الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

مع رجاء النقاش

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    كاتب مسجل
    • Jun 2006
    • 1123

    #16
    رد: مع رجاء النقاش

    15 ) ثروت عكاشة ينقذنا من فضيحة ثقافية

    بقلم: رجاء النقاش
    ......................

    هذه قصه وقعت تفاصيلها في اواخر الخمسينات من القرن الماضي وكان موضوعها هو يحيي حقي‏,‏ اديبنا الموهوب العظيم الذي نحتفل هذا العام بالذكري المئويه لميلاده سنه‏1905‏ وقد عرفنا يحيي حقي الذي رحل عنا سنه‏1992‏ رجلا مسالما لايعادي ولا يخاصم ولا يحب لنفسه ان يكون طرفا في اي صراعات او معارك‏,‏ كما انه كان رجلا حريصا علي استقلاله‏,‏ رافضا كل الرفض للاشتغال بالسياسه والدخول في امواجها الصعبه العاتيه‏,‏ وقد اتخذ هذا الفنان الكبير لنفسه ما يشبه الشعار لحياته كلها يقول فيه‏:‏ خليها علي الله‏,‏ وهو الشعار الذي جعله عنوانا لقصه حياته او سيرته الذاتيه‏.‏
    هذا الاديب الكبير المسالم‏,‏ صاحب الصدر الواسع والاخلاق المتحضره العاليه‏,‏ والنفس العفيفه التي ابتعدت به تماما عن اي منافسات من اي نوع‏,‏ لم يسلم من الاذي الذي اصابه في اواخر الخمسينات من القرن الماضي‏.‏ والقصه مولمه للنفس‏.‏ والذي يرويها وكان شاهدا عليها هو الدكتور ثروت عكاشه احد رجال الصف الاول في قياده ثوره يوليو‏1952,‏ وهو القائد الاكبر لهذه الثوره في ميدان الثقافه‏,‏ فقد كان وزيرا للثقافه في المره الاولي التي تولي فيها هذا المنصب من نوفمبر سنه‏1958‏ الي سبتمبر سنه‏1962,‏ ثم تولي نفس المنصب سنه‏1966‏ وحتي سنه‏1970.‏ والمنصفون جميعا يشهدون للدكتور ثروت بانه موسس ثقافي عظيم‏,‏ ويكفي ان اشير هنا الي عباره للشاعر والاديب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي حيث يخاطب ثروت عكاشه فيقول عنه انه انسان رائع ومناضل جعل من ثقافتنا الوطنيه قلعه تحمي شرف الانسان وكبرياء القلب الذي يحلم بالمستقبل‏,‏ والذين عاشوا مثلي في العصر الثقافي لثروت عكاشه يصدقون عباره الشرقاوي حرفا حرفا وكلمه كلمه‏.‏ ولولا وجود ثروت عكاشه علي راس وزاره الثقافه في تلك الفتره‏,‏ من‏1958‏ الي‏1962,‏
    ولولا شجاعته ومعرفته بالواقع الثقافي وضميره الحي لوقعت فضيحه ثقافيه كان لابد ان يسجلها التاريخ بكثير من الاسف عليها والغضب منها‏,‏ وكان لابد لهذه الفضيحه ان يكون لها صداها العالمي فتصبح فضيحه ثقافيه دوليه ومحليه في وقت واحد‏.‏ وهذه القصه يسجلها الدكتور ثروت عكاشه في كتابه الشهير مذكراتي في السياسه والثقافه الطبعه الثالثه دار الشروق صفحه‏398‏ حيث يقول‏:‏ لم يكن مضي علي تعييني وزيرا اكثر من شهرين عندما اتصل بي سكرتير رئيس الجمهوريه يدعوني الي لقاء عاجل مع الرئيس عبدالناصر الذي ما ان لقيته حتي طلب مني الاستماع الي شريط صوتي مسجل لمجموعه من الاشخاص انهالوا علي شخص الرئيس بالشتائم البذيئه ناعتين اياه باحط الصفات‏,‏ وسالته مندهشا عمن يكونون‏,‏ فذكر لي اسم احد الوزراء واسم اديب رائد مرموق‏,‏ وانه استغني عن خدمات الوزير‏,‏ وامر باعتقال الاديب الشيخ‏.‏ ولما سالته عن الغرض من دعوتي للاستماع الي ذلك التسجيل‏,‏ قال ان يحيي حقي رئيس مصلحه الفنون كان موجودا معهما ويتعين احالته الي المعاش‏,‏ فبادرته بقولي‏:‏ لكن الواضح من الشريط الصوتي انه لم يشارك في هذا السباب‏,‏ وهو رجل مشهود له بعفه اللسان ودماثه الخلق‏,‏ فضلا عن انه اديب مرموق ومحبوب‏,‏ وتوقيع العقاب ظلما علي هذا النحو سوف يكون له اثر سييء في اوساط المثقفين وعامه الشعب علي السواء‏,‏ فقال‏:‏ ولكنه كان موجودا ولم يعترض‏,‏ وهذا يكفي‏,‏ فناشدته ان يترك الامر لي حتي اعالجه باسلوب مناسب‏,‏ فوافق‏,‏ مقتنعا‏,‏ بعد الحاح‏.‏
    وقد عالج الدكتور ثروت الموضوع بمنتهي الحكمه‏,‏ حيث يقول‏:‏ اسندت الي يحيي حقي الاشراف علي مركز تدريب العاملين بالوزاره‏,‏ كما اسندت اليه بجوار ذلك منصبا مهما بدار الكتب‏,‏ ثم رئاسه تحرير مجله المجله حتي لا يشعر بغربه عن عالمه في مجال الفكر والادب والفن‏,‏ فقبل مني ما عرضته عليه بدماثته المعهوده‏,‏ وطبعا كان ذلك كله بعد اعفائه من منصبه كمدير لمصلحه الفنون‏.‏
    ثم يعلق الدكتور ثروت عكاشه علي ما حدث تعليقا مهما يقول فيه‏:‏ اروي هذه الواقعه لاصل الي تاملي فيما وقع من مبدئه الي منتهاه‏,‏ وانا بطبيعه الحال ارفض بذاءه القول للتعبير عن الخلاف في الراي‏,‏ ولكني ادركت من ناحيه اخري ان التجسس علي الوزراء واحصاء تحركاتهم وسكناتهم واسرارهم الشخصيه كان امرا يتساوي مع التجسس علي المجرمين والخارجين علي القانون‏,‏ وكان هذا درسا وعيته كوزير حديث العهد بالمنصب‏.‏
    هذا ما قاله الدكتور ثروت عكاشه ويمكننا ان نعلق عليه بما يلي‏:‏
    اولا‏:‏ لاشك ان الدكتور ثروت عكاشه بموقفه المسئول والشجاع قد انقذ مصر من فضيحه ثقافيه مدويه‏,‏ وذلك لان يحيي حقي في تلك الفتره‏,‏ واعني بها اواخر الخمسينات من القرن الماضي قد بدا يحظي بشعبيه واسعه بين جماهير المثقفين في مصر والعالم العربي‏,‏ بل انني لا ابالغ اذا قلت انه كان قد بدا يصبح معروفا ولو بصوره بسيطه في الاوساط الثقافيه الاوروبيه وخاصه في فرنسا‏,‏ وكان طرد يحيي حقي من وزاره الثقافه في ذلك الوقت لا يمكن الا ان يكون فضيحه ثقافيه كبيره لمصر في الداخل والخارج‏.‏ وصاحب الفضل في انقاذنا من مثل هذه الفضيحه هو ثروت عكاشه‏.‏ وموقفه هنا جدير بالتامل فيه والاهتداء الدائم به‏.‏
    ثانيا‏:‏ المتهمان الاخران في هذه القصه هما الاديب العربي الكبير محمود شاكر‏,‏ وقد تم اعتقاله لمده تقرب من سنتين‏,‏ ولم يخرج من السجن الا برساله من شاعر السودان ورئيس وزرائها في ذلك الوقت محمد احمد محجوب‏.‏ اما المتهم الثاني فهو المفكر الاسلامي الكبير الشيخ احمد حسن الباقوري‏,‏ وقد تمت اقالته بعد هذه الحادثه من منصبه كوزير للاوقاف‏.‏
    ثالثا‏:‏ كان التسجيل الذي ادين عليه الجميع قد تم في بيت الاستاذ محمود شاكر‏,‏ وكان تسجيلا لجلسه شخصيه خاصه بين شاكر والباقوري ويحيي حقي‏.‏
    رابعا‏:‏ ان هذه الحادثه وامثالها‏,‏ اي التجسس علي الناس في حياتهم الخاصه دون سبب قوي‏,‏ ثم محاسبه الجميع علي ما قد يقولونه في بعض اوقات الاسترخاء والفضفضه‏,‏ وربما في اوقات الملل والضيق من بعض الاوضاع والمشاكل الشخصيه‏..‏ مثل هذه العمليات في التجسس علي الناس كان فيها اساءه لزعيم عظيم مثل عبدالناصر‏,‏ وكان فيها اساءه لثوره وطنيه هي ثوره يوليو‏,‏ وكان مثل هذا التجسس بهذه الطريقه من سلبيات الثوره التي يبقي لها ايجابيات اكثر بكثير من سلبياتها‏,‏ حتي لو كانت هذه السلبيات مولمه وجارحه‏.‏
    ‏*‏ اشرت في مقال سابق الي واحد من عظماء شيوخ الازهر الذين وقفوا في وجه الحاكم التركي الظالم منذ اكثر من مائتي سنه وهو الشيخ محمود البنوفري‏,‏ وقد سالت عن كلمه البنوفري فعرفت انها نسبه الي قريه بنوفر وتساءلت عن هذه القريه اين توجد وما هو معني اسمها‏.‏ وقد تلقيت رساله كريمه من الاستاذ الفاضل الدكتور عبدالوهاب حميده جاد استاذ الجراحه العامه والاورام في كليه طب طنطا وفي هذه الرساله يقول الاستاذ‏:‏ قريه بنوفر هي قريتي‏,‏ وتقع علي فرع رشيد‏,‏ وهي تابعه وقريبه من مركز كفر الزيات وعدد سكانها يتراوح بين سبعه وعشره الاف‏.‏ كل منزل فيها يضم رجلا من رجال الازهر او سيده ازهريه فاخي استاذ بكليه طب طنطا رغم ان والدنا كان عاملا بسيطا بشركه الملح والصودا‏,‏ ولكنه كان يحفظ القران كاملا‏,‏ حفظا وتجويدا‏,‏ وهذا يبين ان التعليم الازهري العام هو هم هذه القريه‏.‏ اما لماذا اسميت هذه القريه باسم بنوفر فانا اسمع ان بيوتها لقربها من النيل كان يغمرها الفيضان العالي فيفر الناس الي مكان امن‏,‏ ثم يعودون بعد انحسار الماء فسميت بنوا وفروا ثم تم تحويل الاسم الي بنوفر‏.‏
    شكرا للدكتور عبدالوهاب جاد‏,‏ وبارك الله فيه وفي قريته الكريمه الطيبه‏,‏ وقد سمعت من الاستاذ عبدالرحمن عوض ان بنوفر قد يكون اصلها بنوفهر‏,‏ ثم اصابها شيء من التخفيف‏,‏ وفهر لغويا معناها الحجر‏,‏ وهي ايضا اسم من اسماء احد اجداد العرب‏.‏
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    *عن: صحيفة "الأهرام".

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      كاتب مسجل
      • Jun 2006
      • 1123

      #17
      رد: مع رجاء النقاش

      (16 ) بين يحيي حقي وسيد قطب

      بقلم: رجاء النقاش
      ......................

