم الضغطعليه , وبدأت الأنغام تسرى مع نسمات الهواء وتلاعب الأهواء والكلمات بعقول الناسحتى هاج المسرح وماج , نظر إلى اليمين فكانت كل الأيادي يداً واحدة وكانت كلالنظرات نظرة واحدة وكأن بحراً من الهيام تتدفق نظر شمالاً فرأى كل الخصور وكأنهاخصرا واحدا يهتز يميناً مرة وشمالاً مرة لا يعرف كيف وقد حولوا هذه القلعة العظيمةإلى مرقص رائع بديع , كل من حوله كانوا كأنهم رجل واحد , يرقص ويغني لاهياً عاتياًناسياً سنه ومركزه وعقله وقلبه يطير ولا يحط وصاحبنا ينظر في كل الاتجاهات يحسبالقوم نفراً من الجان لكنه لم ينظر إلى جانبه , وحين انتبه إلى جانبه شاهد شاباً يجلس وحده يغمض عينه وكأنه يحلم , اقترب منه , اقترب أكثر والتقطت أذناه تمتمات , ذلك الشاب وكأنه يقول : لو أن هذا الجمع اجتمع لفكر أو أدب أو رأي فبهت صاحبناوارتجف وفتح عينيه وظن أن ما هذا إلا وهم من الأوهام أو حلم من الأحلام وما رأى إلارسم جان خبيث , أو همزات شيطان لعين وظل منكراً لذلك الحلم السخيف الذي رآه ووقفوأخذ يقسم ألف قسم بأن ذلك الحلم ضرب من وهم لن تحمله أرض ولا سماء .

        تعليق

        • طارق شفيق حقي
          المدير العام
          • Dec 2003
          • 11929

          #19
          رد : صدرت مجموعة غابات الروح

          شطارة



          الأستاذ رؤوف إنسان اجتماعي اعتاد زيارة أصحابه وأقاربه، ومتى وجه أحدهماللوم له فإنه يهرع معتذراً بأسلوبه السمح الذي يعبر عن بساطة وطيبة.. وحين وجه لهجاره أبو محمود دعوة لزيارته كان يتوسط الجلسة في إحدى ليالي الشتاء التي يحلو فيها الحديث ويطيب، وحيث يبعد دفء الأحاديث برودة الجو القارس. بدأ الأستاذ رؤوف بسرد أخباره الشيقة أخذت العيون تتبع شفتيه بتلهف واضح كي لا يفوتها أية كلمة وحين سرت لحظات صامتة قطعت الجو بعد ضحكات الجميع..

          تلفت الأستاذ ثم حرك أرنبة أنفهيميناً ويساراً وقال: ما هذه الرائحة يا أبا محمود.. استجاب أبو محمود لتلك الإشارةوأخذ يشمشم في الهواء ولكن لم تصله أي تنبيهةٍ.. وقال مجاملاً ضيفه: هيا يا أممحمود ربما نسيت شيئاً ما على النار في المطبخ.. وبعد لحظات لحق بها أبو محمودمسرعاً، وسمعه الأستاذ رؤوف حيث كان جالساً في غرفة الضيوف على مقربة من المطبخ .

          هل وجدت شيئاً يا امرأة ؟

          لا، ولكن هلا ألقيت نظرة إلى غداء اليوم فلربما الرائحة منه، فمد أبو محمود رأسه بعد أن فتح غطاء الوعاء وسحب نفساً عميقاً: إيه ما أطيب هذه الرائحة.. أتعرفين يا أم محمود كيف حصلت على هذه الخضروات التيصنعتِ لنا منها أكلة المحشي اللذيذة.؟ لا والله.. كيف ذلك يا ابن العم؟

          تصوري وأنا راجع من العمل.. كان أبو وصفي بائع الخضرة يقف في رأس الحارةويبيع على عربته كالعادة فجئت له قائلاً: أما تعرف أن الوقوف هنا ممنوع فأنت تسد الشارع وبعد مجادلة قصيرة أسكتني بهذه الخضروات الطازجة. ضحكت أم محمود وقالت: ( وأنا بنت عمك يا أبو محمود). استغرب الأستاذ رؤوف هذا الكلام وهو يسمع أممحمود تصف لزوجها كيف حصلت على الرز من جارتها التي تبيع المواد التموينية لجاراتهادون رخصة وهي تحذرها بأن زوجها بحكم عمله لا يقدر أن يسكت على ذلك!! وبعدضحكات صغيرة كان أبو محمود بكرشه المتهدل يدخل الغرفة: - لم نجد شيئاً ياأستاذ، ربما الرائحة من عند الجيران.. لم يكمل كلامه حتى نادته أم محمود فهرعنحوها: انظر.. أعتقد أن هنالك رائحة بين هذه العلب.. نظر أبو محمود متفحصاً وعلاماتالاستغراب تنطق من وجهه، وفتح إحدى العلب ثم الثانية وابتسم قليلاً وهو يفتح العلبةالثالثة ونظر إلى زوجته :

          أتدرين يا أم محمود، إن هذه البهارات حصلت عليهابشطارتي وبطريقة طريفة. نظرت أم محمود وهي تحث أبا محمود بتعـابير وجههـا على الاستئناف، نعم.. نعم .

          فمرة كنت أنا وأصحابي نتمشى في السوق وكان هنالك دكان في الزاوية صاحبه رجل عجوز كنت قد رأيته مرة يشتري مواد مهربة فقلت لنفسي، هذه هي الفرصة المناسبة..

          رفع الأستاذ رؤوف حاجبيه وهو مستغرب كل الاستغراب من تلكالتفاصيل التي سردها أبو محمود وكيف استغلوا ذلك الرجل العجوز وقاموا بحيلة باعثين أبا محمود لكي يخبره بأمر دورية قادمة فيأخذوا منه على قدر سكوتهم عن طريق أبي محمودالذي حذره..
          ورنت ضحكات أبي محمود وهو يسخر من ذلك الرجل وحين جاء دور أم محمودلتسرد شطارتها وقف الأستاذ رؤوف وخرج إلى فناء الدار ومنه إلى الباب الخارجي وهويهز رأسه ويضرب كفاً بكف فقد عرف مصدر تلك الرائحة العفنة التي تسربت إلى أنفه منحيث لا يدري.

