الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

الأساطير ..؟!

تقليص
X
  •  
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • طارق شفيق حقي
    المدير العام
    • Dec 2003
    • 11929

    #16
    رد : الأساطير ..؟!



    الترجمات الخمس ليسوع

    رؤية نقديَّة


    فراس السوَّاح



    كأيَّة ظاهرة من ظواهر الثقافة الإنسانية، تخضع الظاهرة الدينية لقوانين التبدل والتغير، نشوءًا وارتقاءً أم تبدلاً في الأشكال والمضامين. فكل دين يتكون في سياق تاريخي معيَّن، وفي بيئة ثقافية معيَّنة تطبعه بطابعها. ولكن هذه الصيغة الأصلية ما تلبث طويلاً حتى تأخذ في التغير، وذلك تبعًا لإيقاع تطور الجماعة، من جهة، وتبعًا لاحتكاكها بالجماعات المجاورة لها ومدى تأثرها بها، من جهة ثانية. ونحن نستطيع متابعة هذه السمة الحركية للدين منذ تعبيراته الأقدم في العصور الحجرية القديمة، وصولاً إلى أديان العالم الكبرى، البائدة منها والسائدة. ولا تشذ عن هذه القاعدة تلك الأديان التي تقوم على مفهوم الوحي والتي وضعتْ لها الأساسَ شخصياتٌ روحيةٌ متميزة قالت إنها تلقت وحيًا من السماء.

    هذه السمة التطورية للأديان تدعونا إلى القول بأنه سواء قام الدين على وحي أصلي أم على كدح روحي إنساني، فإن الإنسان في النتيجة هو صانع دينه. والتاريخ الروحي للإنسان ليس تبيانًا عن مقاصد الإرادة الإلهية في عالم البشر بقدر ما هو تبيان عن سعي الإنسان الحثيث إلى تلمُّس مقاصد الإرادة الإلهية والانسجام معها. بتعبير آخر، فإن الدين ليس كشفًا من الخارج بقدر ما هو كشف من الداخل.

    على أن قولنا بالأصل الإنساني للدين ليس دعوة إلى تقويض الدين، بل إلى فهمه فهمًا أفضل. وهذا الفهم الأفضل هو الذي يُبقي على الدين قوةً تحريرية كبرى في حياة البشر. الحس الديني عند الإنسان هو معطى قبْلي، لا يمكن إخضاعه لمختبرات العلم؛ وسيبقى عنصرًا فاعلاً في حياة الأفراد والمجتمعات، سواء آمنَّا بالوحي النازل من السماء أم بالروح الإنسانية التي تتوق إلى السماء. ففي لحظات الكشف الصافية، عندما يتواصل الإلهي بالإنساني، مَن يستطيع إجابتنا عن مَن اقتحم على الآخر عزلتَه: أهو الله أم الإنسان؟

    أسوق هذه المقدمة الموجزة لأقول بأني أتفق مع مؤلِّف كتاب الترجمات الخمس ليسوع[*] (صدر في العام 1940) في الأطروحتين الرئيسيتين اللتين يقوم عليهما كتابُه: أولاهما السمة التطورية للعقيدة المسيحية، والثانية قوله بأن الدين هو نتاج فعاليات الإنسان الروحية والفكرية، وليس كشفًا يأتي من عالم الغيب. لكني، مع ذلك، أختلف معه جذريًّا في النتائج التي بناها على هاتين المقدمتين كافة. ولسوف أبدأ بعرض سريع لأفكار المؤلِّف قبل أن أعمد إلى نقدها.

    يقول المؤلِّف في فصله الأخير المُعَنْوَن "يسوع والعقل المعاصر" ما يلي:

    كثيرًا ما سُئلت خلال سني خدمتي الطويلة، كما سُئل غيري من رجال الدين المتحررين: "ما الذي تركه لنا النقد العالي من الإنجيل سوى الغلاف؟" والحقيقة أنه تركه كلَّه من الغلاف إلى الغلاف. لم يأخذ النقد من الإنجيل أيَّ كتاب أو فصل أو آية أو كلمة. إن هذا العلم يهدف إلى إعلامنا كيف وصل الإنجيل إلينا، ومساعدتنا على فهمه بشكل أفضل وتقديره بشكل أكثر. ما دمَّره النقدُ العالي هو نظرية قديمة وخاطئة عن الإنجيل. [...] لقد ورثنا، ولم نقرِّر لأنفسنا، الاعتقادَ بأن الإنجيل هو كلمة الله. من أين أخذنا هذا الاعتقاد؟ ليس من الإنجيل نفسه بل من الكنيسة.

    ويقول أيضًا:

    ليس الهدف من النقد إذًا تدمير الإنجيل بل كشفه من جديد لأذهاننا. وإن إحدى أهم نتائجه هو اكتشاف أن الإنجيل، كغيره من الكتب المقدسة، سجل حي لمحاولة الإنسان أن يجد ما يعتقد أنه الحقيقة المقدسة والأبدية، ويتحد بها، وليس هدية معلَّبة مُنزَلة من فوق.

    ويقول أيضًا:

    استنادًا إلى كلِّ ما سبق، ليس ثمة حقيقة أنصع من كون الإنجيل كتابًا إنسانيًّا. إنه كلمة الإنسان عن الله.

    ويقول أيضًا:

    لقد نجمت مشاكل يسوع عن كونه نبيًّا وقع بين أيدي كهنة. مفكر خلاق، ومصلح، ظهر في وسط الكتبة واللاهوتيين.

    ويقول:

    إننا ملتزمون بقبول النتائج التي يكشف عنها العلمُ الحديث عن إنسانية يسوع الأساسية. من هنا، فإن يسوع بالنسبة إلينا كان إنسانًا ارتقت فيه العبقريةُ الروحية للإنسانية إلى أسمى مراتبها.

    انطلاقًا من هذا الاعتقاد بإنسانية يسوع، يعمد المؤلِّف في القسم الأول من كتابه إلى رسم صورة حيوية لمراحل تطور العقيدة المسيحية، من يسوع الناصري، النبيِّ والمعلم الأخلاقي الذي ظهر في الجليل، إلى الإله الابن الذي أُعلِنَ كذلك في مجمع نيقيا في العام 325 م بإرادة إمبراطور روماني.

    فتَحْتَ الصورة اللاهوتية الشديدة التركيب التي رسمتْها المجامع المسكونية، يرى المؤلِّف الصورةَ الأصليةَ ليسوع، النبي الناصري، الذي لم يزعم في أيٍّ من مواعظه العامة ولا في حياته كلِّها أنه المسيح، وأنذر تلامذته أكثر من مرة قائلاً: "لا تقولوا البتة إنني هو." كما أن يسوع لم يكن على بيِّنة من أن له طبيعةً أو أصلاً خارقين. لقد ظهر كنبيٍّ كما ظهر يوحنا المعمدان قبله، وشعر أنه ابن لله مثل سائر الناس الذين دعاهم إلى التشبُّه بأبيهم الذي في السماوات. لم يزعم يسوع أنه ولد ولادةً خارقة ولا أنه ابن الله الوحيد. لقد عرَّف بنفسه كنبيٍّ حامل رسالة إلى شعبه، ولكنه لم يدع أية خاصية له. عمل معلمًا وشافيًا بين أبناء شعبه مثل الذين سبقوه أو عاصروه.

    وقف يسوع إلى جانب المنبوذين والفقراء وجميع الذين كان الفريسيون ينعتونهم بالملاعين، ودعا الصيادين والفلاحين الجاهلين بـ"نور العالم" و"ملح الأرض"، هؤلاء الذين احتقرهم الفريسيون لأنهم لا يعرفون الشريعة. لم يتكلم يسوع قط عن الإنسان كوارث لخطيئة آدم ولعنة الخطيئة الأصلية. وفي جميع تعاليمه لا يعطي أية إشارة إلى مجموعة العقائد التي شيدتْها الكنيسة باسمه في العصور اللاحقة. والخلاص الذي دعا إليه لا يتم عِبْر السيد الفادي المخلِّص، ولكن عِبْر تحقيق هدف الإنسان من الحياة، ألا وهو تحقيق الإرادة الإلهية.