      عندما سأل الناقد الكبير الراحل فؤاد دوارة (‏1928-‏1996‏م) صديقه وأستاذه يحيي حقي (‏1905-‏1992م)‏ عن تفسيره لاهتمام الناس اهتماما استثنائيا بروايته القصيرة قنديل أم هاشم قال له يحيي حقي‏:‏ غريب حقا اهتمام الناس بهذه القصة علي هذا النحو‏.‏ كأنني لم أكتب غيرها‏.‏ أتعرف لماذا؟‏..‏ لقد خرجت من قلبي مباشره كطلقة الرصاص‏,‏ فكان أن استقرت في قلوب الناس‏.‏ هكذا أجاب يحيي حقي علي سوال فؤاد دواره‏,‏ وكانت إجابته اقرب ما تكون إلي العبارة الشائعة التي كثيرا ما نرددها في احاديثنا اليوميه وهي ان ما يخرج من القلب يدخل الي القلب‏.‏
      والحقيقه ان قنديل ام هاشم كان يمكن ان تبقي في الظل لفترة طويلة فلا يلتفت إليها احد‏,‏ لولا أن ناقدا كبيرا أحس بقيمتها وأدرك أهميتها وانفعل بما فيها من جمال وصدق وعمق وبساطه واسلوب جديد قائم علي الإيجاز والتركيز‏.‏
      وقد أحس الناقد الكبير بهذا كله بعد صدور القصة سنه ‏1944‏ في سلسلة "اقرأ" التي تصدر عن دار المعارف‏.‏ وهذا الناقد الكبير الذي احس بقيمه قنديل أم هاشم هو سيد قطب‏ (1906-‏ ‏1966‏م) الذي كان في ذلك الوقت‏,‏ اي في أربعينيات القرن الماضي‏,‏ من اكبر نقاد الأدب العربي‏,‏ وكانت كلمته مسموعة وموثوقا بها في صفوف الأدباء وبين جماهير القراء علي السواء‏.‏ وقد ظل سيد قطب يحتل مكانه الرفيع في مجال النقد الأدبي حتى سافر إلي أمريكا حوالي سنة ‏1949‏ في بعثة دراسية قصيرة‏,‏ عاد بعدها لينفض يده من الأدب والنقد ويدخل ميدان العمل السياسي والدعوه الدينيه‏,‏ وهي المرحله المليئه بالعواصف التي انتهت بمحاكمته وإعدامه سنة ‏1966‏ بتهمه الاشتراك في زعامة تنظيم عسكري يهدف إلي قلب نظام الحكم في مصر بالقوة‏,‏ وفي هذه الفترة التي تمتد من سنه‏1950‏ إلى نهاية حياته سنة ‏1966‏ خرج سيد قطب تماما من عالم النقد الأدبي الذي كان فيه أحد النجوم اللامعة الساطعة في أربعينيات القرن الماضي‏.‏
      عندما صدرت قنديل ام هاشم سنه‏1944‏ كانت الحرب العالميه الثانيه قد اوشكت علي الانتهاء‏,‏ ومن الواضح ان يحيي حقي كتب قصته اثناء هذه الحرب‏,‏ اي في الفتره ما بين‏1939‏ و‏1944,‏ ورغم ان القصه ليس فيها اي اشاره الي اجواء الحرب العالميه‏,‏ الا انها كانت تحاول الاجابه علي سوال مهم جدا طرحته هذه الحرب علي وجدان الناس وتفكيرهم‏,‏ خاصه بين المتعلمين والمثقفين منهم‏,‏
      وهذا السوال هو ببساطه‏:‏ ماذا نفعل مع الحضاره الغربيه الجديده التي تدق ابوابنا بعنف؟ هل نلغي انفسنا لكي نكون نسخه طبق الاصل من هذه الحضاره؟ او ان واجبنا يفرض علينا شيئا اخر وتصورا للامور يختلف عن تصور الغربيين؟ ولقد قامت قصه يحيي حقي علي محاوله بديعه ورائعه للاجابه علي السوال الاساسي عن موقفنا من الغرب‏,‏ وما يتفرع عن هذا السوال من اسئله اخري عديده‏.‏
      وجاءت قنديل ام هاشم اجابه فنيه مليئه بالحياه والحراره‏,‏ خاليه من المناقشات الجافه والافكار المجرده‏,‏ وهي علي بساطتها قصه غنيه بالتلميحات والاشارات والايحاءات‏,‏ بقدر ما هي بعيده كل البعد عن الخطابه والوعظ والتعقيدات الفكريه‏.‏ انها قصه تاخذك بسحرها من يدك‏,‏ وتتحدث معك في همس جميل‏,‏ ولا تقول لك كل شيء بل تتركك وحدك مع نفسك لتتامل وتفكر وتصل الي ما تشاء من نتائج‏,‏ هي ثمره اجتهادك وليست ثمره املاء الفنان صاحب القصه عليك‏,‏ وهذا هو ما يضمن للفن قوته وجماله وتاثيره المستمر القوي علي الناس‏,‏
      لان فن الخطب والزعيق لا يعيش‏,‏ وانما يعيش الفن الهامس الذي يخرج من قلب الفنان وليس من حنجرته‏.‏
      عندما ظهرت قنديل ام هاشم سنه‏1944‏ لم يكن يحيي معروفا الا في دائره محدوده جدا من اصدقائه ومعارفه‏,‏ ولا شك ان من اهم اسباب ذلك انه كان يعمل لفتره طويله في السلك الدبلوماسي امتدت حوالي ربع قرن‏,‏ منذ سنه‏1928‏ تقريبا وحتي سنه‏1954,‏ وقد تنقل خلال هذه الفتره بين جده واستامبول وروما وطرابلس في ليبيا‏,‏ يضاف الي هذا الغياب الطويل عن مصر ما يقوله يحيي حقي عن نفسه من ميل الي الانطواء والعزله‏,‏ وهذا الميل لم يكن صفه شخصيه خاصه به وحده‏,‏ بل كان كما يقول هو نفسه صفه من صفات عائلتي التي كانت تميل الي الانطوائيه لاننا كنا اسره موظفين من اصل تركي وليس لنا املاك الا القليل‏.‏
      ولذلك كله كان من الطبيعي ان يجد يحيي حقي صعوبه في نشر كتابه الاول اي روايته القصيره قنديل ام هاشم‏.‏ وهو يشير الي ذلك في حديثه مع الناقد فواد دواره‏,‏ وهو الحديث الشامل المهم المنشور في كتاب دواره عشره ادباء يتحدثون طبعه كتاب الهلال‏,‏ وفي هذا الحديث يقول يحيي حقي صفحه‏109:‏ لقد تعبت جدا في العثور علي ناشر لقصه قنديل ام هاشم والفضل في نشرها في سلسله اقرا العدد‏18‏ في يونيو‏1944‏ يعود الي الاستاذ محمود شاكر‏,‏ الذي قدمها للمشرفين علي هذه السلسله في دار المعارف‏,‏ ثم يعود الي الدكتور طه حسين الذي قراها ورشحها للنشر‏.‏
      كان يحيي حقي عند ظهور قنديل ام هاشم في التاسعه والثلاثين من عمره‏,‏ وكان قد اصبح موظفا كبيرا في وزاره الخارجيه‏,‏ ولكنه في الحياه الادبيه كان مجهولا او شبه مجهول‏,‏ وكان من الممكن ان تبقي قنديل ام هاشم في الظل‏,‏ والا يلتفت اليها احد لولا موقف سيد قطب الذي اشرنا اليه‏,‏ فقد كتب عنها بعد ظهورها بقليل مقالا قويا مهما في مجله الرساله ثم نشر هذا المقال بعد ذلك في كتابه النقدي الشهير كتب وشخصيات الطبعه الاولي سنه‏1946‏ صفحه‏190,‏ وفي هذا المقال يكاد سيد قطب يصرخ اعجابا بيحيي حقي وتنبيها للراي الادبي العام بان هناك مولودا فنيا جديدا رائعا اسمه قنديل ام هاشم‏,‏ ويبدا سيد قطب حديثه عن يحيي حقي بمشاغبه ادبيه يحتفي فيها بيحيي حقي ويهاجم محمود تيمور فيقول‏:‏ اوه‏!‏ يحيي حقي‏!‏
      اين كانت هذه الغيبه الطويله؟ وفيم هذا الاختفاء العجيب؟ لست اذكر متي قرات له اول اقاصيصه‏.‏ انه عهد طويل‏.‏ حتي لقد نسيته لولا قنديل ام هاشم‏.‏ كل ما اذكره انه من زملاء محمود تيمور الاوائل في بناء الاقصوصه‏.‏
      وتيمور ويحيي حقي برهان علي ان النبوغ وحده لا يكفي‏,‏ ولا العبقريه ايضا‏.‏ لابد من الداب والثبات والمثابره ليكون الانسان شيئا مذكورا‏,‏ والا فاين فن تيمور من فن حقي‏!‏ ثم اين مكانه حقي من مكانه تيمور‏.‏ حقي رجل كسول‏.‏ مهمل‏.‏ يستحق اللوم علي تفريطه في موهبته الفذه‏.‏ وتيمور رجل دووب مجتهد‏.‏ يكتب‏.‏ ويكتب‏.‏ ويكتب‏.‏ ولابد ان يصادف في ذلك الكثير الذي يكتبه شيء ذو قيمه‏.‏ ثم يقول سيد قطب‏:‏ في قنديل ام هاشم ثمره حلوه ناضجه عبقريه‏.‏ كانت البذره في عوده الروح وفي عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم‏,‏ وهي هنا الثمره في قنديل ام هاشم‏.‏ الروح المصريه الصميمه العميقه تطل كما هي في اعماقها من قنديل ام هاشم‏.‏ وهي تطل من خلال اللمسات السريعه الرشيقه الموحيه‏,‏ ومعها الحيويه والفن والشاعريه والابداع‏.‏ وفي خلال اثنتين وخمسين صفحه فقط من حجم الجيب يتم تصوير الروح المصريه الكامنه العميقه العريقه‏,‏ ويتم صراع كامل بين روح الشرق والغرب‏,‏ ويتم انتصار الايمان المبصر علي العلم الجاحد‏.‏ ثم يقول سيد قطب عن اسلوب يحيي حقي‏:‏ انه اسلوب فذ مبتكر‏.‏
      تلك كانت صرخه الناقد سيد قطب عندما التقي لاول مره بعبقريه الفنان يحيي حقي‏,‏ فاعلن الناقد علي الناس في صوت قوي موثر ظهور فنان جديد في عمل رائع هو قنديل ام هاشم‏,‏ وتلك ولا شك وقفه نقديه تعطينا صوره عن واقع حياتنا الادبيه منذ ستين عاما عندما ظهرت قنديل ام هاشم‏.‏ والوقفه النقديه القويه الجريئه تستحق منا ان نذكرها للتاريخ بكل التقدير‏.‏ اما قنديل ام هاشم نفسها فانها تستحق حديثا اخر‏.‏
      ـــــــــــــ
      *عن: صحيفة "الأهرام".

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        كاتب مسجل
        • Jun 2006
        • 1123

        #18
        رد: مع رجاء النقاش

        ( 17 ) عبد القادر القط وفن الاعتدال

        بقلم: رجاء النقاش
        ......................

        منذ أسبوعين رحل عن دنيانا أستاذنا الجليل الدكتور عبد القادر القط وهو في السادسة والثمانين‏,‏ فهو من مواليد‏6191,‏ وقد ظل الدكتور القط حتى أيامه الأخيرة مثالا للحيوية والنشاط مما جعل رحيله نوعا من المفاجأة‏,‏ لأن هذا الرحيل جاء بلا مقدمات ظاهرة‏..‏وعلي العكس من ذلك كان هذا الأستاذ الكبير يوحي دائما بالحياة‏,‏ ولا يوحي أبدا بأنه يخطو خطواته الأخيرة نحو العالم الآخر‏,‏ وقد رحل بعد أسبوع واحد من حصوله علي جائزة مبارك في الأدب تكريما له وتتويجا لكفاحه الأدبي الطويل‏,‏ والدكتور القط صاحب شخصية جميلة لها جوانب متعددة وكلها تدعو إلى احترامه وتقديره والإحساس بالخسارة الإنسانية والأدبية لغيابه‏,‏ فقد كان القط من الشخصيات النادرة التي جمعت بين الثقافة العالية والموهبة الأصيلة والسلوك الإنساني العذب الجميل‏,‏ وتلك معادلة يصعب أن تجتمع بكل هذه القوة في شخص واحد‏.‏
        أتيح لي أن أتعرف علي الدكتور القط منذ أوائل سنة‏1952,‏ عندما كنت طالبا بالسنة الاولي بكلية الآداب في جامعة القاهرة‏,‏ وكان هو قد عاد من بعثته الي انجلترا سنة‏1950‏ وأصبح مدرسا في كلية الآداب بجامعة جديدة ناشئة في ذلك الوقت هي جامعة ابراهيم التي تغير اسمها بعد الثورة الي جامعة عين شمس‏,‏ وقد بقي القط يعمل في آداب عين شمس أستاذا بها وعميدا لها ثم استاذا متفرغا حتي رحيله منذ أسبوعين‏.‏
        كان القط رجلا في غاية الذكا‏ء,‏ وكانت العلامة الرئيسية لذكائه أنه كان دائما بعيد النظر لاتخدعه ظواهر الأشياء‏,‏ وكان يفهم جوهر الأمور في سرعة شديدة‏,‏فلا يتوقف كثيرا أمام الشكليات‏,‏ ولايخوض معارك يعرف منذ البداية أنها ميئوس منها وأن الجهد فيها ضائع‏,‏ وكان لديه إحساس عميق هاديء بأن الرأي الصائب الصحيح لا خطر عليه وإن لم يعترف به الناس لفترة من الزمان‏,‏ فالصواب عمره طويل‏,‏ ولذلك فإنه لم يتعجل في حياته من أجل الوصول الي شيء‏,‏ ولعل شعار حياته غير المعلن كان هو قل كلمتك‏..‏وامش
        تعرض القط في حياته لمواقف عديدة مؤلمة‏,‏ ولكنه لم يصرخ أبدا ولم يتوجع‏,‏ بل لعله في معظم ماقرأته له وسمعته منه لم يتحدث كثيرا عن هذه الآلام ولم يشر اليها‏,‏ وهذا نوع من الذكاء والكبرياء والحكمة‏,‏ فالآلام لاتهدأ الا بالصبر عليها وليس بكثرة الصراخ منها‏,‏ لأن الصراخ يطيل الألم ويضاعفه ويمنع الجراح من الالتئام السريع‏,‏ وكان القط شديد الحرص علي أن ينال حقوقه ويدافع عنها‏,‏ ولكن عندما يضيع منه حق من حقوقه ولاتنفع المطالبة به لسبب من الأسباب‏,‏ فإنه كان يستغني عما ضاع ويواصل المسير‏.‏
        سمعت من أحد كبار المسئولين في أوائل الستينيات من القرن الماضي أن القط كان مرشحا ليتولي وزارة التعليم العالي‏,‏ لكن بعض كتاب التقارير السرية سارعوا إلى تقديم أسباب ملفقة تشير إلى أنه لايصلح لهذا المنصب الرفيع‏,‏ ومن بين هذه التقارير ماكان يقول إن القط شاعر يهيم مع الخيال‏,‏ وأنه سوف يغرق الوزارة التي يتولاها بالأوهام والأحلام وكان هذا أخف الاتهامات الموجهة اليه‏,‏ فقد كات هناك اتهامات أخري تقول إنه يساري متطرف يتخفي في شكل ناقد وأستاذ جامعي‏,‏ وكانت تهمة اليسار المتطرف أو الشيوعية كفيلة في تلك الأيام بوقف حال كل من يتعرض لهذا الاتهام وسد الأبواب أمامه ولذلك كان كتاب التقارير السرية يستخدمون هذا الاتهام دائما ـ بالحق والباطل ـ ضد كل الذين يحاربونهم‏,‏ وكان عبد القادر القط ـ باختياره وإرادته ـ بعيدا عن أن تكون له مجموعة أو شلة تدافع عنه وتحميه من التقارير السرية المغرضة‏,‏ ولذلك فإن هذه التقارير فعلت فعلها‏,‏ وتراجع الذين رشحوه للوزارة عن طرح اسمه‏,‏ وعندما سألت القط عن صحة الواقعة قال لي في تواضع شديد إنها صحيحة‏,‏ وذكر بعض الأسماء التي سارعت إلى كتابة التقارير ضده‏,‏ فكانت هذه التقارير افتراء عليه وحرمانا للبلاد من الانتفاع بخبرته وعلمه وإنسانيته وبصيرته الواعية‏,‏ ومازلت أذكر هذه الأسماء جميعا‏,‏ وبعضها من الراحلين وبعضها من الأحياء‏,‏ ولكنني لاأستطيع أن أذكر هذه الأسماء‏,‏ لأن القصة كلها برغم ثقتي بصحتها هي قصة شفوية ولا يوجد عليها دليل مكتوب‏,‏ أو أي دليل آخر يمكن الاعتماد عليه‏,‏ وهذه القصة علي أي حال هي نموذج من بعض ماعاناه القط واحتمله وصبر عليه‏,‏ وفي حياته كثير من المواقف المشابهة‏,‏ وربما كان بعضها أشد وأقسى من هذا الموقف‏,‏ ولكنه دائما كان من الصابرين القادرين على التحمل‏.‏
        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
        *الأهرام ـ في 30/6/2002م.

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          كاتب مسجل
          • Jun 2006
          • 1123

          #19
          رد: مع رجاء النقاش

          ( 18 ) والباقي.. حمير!

          بقلم: رجاء النقاش
          .........................