          حلب 2000

          +++

          رجل من غير هذا الزمان



          ـ هذا الرجل يقـف وكأنـه في قفص زجـاجي , ينظر شزراً وكأنه ابن غيرهذا الزمان وكأنه لا يحس بطعم الواقع تحت لسانه , يحمل رأياً متفرداً أيما تفرد ينكره قومه أشد إنكار , يقف متأملاً هذه الحشود التي تدخل قلعة حلب , كأن هذا اليوم عيد فيه احتفالات واجتماعات الحرس على الأبواب عليه ثياب أنيقة , يتعجب الغريب لهاويظنهم أمراء أو ملوكا
          الطرق تتلألأ , الأدراج غسلت وزينت الممرات وأنيرت القلعة فغدت كأنها سراجٌ وهاجٌ يلتمع في هذا الليل المظلم ويحسبها القادم منالبعيد كأنها من غير هذا الزمان كأنها قلعة شيدت لما سيأتي من الزمان وما يتحضر لهالقوم من احتفالات في قاعاتها وساحاتها . الممتلكين فكراً ثاقباً ورأياً ناضجاًأورثته لهم خبرة الزمان وأكد ذلك السير الطبيعي للتطور , وباركه اطمئنان الإنسانلغدرات الأيام , وقلبها لموازين البشر , وسـأل نفسـه ذلك الواقـف وهو يحمـل فكرة في رأسه , ماذا تراهم سيفعلون وتحرقت نفسه فضولاً , ما بال هذه الجموع تقدم وتحتشد , كبار العلماء وكبار القادة والأمراء والمفكرين والأدباء والشعراء يدخلون هذه القلعةوالناس يتفرجون عليهم مذهولين مسرورين , الأولاد جمدوا على غير العادة , حشود تتقدمكل يدخل بدوره .. نظام دقيق وتساءل هل لي من مكان واستشاط فضوله وتدافعت أهواؤهوراودته المغامرة وخفت له العواقب , فلمعت الفكرة وبان له الرأي , أسرع نحو أحدالوفود وسلم على أحد المدعوين سلاماً حاراً , وظل يسلم عليه ويسأله عن أحوالهوأخباره وأهله وأقربائه وكأنه صديق قديم , حتى دخل معه جوف القلعة والحراس لاينكرون مجيئه , وفي ساحة القلعة عقد مؤتمر حفته الهيبة والوقار وزانه جلال الأفكاروالآراء فكان كل خطيب يأتيه الدور يقف ويبدي فكره حول موضوع شغلهم وأرادوا له حلاً . لصلاح هذه الأمة ولرقي شعبها العريق , لقاء فكري يتناقل القوم الرأي ويقلبونهوالكل متقد الفكر والعاطفة وقد نرى أحدهم يهمس لجارة : انظر هذا هو العالم الجليلوذلك المفكر الوقور وبجانبـه الأديب المعروف والشاعر شاغل الناس , كل جلس في مقعدهالمخصص من هذا المجلس وهذا الزمان , ترى أحدهم فلا يعجبك منظره وتواضعه وما إن يتكلم حتى ترى بحراً يتدفق وشموساً تتلألأ وحكمة تنثال , كل كان هذا حاله إلاصاحبنا وكأنه ابن غير هذا الزمان يمقت هذه الاجتماعات الغليظة , يقتله التفكير العقلي الجامد الذي لا يجد حلاوة فيه , ويكره إيغال المتكلمين في المجردات التي لايجد لها قيمة أو وزناً , ويمقت العموميات المعرفية التي يتفق عليها القوم وكأنهم درسوا في صف واحد , ينظر يميناً فيرى القوم صامتين جامدين وكأن الطير على رؤوسهم , وكلهم إدراك ووعي وتلهـف وشـوق لمـا يقـال في المجلس, ويهزون الرؤوس معاً وكأنـهم شخـص واحـد , تفتح أفواههم في ذات اللحظة وكأنهـا فم واحد , ينظر شمالاً فيرى قوم الشمـال نظيراً لليمين , وقد أصبحوا كأنهم رجل واحد .

          كأنهم عقل واحد وكأنهم فم واحد , يصغون السمع ويحبسون الأنفاس حتى كأنهم أصنام حجرية , يا لهذا الملل ويا لهذا الضيق , ما لهؤلاء لا يغادرون في الأمر كبيرة ولا صغيرة إلا وتكلموا فيها , زهقت روحي وأناأستمع إليهم , ما لهذه الحياة كم هي مملة أشد الملل ماذا لو أنهم اجتمعوا في هذاالمكان لسماع صوت عذب وعزف على وتر وتمايل قدٍّ فارع وعطر فائح ونظرات هائمة وقلوبسكرى وأغمض عينيه وحلم أنه في غير هذا الزمان زمان يوافق أفكاره , ويشيع الهوى بين الناس كأنه عدوى أو وباء , فتح عينيه فبهت شاهـد العجائـب والغرائـب , يوم كأنـه اليوم الموعود , وفود تتقدم كأنها عاد أو ثمود .. تمر من أمامه سيارات فارهة يخاف منها أشد الخوف ويغيب فكره لها , لكنه يرى من بداخلها غادة هيفاء جميلة كأنها جنية منالجان تحمل ألواناً من الزينة ما عرفها ولا ألفها , القلعة هي هي والناس ما هم بنفس الناس , استعـدادات تفـوق الاستعدادات ونظام وشرطة وأضواء وأوراق ما هذا الذييرى , وسأل شاباً بجانبه عن هذا الاجتماع فقال له الشاب هو يحسبه من فرقة الفنونالشعبية إنه مهرجان الأغنية , فطار عقل صاحبنا وما حط , هو ذا الذي أراد وابتغى وحلم وتخيل وتمنى وعندما شاهد وفداً يلبسون لباسه ولج بينهم ودخل القلعة إنها القلعة ذاتها لكن تطورات حصلت لمدرجها, أضواء غريبة عجيبة وأخذ مقعده , الكل متزين متعطر وكأنه فلقة القمر , حسناوات ما رأى أجمل منهن , يلبسن لباساً ما رأى أكشف منه , يلحن لحناً ما رأى ألحن منه , واعتلت المغنية المسرح فأحس بقلبه يعلو ويهبط ويوشك أن ينزل إلى المسرح لولا أن شيئاً يمنعه , كان الوقار والهيبة يظهران على وجوهالحاضرين , كِبر خيلاء وتصنع وكأن أحدهم ملكاً أو أميراً هذا يلف رجلاً على رجلوذلك يقلب كفيه أو يلعب بشعره وذلك يرتب ثيابه وآخر يلاعب جهازاً بيده لازم الضغطعليه , وبدأت الأنغام تسرى مع نسمات الهواء وتلاعب الأهواء والكلمات بعقول الناسحتى هاج المسرح وماج , نظر إلى اليمين فكانت كل الأيادي يداً واحدة وكانت كلالنظرات نظرة واحدة وكأن بحراً من الهيام تتدفق نظر شمالاً فرأى كل الخصور وكأنهاخصرا واحدا يهتز يميناً مرة وشمالاً مرة لا يعرف كيف وقد حولوا هذه القلعة العظيمةإلى مرقص رائع بديع , كل من حوله كانوا كأنهم رجل واحد , يرقص ويغني لاهياً عاتياًناسياً سنه ومركزه وعقله وقلبه يطير ولا يحط وصاحبنا ينظر في كل الاتجاهات يحسبالقوم نفراً من الجان لكنه لم ينظر إلى جانبه , وحين انتبه إلى جانبه شاهد شاباً يجلس وحده يغمض عينه وكأنه يحلم , اقترب منه , اقترب أكثر والتقطت أذناه تمتمات , ذلك الشاب وكأنه يقول : لو أن هذا الجمع اجتمع لفكر أو أدب أو رأي فبهت صاحبناوارتجف وفتح عينيه وظن أن ما هذا إلا وهم من الأوهام أو حلم من الأحلام وما رأى إلارسم جان خبيث , أو همزات شيطان لعين وظل منكراً لذلك الحلم السخيف الذي رآه ووقفوأخذ يقسم ألف قسم بأن ذلك الحلم ضرب من وهم لن تحمله أرض ولا سماء .