    كان ذهاب يسوع إلى أورشليم مغامرةً غير محمودة العواقب. والمؤلِّف، في وصفه لهذه المرحلة التي انتهت بصلبه، يقول إن الزعم القائل بأن يسوع توجَّه إلى أورشليم ليموت على الصليب فداءً عن البشر هو زعم خاطئ. فعشية القبض عليه في جبل الزيتون قال لتلامذته: "نفسي حزينة حتى الموت. امكثوا هاهنا واسهروا معي." ثم انفصل عنهم مسافة رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلَّى ثلاث مرات لكي تَعبُر عنه هذه الساعة قائلاً: "يا أبَّا الآب، كل شيء مستطاع لك، فأجِزْ عني هذه الكأس." وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض. لكن صلاته لم تُستَجَبْ، وجاء يهوذا مع الجند وسلَّمه إلى أعدائه. وقبل أن يسلم الروح على الصليب صرخ: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" الأمر الذي يدل، في رأي المؤلِّف، على أنه لم يطلب الموت على الصليب، ولم يكن كليَّ المعرفة أو القدرة.

    في نهاية هذا الفصل الأول، الذي يرسم فيه المؤلِّف صورةَ يسوع التاريخي كما يراها، يقول لنا:

    هناك انتهى عمل النبي الناصري. [...] وما سنشهده في الأقسام التالية من هذا الكتاب أنه بعد موته سعتْ عقولٌ غير عقله لإعطائه موقعًا معينًا في التاريخ. فلقد توجَّه أتباعُه اللاحقين، وجلُّهم من اليهود الهيلينيين، إلى الأمم وأخذوا أساسيات عقائدهم اللاهوتية من تلك المصادر الوثنية، وجعلوا من الناصري البسيط إلهًا خارقًا. لقد صبوا فكرهم في عقل يسوع، وألقى لاهوتُهم القائم على الأسطورة بظلاله على أقوال يسوع التاريخية، وأخفى طبيعتَه الإنسانية الأساسية.

    في الفصول التالية، يستعرض المؤلِّف الصور التالية المتراكبة ليسوع التي ابتكرتْها عقول من يسمِّيهم "الهيلينيين" ويرفضها جميعًا، باعتبارها صورًا منحرفة عن الصورة التاريخية الأصلية. وهذه الصور هي: صورة يسوع بيت لحم الذي ارتقى إلى مرتبة المسيح، وصورة يسوع أنطاكية الذي صار الكلمة، وصورة يسوع مجمع نيقيا الذي صار إلهًا من خلال التصويت في المجمع وتدخُّل الإمبراطور قسطنطين المتحول حديثًا إلى المسيحية.

    هذه خلاصة سريعة للأفكار الرئيسية في الكتاب الذي يحتوي على الكثير مما يمكن مناقشته والرد عليه. ولكن نقدي سوف يقتصر على مسألتين أساسيتين اثنتين: الأولى تتعلق بالصورة التي دعاها وحدها بالتاريخية والصادقة، وهي صورة النبي الناصري؛ والثانية تتعلق بالتناقض الواضح بين مقدمات المؤلِّف والنتائج التي بناها على هذه المقدمات.

    فيما يتعلق بصورة يسوع التاريخي، يقول المؤلِّف إنه استند في رَسْمِها إلى الأناجيل الثلاثة المتشابهة، وهي إنجيل متى ومرقس ولوقا، في استبعاد كامل لإنجيل يوحنا الذي يعتبره إنجيلاً لاهوتيًّا بامتياز وسجلاًّ لأقوال مختلَقة لم يَفُهْ بها يسوع قط، وإنما هي إنشاء من قبل مؤلِّف الإنجيل. كما يستبعد أيضًا كلَّ رسائل بولس لأن تفاسيره قد تأثَّرتْ بالعقائد اليونانية والرومانية؛ وكذلك الأمر في بقية أسفار العهد الجديد.

    هذا الموقف التعسفي الانتقائي، الذي ينطلق من قبول بعض الأناجيل ورفض غيرها، يترسَّخ تدريجيًّا عندما نكتشف أن المؤلِّف كان انتقائيًّا أيضًا في اعتماده على الأناجيل المتشابهة الأولى، ولم يأخذ منها إلا ما وافق عقيدتَه وآراءه المسبقة. ولسوف أتوقف عند نقطتين فقط تُظهِران مدى انتقائية المؤلِّف: الأولى قوله بأن يسوع لم يُلمِّح إلى أنه سيذهب إلى أورشليم ليموت فداءً عن البشرية، ولم يكن عارفًا بما ينتظره هناك؛ والثانية قوله بأن يسوع لم يزعم عِبْرَ حياته التبشيرية أنه المسيح، وأنه حذَّر تلامذته من أن يُشِيعوا ذلك بين الناس.

    وللردِّ على النقطة الأولى أورِدُ هذه المقاطع من الأناجيل الثلاثة. فقد وَرَدَ في إنجيل مرقس، الإصحاح 10 (حيث ينبئ يسوع للمرة الثالثة على التوالي بموته) ما يلي:

    وكانوا سائرين في الطريق صاعدين إلى أورشليم، وكان يسوع يتقدَّمهم، وقد أخذهم الدهش. [...] فمضى بالاثني عشر مرة أخرى، وأخذ ينبئهم بما سيحدث له، قال: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم، فابن الإنسان يُسلَم إلى الأحبار والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويُسلِمونه إلى الوثنيين، فيسخرون منه، ويبصقون عليه ويجلدونه ويقتلونه، وبعد ثلاثة أيام يقوم.

    ووَرَدَ في إنجيل لوقا، الإصحاح 9:

    وقال: "يجب على ابن الإنسان أن يعاني آلامًا شديدة، وأن يرذلَه الشيوخُ والأحبارُ والكتبة، وأن يُقتَل ويقوم في اليوم الثالث."

    ووَرَدَ في إنجيل متى، الإصحاح 16:

    وبدأ يسوع من ذلك الحين يُظهِر لتلاميذه أنه يجب عليه أن يذهب إلى أورشليم ويعاني آلامًا شديدة من الشيوخ والأحبار والكتبة، ويُقتَل ويقوم في اليوم الثالث. [...]

    فقال لهم يسوع: "إن ابن الإنسان سيُسلَم إلى أيدي الناس، فيقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم."

    هذا ما وَرَدَ في الأناجيل الثلاثة حول معرفة يسوع المسبقة بمصيره وقبوله له، بل وسعيه إليه. فما هي المصادر التي اعتمدها المؤلِّف إن لم تكن عقيدته وآراءه المسبقة التي اكتسبها من المذهب "التوحيدي" Unitarian الذي تحول إليه في أمريكا بعد هَجْرِه المذهب الأرثوذكسي؟

    أما قول المؤلِّف بأن يسوع لم يزعم طوال حياته أنه المسيح، فقول لا تؤيِّده الشواهد من الأناجيل الثلاثة التي يدَّعي الاعتماد عليها وحدها. صحيح أن يسوع قد أمر تلامذته ألا يقولوا لأحد إنه المسيح، – والسبب في ذلك، على الأرجح، رغبته في عدم الارتباط بمفهوم المسيح السياسي الذي كان اليهود ينتظرونه، – ولكنه ارتضى لنفسه هذا اللقب من قبل تلامذته عن طيب خاطر، وأثنى على بطرس الذي كان أول مَن أطلق هذا اللقب عليه. نقرأ في إنجيل متَّى، الإصحاح 16-17:

    فقال لهم: "ومَن أنا في قولكم أنتم؟" فأجاب سمعان بطرس: "أنت المسيح ابن الله الحي." فأجابه يسوع: "طوبى لك يا سمعان بن يونا. فليس اللحم والدم كشفا لك هذا، بل أبي الذي في السماوات." [...] ثم أوصى تلاميذه بألا يخبروا أحدًا بأنه المسيح.