          الشاعر الكبير حافظ ابراهيم «1873- 1932» والذي تعودنا أن نطلق عليه اسم «شاعر النيل» كان شخصية مليئة بالحيوية وخفة الظل وكان صاحب موهبة كبيرة تضاف الى موهبته الشعرية وهذه الموهبة الثانية هي موهبة الحديث الممتع الساحر‚ والموهبة الثانية هي التي جعلت من حافظ ابراهيم في عصره نجما من نجوم المجتمع يلتف حوله الناس‚ ويسعى الجميع الى صداقته ويحرصون على ان يكون هذا الشاعر صاحب الظل الخفيف والفكاهة الرائعة قريبا منهم‚
          وقد كان الزعيم الوطني الكبير سعد زغلول «1860- 1927» يحب حافظ ابراهيم ويحرص على صحبته وكان سعد اذا اراد ان يذهب الى بلدته في الريف المصري ليبتعد عن العاصمة وما فيها من ضوضاء ومسؤوليات يحرص أشد الحرص على ان يكون حافظ ابراهيم معه في تلك الايام التي كان يريد فيها الراحة والاسترخاء وكان حافظ ابراهيم ينزل مع سعد زغلول في بيته كواحد من أهله‚
          وهذا ايضا إمام المصلحين الدينيين في العصر الحديث وهو الشيخ محمد عبده «1849- 1905» فقد كان يحب حافظ ابراهيم ويحرص على صحبته ولا يقبل لوم اللائمين له على ذلك اذ ان البعض كان يأخذ على الشيخ محمد عبده صحبته لشاعر معروف بروح المرح والدعابة والسخرية وهي كلها امور لا تليق بالشيخ الجليل‚ وكان الشيخ محمد عبده يرد على الذين يلومونه بقوله: «لقد صاحبت حافظ ابراهيم عشر سنين فما أمكنه ان يضلني وما أمكنني ان اهديه» وكان الشيخ يقول ايضا: انني ما صاحبت حافظ ابراهيم لكي أجد فيه شيخا للاسلام أو عالما من علماء الدين»‚ وهكذا كان حافظ ابراهيم موضع الحب والحرص على الاستمتاع بصداقته من كل عظماء عصره من امثال سعد زغلول ومحمد عبده‚
          هذه الشخصية المرحة الطريفة الممتعة كانت في اعماقها تميل الى الحزن وقد قال حافظ ابراهيم عن نفسه انه لا يستطيع ان يكتب شعرا الا اذا كان في حالة من «الشجن»‚ و«الشجن» هو الحزن الخفيف الرقيق الذي يملأ نفس صاحبه ولا يشعر به أحد سواه‚ ويقول حافظ «‚‚ اما الصفاء والسرور والفرح والسير في الرياض وعند الماء والشجر فإنها تجعلني غير قادر على كتابة الشعر»‚ وهكذا فإن حافظ الذي يعامل الحياة والناس بالفرح والابتهاج والسخرية كان لا يستطيع ان يكتب بيتا واحدا من الشعر الا وهو حزين‚ فالحزن هو مصدر للفن والشاعرية اما الفرح والسرور فهما وسيلة للاستمتاع بالحياة والاتصال بالناس والمجتمع‚
          وكانت لحافظ ابراهيم آراء طريفة في الأدب والحياة ولا بأس ان ننتزع أنفسنا قليلا من الضوضاء السياسية التي نعيش فيها طيلة ساعات اليوم لنقرأ بعض كلمات حافظ ابراهيم ومن ذلك قوله: «ما ذهبت يوما الى مكتبي في دار الكتب ومررت في الطريق بمعارف أو أصدقاء الا وطلبوا مني ان (اقعد) معهم وألا أكترث بعملي‚ ولم اسمع قط في حياتي واحدا يعترض ويقول لي بأني يجب ان اصل الى مكتبي في الوقت المحدد لذلك‚ فهذه واحدة اريد ان اكتب عنها وان ابين للناس ضرورة احترام الاعمال‚ ثم هناك العادة الشائعة الأخري في نسبة الفضل الى واحد دون الآخرين‚ فهذا شاعر كبير والباقي حمير‚ وهذا زعيم في السياسة والباقي خونة‚ وهذا كاتب فذ والباقي مغفلون‚ ومثل هذه الطريقة في التفكير قد انقصت النوابغ في بلادنا فالفضل يسع اثنين وثلاثة وعشرة»!!
          هذا بعض ما قاله حافظ ابراهيم سنة 1928 ولعل هذا الكلام الجميل البسيط لا يزال ينطبق على احوالنا حتى الآن.
          ..........................
          *عن صحيفة: الأهرام.

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            كاتب مسجل
            • Jun 2006
            • 1123

            #20
            رد: مع رجاء النقاش

            ( 19 ) انتحار قديم

            بقلم: رجاء النقاش
            ..........................

            فكرة الانتحار بين السياسيين ورجال الحكم والسلطان معروفة منذ قديم الزمان والعديد من قادة الامبراطورية الرومانية التي كانت في عصرها أهم دولة في العالم انتحروا وذلك بعد ان تعرضوا للهزيمة العسكرية بالتحديد‚ فهذه الهزيمة تعني انهم سوف يفقدون كرامتهم وسوف يتعرضون للامتهان والاساءة اليهم‚ والافضل من حياة على هذا المستوى من الهوان هو ان يموتوا وان يكون موتهم بأيديهم مما يثبت للجميع انهم شجعان وان كرامتهم هي عندهم فوق الحياة نفسها وأشهر المنتحرين في التاريخ الروماني هذا انطونيو» الذي انتحر في الاسكندرية سنة 30 قبل الميلاد وذلك بعد هزيمته في معركة «اكتيوم» البحرية سنة 31 قبل الميلاد‚ امام منافسه وغريمة «اكتافيوس» الذي انفرد بحكم الامبراطورية الرومانية بعد الخلاص من انطونيو وأصبح اسمه «اغسطس» اي العظيم وكان فعلا من اعظم اباطرة الرومان ومن أعظم الحكام في التاريخ‚ وقد حكم الامبراطورية الرومانية وحده من سنة 31 قبل الميلاد الى سنة 14 ميلادية والاسم الذي يحمله شهر اغسطس في التقويم الميلادي مستمد من اسم هذا الامبراطور بقصد تخليد ذكراه على مر العصور‚
            والانتحار كما هو معروف يعتبر من تقاليد الشرف والشجاعة عند اليابانيين وكلمة «هاراكيري» اليابانية قد دخلت التاريخ ومعناها الانتحار بأن يطعن الانسان نفسه بخنجره او سيفه الصغير ولليابانيين في هذا الانتحار قصص وآراء وأفكار بالغة الغرابة والطرافة‚ إذ ان هذا «الهاراكيري» هو تقليد من تقاليد الفروسية والاخلاق وهو عند اليابانيين القدماء يكاد يكون واجبا دينيا‚
            وحديث الانتحار الذي تجدد بمناسبة انتحار غازي كنعان وزير الداخلية السوري يذكرنا بحادثة انتحار عربية متهمة وقعت سنة 1929 في العراق وأقصد بها انتحار السياسي العراقي المعروف عبدالمحسن السعدون «1879-1929» وقد كان عند انتحاره رئيسا لوزراء العراق ووزيرا للخارجية كما كان في الخمسين من عمره وقد حدث هذا الانتحار المثير في 13 نوفمبر 1929‚
            يقول الباحث العراقي المؤرخ «مير صبري» في كتابه الهام عن «اعلام السياسة في العراق الحديث» ان «عبدالمحسن السعدون جمع في شخصه أطيب خصال البداوة والحضارة فقد ورث عن آبائه شجاعة البدو وصراحتهم وصفات الزعامة التي تفرض نفهسا فرضا واكتسب من تجاربه الكثيرة سعة النظر ودهاء السياسة التي تقرن الشدة باللين‚ وكان واسع الأفق متساحما بعيدا عن التعصب كذلك كان السعدون رجل دولة ينظر الى الامور بمنظار الواقع والمصلحة العامة فلما ضاقت به السبل والتوت الطرق واشتدت الضغائن والاحقاد لم يجد وسيلة سوى الموت للتخلص من العبء الضخم الذي حمله راغبا مختارا»‚ ويقول عنه مثقف عراقي آخر كان على صلة وثيقة به هو يعقوب سركيس: «ان عبدالمحسن السعدون لم يكن يفرق بين قوميات العراق وطوائفه وأكثريته وأقليته» وقد قال السعدون نفسه في خطاب له امام مجلس النواب العراقي سنة 1926 «لا سبيل للبلاد الى الحياة ما لم تتمتع جميع عناصر الدولة بحقوقها ويتم معاملة جميع عناصر الدولة بالعدل»‚
            ولكن لماذا ينتحر مثل هذا الرجل وهو رئيس للوزراء اي انه كان في قمة السلطة كما ان صفاته التي اجمع عليها الذين عرفوه كانت كلها صفات ايجابية طيبة لا يوحي شيء منها بأنه يمكن ان يفكر في الانتحار او يقدم عليه؟ انها السياسة ومتاعبها وحروبها المعلنة وغير المعلنة‚ وقد أشار السعدون نفسه في رسالته التي كتبها قبل انتحاره الى ما يفسر هذا الانتحار بعض التفسير حيث يقول «سئمت هذه الحياة التي لم اجد فيها لذة وذوقا وشرفا‚ الأمة تنتظر الخدمة‚ الانجليز لا يوافقون‚ ليس لي سند‚ العراقيون طلاب الاستقلال ضعفاء عاجزون وبعيدون كل البعد عن الاستقلال وهم عاجزون عن تقدير نصائح ارباب الشرف امثالي يظنون انني خائن للوطن وعبد للانجليز‚ ما اعظم هذه المصيبة انا الفدائي الاشد اخلاصا لوطني قد كابدت انواع الاحتقار وتحملت المذلة في سبيل هذه البقعة المباركة من الارض التي عاش فيها أبائي وأجدادي مرفهين!! حقا السياسة غابة والعواطف الطيبة المثالية فيها قد تهلك صاحبها وتقضي عليه.
            .......................
            *عن صحيفة: الأهرام.

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              كاتب مسجل
              • Jun 2006
              • 1123

              #21
              رد: مع رجاء النقاش

              ( 20 ) ناقد لبناني يستغيث من شعر العقاد‏!‏

              بقلم‏:‏ رجاء النقاش
              ..........................