          تعليق

          • طارق شفيق حقي
            المدير العام
            • Dec 2003
            • 11929

            #20
            رد : صدرت مجموعة غابات الروح

            رقصة الساعة الواحدة

            الساعة الواحدة ليلاً . هدوء مخيفيرصد الأنفاس تسرب إلى غرفتي في الطابق الرابع التي تطل على مدينة حلب , المدينةتظهر بأضوائها المرهقة في مظهر يثير الاشمئزاز والخمول وكأنها فتاة بشعة قد ألقيعليها أجمل الثياب ذات الألوان اللافتة للانتباه .
            كنت أرى أسطح المنازل وقدتلونت بلون واحد اللون الأبيض , يا للهزل , هذا اللون الطاهر تحمله صحون تملأالأسطح , وبعد أن ينتصف الليل وفي لحظة واحدة تراها تتحرك يميناً يساراً أرىالنوافذ مقفلة الستائر مسدلة تنتشر الضحكات المفعمة برائحة هستيرية لكنها ضحكاتمخنوقة صحن آخر يتحرك , في الأسفل كنت أرى صحناً قد ثبت على الشرفة وهو بالكاد قد أمسك نفسه في وضعية عجبت كيف استطاع جاري تثبيته فيها الصحون تحاصرني من كلمكان . أفق أسود يرجع البصر حسيراً . لم يكن بمقدوري سوى متابعة الأضواء المرهقةالتي ترسلها المنازل في حوض المدينة كان لا بد لي أن أقف عند القصر البلدي الشاهقالذي وقف كنابليون على رأسه قبعت قبعته الشهيرة وهو يحجب شيئاً من رؤية قلعة حلب . كان القصر البلدي يرتفع أكثر من عشرين طابقاً ويد الرافعة الضخمة جانبه تشير إلى فيالق المنازل التي أحاطتبالقلعة من الميمنة والميسرة أن تقدموا فتتقدم المنازل لتحاصر القلعة من كل صوبوتنتهك محارمها وفي النهاية تتكسر على أسوارها خائبة ذليلة وتستمر المعركة .

            في الصباح لم تكن لتستمع سوى أذان الفجر وتختفي المدينة بأكملها في سديم كبير , مدينةحلب تختفي تحت ضباب ثقيل لم يكن بمقدوري أن أرى سوى القلعة وبعد أن تدور الساعةقليلاً تتكشف الحقائق وتفضح جزيئات هذه اللوحة وتنير كل شيء تظهر المدينة عاريةأعود لأتذكر ذلك الضباب ضباب ضباب من أين يأتي كل هذا الضباب ؟ بالكاد تميز الأضواء الخضراء الصابرة متناثرة على المدى البعيد وكل شيء واضح أمامي كل ما يجري فيالمدينة , من هذه الشرفة أطل على كل نافذة كل شارع كل حديقة وكل ما يجري في وضح النهار أما ما يجري هنا فتحت أستار الضباب , تعودت تلك الحالة فبعد الساعات الأولى يزول الضباب وكعادتي فتحت النافذة لأخذ رشفات من هذه المدينة آه ضباب كثيف هذااليوم و حتى في هذه الساعة لم يمنعني ذلك من الفطور المعتاد وبالرتابة ذاتها مشت بيقدماي إلى الكلية وبالكاد أجد الطريق وجدت شاباً يمشي في الضباب كان الضباب كثيفاًلم يتح لي أن أراه جيـداً نادى : مرحباً أحمد ما بك لا تسلم , أهلاًَ أنور لاتؤاخذني فالضباب كثيف لم يتح لي التعرف عليك ملامحك في الضباب مختلفة مد يده بينأوراقه وقال : خذ هذه قصيـدة كتبتها حديثـاً أعطني رأيك فيها , أمسك القصيدة أتأملهالم أفهم منها شيئاً وكأن الضباب تسرب إلى القصيدة لا أرى سوى كلمات مبعثرة لا رابطبينها رددتها له قلت : اعذرني يا صاحبي فالضباب كثيف لكن أخبرني ماذا سميتها ؟ قال لي : هي بلا عنوان , حسن ما بحرها ؟ بحر ؟ أي بحر يا رجل أو ما تسمع بأزمة المياههذه الأيام السماء لا تمطر وضحك طويلاً ضحكات رنت في الضباب لا أعرف لحظتها . ماذا تذكرت ثم نظرت إليه أنور أنور أين أنت ؟ أنور ناديت طويلاً لا أعرف أين اختفى صديقي كيف اختفى كان بجانبي تسللت الريبة إلى قلبي. بعد قليل التقيتصديقاً من الجزيرة حسن مرحباً هل رأيت أنور ؟

            أهلاً أحمد لا لم أر أحداً حسنا ًأخبرني كيف حال الأمطار عندكم تنهد طويلاً وقال : الأمطار لا تسألني عن الأمطار الحال تسير نحو الأسوأ والتشاؤم يملأ المنطقة المطر ضعيف والأرض أجدبت , في الجنوب لم يجن الناس ولا حتى سنبلة واحدة . والناس ما يزالون يتداولون الأقاويل والأحاديث جارنا يقول إن الله يعاقب الناس وأخذ الزكاة التي لم يدفعوها لسنوات , وإن اكتملت فسيعود المطر من جديد عمي ما يزال يؤكد أن الغرب هو السبب وهو يطلق أقماره الصناعية التيتبث ما هب ودب والذي له تأثير على الغيوم في السماء خالي يقول : إن حرب الخليج لهاتأثير بالغ على المنطقة وما يزال يذكرنا بالمطر النفطي الذي هطل منذ سنوات . أستاذ المدرسة يردد أنها حالة طبيعية فالمناخ يتقلب كل سبع سنوات جدي فرح وهو يقول الحمدلله فقد عاد الناس إلى الإسلام بسبب انقطاع المطر شيخ الجامع يؤكد على العدالة التي هي سبب البركة في أي مكان.

            تابعنا الحديث حتى وصلنا الكلية وجلسنا في القاعة جاءالمحاضر وبدء محاضرته بمقدمة حادة النبرة وهو يلعن ويسب الغرب وينظر إلينا وينهاللوماً بأننا جيل نائم جيل فاسد جيل الصحن والنوادي .وبعدها بدء المحاضرة في أصولالنقد عند العرب من كتابه الذي ألفه بعد أن عاش ثماني سنوات في فرنسا .

            انتهتالمحاضرة وتوجهت إلى مكتبه لأسأله بعض الأسئلة متجاهلاً تحذيراته بعد مراجعته في المكتب بقيت أنتظره أكثر من نصف ساعة وهو يضاحك زميلات لي لم أكن لأراه فالجميلاتقد أحطن بالمكتب من كل صوب لكن ذلك لم يمنعني من استراق السمع فسمعته يقول يا الله أنا سأدق على الطاولة وسأرى صوت من منكن أجمل وبعد أن خرجن والضحكات تملأ المكاندخلت فقال مسرعاً لقد تأخر الوقت راجعني في وقت آخر تذكرت في تلك اللحظة كلماته فيبداية المحاضرة عن جيلنا آه من جيلنا خيبة أمل جيلهم .