    وفي مشهد المحاكمة، كما قدَّمه إنجيل مرقس (وهو أكثر الأناجيل بساطةً وبُعدًا عن التأملات اللاهوتية)، أعلن يسوع بكلِّ صراحة ووضوح أنه المسيح. نقرأ في الإصحاح 14:

    فسأله عظيم الأحبار ثانية قال له: "أأنت المسيح ابن المبارك؟" فقال يسوع: "أنا هو. وسوف ترون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القدير، وآتيًا في غمام السماء."

    أنتقل الآن إلى المسألة الثانية التي يدور حولها نقدي لأفكار المؤلِّف، والتي تتعلق، كما أسلفت، بالتناقض الواضح بين مقدمات المؤلِّف ونتائجه. فإذا كان الإنجيل "سجلاًّ حقيقيًّا لتطلعات الإنسان" و"بحثًا عن الحقيقة الدينية"، وليس "هدية معلَّبة مُنزَلة من فوق" (على ما يقوله المؤلِّف في الصفحة 129 والصفحة 134)، وإذا كان الإنجيل "كتابًا إنسانيًّا" وكان "كلمة الإنسان عن الله" (كما يقول في الصفحة 134)، فلماذا يجب علينا أن نقبل بالصورة الانتقائية ليسوع الناصري كما رسمها المؤلِّف، ونرفض معه بقية الصور التي هي من صنع الإنسان أيضًا؟ ولماذا يجب علينا أن نتجاوز كلَّ تأملات الإنسان اللاهوتية التي رسمت صورة يسوع المسيح ويسوع الكلمة ويسوع الأقنوم الثاني في الثالوث؟ ألا تشكِّل هذه التأملات اللاهوتية، بدورها، سجلاًّ لتطلعات الإنسان وبحثًا عن الحقيقة الدينية؟ لماذا لم تتوقف تطلعات المسيحيين وبحثهم عن الحقيقة عند صورة يسوع الناصري، المعلم الأخلاقي، بل تجاوزتْها إلى يسوع المسيح المخلِّص؟ أليس لأن صورة المسيح المخلِّص الذي مات على الصليب طواعيةً فداءً للبشرية هي الصورة الأقرب إلى النفس الإنسانية في بحثها عن الخلاص؟ لقد اعترف المؤلِّف بهذه الحقيقة اعترافًا غير مباشر عندما قال في الصفحة 116:

    إن الطبقات الفقيرة في الإمبراطورية الرومانية لم تكن تكترث لرسالة اجتماعية، وإنما كانت تطلب خلاصًا شخصيًّا عبر سيد مخلِّص، في عصر غير آمن روحيًّا. وهذا ما قاد الإنسان الاعتيادي إلى اعتبار المسيح المعبود صديقَه ومساعدَه الإلهي. لم يعد الله كائنًا بعيدًا، بل ها هو يرافق الناس في طريق حياتهم الصعبة في شخص ابنه الذي كان بشكل غامض هو الآب نفسه أيضًا. لقد تعذب يسوع ولكنه انتصر أخيرًا. لهذا كان الصليب، رمز عذاب المسيح ومحبته، يمنح المجاهد روحيًّا دعمًا إلهيًّا ويحفظه ويهوِّن عليه في ساعات المرض والألم، ومعزيًا كلِّي القدرة في ساعة الموت.

    كلمات المؤلِّف هذه تقودنا إلى القول بأن المسيحيين قد صنعوا مسيحهم عبر القرون الثلاثة أو الأربعة التي تلت حياة يسوع، ولم يتلقوه "هدية معلَّبة" من الأعلى. فلماذا يجب علينا أن نرفض هذا المسيح اليوم لصالح هدية معلَّبة فعلية يقدِّمها لنا المؤلِّف هي صورة يسوع الناصري، المعلِّم الأخلاقي البسيط، التي يضفي عليها وحدها صفةَ الواقعية والتاريخية، بينما لا تعدو أن تكون صورة انتقائية تمَّ رسمُها رسمًا تعسفيًّا اعتمادًا على قراءة متحيزة للأناجيل الثلاثة – صورة لا تصلح لأن يُبنى عليها أيُّ دين حقيقي.

    وفي الحق أن الإبقاء على هذه الصورة وحدها، وشطب كلِّ تأملات المسيحيين اللاهوتية اللاحقة، من شأنه أن يخلق "مسيحية بلا مسيح"، ويجعل من يسوع مجرد نبيٍّ يهودي حاول إصلاح اليهودية من داخلها. وهذا بالضبط ما سعى إليه الفكر اليهودي على الدوام، ممتطيًا ظهر طوائف مسيحية جديدة، بينها طائفة "الموحدين" التي ينتمي إليها المؤلِّف. وهي طوائف نشأت في تربة ال?روتستانتية الأمريكية، تسعى جاهدةً للاستيلاء على روحها، لأن في ذلك استيلاءً على الروح الأمريكية – والاستيلاء على الروح الأمريكية هو عنصر هام من عناصر التحكم في عالم اليوم.

    *** *** ***

    تعليق

    • طارق شفيق حقي
      المدير العام
      • Dec 2003
      • 11929

      #17
      رد : الأساطير ..؟!



      عملي أقرب إلى تاريخ الأديان

      منه إلى الميثولوجيا


      أفينيون: يُعتبَر المفكر السوري فراس السواح أحد الباحثين الذين اهتموا بتاريخ الحضارات والأديان، وكذلك بالمفاهيم الميثولوجية في سورية وبلاد الرافدين. وقد أصدر عددًا من الكتب التي أصبحت علامةً فارقةً على درب البحث العربي في هذا المجال.


      السواح كان موجودًا في أفينيون خلال عرض جلجامش الذي عمل طويلاً على نصوصه. الشرق الأوسط التقت به هناك، وتحدثت معه عن رأيه في المسرحية وعن أبحاثه الخاصة.

      ***


      بينك وبين جلجامش «قصة حب» طويلة، إذا صحَّ التعبير. هل لك أن تروي لنا بداية هذه القصة والمراحل التي عبرتْها؟

      فراس السواح: قصَّتي مع «جلجامش» تعود إلى أكثر من 25 سنة على وجه التقريب. تعرفتُ إلى النصِّ أولاً من خلال ترجمات عربية مبكرة، مثل ترجمة طه باقر، الباحث العراقي المعروف، فلفت نظري النص – وكنت وقتذاك بدأت الانكباب على دراسة نصوص الشرق الأدنى القديم. كان نص جلجامش نصًّا متميزًا، على جانب كبير من الأهمية؛ فتابعت البحث فيه، وبدأت أطلع على الترجمات العالمية له باللغات الأجنبية. نص جلجامش نص عالمي، تُرجِمَ إلى لغات العالم الحية كلِّها تقريبًا: إلى الإنكليزية أكثر من عشر مرات، إذ صدرت الترجمة الأخيرة للباحث أندرو جورج العام الماضي [1999] في بريطانيا.