              قام طه حسين بمبايعة العقاد بإمارة الشعر سنة‏1934,‏ وذلك بعد سنتين من وفاة أمير الشعراء الأول والأخير أحمد شوقي سنة‏1932,‏ وكانت مبايعة طه حسين بلا جدوي‏,‏ لأن أحدا لم يتبعه في اعطاء تاج الإمارة للعقاد‏,‏ ذلك لأن العقاد العظيم عند الناس كان هو العقاد المفكر صاحب العقل الكبير والثقافة الواسعة والقدرة الفذة علي التحليل‏,‏ أما العقاد الشاعر فلم يكن موضع إجماع‏,‏ بل كانت نسبة قليلة محدودة من قراء الشعر ونقاده هي التي تري في شعر العقاد ما رآه طه حسين من الجمال والقوة والتميز علي غيره من شعراء عصره مما يجعله في رأي هذه الأقلية جديرا‏,‏ بأن يكون أميرا علي الشعر والشعراء‏,‏ وإن كانت هذه الإمارة في واقع الأمر بلا عرش ولا مال ولا جاه‏.‏ والذي أعطي لإمارة الشعر هيبتها وجلالها المادي في أيام شوقي‏,‏ أن شوقي كان أميرا أرستقراطيا ثريا وجيها في الحياة قبل أن يكون كذلك بين الشعراء‏.‏ أما العقاد المكافح القادم من أسوان فقد كان فقيرا‏,‏ وسوف يبقي فقيرا طيلة حياته ولو جعلوه أميرا علي الشعراء والناثرين‏,‏ أو جعلوه‏..‏ محافظا لأسوان‏!!‏
              أشرت في مقال سابق الي أن مبايعة طه حسين للعقاد بالإمارة كانت عملا من أعمال السياسة أكثر منها عملا من أعمال الأدب والنقد‏,‏ وفي ذلك العصر‏,‏ أي في ثلاثينات القرن الماضي كانت عين السياسة والسياسيين مركزة علي الأدب والأدباء‏,‏ فالقصر الملكي يريد أن يكون له أدباؤه وشعراؤه‏,‏ وكان هناك رجل في القصر الملكي اسمه زكي الابراشي باشا كان وكيلا للديوان ـ فيما أذكر ـ وقد جعل من أهم وظائفه السياسية أن يكسب الي صف الملك فؤاد أدباء وشعراء لهم وزن وتأثير‏,‏ وكانت له ميزانية غير قليلة لشراء من يستطيع من الأدباء والفنانين‏.‏
              أما الأحزاب السياسية فقد كانت تتقاتل فيما بينها لتحظي بين صفوفها بأديب شاعر تتوجه من خلاله الي الجماهير وتطلب علي يديه الرضا والقبول‏.‏ وتلك قصة جديرة بأن تجد من يرويها في يوم من الأيام‏,‏ لما فيها من متعة‏,‏ ولما تكشفه من صفحات وطنية وسياسية كثيرة لاتزال غائبة عن العيون وعن ذاكرة الناس‏.‏
              في عام‏1934,‏ وفي هذا المناخ الخاص الذي كانت فيه القوي السياسية تعتبر الأدباء والشعراء أداة بالغة الأهمية في كسب الرأي العام والتأثير عليه‏,‏ التقي طه حسين مع العقاد في حزب الوفد تحت قيادة الزعيم الوطني مصطفي النحاس‏.‏ والعقاد وفدي قديم منذ انشاء الحزب علي يد سعد زغلول في ثورة‏1919,‏ أما طه حسين فقد كان وفديا حديث العهد بالوفد‏,‏ وقد جاء الي الوفد من صفوف الأحرار الدستوريين حوالي سنة‏1930,‏ ولابد أن طه حسن قد أدرك بعد اقترابه من الوفد أن الوفد كان يحب أن يرفع شأن العقاد‏,‏ فالعقاد كان في ذلك الوقت هو نجم نجوم الكتاب والأدباء والصحفيين الوفديين‏,‏ وكان قد دخل السجن سنة‏1930‏ بتهمة العيب في الذات الملكية وكانت التهمة الحقيقية هي دفاع العقاد في شجاعة هائلة عن الدستور وحرية الوطن والمواطنين‏,‏ مع هجومه بلا تحفظ علي الاستبداد والمستبدين من أنصار الملك وأعوان الانجليز‏.‏
              ومن أطرف الذين وقفوا ضد شعر العقاد ناقد لبناني كبير هو مارون عبود‏1886‏ ـ‏1962‏ في كتاب شهير له عنوانه علي المحك علي وزن مفك ففي هذا الكتاب دراسة واسعة لشعر العقاد‏,‏ يخرج فيها الناقد اللبناني الكبير بالرفض لشعر العقاد‏.‏
              وهذا نموذج مما كتبه مارون عبود عن العقاد‏,‏ حيث يقف هذا الناقد علي الطرف المقابل للمتحمسين لشعر العقاد‏.‏ يقول مارون عبود‏:‏ طالعت دواوين ثلاثة للعقاد أنفق علي تحبيرها برميل حبر وقنطارا من الورق وغابة من الأقلام‏.‏ تحسبه سمسارا يصدر شعرا في دواوين وبضاعته أشكال وألوان‏,‏ فكأنه دكان قرية فيه جميع حوائج البيت‏,‏ وليس الذنب ذنب الأستاذ‏,‏ فهو عارف بأصول الفن‏,‏ ولكن الكلام يستعصي عليه‏,‏ نفسه تطلب ومعدته لا تقطع‏,‏ فيقعد ملوما محسورا‏,‏ خذ هذا العنوان الرائع عيد ميلاد في الجحيم‏.‏ فماذا تري في هذه القصيدة وهي خير ما في ديوانه وحي الأربعين؟ بيانا دون الوسط‏,‏ وشعرا أجش‏,‏ تغلب عليه صنعة النثر وصبغته‏,‏ وعلي ضوء قوله إنما الشاعر يشعر ـ بفتح الياء وضم العين ويشعر ـ بضم الياء وكسر العين رحت أفتش في جحيمه ولا نور يهديني‏,‏ فما وجدت خيالا يرضيني‏,‏ ولا شعورا يسليني‏,‏ فعدت بخيبة أردد‏:‏ مالي لا أري الهدهد‏.!!.‏
              وهنا يشير الناقد مارون عبود الي الآية القرآنية الكريمة من سورة النمل وهي علي لسان سيدنا سليمان ونصها‏:‏ وتفقد الطير فقال مالي لا أري الهدهد‏,‏ أم كان من الغائبين‏.‏
              والناقد يريد القول هنا أن الفن كان غائبا في القصيدة كما غاب الهدهد عن طيور سليمان‏.‏
              ويواصل مارون عبود تعليقه علي القصيدة فيقول‏:‏ القصيدة غراء فرعاء أي طويلة ممشوقة مصقول ترائبها أي ناعمة الصدر ولكنها مقعدة تخلو من الاهتزازات والنبرات والصدي البعيد‏,‏ أنكون في جهنم ونبرد؟ أنحضر عيدا‏..‏ ونحزن؟ ثم نقول‏:‏ إن الشاعر من يشعر ويشعر؟‏.‏
              وتبلغ السخرية في نقد مارون عبود للعقاد حدا عنيفا عندما يعلق علي أبيات أخري له فيقول‏:‏ ماذا نقول؟
              أما في مصر عاقل ينصح هذا الرجل؟ المروءة ياناس‏!‏
              أنقذوا أخاكم‏,‏ وكفوا عنا شعروركم
              والشعرور تصغير للشاعر‏.‏
              أما الأبيات التي علق عليها مارون عبود بكل هذه السخرية‏,‏ وهذه الاستغاثة الط ريفة وإن كانت قاسية‏,‏ فهي أبيات من قصيدة للعقاد في ديوانه عابر سبيل وعنوان القصيدة هو سلع الدكاكين في يوم البطالة‏,‏ والمقصود بيوم البطالة ـ كما هو واضح ـ يوم العطلة‏,‏ وقد كتب العقاد مقدمة نثرية للقصيدة يقول فيها‏:‏
              بشيء من التخيل يستطيع الانسان أن يسمع سلع الدكاكين في أيام البطالة أو العطلة تشكو الحبس والركود‏,‏ وتود هذه السلع أن تبرز لتعرض علي الناس وتباع ولا تفضل الراحة والامان علي مايصيبها من البلي والتمزيق بعد انتقالها الي الشراة المشترين‏,‏ كما أن الجنين في عالم الغيب لا يفضل أمان الغيب علي متاعب الحياة وآلامها‏,‏ ولذلك تظهر الأجنة جمع جنين ألوفا بعد ألوف الي هذا المعترك الأليم‏.‏
              ثم تأتي بعد ذلك الأبيات التي علق عليها الناقد اللبناني مارون عبود تعليقه الساخر المستغيث‏,‏ حيث يقول العقاد في قصيدته‏:‏
              مقفرات مغلقات محكمات
              كل أبواب الدكاكين علي كل الجهات
              تركوها‏...‏ أهملوها
              يوم عيد عيدوه ومضوا في الخلوات
              البدار‏...‏ ما لنا اليوم فرار
              أي صوت ذاك يدعو الناس‏...‏ من خلف جدار
              أدركوها‏...‏ أطلقوها
              ذاك صوت السلع المحبوس‏...‏ في الظلمة ثار
              وليس عندي ما يدل علي أن هناك أي خصومة شخصية بين الناقد اللبناني مارون عبود وبين العقاد‏,‏ بل ليس عندي ما يقول بأنهما قد التقيا في أي مناسبة‏,‏ ولذلك فأنا أظن أن رأي مارون في شعر العقاد هو رأي أدبي قائم علي ذوق الناقد وطريقة فهمه للشعر‏.‏ أما ماجاء في نقد مارون عبود من سخرية قاسية فتلك صفة خاصة تتميز بها كل كتابات مارون عبود‏,‏ سواء كانت كتابته عن العقاد أو عن غيره‏.‏
              أنا لا أستطيع أن أسخر من العقاد‏,‏ فالعقاد عندي له إجلال ومهابة ومقام عظيم‏,‏ وهو أحد الكبار الذين حملوا الأنوار الي العقل العربي في القرن العشرين‏,‏ والذين أناروا كما أنار العقاد‏..‏ كيف نقف منهم موقف الساخرين؟‏!.‏
              لكني مع ذلك وبكل تواضع أميل من الناحية الموضوعية الي رأي مارون عبود في قصيدة العقاد‏.‏ فالقصيدة هي فكرة جافة خالية من العاطفة وفيها صنعة‏,‏ ولكن ليس فيها فن‏,‏ والصنعة هي التعبير عن المهارة‏,‏ أما الفن فهو التعبير عن الشعور ونبضات القلب والتجربة الانسانية‏.‏
              .......................
              *عن صحيفة: الأهرام.

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                كاتب مسجل
                • Jun 2006
                • 1123

                #22
                رد: مع رجاء النقاش

                ( 21 ) بين شاعر النيل ونساء مصر

                بقلم: رجاء النقاش
                .........................

                يتولي صديقي الأديب الطبيب العالم الدكتور عمرو أبو ثريا منصب المدير الطبي للمركز الطبي العالمي القائم في الكيلو‏42‏ من طريق الاسماعيلية ـ القاهرة الصحراوي‏,‏ وهذا المركز هو في الحقيقة صرح طبي رائع بأطبائه الممتازين وبقية العاملين فيه من اداريين وفنيين ومجموعات تمريض وأجهزة طبية حديثة متقدمة‏,‏ وهذا الفريق الكبير كله يعمل تحت قيادة الطبيب الإنسان اللواء رضا جوهر حيث يقود العمل في هذه المؤسسة الطبية الكبري بحكمة وحزم وعناية ومتابعة لكل التفاصيل‏,‏ فبارك الله فيه وفي كل العاملين معه‏.‏ والحقيقة أن هذا المركز الطبي العظيم يستحق ان تفخر به مصر‏,‏ وأظن ان من الواجب ان نحرص علي هذا الصرح الطبي كل الحرص‏,‏ وأن نمد له يد المساعدة والمساندة للابقاء عليه في درجة الكفاءة العالية التي يعمل بها الآن‏,‏ وقد كان من حسن حظي منذ اصابتي بالمرض قبل عامين أن يكون علاجي في هذا الصرح الطبي الكبير‏,‏ ومن خلال علاجي الذي لايزال مستمرا حتي الآن في هذا المركز عرفت عنه وعن العاملين فيه الكثير‏,‏ ولعلي أعود في مناسبة قريبة للحديث عن هذا المركز الطبي العظيم‏.‏
                أعود بعد ذلك إلي صديقي الدكتور عمرو أبوثريا‏.‏ فهو إلي جانب علمه الطبي الواسع وأخلاقه الكريمة الطيبة معروف بالاهتمام العجيب بالأدب والثقافة‏,‏ وهو قارئ لم أعرف له مثيلا في متابعته الاعمال الأدبية الجديدة والقضايا الثقافية المختلفة‏,‏ وفي حديث أخير بينه وبيني تساءل هذا الصديق الكريم عن سبب استخدام شاعر النيل حافظ إبراهيم لكلمة الغواني في قصيدة له شهيرة كتبها عن أول مظاهرة قامت بها النساء المصريات في ثورة‏1919,‏ وبالتحديد يوم‏16‏ مارس من عام الثورة‏,‏ وقد جاءت كلمة الغواني في أول بيت من أبيات قصيدة حافظ ابراهيم حيث يقول‏:‏
                خرج الغواني يحتججن .:. ورحت أرقب جمعهنه
                وكلمة يحتججن هي من الاحتجاج ومعناها واضح‏,‏ فالنساء في هذه المظاهرة ثائرات‏,‏ والثورة هي احتجاج علي الأوضاع الخاطئة والظالمة‏,‏ أما كلمة الغواني الواردة في قصيدة حافظ ابراهيم فإنها الآن كلمة سيئة السمعة‏,‏ وهي تشير إلي المرأة اللعوب التي لاتقيم وزنا للأخلاق ولاترتبط بأي شيء تحرص المرأة الشريفة المحترمة علي الارتباط به‏.‏
                كيف جاز اذن لشاعر كبير عارف بأسرار اللغة العربية مثل حافظ إبراهيم أن يستخدم كلمة غواني ومفردها غانية في وصف مجموعة من أشرف وأكرم نساء مصر؟ ان موضوع القصيدة هو أول مظاهرة نسائية في تاريخ مصر‏,‏ وهذا الموضوع كان يفرض علي حافظ ابراهيم وهو شاعر الوطنية ان ينظر إلي هؤلاء النساء نظرة احترام واجلال وتقدير‏,‏ فأين الحقيقة في هذه القضية؟ الحقيقة هي ان حافظ إبراهيم كان علي صواب في استخدامه لكلمة الغواني وذلك لأن المعني الأصلي الذي تعترف به قواميس اللغة العربية لهذه الكلمة يختلف تماما عن معناها في استخدام جيلنا المعاصر لها‏,‏ وقد استخدم الشعر العربي قديما وحديثا كلمة الغواني بمعناها الأصلي المحترم‏,‏ ومن ذلك قول شوقي في قصيدة مشهورة له‏:‏
                خدعوها بقولهم حسناء .:. والغواني يغرهن الثناء
                وكلمة الغواني في قصيدة حافظ وقصيدة شوقي وفي أي نماذج أدبية مشابهة تدل علي المرأة التي لها عز وكرامة‏,‏ وهي المرأة المصانة المحترمة البعيدة كل البعد عن أي صورة سيئة للنساء‏,‏ وهذا المعني هو المعني الأصلي الصحيح للكلمة‏,‏ وقد ظلت كلمة الغواني كلمة محترمة حتي أوائل القرن العشرين‏,‏ أي في جيل شوقي وحافظ وأما في الأجيال التالية فقد بدأت كلمة الغواني تنزل عن عرشها‏,‏ وأصبح الاستخدام العام الشائع لها هومعناها السيئ‏,‏ وليس معناها الأصيل في اللغة العربية‏,‏ ولاشك أننا في استخدامنا لكلمة الغواني بمعناها السيئ مخطئون‏,‏ علي الأقل من الناحية اللغوية الخالصة فالقواميس العربية تعطي للكلمة معني جميلا آخر‏,‏ ومن هذه القواميس ذلك القاموس الوافي البديع الذي أصدره في أربعة أجزاء الأديب العربي الليبي الكبير خليفة محمد التليسي وأسماه باسم النفيس من كنوز القواميس فماذا يقول لنا النفيس عن كلمة الغواني ومفردها غانية؟
                في الجزء الثالث من النفيس ـ صفحة‏1669‏ نقرأ مايلي‏:‏ الغانية هي التي غنيت بحسنها وجمالها عن الحلي‏,‏ وقيل هي الشابة العفيفة كان لها زوج أو لم يكن‏,‏ وكل امرأة هي غانية وجمعها غواني ويمكن جمعها علي غانيات أيضا‏.‏
                فكلمة الغواني إذن هي كلمة محترمة ولاذنب لها في انحرافنا بها واساءتنا إليها واستخدامنا لها فيما لاتعنيه‏.‏
                يقودنا هذا الحديث اللغوي إلي وقفة قصيرة أمام قصيدة حافظ ابراهيم في مظاهرة النساء المصريات‏,‏ فقد ظلت هذه القصيدة ضمن الأدب السري الممنوع نشره في الصحف أو ترديده علنا في أي مجال‏,‏ وذلك بأمر الاحتلال الانجليزي‏,‏ ولكن أحرار ثورة‏1919‏ طبعوها في منشورات‏,‏ ووزعوها سرا علي الجماهير‏,‏ فنالت القصيدة شهرة واسعة برغم أنها ممنوعة بأوامر عسكرية‏,‏ وبذلك طارت القصيدة من قفص الاحتلال واحتمت بأحضان الناس‏,‏ وقد حملت القصيدة تحية جميلة وتأييدا حارا للنساء المتظاهرات‏,‏ كما تضمنت القصيدة هجوما عنيفا علي الاحتلال وتنديدا قويا به‏,‏ وقد ظلت هذه القصيدة ممنوعة من النشر في الصحف لمدة عشر سنوات متواصلة‏,‏ وبقيت منشورا ثوريا ينطلق من يد إلي يد حتي سنة‏1929‏ حين استطاع حافظ أن ينشرها في الصحف لأول مرة‏,‏ وكان ذلك بالتحديد في‏12‏ مارس‏1929,‏ رغم أنها مكتوبة سنة‏1919,‏ وبعض القصائد لها تاريخ شريف خاص بها‏,‏ ولاشك ان قصيدة حافظ هي في مقدمة مثل هذه القصائد التي كانت تحارب مع الناس في معارك الحياة أوالموت ضد الاحتلال‏.‏
                والقصيدة التي كتبها حافظ هي قصيدة سهلة جميلة مليئة بالموسيقي العذبة والصور الحية‏,‏ ولاشك ان حافظ إبراهيم كان يضع في اعتباره‏,‏ وهو يكتبها ان تكون القصيدة سهلة وقادرة علي الانتقال بين الناس دون صعوبة أو تعقيد‏,‏ فهي قصيدة جماهير وليست قصيدة صالون وفي هذه القصيدة يقول حافظ‏:‏
                خرج الغواني يحتججن‏...‏ ورحت أرقب جمعهنه
                فإذا بهن تخذن من‏...‏ سود الثياب شعارهنه
                فطلعن مثل كواكب‏...‏ يسطعن في وسط الدجنه
                وأخذن يجتزن الطريق‏...‏ ودار سعد قصدهنه
                يمشين في كنف الوقار‏...‏ وقد أبن شعورهنه
                وإذا بجيش مقبل‏...‏ والخيل مطلقة الأعنه
                واذا الجنود سيوفها‏...‏ قد صوبت لنحورهنه
                وينتهي حافظ ابراهيم بالسخرية من الجيش الانجليزي الذي تصدي بعنف شديد للمظاهرة النسائية فيقول‏:‏
                فليهنأ الجيش الفخور ... بنصره وبكسرهنه
                و قد ورد في الأبيات السابقة كلمة دجنة ومعناها الظلام‏,‏ ووردت عبارة دار سعد والمقصود هو سعد زغلول زعيم الثورة‏,‏ وكان المصريون يسمون دار سعد باسم بيت الأمة وقد ورد في القصيدة‏,‏ أيضا قول الشاعر وقد أبن شعورهنه والمقصود هنا ليس شعر الرأس ولكن المقصود هو الشعور والعواطف الوطنية‏.‏
                بقي أن نشير اشارة سريعة إلي هذه المظاهرة الوطنية النسائية الأولي في تاريخ الحركة الوطنية المصرية‏,‏ ويكفي هنا ان نقرأ هذا المشهد المؤثر من مشاهد هذه المظاهرة التاريخية كما يقدمه لنا المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي في كتابه ثورة‏1919‏ ـ صفحة‏211‏
                تقدمت واحدة من المتظاهرات وهي تحمل العلم إلي جندي انجليزي كان قد وجه بندقيته اليها وإلي من معها‏,‏ وقالت بالانجليزية‏,‏ نحن لانهاب الموت أطلق بندقيتك في صدري لتجعلوا في مصر مس كافل ثانية‏,‏ و مس كافل التي تشير اليها المتظاهرة الشجاعة هي ممرضة انجليزية كانت تعمل في صفوف المقاومة ضد الألمان في الحرب العالمية الأولي‏,‏ وقد وقعت في الأسر‏,‏ فأعدمها الالمان بالرصاص‏,‏ وكان لإعدامها ضجة كبري في العالم‏.‏
                .................................
                *الأهرام ـ في 1/4/2007م.