            كنت تائهاً بعدها أحسست بحاجة إلى رجل كبير أبوح له همومي ومشاكلي لكن أين ذلك الرجل تذكرة دكتور الأدبالقديم شعرت بنور أضيء أمامي أسرعت لأراه في مكتبه لم يكن موجوداً سألت عنهالمستخدم فقال لا أعرفه أجبته كيف لا تعرفه إنه رجل طويل المهابة تظهر في وجهه يهز الأرض بخطواته ويهزك بكلماته استغرب هذه الأوصاف وتركني وحيداً بحثت عنه دون فائدةأين اختفى لا أعرف . عدت إلى المنزل فوجئت بصيحات والدتي وهي تقول أخوك الأصغر قد اختفى جن جنوني بحثت عنه طويلاً سألت الجيران الدكاكين المشافي الشرطة دون نتيجة في غرفتي فتحت النافذة وبدأت أتأمل هذه المدينة الضبابية ضوء الغاز في الشارع يصدرأزيزاً وكأنه جرس يرن تذكرت جرس صالات السينما في شارع بارون والرجل القصير السمينذو اللحية الخشنة والرأس الأصلع يصيح وهو لا يكف عن هرش ذقنه بدأ العرض بدأ العرض,عنف بنات إثارة فتيان قد تجمعوا حول الصور الخليعة المعروضة ورائحة الفلافل تعبق فيذلك الشارع الذي يراه العساكر عرضاً سخياً .

            وبما أن الإجازة لا تكفي لأن يذهبوا إلى مدنهم وقراهم البعيدة, فهي عشر من الساعات يقضونها في هذه السينما وبعدهاعدة أقراص من الفلافل تسكن في المعدة ثم تنتفخ مشعرة الإنسان بالنعاس والعطش فينطلق الأصحاب يقلبون بأعينهم كل الأشياء الصغيرة والغريبة التي تملأ شوارع مركز المدينة . وما أن تمر بهم فتاة قد لبست ثياب أختها الصغرى حتى تراهم يصعقون ويتابعونهاوأعينهم تأكلها أكلاً , ثم ينظر ون إلى بعضهم ويضحكون طويلاً متذكرين أحد المواقفقبل الإجازة.

            تمتد يد أحدهم لتعبث بتلك الأغراض الصغيرة والكبيرة التي تملأ الأرصفة والشوارع والبائع غير مكترث بوجودهم فهو يهتم برجل غريب أو فلاح قادم من الجزيرة فيبيعه المنتج وقد ضربه بعشرة أضعاف وذلك المسكيـن يظن البائع طيباً إذ حسمله بعض الليرات . وما أن يخبره أحدثهم بحقيقة السعر ويتذكر صاحبنا كيف دار به صاحبسيارة الأجرة أكثر من ساعة في نفس المنطقة وهو يبحث عن طبيب القلب المعروف ثم يأخذمنه العديد من الورقات النقدية مشيراً إلى العداد فينهال الرجل المسكين سباباًَعليهم وعلى الساعة التي جاء بها إلى هنا وقد يتوقف قلبه قبل مراجعة الطبيب . تذكرتأخي الذي اختفى في ضباب هذه المدينة ثم دكتور النقد القديم ثم صديقي , ما الذي يجريفي هذه المدينة ؟

            استمر الضباب بالتكاثر , الأضواء خافتة . لم أكن أستطيع أنأرى سوى الضوء الأخضر المتصبر من أعلى المآذن . كنا في الأساطير نقرأ عن المدينة التي تظهر مرة واحدة في العام ثم تختفي وهذه المدينة التي لا تنام تختفي وتظهر فينفس اليوم وبعد أن تسهر حتى الهزيع الأخير من الليل وقبيل الفجر بقليل تنام بأسرهاساعة نوم الكلاب والقطط .


            تعليق

            • طارق شفيق حقي
              المدير العام
              • Dec 2003
              • 11929

              #21
              رد : صدرت مجموعة غابات الروح

              وهي تعج بالضباب وتختفي شيئاًَ فشيئاًَ وساعة دخول الدنيا في الضحى تنكشف الأستار قليلاً لتظهر قلعة حلب واضحة للعيان وقد استيقظت فيالصباح الباكر لكنّ المدينة ما تزال غافلة والضباب يملؤها ويلتف حول المباني الضخمة لتراها أشبه بمدينة الأشباح
              أمعنت النظر في القلعة فتراءى لي القائد العسكريصلاح الدين يطل من أسوارها وتراءت لي جماهير حلب العظيمة يومها والتي أتت لاستقباله وهو يقول اليوم أيقنت أن الله سينصرني على الفرنجة. ما تُراه يقول اليوم صلاحالدين؟
              نابليون غاضب هذه الأيام وهو يحرك يده بانفعال من اليمين إلى اليسار و كأنه ملك متجبر أذلته عقبة عسيرة الاحتلال . وكانت العقبة هي القلعة التي ثبتت على الرقعة والملك الغاضب أمامها، لعبة طويلة ليس فيها ( كش ملك ) لأنه ملك فارغ منالداخل عظيم من الخارج كما هو حال جميع الملوك.

              أخذ الضباب بالتكاثف أكثرفأكثر.. ساد المدينة بأرجائها الواسعة. كل شخص قد أضاع منزله , لم تكن تستطيع أنترى أكثر من متر واحد أمامك.. وضوء السيارات بالكاد يرى في الشارع، تصطدم بأشخاص كثيرين في المنزل وإن كان منزلك بنوافذ كبيرة سيكون أشبه بفلم من أفلامالرعب. أشخاص غرباء يقتربون من منزلك ينظرون إلى الداخل ثم يهمون بالانصراف.. الباب يفتح في اليوم أكثر من ألف مرة يدخل أحدهم ووجهه مليء بالدماء وثيابه مغبرة ممزقة يلهث قليلاً يتأمل المنزل ثم ينصرف. جرس الهاتف لا يتوقف، التلفاز لا يزاليذيع أخبار الوفيات... كثير من الطيور قد اصطدمت بنوافذ المنزل تحطمت بعضها وامتلأبعضها الآخر بالدماء والريش ...