      ولأن النص قديم جدًّا وبلغة ميتة فهناك دائمًا اجتهادات في اللغة والمعنى. ومن هنا تتنوع الدراسات والأبحاث، وكذلك وجهات النظر في ما يتعلق بالترجمة والترجمة التفسيرية. وبعدما زاد اطلاعي على الترجمات العالمية، بدأت بإعداد نصي الخاص، فصدر كتابي الأول في العام 1981 تحت عنوان جلجامش، ترجمةً وتقديمًا؛ وكان كتابًا صغيرًا يحتوي على النص فقط وعلى مقدمة صغيرة. ثم وسَّعتُ الدراسة في العام 1987. وبعد ظهور ترجمات عربية وأجنبية جديدة، أعدتُ كتابةَ الكتاب من جديد، فصدر في 350 صفحة في العام 1996.


      شاهدنا جلجامش، الإنسان الذي لم يكن يريد أن يموت في عرض مسرحي خلال مهرجان أفينيون. كيف تنظر إلى العرض المسرحي الذي قدَّمه المخرج الفرنسي ?اسكال رامبير؟ هل خَدَمَ المخرجُ الملحمةَ في الشكل الذي اعتمده؟ وهل خَدَمَ الشكلَ الذي اعتمدتْه الملحمة؟

      ف.س.: الحقيقة أن رامبير قدَّم ساعة من العرض في دمشق [المعهد العالي للفنون المسرحية، ربيع 1998]. أما في أفينيون، فكان العرض مختلفًا إلى حدٍّ كبير. هناك حركة، استعراض، موسيقى... في دمشق، العمل كان هادئًا جدًّا، والحركة كانت بطيئة ومكثفة جدًّا، دون ديكور، دون ملابس، دون إضاءة – عمل عارٍ تمامًا من الناحية المسرحية. ذلك الأسلوب خَدَمَ النصَّ أكثر، في رأيي، وكان المفهوم المسرحي مختلفًا. أحببت العمل الذي قُدِّمَ في دمشق أكثر. قُدِّمَ هذا العمل نفسه في نيويورك [كانون الثاني 1998]؛ وقد تحدثت مع مسرحيين أمريكيين شاهدوا العرض في نيويورك وشاهدوه هنا [أفينيون، 2000]، فأيدوا وجهة نظري. المفهوم الذي قُدِّمَ في نيويورك ودمشق كان أعمق وأكثر جدية بالنسبة للملحمة. ولكن يبقى هذا العرض عرضًا متميزًا، عرضًا من الدرجة الأولى، ينتمي إلى مفهوم الحداثة وما بعد الحداثة في المسرح. وهذا ما لم يعجب معظم المسرحيين في سورية عندما شاهدوا العرض، بينما أعجب كثيرًا من المثقفين والمطلعين والتنويريين الذين يتعاطون مع المسرح في مفهومه المعاصر.

      لغات ثلاث
      المخرج اختار أن يستخدم لغاتٍ ثلاث، الإنكليزية والفرنسية والعربية، للكلام على «جلجامش». هل تعتبر هذا المزيج مزيجًا لغويًّا موفقًا؟

      ف.س.: إن نصًّا عالميًّا مثل نص ملحمة «جلجامش» يحتمل اللغات الثلاث، ويحتمل هذا النوع من التطعيم بين عدد من اللغات، الذي هدفه إظهار الأصل الشرقي للملحمة. فاستخدامه للُّغة العربية هو من قبيل الإيحاء باللغة الأكادية القديمة، واستخدامه للُّغة الإنكليزية هو للإيحاء بعالمية النص وشموليته وشيوعه في مختلف أنحاء العالم. العمل كان موفقًا فعلاً. وأعتقد أن استخدام نصٍّ عادي حديث باللغات الثلاث لن يكون على الدرجة نفسها من التوفيق.

      لاحظنا أن هناك نوعًا من الالتزام السياسي: إشارات سياسية اخترقت العرض، يمكن للمُشاهد أن يُسقِطَها على النص الذي وُجِدَ في مدينة نينوى قبل خمسة آلاف سنة...

      ف.س.: رامبير من المثقفين الغربيين النادرين الملتزمين التزامًا كليًّا بالإنسان وبقضايا الإنسان. كان في القاهرة عندما بدأت الحرب العراقية؛ وخلال إقامته هناك اكتشف نصَّ «جلجامش»، فراح يبحث عن نصٍّ عربي في المنطقة يتفق ومفهومه عن العمل الذي كان يتكون في ذهنه في ذلك الوقت. وكان أن جاء إلى دمشق، فاجتمع بي، وأبلغني أنه اختار نصي من بين النصوص العربية للملحمة. اختياره للنص تعبير عن التزامه بقضية الإنسان بالدرجة الأولى، وبقضية العرب بالدرجة الثانية.

      اجتماعك برامبير في دمشق جاء بناءً على طلبه. ما هي الأفكار التي تبادلتموها حول الملحمة؟

      ف.س.: رامبير من المخرجين الكبار، وهو من أصحاب الرؤى. رؤيته كانت نهائية ومتبلورة حين جاءني، وبالتالي لم أُضِفْ الكثير. أنا لست بمسرحي، وإنْ أكن مغرمًا بالمسرح، وأتابع النشاطات المسرحية في سورية وخارجها. حوارنا كان حوارًا ثقافيًّا وفكريًّا حول النص، حول مفهوم النص ومعناه، وما شابه ذلك. سألته لماذا اختار نصي أنا ولم يخترْ غيره، فقال إنه، أولاً، وجده أقرب النصوص العربية إلى النصِّ الفرنسي والإنكليزي إلى درجة تبلغ حدَّ التطابق الكامل؛ فكان هذا أحد العوامل التي رجَّحتْ اختيارَه لنصي. العامل الثاني كان من خلال استشاراته التي قام بها في المنطقة (فهو يقرأ العربية، لكن ليس جيدًا)؛ وقد وجد النص قويًّا من الناحية اللغوية وقابلاً للتقديم.

      ما هي مآخذك، من موقعك كعارف بمسالك النص، على هذا العرض؟ وما هي النقاط التي أحببتها؟

      ف.س.: يمكن لنا أن نطرح السؤال بشكل آخر؛ فنحن لا نستطيع الحديث عن إيجابيات وسلبيات أو عن «مآخذ». يجب أن ننظر إلى هذا العمل ل?اسكال رامبير من خلال مفاهيمه الخاصة، وكعمل ينطلق من الحداثة وما بعد الحداثة. المخرج كان أمينًا لأسلوبه وتقنياته، من خلال مفاهيم مسرحه ومن لفَّ لفَّه. هذا العمل، برأيي، عمل متكامل وعظيم. أنا شخصيًّا أفضل العمل الذي قُدِّمَ في دمشق، ولكن هذه وجهة نظر شخصية جدًّا. لكن من وجهة نظر مفاهيم ?اسكال رامبير عن المسرح، من وجهة نظر مفاهيم المسرح الحديث، العرض ممتاز.


      النص قُدِّمَ في البرية، كما وَرَدَ في الملحمة، في حقل لعباد الشمس مساحته حوالى ثمانية هكتارات. كيف تفاعلت مع الإخراج الفرنسي للملحمة؟

      ف.س.: تقديمه في الهواء الطلق كان فكرة قديمة عندي. أنا عملت إعدادًا مسرحيًّا لـ«جلجامش». ففي آخر كتاب صدر لي عن الملحمة (وهو كتابي الثالث)، أفردت الجزء الأخير منه، الملحق بالكتاب، لإعداد درامي للملحمة، والتزمت فيه النصَّ بأكمله، لكني غيرت في اللغة. حاولت العمل على النص مع المخرج العراقي جواد الأسدي، لكن تصوُّرنا عن النص كان طموحًا جدًّا ويحتاج إلى تمويل كبير لم نستطع العثور عليه حتى الآن. خيارنا كان اعتماد النص الطموح جدًّا، وحتى الآن لم نجد منطقة طبيعية مناسبة، قد تكون سفح جبل وقد تكون شبيهة بالمنطقة التي اختارها ?اسكال. لكني اندهشت أول ما وصلت إلى الحقل؛ أدهشني هذا الاختيار، ولم أكن أعرف أننا نستطيع اختيار مكان بهذا القدر من الجمال!