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  كاتب مسجل
                  • Jun 2006
                  • 1123

                  #23
                  رد: مع رجاء النقاش

                  ( 22 ) في وداع أستاذ عظيم

                  بقلم‏:‏ رجاء النقاش
                  ......................

                  في يوم الخميس العاشر من مارس الحالي توفي إلي رحمة الله أستاذ الأساتذة وسيد علماء الأدب واللغة العربية في العصر الحالي الدكتور شوقي ضيف‏1910‏ ــ‏2005,‏ وجاء رحيل هذا الأستاذ العظيم بعد أن ترك وراءه مجموعة فريدة من الدراسات الخصبة المتنوعة‏,‏ وقد أقترب عدد هذه الدراسات من الخمسين‏,‏ ولكن أهميتها ليست في عددها الكبير‏,‏ وإنما تعود هذه الأهمية إلي القيمة العلمية التي تتميز بها هذه الدراسات‏,‏ فالدكتور شوقي ضيف في دراساته جميعا هو مثل أعلي للعالم المخلص الأمين الذي لايدخر جهدا في البحث عن الحقائق الصحيحة الدقيقة أينما كانت‏,‏ وهو واحد من كبار العلماء الذين يفرقون بين المعلومات والرأي والتحليل‏,‏ ولذلك فإن الذين قد يختلفون مع الدكتور شوقي ضيف في آرائه وتحليلاته لايفوتهم أن ينتفعوا أعظم الانتفاع بما يقدمه من معلومات‏,‏ وقد وفق الله هذا الأستاذ العظيم إلي أن يكتب كل دراساته بأسلوب واضح مشرق لاتعقيد فيه‏,‏ بحيث يلتقي المتخصصون وغير المتخصصين علي محبته والاستمتاع به والانتفاع بما يقدمه من أفكار ومعلومات‏.‏
                  من بين كتب الدكتور شوقي ضيف كتاب عنوانه مع العقاد انتهي من كتابته في أول يونيو سنة‏1964,‏ أي بعد وفاة العقاد في‏12‏ مارس‏1964‏ بما لا يزيد علي شهرين ونصف الشهر‏,‏ وهذا الكتاب هو من أجمل كتب شوقي ضيف وأكثرها تركيزا ومتابعة علمية لحياة العقاد وأدبه‏,‏ وفي هذا الكتاب معني مهم وكبير‏,‏ فشوقي ضيف هو من التلاميذ المقربين جدا إلي طه حسين‏,‏ وقد كان بين العقاد وطه حسين مايشبه المنافسة حول المكانة والقيمة والتأثير‏,‏ وهي منافسة لم تكن ظاهرة‏,‏ ولم تتحول إلي حرب أدبية معلنة‏,‏ ولكنها كانت منافسة موجودة‏,‏ وكانت الحياة الثقافية تشعر بها شعورا واضحا‏,‏ في الجامعة وخارج الجامعة‏.‏ وبرغم هذه المنافسة‏,‏ فإن موضوعية شوقي ضيف وارتفاعه التام فوق أي تعصب أو حزبية أدبية دفعه إلي أن يكون أول من يقدم دراسة شاملة عن العقاد بعد رحيله‏,‏ وهذه الدراسة لا تزال حتي اليوم من أفضل ماظهر عن العقاد منذ رحيله قبل أربعين سنة حتي الآن‏,‏ وهكذا يرتفع شوقي ضيف في دراسته للعقاد عن أي خصومات ظاهرة أو خفية‏,‏ ويهتم بالحقيقة وحدها شأن العالم المخلص الأمين صاحب الضمير الحي الذي لايعرف الظلم للآخرين ولايستسلم أبدا للأهواء الشخصية‏.‏
                  وفي السطور الأولي من كتاب مع العقاد يقول شوقي ضيف‏:‏ لم يكتسب العقاد مكانته الأدبية الرفيعة من جاه ولا من وظيفة ولامن لقب علمي‏,‏ وإنما اكتسبها بكفاحه المتصل العنيف الذي يعد به أعجوبة من أعاجيب عصرنا النادرة‏.‏
                  ولو أننا درسنا حياة شوقي ضيف وجهاده الأدبي والعلمي دراسة دقيقة لوجدنا أن ماكتبه عن العقاد في السطور السابقة يكاد ينطبق عليه نفسه‏,‏ فقد اكتسب شوقي ضيف مكانته العلمية والأدبية بكفاحه المتصل الذي لم يتوقف ولم يهدأ ولم يلتفت فيه إلي شيء آخر خلال سبعين سنة متصلة‏,‏ وفي كتابه الجميل الذي جعل عنوانه معي‏,‏ يروي لنا شوقي ضيف قصة حياته ويصل في هذا الكتاب إلي قمة الوعي والموضوعية‏,‏ فنجد أن قصة حياته الشخصية مرتبطة أشد الارتباط بتاريخ الحركة الوطنية في مصر‏,‏ خاصة في مرحلة ثورة‏1919‏ ومابعدها‏,‏
                  وهذه الحياة الشخصية مرتبطة كذلك أشد الارتباط بتاريخ التطور الثقافي في مصر في نفس الفترة‏,‏ فالحياة الشخصية والحياة الوطنية والتطور الثقافي ترتبط كلها ببعضها البعض ارتباطا وثيقا سهلا طبيعيا ليس فيه أي افتعال‏,‏ وهذا دليل حي قوي علي أن شوقي ضيف كان ينظر إلي نفسه وإلي عمله وتطوره الشخصي علي أنه جزء من إطار كبير يضم تاريخنا الوطني وتطورنا الثقافي في الوقت نفسه‏,‏ ولا أكاد أعرف بين كتب السيرة الذاتية المهمة في تاريخنا الأدبي المعاصر من كان حريصا كل هذا الحرص علي الجمع بين العناصر الثلاثة‏,‏ أي الشخص والوطن والثقافة‏,‏ كما فعل شوقي ضيف في كتابه معي‏,‏ وفي هذا كله دليل علي الموضوعية الشديدة‏,‏ وفيه دليل علي التواضع وعلي آصالة الجانب الانساني في شخصية شوقي ضيف‏,‏ فهو لم يكن في سيرته الذاتية يقدم صورته الشخصية الخاصة علي أنها صورة للنبوغ الفردي‏,‏ بقدر مايقدمها للناس أجمعين علي أن هذه الشخصية كانت ثمرة للحركة الوطنية والتطور الثقافي في مصر‏.‏
                  ومن خلال هذه السيرة الذاتية لشوقي ضيف كما صورها لنا هذا الأستاذ العظيم في كتابه معي سوف نجد صورة واضحة بديعة لعالم مجتهد مثابر صبور علي البحث الجاد والدراسة العميقة منذ فجر شبابه‏,‏ فهو رجل لم يلتفت أبدا إلي المناصب الإدارية في الجامعة أو خارج الجامعة‏,‏ وأعلي منصب وصل إليه داخل الجامعة هو منصب رئيس قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة‏,‏ أما أعلي منصب وصل إليه خارج الجامعة فهو المنصب الذي وصل إليه بالانتخاب‏,‏ وأعني به منصب رئيس مجمع اللغة العربية‏,‏ وكان شوقي ضيف ـ لو أراد ـ جديرا بأن يصل في الجامعة وخارج الجامعة إلي أعلي المناصب‏,‏ فزملاؤه بل وتلاميذه قد أصبحوا عمداء للكليات ورؤساء للجامعات‏,‏ بل وصل البعض منهم إلي مناصب الوزارة‏,‏ لكن شوقي ضيف لم يسع إلي شيء من ذلك‏,‏ واختار دون تردد أن يكون عالما وباحثا وأستاذا للأدب في الجامعة‏,‏ وقد ظل وفيا لذلك لايحيد عنه‏,‏ ولايرضي لنفسه أن يخرجه أحد عن هذا التركيز التام علي العمل العلمي والاخلاص له والتفاني فيه‏,‏
                  وبرغم مانجده في كتابه معي من وعي سياسي كبير ومتابعة دقيقة لتطور الحركة الوطنية في مصر‏,‏ وبرغم اقتناعه وميله الواضح إلي حزب الوفد القديم إلا أن شوقي ضيف لم ينضم إلي حزب‏,‏ ولم يشتغل بالسياسة العملية‏,‏ ولم يدخل إلي ميدانها الصاخب المليء بالصراعات‏,‏ ولعل ذلك يعود إلي طبيعته الهادئة ونفسيته التي لاتطيق الدخول في معارك وحروب مختلفة‏,‏ فقد كان يريد أن يتفرع للعلم وحده‏,‏ ولايريد أن ينصرف عن ذلك تحت أي نوع من الإغراء‏,‏ خاصة إغراء السياسة العملية التي هي في العالم الثالث علي الخصوص مليئة بالأزمات والصعوبات والتقلبات‏,‏ ونحن مازلنا جزءا من هذا العالم الثالث والسياسة العملية هي عبء شديد وثقيل علي العلم والعلماء‏,‏ وكثيرا ماتعرض العلماء الذين يسمحون لأنفسهم بأن يشتغلوا بالسياسة العملية إلي مشاكل تعصف بهم وتربكهم وتحرمهم من التفرغ للبحث والدراسة‏,‏ ولعل هذا الإخلاص الشديد للعلم‏,‏ مع عدم الاستجابة لأي إغراء‏,‏ أو التطلع لأي شيء آخر بعيد عن العمل العلمي‏,‏ هو الذي أعطي لشوقي ضيف ما كان معروفا عنه من هدوء ونفس راضية وحياة خالية من أي اضطرابات أو ارتباكات‏.‏
                  ولقد بدأ شوقي ضيف حياته العلمية والعملية معا نحو سنة‏1937‏ حينما اختاره طه حسين ليكون معيدا في كلية الآداب في جامعة القاهرة التي كان أسمها في ذلك الوقت جامعة فؤاد الأول وقد أنهي شوقي ضيف حياته وهو حريص علي موقعه كأستاذ في نفس الجامعة‏,‏ إذ أنه ـ فيما أعلم ـ لم يتخل عن عمله الجامعي حتي بعد أن أصبح رئيسا للمجمع اللغوي‏,‏ ومعني ذلك أن شوقي ضيف قد قضي نحو سبعين سنة متصلة في موقعه العلمي دون أن يلتفت إلي شيء سواه‏,‏ وعندما كان يضطر إلي الابتعاد عن الجامعة لسبب من الأسباب فانه كان لايتوقف عن عمله العلمي الذي أخلص له وأعطاه حياته كلها‏,‏ وهذا هو سر من أكبر أسرار تفوق هذا الأستاذ العظيم وهو الذي يفسر لنا انتاجه الغزير والمنظم والمهم الذي لامثيل له في المكتبة العربية الحديثة‏,‏ فكتابات شوقي ضيف هي مرجع أساسي متكامل موثوق به لتاريخ الأدب العربي في عصوره المختلفة وهي‏:‏ العصر الجاهلي والعصر الإسلامي والعصر الأموي والعصر العباسي الأول والعصر العباسي الثاني وعصر الدول الإمارات وبدايات العصر الأدبي العربي الحديث في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين‏.‏
                  علي أننا نجد في سيرة شوقي ضيف الشخصية جانبا مهما هو علاقته الوثيقة باساتذته الكبار مثل طه حسين وأحمد أمين ومصطفي عبد الرازق وعبد الوهاب عزام فقد كان شوقي ضيف ينظر إلي هؤلاء الاساتذة الكبار في احترام شديد‏,‏ ويعرف ما كان عليه هؤلاء الأساتذة من فضل‏,‏ وما كانوا يمثلونه من قيمة علمية وأخلاقية عالية‏,‏ وعلاقة شوقي ضيف بأساتذته الكبار هي نموذج حي للعلاقة المثمرة بين كبار العلماء وبين تلاميذهم المتعطشين للفهم والمعرفة‏,‏ والذين لا يعانون من الرغبة المريضة في هدم السابقين والتقليل من شأنهم وإنكار فضلهم والنظر إليهم نظرة متعالية وغير منصفة‏.‏
                  وحديث شوقي ضيف عن أساتذته الكبار فيه وفاء جميل وفيه فهم عميق ومحبة غامرة وتفسير دقيق لجوانب العظمة في هؤلاء الأساتذة السابقين‏,‏ ولعلنا نعود إلي علاقة شوقي ضيف بأساتذته في حديث آخر‏,‏ فهي علاقة أستاذ عظيم بأساتذة عظماء أيضا‏.‏
                  .......................................
                  الأهرام ـ في 20/3/2005م.

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    كاتب مسجل
                    • Jun 2006
                    • 1123

                    #24
                    رد: مع رجاء النقاش

                    ( 23 ) هل قام طه حسين بتقبيل يد الملك فاروق؟

                    بقلم : رجاء النقاش
                    .......................