              العديد من الحيوانات تدخل المنزل، لا تعرف كيف دخلت، قد تفاجأ في الصباح بوجود كلب ضخم أسود قابع بجانبك، أو قطة تعبث بشعرزوجتك، أو فأر اندس بين طيات لحافك، والجرذان أصبح منظرها مألوفاً، وإن رأيتهاتتسكع في المنزل لا يثير فيك أكثر من أن تتمنى لو أنك تستطيع قتلها.
              الحشراتتملأ المكان أصبح أمراً اعتياداً إن رأيت صرصاراً مقلوباً وأرجله إلى السماء في وسطصحن طعامك فترميه جانباً وتتابع الطعام, كنت أحسب أن الضفادع والقمل ستغزونا أيضاًوستنفجر صنابير المياه بالدماء.
              أحسست بالجوع صحت :أمي أنا جائع .. إذ كانتتقفل الثلاجة خوفاً من الحشرات والفئران .. لعلها نائمة .. توجهت إلى المطبخ رأيتمفتاح الثلاجة وما إن فتحتها حتى قفز على وجهي جرذ أسود وخرجت آلاف الحشرات منه .. صرخت عالياً . وركضت . صدمت الباب . وقعت.. أمي .. أبي .. أين أنتم .. رنت نداءاتي في المنزل فتشت المنزل كله لم أر أحداً .. شعرت بخوف عظيم والأبواب تقفل في وجهي . الضباب يملأ المكان يا إلهي ماذا أفعل ؟ خرجت من المنزل أنادي أمي .. أبي .. أينذهبتم ؟ سمعت أناساً كثيرين يصيحون وصوت ضحكات ترن في الضباب .. تعبت بعده . جلستعلى الرصيف . وإذ بصوت أحدهم .. ناديت أبي .. أمي صاح الرجل : من أنت .. أين نحن ؟فأجبته : لا أعرف ‍أنا مثلك قد أضعت الطريق .. احذر من التقدم فالطريق الذي تتوجهإليه مملوء بالرجال الذين يسدون الطريق ثم ظهر أمامي وانهار على الأرض لا حراك بهوالدماء تنزف من كل جسده صرخت عالياً .. وركضت . لا أعرف إلى أين .. أثناء ذلك كنتأسمع كثيراً من الأصوات تستنجد , فتيات تصيح بصـوت ذليل .أصوات تأتي , بيتي سرق , نقـودي , سيـارتي أولادي , شرفي , كان الوضع مخيفاً , وبوجود الضباب الذي هو الجوالمثالي لبعضهم .. كثرت حوادث السيارات . والقتل , والسرقة , والاغتصاب . . . المشافي مليئة بالجرحى . وحامت طيور الموت حول المدينة التي أمست أشبه بمدينة الرعب .

              اختفى الضباب بعد ذلك . كانت المدينة كمقبرة جماعية . . كل شيء متكسر .. الدماء في كل مكان الخراب يعم أرجاءها , مناظر مثيرة للرعب , لكن الناس عادوالأعمالهم وكأن شيئاً لم يكن .

              بعد ثلاثة أيام حدث أمر آخر إذ ارتفع الغبار وملأ المدينة وكأنه سحابة عظيمة .. فتحت النافذة مجدداً حائراً , من أين أتى كل هذاالغبار ؟ أمعنت النظر في المدينة لعلي أرى سبباً لذلك ... هل يا ترى هي إحدى النساءأرادت أن تنظف بيتها فتركت النوافذ مفتوحة ؟ أم تُراه أحدهم قد ألقى قصيدة في إحدىالأمسيات وهو يسميها شعراً ففعلت ما فعلت ؟ لكني أشك بأحدهم . إذ رأيته يستمع إلى المذياع القديم إلى أخبار القصف على أبناء العراق فارتعدت أوصاله وشهق شهقة مماأخرج كل تلك الأتربة فملأت المدينة .
              خرجت إلى شوارع المدينة , كانت ثيابيمملوءة بالغبار كذلك شعري , حواجبي و أنفي , عيناي أحسست بحبيباته بين أسناني , داومت على البصق دون فائدة . كل شيء تراب . حتى داخل المنزل , كيف يدخل لا أعرف , انتابني صـداع فظيع . فقدت أبي , أمي أختي , أصدقائي , معلمي , حبيبتي , كلهم اختفوا.. تذكرت مشهداً في أحد المسلسلات , كان كبير القرية يمسك برأس أحد الفلاحين ويضعه في التراب أمام الجمع الغفير , وها أنا الآن أنظف أنفي من أكوام التراب التي فيهوأشعر بشيء حاد يحرقني و لعل كل هذه المدينة تشعر بنفس الشعور .
              شاهدت فتاتينتمشيان في الشارع وهما تأكلان البوظة , لمحت شاباً سحب الكيس الذي تحمله إحداهما وركض سريعاً , صرخت الفتاة وطمرت رأسها في صدر رفيقتها التي حضنتها بيديها , نظرتإلى الشاب وللحظة فكرت أن ألحق به , لكن بينما أنا أتابع التفكير كان قد اجتازعشرات الأمتار , رميت بنظري إلى الفتاة الباكية ورفيقتها تهدّئ من روعها وتابعت المسير .. أحسست بشعور غريب , بخفة ملأت جوفي , من هذا الذي يمشي , من أنا , ومنأين أتى هذا الشعور , هو نفس الشعور الذي أحسست به في رمضان الفائت حين رفض سائقالحافلة صعود رجل عجوز إلى حافلته لأنه يحمل أغراضاً كثيرة واكتفيت ومن كان فيالحافلة بتحريك رؤوسنا , وهو نفس الشعور حين رأيت ثلاثة من الرجال يركلون كيساًكبيراً اتضح فيما بعد أنه شاب مسكين واكتفيت أنا وأصدقائي بزم شفاهنا . وهو نفس الشعور حين علا صوت فتاة في شارع بارون بينما أحدهم يقترب منها ورائحة الخمر تفوح منه ولا أحد يساند هذه الفتاة وسمعت صوت أحدهم يقول بعد أن أمسك شرطي المروربالسكير: اتركوه، ما خربت الدنيا‍‍! وآخر: كل الحق عليها، "ليش تطلع بهذا المنظر؟ "وهو نفس الشعور حين صدمت سيارة مجنونة طفلاً وهربت السيارة تتجنبه ولميحاول أحدهم حمله إلى المشفى خشية الوقوع في مشكلة لها أول وليس لها آخر، مكتفينبالقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! الحق عليه" ليش بيعبر الشارع المزدحم؟ "إلى أن هدأت أنفاس الطفل واستكانت.
              خفيفاً كنت أسير. أحسست بأني أبتعد عن الأرض، يالهذه الخفة، أين الجاذبية، نيوتن يقول إن الجاذبية هي التي تشدنا إلى الأرض، أولا تجذبني إلى الأرض الآن؟ يا للخفة، وبدأت قدماي تبتعدان عن الأرض، كانت القلعة أمامي بجدارها الزماني العتيق وأنا أحلق فوقها، وما إن أصبحت فوق السور حتى وجـدت أبي، وأمي وأخي وأصدقـائي، ومعلمي داخلها، وشاهدت نفسـي بينهـم، كانـوا يلـوحون لي، كنت قاب قوسين أو أدنى منهم , وما إن لوحت لهم حتى سقطت أرضاً وقفت ونفضت كلالأتربة وركضت أجوب الشوارع بخطوات قوية وأنا أصيح: كذب نيوتن .. كذب نيوتن.. نظرت إلى سـاعة يدي، كانت ما تزال تشير إلى الواحدة ليلاً .

              +++
              التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي; 05-05-2006, 03:24 AM.