      النص يعاني من ثغرات كثيرة اعترت ألواح الملحمة؛ وهذه قُدِّمَتْ كما هي في المسرحية. كيف تعاطى السواح مع هذه «الثغرات» في إعداده المسرحي للملحمة؟

      ف.س.: أنا لست مع هذه الطريقة في التعاطي مع الثغرات وفي التقديم. ?اسكال رامبير قدَّم العمل كاملاً، مع ثغراته كاملة. المُشاهد لا يهمه إذا كان في النص ثغرة أو لا. المهم أن نعمل في الإعداد المسرحي على ردم هذه الثغرات. رامبير كان ملتزمًا إلى حدٍّ كبير بالنص بشكله الأكاديمي. أما أنا، فلكي أتجاوز هذه الثغرات في النصِّ الأكاديمي الذي عملت عليه في ثلاثة كتب، عملت على ملء الفراغات بما يتلاءم مع المعنى، من دون إسقاطات أو آراء شخصية. فالمُشاهد يحتاج إلى نصٍّ متسلسل، وهو ليس طالبًا جالسًا في قاعة بحث وتقدَّم له مادةٌ أكاديمية علمية.

      عملتَ على أفكار ميثولوجية تعود إلى حضارات قديمة، بينها حضارات ما بين النهرين. وبين كتبك كتاب أثار ضجة كبيرة، هو لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة. هل يمكن القول أيضًا إن هناك قصة حبٍّ طويلة بينك وبين عشتار؟ وكيف تلخِّص لنا رؤيتك لهذه الميثولوجيا وتأثيرها في عالمنا الحالي؟

      ف.س.: كتابي هذا قديم في نظري. كتبته بعد كتابي الأول مغامرة العقل الأولى الذي كان دراسة في الميثولوجيا السورية والرافدينية. من هذا الكتاب انطلقتُ إلى كتابة لغز عشتار، وتحدثت فيه عن ثيمة معينة هي ثيمة الإلهة الأم، صورها وتجلِّياتها في الثقافات المشرقية. ثم انطلقتُ من الثقافات المشرقية إلى متوازياتها في الثقافات العالمية، فتتبَّعت تجلِّيات مفهوم الإلهة الأم وتَمَظْهُراته في مختلف ديانات العالم وثقافاته، وقمت بمقارنة شاملة.

      بعد لغز عشتار، أضحى مجال البحث في نظري أوسع بكثير؛ لم يعد وقفًا على ثيمة ميثولوجية معينة أو على منطقة ثقافية بعينها، بل صار معنيًّا بالفكر الإنساني عمومًا. وقد تجسَّد ذلك في كتابي دين الإنسان، وهو بحث في مفهوم الدين وأصل الدافع الديني في الثقافات العالمية بأكملها. والكتاب محاولة للإجابة عن سؤال: ما هو الدين؟ لماذا يتدين الإنسان؟ ما هي القاعدة الأساسية التي تلتقي عندها جميع أديان العالم، منذ العصر الحجري إلى يومنا هذا؟ هذا ما تابعته فيما بعد. عملي صار أقرب إلى تاريخ الأديان منه إلى الميثولوجيا بمعناها المحدَّد والضيق. وأفضل اليوم أن أسمِّي هذا المصطلح، أي «تاريخ الأديان»، بـ«تاريخ الأفكار» (وهو مصطلح موفق جدًّا ومستعمَل في جامعات العالم اليوم)، لأنني لا أبحث عن الدين في سياقه الشعائري الطقسي، بل أبحث عن الفكر الذي يقدِّمه دين أو معتقد معين، عن رؤيته لما وراء العالم المنظور، لعلاقة الإنسان بالميتافيزياء، وفلسفة الإنسان عن معنى الوجود ومعنى الحياة، وما إلى ذلك. هذا ما أعنيه بتاريخ الأفكار. أنا أنتمي اليوم إلى مجال بات يُطلَق عليه مصطلحٌ جديد في بلدان العالم، هو مصطلح «تاريخ الأفكار».

      على أيِّ مشروع تعمل اليوم؟

      ف.س.: غالبًا ما يقال إنني صاحب «مشروع»! والواقع أنني لست صاحب مشروع على هذه الدرجة من الوضوح والتتابع. أعمالي تتوالد دائمًا بعضها من بعض. هناك بعض الكتَّاب يقولون: لدي مشروع للبحث في موضوع معين، سأخصص له مجلدًا، أو أعمل عليه طوال عدد معيَّن من السنين. هذا الشيء غير موجود عندي. الكتابة عندي تعبير عن مشروعي المعرفي الخاص. فكلما تعمقت في موضوع معين، وقرأت فيه، وتولدت عندي أفكار حوله، أعمد إلى كتابة كتاب لإشراك الآخرين في مشروعي المعرفي الخاص. فإذا كان عندي «مشروع» فهو مشروع معرفي؛ وهو خاص جدًّا، وأحب أن أشرك الآخرين فيه.

      *** *** ***
      عن الشرق الأوسط، صيف 2000

      تعليق

      • طارق شفيق حقي
        المدير العام
        • Dec 2003
        • 11929

        #18
        رد : الأساطير ..؟!



        "مولع بيسوع"

        قراءة في كتاب

        الوجه الآخر للمسيح


        للمرَّة الأولى في كتبه جميعًا يُعَنْوِنُ فراس السواح فاتحةَ كتابه الأحدث الوجه الآخر للمسيح[*] – فهو عادةً ما يكتفي بكلمة "فاتحة". أما هذه المرة فقد عَنْوَنَ فاتحتَه بعبارة "مولع بيسوع"؛ وهو بذلك يعطي كتابَه الجديد بُعدًا ذاتيًّا، إضافةً إلى بُعده الموضوعي والجهد الكبير الذي بذله السوَّاح في هذا العمل.


        يقول السواح في "فاتحته" إنه طالما فُتِنَ بشخصية يسوع التي رأى فيها "نموذجًا للثوري الذي جاء ليعلن نهاية عالم قديم وتأسيس عالم جديد، يتحقق المثالي فيه باعتباره واقعًا". وانطلاقًا من هذا الفهم الخاص للمسيح، بدأ السواح مشروعه الجديد بتقشير الطبقات المتراكمة التي تغطي الصورة الحقيقية للمسيح وللمسيحية من أجل إبراز الوجه الأصلي للمسيح الجليلي الكنعاني الذي نادى برسالة إنسانية شمولية، لا المسيح "اليهودي" الذي أحدث انقلابًا داخل المؤسَّسة الدينية اليهودية من خلال تعاليم ومواقف وأفعال عبَّرتْ عن تجاوُز الموروث وقادت إلى تشكيل كنيسة مستقلة، على الرغم من بقائها على ارتباط روحي بالتركة التوراتية.

        حتى يصل فراس السواح إلى هذه النتيجة، بدأ بدراسة الأناجيل الأربعة التي تعترف بها الكنيسة رسميًّا، فابتدأ بملاحقة الفرق بين الأناجيل الإزائية (وهي أناجيل متى ومرقص ولوقا) وبين الإنجيل الرابع، إنجيل يوحنا، الذي هو نسيج وحده بين الأناجيل الرسمية الأربعة، "يمتلك رؤية خاصة به وبنية عامة وتحقيبًا زمنيًّا ونسيجًا لاهوتيًّا ليس له مثيل بين الأناجيل الإزائية الثلاثة"؛ والأهم من ذلك أن رسالة يسوع فيه مختلفة عن رسالته في الأناجيل الأخرى. ولقد تبيَّن للسواح أن أية محاولة للتسوية بين الأناجيل الأربعة لن تعدو أن تكون توفيقًا غير ناجح: إذا كان يوحنا على حق، كان الإزائيون على خطأ؛ إذ يستحيل أن يكون كلا الفريقين على صواب.