                    هذه وقفة أخيرة مع الاتهامات الموجهة إلي طه حسين من أعدائه والمختلفين معه والذين لا يثقون به ويعتبرونه مفكرا مطعونا في وطنيته‏,‏ بل ومطعونا في دينه وعقيدته‏.‏ وقد يري البعض أنه لا جدوي من إعادة هذه الاتهامات إلي الأضواء والحديث عنها من جديد‏.‏ ولكني أري غير ذلك‏.‏ فالاتهامات التي تعرض لها طه حسين أو معظمها هي معزوفة سخيفة تتردد كثيرا في صور مختلفة‏.‏ وهي اتهامات يعاني منها عدد من كبار المفكرين والأدباء باستمرار‏,‏ ونحن عندما نتحدث عن طه حسين وما أصابه‏,‏ فإنما نتحدث عن طه حسين الرمز الذي يمثل هذه القبيلة من الذين يجاهدون علي ساحة الآداب والفنون والأفكار ويتحملون في سبيل ذلك أهوالا وصعوبات‏.‏ ولعلنا لا ننسي أن الكثيرين من المفكرين الأحرار في تاريخنا الثقافي قد تعرضوا للأذي‏,‏ ابتداء من سجن العقاد لمدة تسعة أشهر سنة‏1930‏ بتهمة العيب في الذات الملكية‏,‏
                    إلي طرد طه حسين نفسه من عمله كأستاذ في كلية الآداب وعميد لها سنة‏1932‏ بتهمة معارضة رئيس الوزراء في ذلك الوقت إسماعيل صدقي باشا‏,‏ وكان صدقي من كبار المستبدين الذين يرون أن المصريين لا يستحقون الديمقراطية ولا يصلحون لها أبدا‏,‏ وأن هذا الشعب لن يتقدم أو يتطور إلا إذا حكمته يد حديدية لا تعرف الرحمة‏,‏ وكان من الطبيعي أن يعارض طه حسين هذا السياسي المستبد‏,‏ فكان جزاؤه حرمانه من عمله الجامعي عقابا له علي أنه مفكر حر لا يقبل الاستبداد والطغيان من أحد‏.‏
                    ولعلنا لا ننسي الضربات الأخري التي تعرض لها أحرار المفكرين والأدباء إلي حد محاولة اغتيال نجيب محفوظ مساء يوم الجمعة‏14‏ أكتوبر سنة‏1994.‏
                    الدفاع الآن عن طه حسين لا يفيد طه حسين في شيء‏,‏ بل إنه يفيدنا نحن‏.‏ فقد حقق طه حسين لنفسه مكانة رفيعة في عصره وبين أهله‏,‏ وهي مكانة ربما لم يصل إليها أحد سواه‏.‏ أما بعد رحيله سنة‏1973,‏ فقد كان له كرسي تم إعداده بعناية إلهية كاملة له علي صفحات التاريخ‏,‏ فهو عليه الآن جالس بمهابته وقامته العالية ولا يعنيه أن يكون هناك صغار يحاولون أن يقذفوا عليه بعض الأحجار‏.‏ فطه حسين ـ بشخصه أو بتاريخه ـ ليس في حاجة إلي من يدافع عنه‏,‏ ولكن الأمر يعنينا نحن‏,‏ لأن الدفاع عنه هو دفاع عن كل الأحرار في كل مكان وفي أي محنة يتعرضون لها ويعانون منها‏.‏ علي أن الدفاع عن طه حسين ليس معناه أنه أصبح في نظرنا من المقدسين‏,‏
                    فطه حسين ليس قديسا‏,‏ وله مثلما لغيره أخطاء وهفوات‏,‏ وأحيانا سقطات‏,‏ ولكنها كلها لا تمس طه حسين الذي ندافع عنه لأنه هو الرمز الحي لكل مفكر يجاهد من أجل التقدم والنهضة وكرامة الإنسان‏.‏ وفي حياة طه حسين مواقف قد تلتبس علي من لا يحسنون النظر‏,‏ ولكنها لا تلتبس علي إخوان الصفاء والنقاء والقادرين علي إنصاف الناس والذين يحسنون تقدير الأمور في موضوعية‏,‏ ويحملون في عقولهم ونفوسهم موازين صحيحة بالغة الاستقامة والعدالة والنزاهة‏.‏
                    عندما يقال مثلا إن طه حسين قد تنازل في موقف من المواقف‏,‏ نتيجة ضغوط كبيرة عليه من جانب سلطة رسمية أو سلطة شعبية‏,‏ فلا يصح أن نسارع كما سارع البعض إلي القول‏:‏ انظروا إلي انتهازية طه حسين‏,‏ فقد تنازل من أجل مصالح شخصية خاصة‏,‏ وهذا لا يليق بأديب حر ومفكر كبير‏!!‏
                    حقا‏,‏ لقد تنازل طه حسين أحيانا‏,‏ ولكنه في كل تنازل كان ينظر إلي المقابل‏,‏ فإن كان المقابل يستحق هذا التنازل رضي به طه حسين وأقدم عليه‏,‏ حتي لو كان في ذلك بعض التلويث ليديه‏,‏ وإن كان التنازل بلا مقابل رفضه وأعطي له ظهره‏.‏ والمقابل الذي كان يحرص عليه طه حسين هو مقابل عام‏,‏ وليس مقابلا شخصيا كما يتوهم أعداؤه‏.‏ وهذه نقطة فاصلة في أي حكم علي تنازلات طه حسين‏.‏
                    خذ مثلا موقف طه حسين من الملك فاروق‏.‏ إنه نموذج حي للتنازل من أجل مقابل عام له قيمته وأهميته‏.‏ فالأستاذ أنور الجندي رحمة الله عليه‏,‏ وهو رجل فاضل وعالم مجتهد‏,‏ رغم اختلافنا معه واعتراضنا علي بعض أفكاره‏..‏ أقول‏:‏ إن أنور الجندي في كتابه عن طه حسين ـ حياته وفكره في ميزان الاسلام يشير إلي أن طه حسين قام بتقبيل يد الملك فاروق بعد تعيينه وزيرا للمعارف سنة‏1950,‏ ثم إن طه حسين خطب للملك فاروق ومدحه مدحا شديدا في مناسبات عديدة‏!!‏ وقد استدل أنور الجندي علي حكاية تقبيل طه حسين ليد الملك فاروق بما شهد به اثنان من الشهود في محكمة الثورة التي تم تشكيلها في‏15‏ سبتمبر سنة‏1953.‏ ولكن أنور الجندي لم يذكر اسم الشاهدين‏,‏ ولم أستطع أنا الوصول إلي الإسمين في حدود ما رجعت إليه من مصادر حول محكمة الثورة‏.‏
                    ومن البداية فإن التهمة الملصقة بطه حسين لا يمكن أن يقبلها العقل‏,‏ فقد كان طه حسين عندما تولي وزارة المعارف في‏12‏ يناير سنة‏1950‏ في قمة شهرته ومكانته الأدبية والشعبية‏,‏ ولم يكن تعيينه في وزارة المعارف يزيد من قدره أو يرفع من شأنه‏,‏ بل العكس هو الصحيح‏,‏ أي أن طه حسين كان هو الذي يرفع شأن الوزارة ويعطيها قيمة فوق قيمتها العادية‏.‏
                    ولقد سمع طه حسين في حياته مثل هذه الاتهامات التي تتصل بموقفه من الملك فاروق‏,‏ ولم يسكت طه حسين‏,‏ ولكنه دافع عن نفسه بقوة وصدق‏.‏ وفي مقال نشرته له مجلة روز اليوسف بتاريخ‏29‏ مارس‏1954‏ يقول طه حسين‏:‏
                    أي من المصريين يجهل أني كنت وزيرا للمعارف في يوم من الأيام‏,‏ وأني خطبت أمام فاروق في مواقف لم يكن بد من أن أخطب فيها حين وضع الحجر الأساسي لجامعة الاسكندرية ومعهد الصحراء‏.‏ والناس جميعا يعلمون أن الوزراء ما كانوا ليخطبوا أمام فاروق فيعيبوه ويذموه ويدلوا علي ما كان يتورط فيه من طغيان وماكان يقترف من آثام‏,‏ وإنما جرت عادة الوزراء حين يتحدثون إلي الملوك أن يتحدثوا بشيء غير هذا‏.‏
                    ثم يقول طه حسين بعد ذلك‏:‏ أنا لم أكسب لنفسي من فاروق مالا ولا جاها‏,‏ فقد كنت غنيا عن ماله وجاهه‏,‏ وإنما كسبت لمصر ما نفع أهلها في حياتهم الداخلية فأباح لهم التعليم ويسر لهم أموره‏,‏ وما نفع مصر في العالم الخارجي فأنشأ لها معهدا في مدريد‏,‏ وكرسيا لثقافة البحر المتوسط في نيس وكرسيا للغة العربية في جامعة أثينا‏.‏
                    ثم يقول طه حسين مخاطبا رئيس تحرير روز اليوسف و‏,‏مخاطبا كل مواطن آخر‏:..‏ وإنك لتذكر أن أباه الملك فؤاد أخرجني من الجامعة سنة‏1932‏ وأراد أن يضطرني إلي الجوع فلم يفلح‏,‏ وأراد أن يضطرني إلي الصمت فلم يفلح أيضا‏.‏ وإنك لتذكر أن فاروقا أخرجني من وزارة المعارف حين أنزل حكومة الوفد عن السلطان سنة أربع وأربعين‏(1944),‏ وأراد أن يضطرني إلي الجوع والصمت فلم يبلغ إلي ما أراد شيئا‏,‏ لأن الله هو الذي يرزق الناس علي رغم الملوك والحكام‏,‏ ولأن الله هو الذي يمنح الناس من صدق العزم وقوة الإرادة ما يمكنهم من أن يثبتوا للخطوب ويخرجوا من الكوارث والنائبات مهما يبلغ بها التعقيد‏.‏ وهناك أشياء لا تعلمها أنت ولا يعلمها الناس‏,‏ وإنما يعرفها أفراد قليلون منهم من قضي نحبه ومنهم من لا يزال حيا أرجو له طول البقاء‏.‏ أنت لا تعلم أن فاروقا أرسل إلي الرسل بالمغريات سنة خمس وأربعين‏1945‏ فلم يجد إلي إغرائي سبيلا‏,‏ وإنما رددت رسله ردا رفيقا كريما فيه كثير من ارتفاع عن الصغائر‏,‏ ولو شئت لبلغت من فاروق وسلطانه وماله وجاهه ما أردت‏,‏ ولكني لم أرد‏,‏ لأني رأيت الكرامة والوفاء والصدق في خدمة الوطن أغلي من المال والجاه والسلطان‏.‏
                    ثم يتحدث طه حسين عن حكاية تقبيل يد الملك فاروق فيقول‏:‏ والشيء بالشيء يذكر‏,‏ فقد شهد شاهدان أمام محكمة الثورة بأني قمت مع غيري من الوزراء بتقبيل يد فاروق‏,‏ والله يشهد ما قبلت يد فاروق ولا بد أبيه ولا يد عمه السلطان حسين ولايد ابن عمه عباس حلمي الثاني حين كان أميرا لمصر‏,‏ ولابد ملك من الملوك الذين لقيتهم قط‏,‏ والله يشهد أنني ما قمت بتقبيل يد أحد من الناس إلا أن تكون يد أبوي أو يد بعض شيوخنا في الأزهر رحمهم الله‏,‏ لا أستثني يد سيدة أجنبية كانت ترفع يدها إذا لقيتني في بعض المحافل فتلصقها بشفتي إلصاقا‏..‏ واضحك من ذلك إن شئت‏,‏ وأعبث به إن أحببت‏,‏ فليس عليك في الضحك والعبث جناح‏.‏
                    هذا بعض ما قاله طه حسين في الدفاع عن نفسه‏.‏ فهل لديك مانع من تصديقه والثقة بأن ما يقوله هو الحقيقة؟‏..‏ أنا شخصيا أصدق طه حسين‏,‏ وأري أنه كان في أدبه وحياته كلها من الكبار‏,‏ وكان من أصحاب الكرامة والكبرياء‏,‏ وهؤلاء لا يكذبون‏,‏ ولايتقبلون الكذب من أحد‏.‏
                    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
                    *الأهرام ـ في 1/5/2005م.

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      كاتب مسجل
                      • Jun 2006
                      • 1123

                      #25
                      رد: مع رجاء النقاش

                      ( 24 ) أمريكي يحب عبد الناصر

                      بقلم: رجاء النقاش
                      .......................