              تعليق

              • طارق شفيق حقي
                المدير العام
                • Dec 2003
                • 11929

                #22
                رد : صدرت مجموعة غابات الروح

                هسيس الأفكار



                بين العديدِ مِنَ الغرفِ فيالمدينةِ الجامعيَّةِ، وبين تداعياتِالأفكارِ والأفعالِ، وبين فكي الحياةالتي
                تطحن الطموحات والأحلام . . . تظلُّ غرفةٌ في إحدى الوحداتِالسكنيةِ مضاءةً حتى وقتٍ متأخِّرٍمن الليل، وهي تُطِلُّ على جُزءٍليسَ بصغيرٍ من مدينةِ حلبَالتي ترسو فيها قوافلُ المنازلِ على ضفافِ الدَّأبِ واللهاثِ .. غيمةٌ سوداءُ تربُضُ فوق صدرِ المدينةِ، قلْ إنها دخانُ السياراتِ والمعاملِ.. قل إنها أفكارُ الناسِوأحلامُهم.. قل إنها همومُهموطموحاتُهم.. لكن لا شكَّ في أنها غيمةٌ مَقيتةٌ يبغَضُها المتأمِّلُ من تلكالغرفةِ .. وبين تلكَ التشكيلاتِ الواسعةِ منَ الأضواءِ والمنازلِ يرتفعُالقصرُ البلديُّ شامخاً إلىالسَّماءِ وقد حجبَ جزءاً من قلعةِ حلبَ الساكنةِ وكأنها إنسانٌ محنَّطٌ يراقِبُ ما يجري بصمتٍ وهدوءٍ.. والمتأملُ من تلكالشرفةِ يجدُها كإنسانٍ قد ضَمَّ يديهِ مُخفياً شيئاً في دائرتِهِ التي شكَّلها .. لكن لامفرَّ للعينِ مِنْ الوقوفِ عندَ القصرِ البلديِّ الذي وقفَبرسميَّةٍ واضحةٍ مرتدياً حُلَّةً أنيقةً بربطةِ عنُقٍسوداءَ وكأنهُ مَركزُ المدينةِ، والشوارعُ تتحولقُ حولَهُ إضافةً إلى الناسِ والسياراتِ بل حتىالمنازلُتدورُ في دواماتٍ حولَهُ، لكن الشيء الملفتَ للانتباهِ أنهُ حتىبدايةِ عامِ 2000 ظلًّ فارغاً من أعلى القبعةِ التي يرتدِيها حتى أخمصِ قدميهِ!! لطالما جلسَ ذاك الشابُّ يتأمّلُ المشهدَ المثيرَ.. يدقِّقُ في تفاصيلِالمدينةِ كأنها بحرٌ متلاطِمُ الأمواجِ،تأخذُ المنازلُ شكلَ أمواجٍمنفردةٍ وقد انفصلَ كلُّ منزلٍ عن سميِّهِ ورسا على ضفافِ المدينةِ .. لكنهُ لا بدَّ أن يعودَ ليتأمّلَ القلعة متخيّلاً مِئذنَةَ جامِعِها منارةً تنيرُ ذلك البحرَالمظلمَ مُرسِلةً نوراً يصلُلغرفتِهِ الطّافيةِ على مياهِ البحرِالكبيرِ… كان يقفُ فتَراتٍ طويلةً مُتأمّلاً حائِراً لا يعرف قصداً ولاسبيلاً؛ وفي كلِّ مرَّةٍ كان يجلِسُ فيها وحيداً كانَتْ هناكَ نيرانٌتَشتعلُ فيه.. لكنه لم يعرفْ ماهيـةًلتلك النيرانِ .. كانَتِ الأفكارُتمدُّ وتجزرُ بهِ .. لم يعرفْ موضوعاً محدّداً يقفُ فكرُهُ عندَهُ.. لم يزلْيغيّرُ أصدقاءَهُ، وفي كلِّ صداقةٍ جديدةٍ كان يشعرُ أن النهايةَ قدِاقتربَتْ، فيظلُّ ذلك الصديق مجرّدَ زميلٍ لا أكثر.. ليسَ ذلك فحسبُ بل لم يكنْيبدأُ في قراءةِ إحدى الكتبِ أو المجلاتِ وبعد أن يسيرَ معَالكاتبِقليلاً، حتى يرى أن لا نكهةً لتلك المقالة أو القصـة فيرمِيهـا جانباً، وتفاقم الأمر حتى أمسى منذ الأسطر الأولى يترك ما بيدِهِ، وخلالَ السنواتِ الثلاثِ الماضيةِ لمينْهِ سوى روايةِ (الفضيلةِ) على الرَغمِ من أنه كان كثير المطالعة سابقاً .

                في كلِّ يوم كـان يذهـبُ مع رفاقِـهِ إلى الجامعة ، وفي نشاطٍ وحيويَّةٍ يَتكلّمونَ يَضحكونَ مثيرين جوّاً شبابيّاً جميلاً، لكنه كان يُحِسُّ _ وبدون مقدّماتٍ _ بالشتاتِ والابتعادِ عن زملائِهِ.. لعل أحداً لم ينتبِهْإليهِ.. فكلٌّ يدور في دوّامتِهِ الخاصّةِ، هذا يعرضُ أمجادَهُ مع بناتِالكليّةِ وكيف حادثَ تلك أو صادَق هاتيك، وذاكَ منهمكٌ في الحديثِ عن سيارةٍ ذاتِنظامٍ حديثٍ في القيادةِ، ومسجّلةٍ ليزريّةٍ بسعةٍأكبرَ للأقراصِ، وآخرُ حزينٌ لأن فاتَهُ شراءُ الشريطِ الجديدِ لنشوى جرو، واثنانِ يتهامسانِ عن الدِشِّوأخبارِهِ.. صديقٌ واحدٌ فقط أحسَّ به وسألَهُ مُستفسراً: أين تشرُدُ أحياناً ونحننتحادثُ ونتضاحَكُ؟!! فأومَأَ لهُ بأنه هوَ نفسُهُ لا يعرف ما الذييجعلُهُ يشردُ ويفكِّرُ في أمرٍ لم تتّضحْ لهُ معالِمُهُ لحدِّ الآن… وظلَّ ضوءُ غرفتِهِ مناراً طيلةِ الليلِ، وبقيَ يراقبُ القلعةَ الصّامتةَ من شرفتِهِ التيظلّتْ تتخبّطُ فوقَ مياهِ البحرِ الكبير .

                في يومِ الثلاثاءِ حين كـانَيحادثُ الصديقَ ذاتَهَ - بعدَ أن خرجا من المحاضرةِ الأخيرةِ - لمحَ وجهَ فتاةٍ جعلَتْهُ يكرّرُ مفرداتِهِ وجُمَلَهُ وقدِ انحرفَ نظرُهُ عن وجهِ صديقِهِ الذي انتبهَ لأمرِهِ لكنّهُ لم يدرْ وجهَهُ ليبحثَ عن الذي جذب نظرَهُ، بل صمتَ وهو يحدِّقُ فيه وقد ارتسمَتْ على شفتَيهِ ابتسامةٌ صغيرةٌ، ثم قال لـهُ: من هي؟.. أتعرفها ؟ قال: نعم ؟! .. لا، لا أعرفها، ولكني شاهدتُّ هذه الملامح سابقاً ..لكن أين.. عتبُكَ على الذاكرةِ.