        للبحث في أسباب هذا الاختلاف، رجع الباحثُ إلى تاريخ كاد أن يصير نسيًّا منسيًّا بفعل السطوة التي مارستْها المداخلات اليهودية على العهد الجديد والتي لا بدَّ أن تبدو للمحقِّق غريبة كلَّ الغرابة وشاذة عن السياق العام للنصِّ المسيحي وأقوال يسوع ومواقفه العملية. هذا التاريخ هو التاريخ غير الرسمي للمسيحية الذي انتهى مع تبنِّي كنيسة روما الأناجيل الأربعة الرسمية.

        غير أننا بالعودة إلى القرن الأول والثاني الميلاديين نكتشف حركةً مسيحيةً راديكالية عارضت كنيستَي روما وأورشليم، متخذةً في القرن الثاني شكل كنيسة غير منمَّطة عقائديًّا وغير منظَّمة تراتبيًّا. وقد عدَّت هذه المسيحية الغنوصية نفسَها "الممثل الحقيقي للدين العالمي الجديد". وهي لم تكتفِ بإعلان "استقلالها التام عن اليهودية، بل أظهرت العداء لكلِّ الميراث التوراتي وتصوراته عن الألوهية والإنسان والعالم". وقد أنتج المسيحيون الغنوصيون أناجيلهم التي استمدوها من فهمهم "الأصيل لتعاليم يسوع المبثوثة في الأناجيل القديمة، ومن تعاليم أخرى له سرِّية بثَّها في تلاميذه"، وكذلك من تعاليم بولس "التي بثَّها في رسائله المعروفة أو التي قالها سرًّا لأتباعه المخلصين".

        ويرى المسيحيون الغنوصيون أن في إمكان "كل مَن تلقَّى الروح [...] أن يتواصل مع الإلهي دون واسطة". كما أنهم يعبِّرون عن معارضتهم للهرمية الكنسية ولدور رجال الدين في الكنيسة. ويرى بعضهم أن "طاعة رجال الدين تسلِّم المؤمنين إلى قيادة عمياء تستمد سلطتها من إله العهد القديم، لا من الله الحق".

        ويقودنا هذا إلى جوهر المسيحية الغنوصية الحقيقي: ترى المسيحية الغنوصية أن الله الحق ليس هو إله العهد القديم، صانع هذا العالم المادي الناقص المليء بالشرور، بل هو "الآب النوراني الأعلى الذي يتجاوز ثنائيات الخلق، ولا يحده وصفٌ أو يحيط به اسم، الذي بشَّر به يسوع، وبالآب دعاه، وليس بأيٍّ من أسماء الألوهة التوراتية". وهي بذلك تربأ بالإله الآب عن أن يكون هو مَن خلق عالم المادة المليء بالشر.

        فمَن هو خالق هذا العالم إذن؟ إنه إله التوراة الذي "يوازي آنجرامانيو، شيطان الزرادشتية". والمسيحيون الغنوصيون يتصورونه "على شكل مسخ مزيج من هيئة الأفعى والأسد". وقد أطلقوا عليه أسماء، منها يهوه ويلضباعوث و"أمير هذا العالم". وهو لذلك جاء عالمًا ناقصًا سِمَتُه الألم والمرض والموت. وينجم عن هذه العقيدة رفض الغنوصيين لهذا العالم ومتطلباته التي تعرقل سعي الروح إلى الانعتاق واستعادة حالة السقوط إلى حالة الكمال.

        إذا كانت المسيحية على ما ذكرنا أعلاه، فكيف تغيرت هذا التغير الجذري واتخذت الشكل الذي نراه اليوم؟ يجيب فراس السوَّاح عن هذا التساؤل بردِّ هذا التحول إلى المداخلات اليهودية التي "أفلحت في خلق شوكة في خاصرة المسيحية عندما تم في القرن الرابع الميلادي الجمع بين العهد القديم وأسفار العهد الجديد في الكتاب المقدس". ولقد لعبت المداخلات اليهودية، كما يرى السوَّاح، دورًا محوريًّا في عدد من القضايا، أهمها مكان الميلاد والشريعة ونَسَب يسوع وعالميَّة رسالته.

        ويرى الباحث أن قصة الميلاد في إنجيل متى هي أخطر المداخلات اليهودية في العهد الجديد؛ إذ هي التي رسَّخت فكرة أصل يسوع اليهودي. فلقد ولد يسوع، بحسب متى، في مدينة بيت لحم اليهودية الواقعة قرب أورشليم من أسرة يهودية. ثم لكي يبرِّر رسالة يسوع وحياته التي قضاها في الجليل، يدبِّج متى قصة مذبحة بيت لحم وفرار العائلة المقدسة إلى مصر، ثم عودتها إلى ناصرة الجليل. على أننا، إذا ما نحَّينا هذه المداخلة جانبًا، لا نجد أيَّ شيء يربط يسوع ببيت لحم ومقاطعة اليهودية. فهو جليلي، ولد وترعرع وبشَّر في الجليل، أبواه جليليان، وكذلك تلامذته وأتباعه كلهم. ولا يكل الإنجيل أبدًا من الإشارة إلى "جليلية" المسيح: فهو يسوع "الناصري"؛ وكلما جرى حديثٌ بين اليهود عنه ذُكِرَ اسمُ الناصرة أو الجليل.

        وفي ذلك كلِّه اعتمد الكاتب في منهجه على مقاربة نقد–نصية، قرأ من خلالها نصوص الإنجيل بعيدًا عن التفسيرات الرسمية؛ كما اعتمد مقاربةً تاريخية، بحث من خلالها تاريخ الجليل، موطن يسوع وتركيبه الثقافي والإثني. ثم أعطى بعد ذلك حيزًا للبحث في المسيحية الغنوصية التي أسَّست لكنيسة واسعة الانتشار طرحت نفسها بديلاً عن كنيسة روما، مُحدِثةً قطيعةً تامة مع التاريخ الديني اليهودي ومطابِقةً بين إله اليهود والشيطان.

        كتاب من الصعب الإحاطة به في عرض موجز. فهي، إذن، دعوة إلى قراءة الكتاب بعين ناقدة، منفتحة، جديدة، وتكوين وجهة نظر عذراء في هذا الموضوع الشائك.

        *** *** ***


        [*]فراس السواح، الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهود واليهودية وإله العهد القديم ومقدمة في المسيحية الغنوصية، طب 1، دار علاء الدين، دمشق 2004، 258 ص من القطع الكبير.

        تعليق

        • أبو شامة المغربي
          السندباد
          • Feb 2006
          • 16639


          #19
          رد : الأساطير ..؟!