                      هل يمكن أن نتصور أن هناك أمريكيا يحب عبد الناصر ويري فيه شخصية سياسية وإنسانية جديرة بأعظم التقدير والإعجاب؟‏.‏ من الصعب أن نتصور وجود مثل هذا الأمريكي‏,‏ وخاصة بين السياسيين والمفكرين والصحفيين‏,‏ ذلك لأن الفكرة الشائعة عن عبد الناصر‏,‏ بالحق والباطل‏,‏ هي أنه كان من أعدي أعداد السياسة الأمريكية‏,‏ وأنه كان من زعماء القرن العشرين الذين لم يثقوا بأمريكا ولم تثق بهم أمريكا أبدا‏,‏ والصورة العامة لعبد الناصر عند الأمريكان هي صورة سلبية‏,‏ في حياته وبعد رحيله‏.‏
                      وأذكر أنني شاهدت منذ سنوات فيلما امريكيا اسمه السادات وهو فيلم آخر غير فيلم الفنان الكبير أحمد زكي والذي أخرجه فنان كبير آخر هو محمد خان‏,‏ ففيلم أحمد زكي ومحمد خان هو تحفة فنية‏,‏ أما الفيلم الأمريكي فهو فيلم مبتذل وساقط بالمقاييس الفنية والموضوعية‏,‏ وفي هذا الفيلم الأمريكي يظهر عبد الناصر في صورة ضعيفة ومهزوزة وسيئة جدا‏.‏ وهو في هذا الفيلم عنيد ومتعصب وضيق الأفق ولايقبل نصائح السادات له بالاعتدال والتفكير السياسي السليم‏.‏ وأظن أن هذه الصورة التي ظهر بها عبد الناصر في الفيلم الأمريكي‏,‏ هي الصورة الأمريكية الشائعة له‏,‏ ولا توجد صورة أمريكية أخرى لعبد الناصر مع الأسف الشديد‏.‏
                      والغريب في ذلك كله أن أي دراسة علمية خالية من الأهواء والأغراض والتعصبات لابد أن تنتهي الي أن عبد الناصر قد بذل جهودا كبيرة بعد قيام ثورة يوليو سنة‏1952‏ لكي يكون علي علاقة طيبة بالأمريكان‏,‏ وكانت لديه آمال واسعة في أن يتعاون معهم علي أساس من المصالح المشتركة للبلدين‏.‏ ومن يعد إلى الوثائق المنشورة لليسار المصري فسوف يجد أن عبد الناصر في هذه الفترة كان متهما بأنه كان يتعاون مع الأمريكان ويعمل لحسابهم‏.‏
                      كما أن من الثابت والمعروف ان عبد الناصر في بداية الثورة كان علي علاقة طيبة بالسفير الأمريكي جيفرسون كافري وكان كافري من جانبه معجبا بعبد الناصر‏,‏ وكان أيضا آخر الأمريكان المحترمين الذين عملوا من أجل اقامة علاقات طيبة بين الأمريكان من جانب وبين ثورة يوليو وعبد الناصر من جانب آخر‏,‏ ومن المشهور عن كافري أنه كان يسمي رجال الثورة في مصر باسم أولادنا او علي حد التعبير الشائع عنه‏ourboys
                      ولكن السفير كافري استقال فجأة سنة‏1954,‏ وقيل عن هذه الاستقالة إنه اضطر اليها لأن سياسته المتعاطفة مع عبد الناصر وثورة يوليو لم تكن مقبولة لدي وزارة الخارجية الامريكية ووزيرها الشهير جون فوسترد الاس‏.‏ وقد جاء الي مر بعد كافري سفير امريكي آخر هو هنري بايرود وحاول بايرود أن يواصل خطة كافري السياسية في التعاطف مع عبد الناصر وثورة يوليو‏,‏ ولكنه لم ينجح‏,‏ واصطدم هو الاخر بعقبات كثيرة‏,‏ فأمريكا كانت قد اتخذت قرارها بالوقوف في وجه عبد الناصر‏,‏ ولم يستطع بايرود أن يغير اتجاه الرياح الأمريكية‏.‏ وأصبح عبد الناصر متهما من الأمريكان بأنه يميل الي الشيوعية‏,‏ بينما كان متهما في ذلك الوقت من الشيوعيين في مصر والعالم العربي بأنه يميل إلى الأمريكان‏.‏ وهكذا اختل الميزان واضطربت الحسابات والتقديرات‏.‏
                      علي أن الدراسة الهادئة المنصفة للعلاقة بين عبد الناصر والأمريكان إنما تؤكد أن عبد الناصر حاول باخلاص وجدية أن يتفادي أي صدام مع أمريكا‏,‏ إلا أن الأمريكان خذلوه وبدأوا في محاربته وعرقلة خطواته للنهوض بمصر‏,‏ مماجعل عبد الناصر يشعر بأنه لا أمل في أي تعاون جدي مثمربين مصر وأمريكا‏,‏ وبالتحديد بين ثورة يوليو وأمريكا‏,‏ وذلك طالما بقي عبد الناصر علي موقفه من الحرص علي المصالح المصرية والعربية قبل أي شيء آخر‏.‏ وعلاقة عبد الناصر بالأمريكان علي أي حال جديرة بأن تكون موضوعا لدراسات كثيرة أخري‏.‏
                      علي أن الصراع المبكر بين عبد الناصر وأمريكا لم يمنع من ظهور كاتب امريكي مثقف صاحب ضمير هو ولتون وين وقد أحب هذا الكاتب الأمريكي عبد الناصر واتصل به والتقي معه وعرف له قدره وسجل ذلك كله في أول كتاب غربي يظهر عن عبد الناصر سنة‏1959,‏ وكان هذا الكتاب عنوانه عبد الناصر ـ قصة البحث عن الكرامة
                      في حدود معلوماتي فإنه كاتب أمريكي عاش في مصر سنوات طويلة قبل الثورة وبعدها‏,‏ وكان يعمل أستاذا في الجامعة الأمريكية‏,‏ ثم تفرغ بعد ذلك للعمل مديرا لمكتب وكالة أسوشيتد برس للأنباء في القاهرة‏.‏ ومن خلال معرفة ولتن وين الواسعة بمصر وأحوالها وتاريخها القديم والحديث استطاع هذا الكاتب أن يصل إلي درجة كبيرة من الفهم والتعاطف والحب لشخصية عبدالناصر‏,‏ وقد ازداد موقفه المتعاطف قوة بعد أن أجري عدة لقاءات شخصية طويلة مع عبدالناصر نفسه‏,‏ مما ساعد هذا الكاتب علي أن يتخذ موقفه وبين يديه أدلة خاصة به تؤكد صحة رأيه الخاص في الإعجاب بعبدالناصر والدفاع عنه والمحبة العميقة له‏.‏
                      وسوف أتوقف هنا أمام الجوانب الإنسانية في شخصية عبدالناصر وليس أمام الجوانب السياسية التي شبعت بحثا بين الأنصار والأعداء‏.‏ والحقيقة أن الجوانب الإنسانية كثيرا ما تضيع في خضم التحليلات السياسية المختلفة
                      وقد حرص الكاتب الأمريكي ولتن وين علي أن يعطي للجانب الإنساني في عبدالناصر نصيبا كبيرا من الاهتمام في كتابه‏,‏ وذلك بالإضافة إلي تناوله للجوانب السياسية الأخري‏.‏
                      وكتاب ولتن وين صدر كما أشرت سنة‏1959,‏ وصدرت ترجمته العربية في نفس العام عن دار العلم للملايين في بيروت‏,‏ والترجمة لاتحمل اسما للمترجم‏,‏ وهي ترجمة واضحة وجيدة‏,‏ وأعتقد أنها قد تمت تحت إشراف المؤلف الأمريكي ولتن وين نفسه
                      يقول الكاتب الأمريكي المحب لعبدالناصر‏:‏
                      إن عبدالناصر دينامو بشري‏,‏ وهو يتمتع بطاقة لاحدود لها‏,‏ ولايكاد يجد وقتا للنوم‏,‏ ومتعته الأولي في الحياة هي عمله وثورته‏,‏ فهو يوجه إليهما كامل قوته‏,‏ وهو يعمل في معظم الأحيان في منزله‏.‏
                      لقد قال لي مرة‏:‏ إن مكتبي في قلب العاصمة ليس إلا مكانا للاستقبالات‏,‏ أما حين يكون عندي أعمال أساسية فإنني أفضل أن أقوم بها هنا في البيت‏,‏ حيث يسود الهدوء‏,‏ ولايصرفني عن العمل شيء‏.‏
                      وفي اليوم الذي تحدثت فيه إلي عبدالناصر كان قد عمل حتي الساعة الرابعة صباحا‏,‏ ثم نام قليلا واستيقظ في السادسة‏.‏ وعبدالناصر يواصل سهره هذا طوال أشهر متوالية حتي ينفد معين نشاطه‏,‏ وعندئذ يطرح العمل ويأخذ قسطه من الراحة‏.‏
                      وخلال فترات الراحة هذه فإنه يقصد في بعض الأحيان إلي القناطر الخيرية قرب القاهرة‏,‏ أو إلي قرية قريبة من الإسكندرية‏.‏ وهناك يستريح بضعة أيام حتي يسترد نشاطه ويصبح مستعدا لاستئناف العمل من جديد‏.‏ وهو يقصد إلي مثل هذه الاستراحات كلما توقع نشوب أزمة من الأزمات‏,‏ وكلما أدرك أن أمامه عملا شاقا يقتضي منه أن ينصرف إليه انصرافا طويلا مرهقا‏.‏ أما في الأحوال الأخري فإن عبدالناصر يفضل أن يأخذ قسطه من الراحة في بيته مع أسرته‏.‏
                      ويقول ولتن وين في موضع آخر من كتابه‏:‏
                      سألت عبدالناصر ذات مرة‏:‏ لماذا لاتنتقل إلي أحد قصور الملك فاروق السابقة‏,‏ بدلا من البقاء في منزلك المتواضع الحالي‏,‏ فقال لي‏:‏ لانستطيع أن نفعل ذلك‏.‏ إننا إذا انتقلنا إلي هناك فإن كلا منا سوف يحيا في جناحه الخاص‏,‏ وعندئذ يتشتت شمل الأسرة‏,‏ أما هنا في منزلنا هذا‏,‏ فإننا نعيش كلنا معا‏.‏ ثم أضاف عبدالناصر ضاحكا‏:‏ وهناك سبب آخر أيضا‏,‏ ففي العام الماضي انتقلنا إلي قصر الطاهرة‏,‏ أحد القصور الملكية القديمة حيث قضينا بضعة أسابيع ريثما يتم بناء الجناح الجديد في بيتنا‏,‏ فشرع أولادي يلعبون في أنحاء القصر‏,‏ وأخذوا يكسرون تلك الزهريات النفيسة والتحف الفنية الكبيرة‏,‏ وكان علي أنا أن أدفع قيمتها إلي الدولة‏.‏ والحقيقة أن حالتي المالية لاتسمح لي بالعيش في قصر‏!.‏
                      ثم يضيف ولتن وين‏:‏
                      يلعب عبدالناصر التنس في بعض الأحيان‏,‏ ولكن وسيلته المفضلة إلي الراحة هي لعب الشطرنج ومشاهدة الأفلام السينمائية‏.‏ لقد علم أولاده الشطرنج‏,‏ وهو يحب أن يقضي السهرة‏,‏ إذا سمحت له الظروف‏,‏ وهو يلعب معهم‏.‏ وقد قال لي مرة‏:‏ أنا أتركهم يغلبونني ما استطعت إلي ذلك سبيلا‏.‏ إني أريد منهم أن يحبوا هذه اللعبة‏.‏ وعبدالناصر يحب السينما ففي أيام الثورة الأولي كان يشهد الحفلات السينمائية في دور العرض كلما وجد متسعا من الوقت‏,‏ ولكن ضغط العمل مالبث أن فرض عليه الإقلال من الذهاب إلي دور السينما‏,‏ إلا في الأحوال النادرة‏,‏ ففي سنة‏1956‏ مثلا كانت أعماله لاتكاد تبقي له ذرة من أوقات الفراغ بعد تأميم شركة قناة السويس وماتلاها من حرب السويس‏,‏ وكنتيجة لذلك لم يشهد غير فيلم واحد طوال هذا العام‏,‏ وكان ذلك في شهر أغسطس عندما استطاع أن يذهب إلي الاسكندرية طلبا للاستجمام لبضعة أيام مع عائلته‏.‏ وقال لي عبد الناصر‏:‏ قبل أن ينتهي الفيلم جاءني من أخبرني أن دالاس وزير الخارجية الأمريكية قد أعلن مشروعه الخاص نتدويل القنال‏,‏ فكان علي أن أغادر دار العرض قبل انتهاء الفيلم‏:‏ وقد استطاع عبد الناصر أن يعوض ذلك في العام التالي‏.‏ وتوضيحا لذلك قال لي‏:‏ لقد أقمت جهازا للعرض السينمائي هنا علي أرض ملعب‏(‏ تنس‏)‏ المجاور لمنزلي‏,‏ فأنا أشهد كل ليلة جميع الأفلام التي فاتتني مشاهدتها في العام الماضي‏,‏ بما فيها ذلك الفيلم الذي لم أتم مشاهدته في الاسكندرية‏.‏
                      ويسجل ولتن وين بعد ذلك هذه الملاحظة فيقول‏:‏
                      إن روح الفكاهة عند عبد الناصر تؤلف جزءا من سحر شخصيته إنه ليس جارحا‏,‏ ولكنه يملك نصيبه الوافر من روح الفكاهة التي يتميز بها شعب مصر
                      ولقد قلت أكثر من مرة إن سحر شخصية عبد الناصر يفتن كل من يقابله حتي اذا فارقته وتحررت من سحر شخصيته‏,‏ بعد ساعة أو ساعتين فقد تجد نفسك تختلف معه في الرأي‏,‏ أما في أثناء سماعك الحديث فلابد لك من الاقتناع بما يقول
                      وعبد الناصر يتكلم الانجليزية في طلاقة‏,‏ ولكنه لايتكلف التكلم بلهجة إكسفورد‏,‏ أو باللهجة الأمريكية‏.‏ إن عبد الناصر يتكلم الانجليزية بالنبرة المصرية‏,‏ فلست تنسي وأنت تستمع إليه أنك أمام رجل مصري صميم والاجتماع بعبد الناصر حلم من أحلام الصحفيين‏.‏ إنه لايتهرب قط من أي سؤال‏,‏ ولايحاول أن يقذف الصحفي باجابات موجزة لا تسمن و لاتغني من جوع‏.‏ انه لايجيب علي الاسئلة فحسب‏,‏ بل يتوسع في ذلك حتي النهاية‏,‏ ذلك أنه متمكن من موضوعه‏,‏ فهو يريد أن يتحدث ويتحدث حتي تصبح كل نقطة صافية كالبلور‏,‏ ومع ذلك فهو لايستعمل التعابير الصاخبة الطنانة‏,‏ ولايمدح نفسه وأعماله‏,‏ فهو رجل متواضع جدا‏,‏ سريع إلي الاعتراف بأخطائه‏,‏ فهو يقول مثلا‏:‏ أجل‏,‏ لقد ارتكبنا بعض الأخطاء‏,‏ ولكن عليكم أن تفهموا تاريخنا‏,‏ فنحن المصريين قد عشنا طوال أجيال وأجيال تحت السيطرة الأجنبية‏,‏ وقد أصابتنا بسبب ذلك عقدة نفسية أو مركب نقص‏.‏
                      ومن أهم ماسجله ولتن وين علي لسان عبد الناصر ماقاله عبد الناصر لأحد رجال الدين الذين احتجوا علي قرار الثورة سنة‏1955‏ بتوحيد القضاء وإلغاء المحاكم الدينية لقد قال عبد الناصر لرجل الدين المحتج‏:‏ دعني أؤكد لك أننا لن نتسامح مع التعصب الديني من أية جهة جاء لقد حاول الاخوان المسلمون ذلك‏,‏ فتصدينا لهم بقوة‏,‏ وسوف نكرر نفس الموقف مع أي محاولة لفرض التعصب الديني علي البلاد‏.‏
                      وأخيرا يقول ولتن دين إن كره عبد الناصر لمظاهر العظمة هو إحدى الصفات القوية في شخصيته‏,‏ فلم يستطع أحد من الناس أن يزعم أنه سوف يصبح فاروقا جديدا‏,‏ أو أنه قد أثري على حساب الأمة‏,‏ وزيارة إلي منزل عبد الناصر تظهر لكل امريء كيف احتفظ الرجل بحياته البسيطة بعد ست سنوات من توليه مقاليد السلطة‏.‏
                      ذلك بعض ماقاله ولتن وين الأمريكي الذي أحب عبد الناصر‏,‏ وكتب عنه كتابه الجميل‏.‏
                      ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
                      *الأهرام ـ في 21/7/2002م.

                      تعليق

                      • د. حسين علي محمد
                        كاتب مسجل
                        • Jun 2006
                        • 1123

                        #26
                        رد: مع رجاء النقاش

                        (25) بالله عليكم‏...‏ أين الخطأ؟

                        بقلم : رجاء النقاش
                        ...........................