                بعدَ أيامٍ حين دارَ حديثٌ بينَهُوبين تلك الفتاةِ أخذَ يسائل نفسَهُ ويبحثُ في الأيامِ.. في الأماكنِ التيجلسَ فيها.. الأصدقاءُ الذين تعرّفَ إليهم.. الجيران.. الأقرباء، عبثاً.. تتالَتِ الأيامُ، كان جالساً بجانبِها في الصّفِّ وبينما هي تناولُهُ قلماً إذفرِغَ قلمُهُ.. لم يعرفْ أين ذهب فكرُهُ لحظتَها، وكأنَّ هذا الموقفَقدمرَّ به من قبلُ، فقال لها: ألم تعطِني إصبعاً منَ الشوكولا يوماً ؟.. استغربَتْسؤالَهُ وهزَّت رأسها نفياً، بينما ظلَّ هو وحيداً وهسيسُ الليلِ يقتحمُ غرفتَهُكلَّ يومٍ.. ازدادَ ذلك الأمرُ سوءاً، فحين كان عائداً إلى غرفتِهِ.. صَعِدَ الدرجاتِ وقبل أن يفتحَ البابَ بعد أنْدسَّ المفتاحَ انتبهَ إلىأنَّ شكلَهُ مختلفٌ فنزَلَ طابقينِ عائداً إلى غرفتِهِ.. وتكرّرَ الأمرُ نفسُهُ.. لكنّهُ بعد أنْ نزَلَ عدةَ طوابق أخرى لم يشاهدْ بابَهُ المألوفَ.. وقفَ قليلاًمفكّراً بالأمرِ ثم عادَ ضاحكاً إلى وحدتِهِ السكنيّةِ. مساءَ كلِّ سبتٍكان يذهبُ إلى النادي الأدبيِّ وسَطَ المدينةِ وفي إحدى المراتِ كانتْ أنفاسُهُ تتعاقبُ وهو يصعدُ الدرجاتِ فقد تأخّرَ على الموعدِ المحدّدِ لبدءِ الأمسيةِ لكنهُفوجِئَ بضوءِ النادي مطفأً ! قاللنفسِهِ: أمعقولٌ أنهم أنـهَوا الأمسيةَسريعاً.. دارَتْ بهِ الأفكارُ وركب عائداً إلى غرفتِهِ متذكّراً أن اليومَ هوالجمعةُ.. ظلَّ صامتاً في الحافلةِ حتى فوجِئَ بالسائقِ يقولُ له: إنه الموقفُالأخيرُ.. فركبَ حافلةً أخرى وعاد إلى غرفتِهِ الصّامتةِ،وازدادَتْ ذاكرتُهُ سوءاً فـأصبحَ حين يحـادثُ البائعَ يقفُ طويلاً متذكّراً حاجتَهُ، وقدِ اعتادَ البائعُ أمرَهُ، فيتركُهُ لحالِهِ قد يتذكّرُ طلباتِهِ أوبعضاً منها أو لا يتذكّرُها بالمرة.. ظلَّ دون شايٍ أو قهوةٍ أياماً وفي كلِّ مرّةٍينزِلُ فيها للتسوّقِ يمشي ويمشي حتى يصلَ إلى حارةٍ غريبةٍ عليهِ فيعود أدراجَهُ لا ينتبهُ إلى الأمر حتى يأتيَهُ ضيفٌ فيُفاجَأُ بأنّهُ لا يملِكُ مايقدّمُهُ لذلكَ الضيفِ .. !

                تعليق

                • طارق شفيق حقي
                  المدير العام
                  • Dec 2003
                  • 11929

                  #23
                  رد : صدرت مجموعة غابات الروح

                  وظلَّ يقفُ على شرفتِهِ يراقبُ المدينةَ وأصبحَ للغروبِوألوانِهِ التي يبعثِرُها في السماءِ جماليّةً خاصّةً لديهِ انسكبَتْ في ذاتِهِ فأخذَ يكتبُ الشعرَ ويصوِّرُ نُسخاً لزملائِهِ الذين لم يَفهمُوا من ذاك الشعرِ شيئاً.. فأغلبُهُ رمزيٌّ مفعمٌ بالألوانِ الخريفيَّةِ .. ذات يومٍ كان ينسخُ لزملائِهِ إحدى قصائدِهِ فظلَّ يراقبُ آلة الفوتوكوبي وهي تنسخُ وتنسخُ.. ثم تنسخُ.. فكتبَ قصيدةً جديدةً أسماها (فوتوكوبي) لم يفهمْ أحد منها شيئاً !! وبقيَ ضوءُ غرفتِهِ مضاءً إلى الساعاتِ الأخيرةِ من الليلِ، ونيرانٌ تعبثُ بمشاعرِهِ.. تؤرِقُهُ.. ويبقى حتى أذانِ الفجرِ لم يذقْ للنوم طعماً، ثم تتركُهُ متعباً من سيول الأفكارِ والتخيلاتِ التي شاركَتْهُ فراشَهُ . في يوم الخميسِ، وبينما كان يصغي إلى المحاضرةِ، سمعَ صوتَ فتاةٍ فأدارَ وجهَهُ نحوَها بسرعةٍ، وظلَّ الصوتُ يتردّدُ في ذاكرتِهِ.. قلَّبَ كلَّ أوراقِهِ السابقةِ، لكنه لم يجدْ جواباً . بعدَ انتهاءِ المحاضرةِ سائلَ الرفاقَ عنها فلم يعرفها أحدٌ حتى اضطُرَّ إلى أن يسأل رفيقتَها عنها، فأجابَتهُ ببرودٍ أنَّ أسلوبَهُ قديمٌ ومكشوفٌ في التعرُّفِ إلى الفتياتِ.. وبقيَتْ غرفتُهُ مضاءةً طيلةَ الليلِ والأفكارُ تنقضُّ عليهِ كأشباحٍ سوداءَ بعيونٍ بيضاءَ تنتهِكُفضاءاتِ أفكارِهِ.. تاركَ الطعامَ وحالتُهُ تزدادُ سوءاً، وجسمُهُ يضعُفُ شيئاًفشيئاًوهسيسُ الأفكارِ يؤرِقُهُ، وظلَّ ضوءُ غرفتِهِ مضاءً، وظلَّ يراقبُالقلعةَ الصامتةَ من شرفتِهِ إلى أن جاء ذلك اليومُ.. لم يشعرْ بضياعٍ كما شعرَفيه.. لم تكنِ الأيامِ لتسعفَهُ بيومٍ مرَّ به أصعبَ من ذاك اليومِ.. كانجالساً في حلقةِ بحثٍ يغالبُ نفسَهُ ويتضاحَكُ مع الرفاقِ.. كان العددُكبيراً، فاضطُرَّ المحاضِرُ إلى أن يَقسِمَ العدد قسمينِ: الأولُ من حرف العين إلى الياءِ… وبدأ الرفاقُ يَحُثُّونَهُ إلى الخروجِ ممازحينَ إيّاهُ بكلمةٍمن هنا وهناكَ، وهو لا يعلمُ عمَّ يتحدَّثونَ.. لم ينقصِ العددُ كثيراً فاضطُرَّالمحاضرُ إلى سؤالِالطلابِ عن أسمائِهِم، وحين وصل إليه سألَهُ عن اسمِهِثم عن سببِ عدمِ خروجِهِ فقالَ: ولِمَ الخروجُ ؟! فترتيبُ الأحرفِ: ع، غ، ط، ظ ..فضحكَ كلُّ من كانَ في الصفِّ ظانّينَ أنهُ يمازحُ المحاضِرَ الذيأخرجَهُ طالباً منهُ أن يحضُرَ في الحصَّةِ الثانيةِ… لم يعرْ أحدٌ اهتماماً للأمرِ الذيجرى لكنَّ صدمةً قويّةً قد زلزلتْ كيانَهُ، لا للموقفِ ذاتِهِ بل للحال التي أمسىعليها.