          الأسطورة

          الأسطورة هي قصة خيالية أو مختلقة، وكانت ترتبط بالظواهر والكوارث الطبيعية وتفسيرها، فلقد تصور الأولون المطر إله يصب الماء من إناء بالسماء والريح له إله ينفخها بمراوح والشمس إله لأنها تضيء الدنيا ويشعل النيران.
          وكان الإنسان الأول يؤدي طقوسا للحصول علي هذه الأشياء وكان يعيش مع أساطيره كما إنشغلت كل الحضارات القديمة بسبب الخلق والخليقة.
          وتعتبر الأساطير حكايات مقدسة لشعب أو قبيلة بدائية وتراثا متوارثا ويطلق علي هذه الأساطير أحلام اليقظة ولها صلة بالإيمان والعقائد الدينية.
          كما تعبر عن واقع ثقافي لمعتقدات الشعوب البدائية عن الموت والحياة الأخروية، وهذه نظرة ميتافيزيقية، ومازالت القبائل البدائية تمارس الطقوس وتتبع أساطيرها التي تعتبر نوعا من تاريخها الشفاهي الذي لم يدون.
          ومن خلال الملاحم تروي الشعوب روايات عن أجدادها وحروبهم وإنتصاراتهم ورواية السير الشعبية الملحمية، لهذا لا تعتبر الأساطير تاريخا يعتمد عليه لأنها مرويات خرافية خيالية. فالإنسان البدائي لم يكن يشغل عقله لتفسير الظواهر الطبيعية، وكان يعتبر من منظوره الشمس، والقمر، والرياح، والبحر، والنهر بشر مثله، لهذا ظهرت أساطير الأولين لدي البابليينوالفراعنةوالرومانوالأغريقوالمايا.
          المصدر


          د. أبو شامة المغربي
          kalimates@maktoob.com

          تعليق

          • أبو شامة المغربي
            السندباد
            • Feb 2006
            • 16639


            #20
            رد : الأساطير ..؟!


            الأسطورة


            الفلكلور الفلسطيني

            الأسطورة

            د. أبو شامة المغربي

            تعليق

            • أبو شامة المغربي
              السندباد
              • Feb 2006
              • 16639


              #21
              رد : الأساطير ..؟!

              الأسطورة
              الأسطورة في العصر الجاهلي
              بقلم الكاتبة
              ندى الدانا
              مقدمة:
              الأسطورة هي الجزء الكلامي المصاحب للطقوس البدائية حسب رأي كثير من الباحثين، وبعضهم يؤكدون أن الطقس أسبق من الأسطورة، وقد احتفظ التراث الشعبي بكثير من العناصر الأسطورية والطقوسية، والحكاية الخرافية والشعبية صيغة متطورة عن الأسطورة تحت تأثير صنعة القاص، وتعتبر الأساطير أقدم مصدر لجميع المعارف الإنسانية.
              المعنى العربي لكلمة أسطورة:
              الأساطير هي الأحاديث التي تفتقر إلى النظام ، وهي جمع الجمع للسطر الذي كتبه الأولون من الأباطيل والأحاديث العجيبة ، وسطر تسطيرا تعني أنه ألف وأتى بالأساطير.

              والأسطورة هي الأقوال المزخرفة المنمقة، واستخدمت كلمة الأساطير في القرآن الكريم لتعني الأحاديث المتعلقة بالقدماء "قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين" أي مما سطروا من أعاجيب الأحاديث وكذبها.

              وفي القرآن الكريم "وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ".

              أما الخرافة فهي من خرف أي فسد عقله، والخرافة هي الموضوعة من حديث الليل المستملح، و(خرافة) اسم رجل من قبيلة عذرة، استهوته الجن، فكان يحكي ما رآه، فكذبوه، وقالوا: (حديث خرافة)، أو(حديث مستملح كذب)، ولم تذكر هذه الكلمة في القرآن الكريم ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: حدثيني. قالت: ما أحدثك حديث خرافة.

              أما الشاعر العربي الجاهلي فربط بين المدلول الغيبي للكلمة، ومعناها اللغوي، قال:

              حياة ثم موت ثم نشر * حديث خرافة يا أم عمرو
              الأساطير عند عرب الجاهلية:
              من الصعب دراسة الأساطير العربية القديمة بشكل علمي، لأن مصادر التاريخ قليلة وغير موضوعية، والأدب العربي القديم ضاع بسبب عدم وجود الكتابة عند العرب، ومعظم ما كتب عن تاريخ الجاهلية كان بين 500 و 622م أي مئة سنة قبل الإسلام، وقد وصلتنا عن طريق النقوش والرواة أخبار متقطعة مبعثرة مثل الأساطير البابلية التي اكتشفت في الألواح السبعة، ونقوش الساميين الشماليين، والأدب العربي الذي نعرفه يتعلق بالجاهلية قبل الإسلام بفترة قصيرة، حيث دونه الكتاب ووصلنا عن طريقهم مثل سيرة ابن هشام، وأخبار عبيد بن شرية، والإكليل، وحياة ا لحيوان للدميري، وفي كتب المتأخرين مثل الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ومروج الذهب للمسعودي، والأزرقي، والبلخي، والقز ويني، والثعالبي، والألو سي.
              كانت الأسطورة عند عرب الجاهلية تمثل علاقتهم بالكائنات، وآراءهم في الحياة، ومشاهداتهم، وكانت مصدر أفكارهم ، ألهمتهم الشعر والأدب، وكانت الدين والفلسفة معا.
              لم يستطع العربي الجاهلي أن يتصور ما وراء الطبيعة، ولم يتخيل حياة بعد الممات، وطبيعة بلاده الصحراوية جعلته يؤمن بالدهرية، ويقدس الحجر، والحيوان، والأشجار.
              تأثر العربي الجاهلي بالوثنية البابلية ، وحين اشتهرت الأديان في شبه الجزيرة العربية ، تأثر بالأديان اليهودية والمسيحية ، وتأثر بآراء الصابئة خاصة في عبادة النجوم.
              وحسب آراء المؤرخين المهتمين بأنساب العرب ، يشترك العرب مع الفينيقيين والآشوريين والبابليين في أصولهم لأنهم يتشابهون في أجسادهم وعاداتهم ، ثم افترق العرب عنهم وصار لهم مميزات خاصة بسبب بيئة البادية . فالعرب هم بقايا الشعوب السالفة المبعثرة ، وحسب رأي الباحث رابرتسن سميث " إن الأمم التي تشعبت من أصل واحد قد تشترك في اتخاذ العقائد والشعائرالوراثية دينية أو غير دينية ".
              أثرت البيئة الصحراوية في الحجاز ونجد على طبيعة العرب ، فالأشجار نادرة، والآبار والعيون قليلة، مما جعل العربي الجاهلي يصبح اتكاليا، يعتمد على القضاء والقدر، وينتظر المطر، ولا يميل إلى الأمور المعقدة، وكان صافي الذهن يحب الكلمة الصريحة والبيان الواضح، وقد وصف العربي القديم المرئيات بدقة، ومالت غرائزه إلى المادة أكثر من المعاني والروح، وعرف العرب بالعرافة التي تمثل طورا من تطور أوهام العرب بدأ من الطيرة والتفاؤل والتشاؤم ، وتطور حتى وصل إلى عبادة وتقديس الأصنام، وصار العربي يستقسم بالأزلام ، والعرافة عند العرب نظرية مادية بحتة مبنية على الاستنباط من المحسوسات والعلامات، وعرف العرب أيضا بالفراسة والقيافة ومعرفة الأثر.
              خلط الجاهليون معنى الدهر بالقضاء والقدر وتطورت هذه العقيدة حتى خضعوا لسلطان (مناة وعوض)، وهي أصنام تعني الدهر، فصار الدهر إلها من آلهة العرب، وكانت غايتهم الخلود.

              وفي الأساطير العربية أن الملك ذو القرنين طمح إلى الخلود، ووصل مع الخضر إلى عين االدهر، يشرب منها الماء الذي يعطيه حياة أبدية، لكنه منع من ذلك، وطمح لقمان بن عاد إلى الخلود، وارتبط خلوده ببقاء سبعة نسور على قيد الحياة آخر نسر اسمه (لبد) ويعني الدهر، لكن النسور ماتت واحدا تلو الآخر حتى جاء دور لبد الذي مات وانتهت حياة لقمان بموته.

              كان خيال الجاهليين قادرا على توليد الأسطورة والخرافة بشكل تصوري، فقد تصوروا الأشياء، واسترجعوا التجارب وركبوا صورهم الشعرية المادية المحسوسة، وتصورهم السمعي هام يظهر في الأساطير العربية، وفكرتهم عن الأشياء الروحية تأخذ تصورا ماديا، فقد تصوروا الروح في شكل الهامة، والعمر الطويل في شكل النسر، والشجاعة في شكل الأسد، والأمانة في الكلب، والصبر في الحمار، والمكر والدهاء في الثعلب.
              عرفت بعض مظاهر الطوطمية عند الجاهليين، وهي تقديس الحيوان ويكون هو الطوطم، وهناك قبائل تسمت بأسماء الحيوان ، مثل بني كلب، وبني نعامة، وظنوا أن الحيوان يحميهم كما يحمي الطوطم أهله، وكانوا يكفنون الحيوان ويدفنونه مثل الإنسان ، ويحزنون عليه، وتفاءلوا بالطير، ونباح الكلاب على مجيء الضيوف، وتشاءموا من الثور مكسور القرن، والغراب ، فقيل: "أشأم من غراب البين"، وعبدوا الشاة ، وغيرها من الحيوانات، ولم يكن هناك حيوان مخصص لقبيلة بعينها.

              وتظهر الفكرة الطوطمية في تصور الجن حيث اعتقدوا أنهم خلقوا من بيضة، وأنهم من نسل الحيوان، وكذلك الغيلان والسعالى والهوام ، حسب قول المسعودي في "مروج الذهب"، وتطورت فكرة الجن بحيث إذا تحولت السعلاة إلى صورة امرأة تبقى رجلاها مثل رجلي الحمار أو العنزة.

              ونسبوا الأفراد والقبائل إلى نسل الجن ، وقيل إن بلقيس ملكة سبأ وذي القرنين من أولاد الجن ، وكان الجن يمثلون قوة الشر التي يقاومها شجعان القبيلة مثل تأبط شرا ، ولم تكن الجن طوطما ولا أبا للعرب لأنهم خافوا منها .

              وفي الأساطير العربية يمسخ الإنسان حجرا أو شجرا أو حيوانا ، جاء في (عجائب المخلوقات) للقز ويني أن الصفا والمروة كانتا رجلا وامرأة ثم مسخا صخرتين ، وفي (حياة الحيوان) للدميري ورد أن أساف ونائلة كانا رجلا وامرأة فصارا صنمين ، وجاء في (أخبار مكة) للأزرقي أن العربي لم يأكل الضب لأنه كان بظنه شخصا إسرائيليا مسخ ، وقال المقريزي في (أخبار وادي حضرموت العجيبة) إنه كان بوادي حضرموت على مسيرة يومين من نجد قوم يقال لهم الصيعر يسكنون القفر في أودية، وفرقة منهم تنقلب ذئابا ضارية أيام القحط ، وإذا أراد أحدهم أن يخرج إلى هيئة الإنسان تمرغ بالأرض، وإذا به يرجع إنسانا سويا.

              واختلفوا في رؤيتهم للمسخ، بعضهم زعم أن المسخ لا يتناسل، ولا يبقى، وبعضهم زعم إنه يبقى ويتناسل، حتى جعلوا الضب والأرانب والكلاب من أولاد تلك الأمم التي مسخت في تلك الصور كما جاء في كتاب (الحيوان) للجاحظ.

              ومن معتقدات الجاهليين أن الجبال تؤثر في الإنسان ، فجبل أبي قبيس يزيل وجع الرأس، وجبل خودقور يعلم السحر، واعتبروا شجرة النخيل من أقربائهم، وتصوروا أنها تشبه الإنسان، وكان الجاهلي يجعل شجرة (الرتم) حارسا على زوجته أثناء غيابه، وقد قدسوا الأشجار وعبدوها ، فكانت طوطما، ورأوا روح الشر في بعضها مثل (الحماطة) وهي شجرة تشبه شجرة التين، وعبد العرب كل ما يتعلق بالأشجار من أغصان وجذور وقشور، وعبدوا العظم والريش والناب والمخلب والحافر والسن والظفر والحجر، وقدموا لها القرابين ، واتخذوها تميمة تحميهم، وكانوا يعلقون على الصبي سن ثعلب وسن هرة خوفا من الخطف والنظرة، وعبدوا النار وكانوا يرونها في الأشجار، وبطون الأحجار، والجبال.
              عبد الجاهليون الأصنام التي تحولت حسب العصر ، لكنها لم تصل إلى مرتبة الآلهة حتى القرن السادس قبل الميلاد ، لأن الجاهلي لم يكن يعتقد أن الصنم خلقه أو خلق الكائنات ، فكان تارة يقدسه ، وتارة يسبه ويشتمه ، وقد يصنع صنما من التمر ، وحين يجوع يأكله ، وتأثر الجاهليون بالوثنية البابلية والرومانية واليمنية ، فعبدوا الزهرة ، ومردوخ ، أو بعل إله الشمس والمطر والخصب مثل البابليين.

              وكلمة صنم أصلها آرامي ، فقد ورد عن أصنام تهامة أن لوح تهامة يذكر أسماء الأصنام الآرامية الثلاثة صلم وسنكال وعشرة ، وصلم هو بعل نفسه ، ولم ينحت العرب الأصنام بل جلبوها من الخارج، وأشهرها (هبل) وهو إله الخصب، وهو نفسه مردوخ في بابل ، ويسمى تموز أيضا في بابل ، وهو من أعظم الأصنام التي نصبتها قريش في جوف الكعبة ، وكان من عقيق أحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، جعلت له قريش يدا من ذهب، وكان إله مكة والكعبة.

              و(مناة) ويعني المنا أي القدر، وكان هذا الصنم منصوبا على ساحل البحر بين المدينة ومكة، وعبده الهذليون وعظمه كل العرب خاصة الأوس والخزرج.

              و(اللات) وهي اسم للشمس وقد أخذها العرب عن النبطيين وكانت صخرة مريعة بيضاء في الطائف، ونسبوا لها فصل الصيف.

              و(العزى)، وهي نفسها عشتار عند البابليين، إلهة فصل الربيع والحب، وكان لها تمثال أو رمز تحمله قريش في حروبها، وسميت الزهرة، ونجمة الصبح.

              و(ود) ويعني شجرة الحب في البابلية، وقيل إنه صنم إغريقي الأصل لأنه يشبه الصنم (إيروس) إله الحب عند اليونان ، فكان تمثاله على شكل رجل يرتدي حلتين ، وقد تقلد السيف ، وتنكب القوس، وبين يديه حربة وجعبة فيها نبل، وقد استمرت عبادته من عصر النبي نوح عليه السلام حتى العصر الإسلامي، وكان يمثل الحب عند الجاهليين، وهناك أصنام أخرى لا يتسع المجال لذكرها ، ثم تأثر الجاهليون باليهود والنصارى، ومزجوا وثنيتهم باليهودية، فكان لكل قبيلة صنم يعبدونه ويحلفون به، ويعتبرونه إلههم، وهكذا نرى أن الجاهليين لم يعرفوا معنى التوحيد، عدا بعض الأشخاص مثل ورقة بن نوفل، وعبد الله بن جحش، الذين اعتنقا المسيحية، وغيرهم من الحنفاء، حتى جاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام والتوحيد، وعبادة الله الواحد.

              * ندى الدانا: أديبة وباحثة سورية، صدر لها:
              - عند النافذة، قصص قصيرة 1994
              - أوراق اللعب أوراق الأشجار، قصص قصيرة 1996
              - مطر يطرق بابي، شعر 1999
              - كوكب السلام، رواية خيال علمي للفتيان 2000











              د. أبو شامة المغربي

              تعليق

              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
              حفظ-تلقائي
              إدراج: مصغرة صغير متوسط كبير الحجم الكامل إزالة  
              أو نوع الملف مسموح به: jpg, jpeg, png, gif, webp

              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

              صورة التسجيل تحديث الصورة
              يعمل...