                  خرجَ وهو هائمٌ على وجهِهِ وقد تأجَّجَتِ النيرانُ فيه وأحشاؤُهُ تتقلَّبُ وأنفاسُهُ تضطربُ وقد سرَتْ برودةٌ في أطرافِهِ، وصلَ إلىالبهوِ السفليِّ من الكليّةِ، وقفَ وحيداً وقدِ امتلأ البهو بالطلابِ والطالباتِ،والأصواتُ ترتفِعُ أكثرَ فأكثرَ… ضحكاتٌ مفعمةٌ بالحيويّةِ ترُنُّ من حولِهِ… أصواتٌ متداخلةٌأحاديثُ غير مفهومةٍ تملأ المكان، أحسَّ وكأنَّ مطرقةً تطرقُ في رأسِهِ والوجوهُ تمرُّ به متكرّرةَ المعالمِ، والألوانُ عليهاتختلفُ من واحدةٍ لأخرى، وألوانُ الثيابِ تتناوبُ وتتكرّرُ محدثةً إيقاعاً متزايداًلتلكَ المطرقةِفاخترقَ تجمُّعاتِ الشبابِ خارجاً من الكليّةِ، ظلَّ يسيرُ ويسيرُ حتى غابتِ الشمسُ وقد ألفى نفسَـهُفي مكانٍ غريبٍ عادَ إلى غرفتِهِ،قلَّبَ أوراقَهُ ، دفاتِرهُ كتبَهُ والعصبيّةُ واضحةٌ في حركاتِهِ والتوتّرُ ينفُرُمن وجهِهِ كطيرٍ مزهوقِ الروحِ حتى وجدَ ورقةً بيضاءَ كان قد رسمَ عليها صورةَفتاةٍ باسمةٍ تأمَّلها ملياً، ضمَّها إلى صدرِهِ وكأنها الثلوجُ تنهمرُ فوق النيرانِ.. وضعَها مع بقيَّةِ أغراضِهِ في حقيبةِ سفرِهِ وعادَ إلى مدينتِهِ ، في الحافلةِ كان قد أسند رأسَهُ إلى الزجاجِ مغمضاً عينيهِ لم يلاحظْ أنضوءاً قد انبعثَ من منارةٍ وسَطَ المدينةِ من أعلى قمَّةٍ فيها، وبقيَ ضوءُ غرفتِهِمناراً حتى ساعةٍ متأخِّرةٍ من الليلِ .







                  +++





                  تمت المجموعة

                  تعليق

                  • د.ألق الماضي
                    ......
                    • Dec 2005
                    • 9795
                    • sigpic
                      ألقٌ من السِحرِ ..أم سِحرٌ بـهِ ألقُ
                      وفي حروفِكِ يأتي البدرُ والشـفقُ
                      وحِـسُ قلبِكِ أثْـرَىَ لحنَ أغنيتي
                      فصـار قلبي على كفَّـيْكِ ينطلقُ
                      أأكتبُ الشّـِعرَ أم أُهـديكِ قافلةً
                      من الورودِ عليها القلبُ والحَـدَقُ
                      ورمزُ اسمـِكِ مكتُوبٌ على شَفَتي
                      من قبلِ أن يُولدَ القِرطاسُ والوَرَقُ
                      ثروت سليم

                    #24
                    رد : صدرت مجموعة غابات الروح

                    ألف ألف مبارك

                    سعدنا بهذا المولود
                    وندعو باستمرار العطاء
                    شكرا أخي طارق على إشراك أعضاء المربد في نجاحك
                    شكرا لإهدائك الرقيق
                    حفظ الله لك والديك وإخوتك ومن تحب
                    :007: لا أحب قراءة القصص على شاشة الحاسب ؛ لذا لن أتنازل عن مصافحة أوراق المجموعة ممهورة بإهدائك :grin:
                    يا إلهي سيطمع أعضاء المربد بها يا لطول لساني

                    تعليق

                    • طارق شفيق حقي
                      المدير العام
                      • Dec 2003
                      • 11929

                      #25
                      رد : صدرت مجموعة غابات الروح

                      المشاركة الأصلية بواسطة نشيد الربيع
                      مبرووووووووووووووووووووووك

                      في اسمي في الإهداء ..
                      بارك الله بك عزيزي ربيع النشيد

                      وكيف لا ألم ترى الاهداء

                      تعليق

                      • سمير الفيل
                        كاتب مسجل
                        • Mar 2005
                        • 58

                        #26
                        مبروك..

                        أخي الكريم

                        طارق شفيق حقي

                        مبروك صدور المجموعة .
                        وبالتوفيق إن شاء الله.

                        تعليق

                        • محمد سنجر
                          كاتب مسجل
                          • Apr 2006
                          • 181

                          #27
                          رد : صدرت مجموعة غابات الروح

                          ألف ألف مبروك أخوي طارق
                          إلى الأمام
                          أخوك محمد سنجر

                          تعليق

                          • مروان قدري عثمان مكانسي
                            كاتب مسجل
                            • Oct 2005
                            • 398

                            #28
                            رد : صدرت مجموعة غابات الروح

                            الأخ العزيز طارق أبارك لك كتابك بل أبارك للقراء ما قدمته لهم من عصارة قلبك و وجدانك ، وأرجو أن يكون ذلك في ميزان حسناتك

                            تعليق

                            • محمد عرفه
                              كاتب مسجل
                              • Nov 2005
                              • 1

                              #29
                              رد : صدرت مجموعة غابات الروح

                              ألف... ألف مبروك يا طارق.
                              فرحت لك والله العظيم
                              ألف مبروك

                              تعليق

                              • محمد الشرقاوي
                                كاتب مسجل
                                • Mar 2006
                                • 20

                                #30
                                رد : صدرت مجموعة غابات الروح

                                باسم الله الرحمان الرحيم

                                العزيز والمحترم الأستاذ طارق . السلام عليكم ورحمة الله .

                                قد لايمكنك تصور مدى فرحي وسعادتي ، وأنا أستفبل هنا في بيتي وعلى مرأى ومسمع من أبنائي ، * غابات الروح *..فهنيئا لك بها ..

                                وهنيئا لنا بكما معا . أنت الأديب الصادق الأمين .. وهي المجموعة القصصية الساحرة العذبة ..

                                ولتدم سيدي الكريم ، أديبا متأ لقا في مجمل عطاءاتك الفكرية الممتعة ..

                                تعليق

                                يعمل...