                        من بين الكتب المثيرة التي صدرت في سبعينيات القرن الماضي كتاب عجيب للكاتب الإسلامي المعروف المرحوم أنور الجندي عنوانه "طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام"‏,‏ وينطوي هذا الكتاب من أول صفحة فيه إلي آخر صفحة علي طعن ولعن وتوجيه للاتهامات القاسية إلي طه حسين في وطنيته ودينه وعروبته‏,‏ ومن بين أسوأ الاتهامات التي وردت في كتاب أنور الجندي اتهام لطه حسين بأنه متعاطف مع الصهيونية ومناصر لها‏.‏
                        وقد اعتمد الكاتب في توجيه هذا الاتهام الباطل علي محاضرة ألقاها طه حسين بتاريخ‏24‏ ديسمبر سنة‏1944‏ في المدرسة الإسرائيلية بالإسكندرية‏,‏ وينقل أنور الجندي بعض ما ورد في هذه المحاضرة ويقدمه كدليل علي صحة وصفه لطه حسين بالصهيونية، خاصة أن هذه المحاضرة قد لقيت الترحيب من المستمعين إليها في المدرسة الإسرائيلية وقوبلت بعاصفة من التصفيق وقرر المجلس الملي الإسرائيلي في الإسكندرية بعد المحاضرة إنشاء جائزتين باسم طه حسين يتم منحهما لألمع طالبين في المدرسة‏.‏
                        وتعليقا علي بعض نصوص محاضرة طه حسين يقول أنور الجندي‏:‏ لا ريب أن هذا الذي اختصرناه عن المحاضرة إنما يكشف عن هوي طه حسين وزيفه فيما حاوله من أن يضفي علي اليهود فضلا ليس لهم‏,‏ فما كان لليهود علي العرب أو غيرهم علي مر التاريخ البشري أي فضل‏.‏
                        وفي الرد علي هذا الاتهام الكبير الذي هو في تقديري اتهام شديد البطلان نتساءل‏:‏ أين وجه الخطأ في محاضرة طه حسين؟ من الناحية الشكلية ليس هناك لوم علي طه حسين‏,‏ فالمحاضرة تم إلقاؤها في المدرسة الإسرائيلية بالإسكندرية‏,‏ وكانت هذه المدرسة في ذلك الوقت ‏1944‏ مدرسة مصرية معترفا بها تؤدي عملها بصورة علنية لا خفاء فيها‏,‏ ولم يسجل عليها أحد أي مخالفة لقانون البلاد‏,‏ ولابد من القول أيضا إن اليهود في مصر في تلك الفترة كان لهم وجود شرعي لا اعتراض عليه من أحد‏,‏ وكانت النظرة العامة إلي هؤلاء اليهود أنهم مواطنون مصريون يشتركون مع بقية سكان مصر في الحقوق والواجبات‏,‏ ولا فرق بينهم وبين أي مواطنين عاديين غيرهم من أبناء البلاد‏,‏ فما هو الخطأ‏,‏ وما هو وجه الاعتراض علي أن يقوم طه حسين بإلقاء محاضرة في مدرسة مصرية‏,‏ وبين مواطنين مصريين لم يكن عليها أو عليهم اعتراض وطني أو قانوني من أي نوع؟
                        لا مجال لمثل هذا الاعتراض علي الإطلاق‏,‏ فهو اعتراض لا يقبله العقل ولا المنطق السليم‏.‏
                        يبقي بعد ذلك الاعتراض الأهم‏,‏ وهو الاعتراض علي ما جاء في المحاضرة من أفكار‏,‏ وعندما نقرأ الفقرات التي أوردها أنور الجندي في كتابه من هذه المحاضرة‏,‏ لا نستطيع أن نوافقه أبدا علي ما خرج به من نتائج ضد المحاضرة‏,‏ وقد كان موضوع المحاضرة هو اليهود والأدب العربي وفيها يتحدث طه حسين عن العلاقات بين العرب واليهود منذ الجاهلية ويتحدث عن تأثير اليهود في تحضير سكان الجزيرة العربية‏,‏ ثم يتكلم عن انتشار اليهود في شمال أفريقيا وأسبانيا‏,‏ حيث كانت لهم خدمات في سبيل الثقافة العربية‏,‏ وقد نافسوا العرب علي أكثر مناصب الدولة‏.‏
                        هذا الكلام الذي يقوله طه حسين هو كلام علمي سليم لا تنكره المصادر الموثوق بها ولا يرفضه الباحثون والعلماء‏,‏ وليس فيه ما يجرح الإحساس الوطني والقومي لأي عربي‏,‏ فلماذا يعترض عليه أنور الجندي أو غيره وأين وجه الجريمة في هذا الكلام؟
                        إن العرب المعاصرين جميعا وفي مقدمتهم الفلسطينيون يواجهون العالم بمنطق محدد وقوي هو أن الحضارة العربية قد عاملت اليهود ـ علي مر التاريخ ـ أحسن المعاملة‏,‏ وهي معاملة لم يجد اليهود مثلها أو قريبا منها في أوروبا فقد أتيح لليهود في ظل الحضارة العربية من حرية الحياة والتعبير والتفكير والارتقاء الاجتماعي ما لم يتح لهم في أي عصر آخر أو مجتمع آخر‏.‏
                        وكلام طه حسين في جوهره إنما يكشف عن وجه من وجوه الجريمة الصهيونية‏,‏ فهو يسجل موقف العرب الكريم من اليهود‏,‏ ويسجل من ناحية أخري أن اليهود كانوا مطمئنين وناجحين وسعداء في ظل الحضارة العربية‏,‏ ولو فهم أي يهودي ممن كانوا يعيشون في مصر كلام طه حسين علي وجهه الصحيح واقتنع به لما وجد نفسه في حاجة إلي تأييد الصهيونية والانطواء تحت رايتها‏,‏ وكلام طه حسين يؤكده المؤرخون والباحثون الأوروبيون الذين يجمعون علي أن وضع اليهود القانوني والعملي في البلاد العربية الإسلامية في القرون الوسطي كان أحسن كثيرا منه في أوروبا المسيحية‏,‏ وأن عبارة العصر الذهبي لليهودية في أسبانيا الإسلامية أصبحت عبارة شائعة علي لسان الجميع حتى في أكثر الروايات الشعبية عن التاريخ اليهودي‏.‏
                        هذا ما يقوله الأوروبيون أنفسهم‏,‏ وهي شهادة عالية في حق العرب والحضارة العربية‏.‏
                        يقول طه حسين في محاضرته بعد ذلك‏:‏ إن المسيحيين واليهود كانوا عونا للعرب في نقلهم العلوم والفنون والآداب عن اليونان والهنود والفرس‏.‏ وهنا نتساءل أيضا‏:‏ في أي شيء أخطأ طه حسين عندما قال هذه العبارة؟‏...‏ الحقيقة أنه لم يخطئ في شيء‏,‏ فالحضارة العربية قد استعانت بالمسيحيين واليهود واستفادت منهم ثقافيا وحضاريا‏,‏ خاصة في المراحل المزدهرة من تاريخ الحضارة العربية في الأندلس وفي العصر العباسي الأول‏,‏ وفي العصر الأيوبي‏,‏ ويكفي أن نشير هنا إلي أن العالم الكبير موسي بن ميمون اليهودي ‏1135‏ ـ‏1204‏ كان طبيبا لصلاح الدين الأيوبي‏,‏ فما الذي ينكره أنور الجندي وغيره علي طه حسين فيما قاله عن استعانة العرب بالمسيحيين واليهود واستفادتهم من ذلك؟
                        إن طه حسين يتحدث هنا بلسان المفكر والعالم المسئول المتحضر‏,‏ وهو في حديثه يريد أن يؤكد مبادئ التعاون والوحدة في صفوف شعبه بين شتي الطوائف والفئات التي يتكون منها هذا الشعب‏,‏ خاصة أن طه حسين في محاضرته كان يستند إلي حقائق تاريخية‏,‏ وعلمية دقيقة وثابتة‏.‏
                        بعد ذلك يقول طه حسين في محاضرته‏:‏ إنني أدعو يهود مصر إلي توثيق صلاتهم بالمصريين من أهل الثقافة العربية والاندماج فيهم اندماجا روحيا وتدارس أدبهم‏:‏ شعرا ونثرا‏.‏
                        هنا أيضا يتحدث طه حسين بلغته الوطنية الصافية المتحضرة‏,‏ فتاريخ المحاضرة كما سبقت الإشارة مرارا هو ‏1944,‏ وفي ذلك الوقت كان من الطبيعي أن يدعو طه حسين يهود مصر إلي التمسك بوطنهم والاندماج في ثقافته وعدم الاستجابة لأي إغراء خارجي آخر‏,‏ فهل كان أنور الجندي وغيره من المعترضين الساخطين علي طه حسين يريدون منه أن يدعو اليهود‏,‏ كما تدعوهم الصهيونية‏,‏ إلي الانفصال عن بقية أبناء مصر أو محاربتهم أو إقامة سد منيع يحول بينهم وبين الاندماج مع بقية المواطنين؟‏!‏
                        إن محاضرة طه حسين في حدود الأجزاء المنشورة منها ليس فيها أبدا ما يؤخذ علي طه حسين‏,‏ وليس فيها ما يثير شبهة تعاونه أو تعاطفه مع الحركة الصهيونية‏,‏ وإذا كان يهود مصر فيما بعد قد تصرفوا تصرفات خاطئة من وجهة النظر الوطنية والسياسية والإنسانية فليس هذا هو خطأ طه حسين‏,‏ وإنما هو دون شك خطأ اليهود أنفسهم‏,‏ لقد كان طه حسين يرسم خطة صحيحة للخلاص الوطني والاندماج في المجتمع العربي المصري‏,‏ ولكنهم اختاروا أو اختارت لهم الصهيونية طرقا ملتوية أخري‏,‏ تستند كلها إلي التطرف والتعصب والعنصرية‏.‏
                        أما الجائزتان اللتان قررهما المجلس الملي الإسرائيلي‏,‏ باسم طه حسين فلا يجوز لأحد أن يستند إليهما في القول بأن طه حسين كان ـ والعياذ بالله ـ مؤيدا للصهيونية أو متعاونا معها‏,‏ فمثل هذا الاستنتاج متسرع و خاطئ وغير منطقي‏,‏ ففي هاتين الجائزتين تكريم من هيئة دينية مصرية كان معترفا بها في حينها لرائد وكاتب عربي مصري كبير له وزنه ومقامه في الحياة الفكرية والحياة العامة معا‏,‏ ولم يكن في ذلك خطأ‏,‏ ولم يكن فيه جريمة‏.‏
                        .............................................
                        * الأهرام في 24/4/2005م.

                        تعليق

                        • د. حسين علي محمد
                          كاتب مسجل
                          • Jun 2006
                          • 1123

                          #27
                          رد: مع رجاء النقاش

                          ( 26 ) المصحف والمنديل (رجاء النقاش يكتب عن محمد مندور)

                          بقلم: رجاء النقاش
                          .......................

                          لاشك في أن كل إنسان في هذه الدنيا بحاجة إلي إيمان يضيء نفسه‏,‏ ويساعده علي مواجهة متاعب الحياة‏,‏ فبدون الإيمان تصبح الحياة جحيما لا يطاق‏,‏ وتصبح العلاقات بين الناس حربا لا هوادة فيها‏,‏
                          ويكون الضعفاء فريسة سهلة لكل من يمتلك القوة ولا يمتلك مبادئ تردعه عن استخدام هذه القوة إلا بالحق‏.‏ فالإيمان ضروري للحياة والإنسان‏.‏ ولكن هل بقي في هذا العصر مكان للإيمان؟
                          إن الحياة العامة والخاصة للناس أصبحت مليئة بالمشاكل والصعوبات‏,‏ والناس جميعا في حرب‏,‏ بعضها ظاهر تسيل فيه الدماء‏,‏ وبعضها حرب أخري غير ظاهرة من أجل الرزق ومحاولة النجاة من المطاردات اليومية للظروف الصعبة‏.‏
                          من منا لا يستيقظ في الصباح وهو يحمل بعض الهموم التي يحسب حسابها ويخاف أن يعجز عن مواجهتها والإفلات منها؟‏.‏ من منا لاي تسلح بالحذر خوفا من المجهول الذي ينتظر كل إنسان وقد يفاجئه في أي لحظة؟‏.‏ لاشك في أن كل إنسان يملك قدرا من الوعي والبصيرة لابد أن يشعر بمثل هذه المشاعر عندما يخلو إلي نفسه‏.‏
                          ومن الضروري أن يخلو الإنسان العاقل إلي نفسه بين الحين والحين‏.‏ وعندما يخلو الإنسان إلي نفسه فإنه يستطيع أن يراجع أمور حياته كلها‏,‏ بما في ذلك حياته الروحية‏.‏ والحديث مع النفس هو تقوية للنفس وإزالة لأي صدأ أو غبار تتعرض له‏.‏ وهذا هو طريق الوصول إلي الإيمان‏.‏
                          فالإيمان بحاجة إلي اكتساب عادة التأمل والخلو إلي النفس في بعض الأحيان‏.‏ علي أن الإيمان الحقيقي الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان ويعتمد عليه في حياته يحتاج إلي جهاد روحي‏.‏ فالإيمان لا يولد في النفس دون السعي للوصول إليه‏.‏ كذلك فإن الإيمان لا يبقى ولا يدوم دون أن نعمل علي تجديده باستمرار‏,‏ وبغير ذلك يتجمد الإيمان ويصبح بلا جدوى ولا نفع‏.‏ فالإيمان الجامد يتساوي مع الإيمان المفقود‏.‏
                          ومع كل هذا الحديث عن ضرورة الإيمان للإنسان فإن البعض قد يتساءلون‏:‏ هل صحيح أننا بحاجة إلي الإيمان في هذا العصر‏,‏ الذي تسود فيه النزعة العملية وتسيطر علي كل شيء؟‏.‏إن النزعة العملية في عالم اليوم أصبح لها فلسفة كبري في المجتمعات الغربية‏,‏ وهي فلسفة تتسلل إلينا بقوة حتى دون أن ندري‏.‏وهذه الفلسفة هي فلسفة البرجماتية أو فلسفة المنفعة‏,‏ وخلاصة هذه الفلسفة تقول لنا أن الخير هو ما يعود علينا بالفائدة‏,‏ وان ما لا يعود بمثل هذه الفائدة هو شر لاشك فيه‏.‏ ومن المؤكد أن فلسفة المنفعة هذه لها جانب إيجابي‏,‏ فهي تساعد الإنسان علي أن يكون واقعيا‏,‏ وألا يغرق نفسه في الأوهام والأحلام والخيالات‏.‏ ولكن الفلسفة النفعية إذا سيطرت علي الإنسان فإنها تدمر الحياة تدميرا كاملا‏,‏ فالفلسفة النفعية وحدها لا تحقق استقرار النفس‏,‏ أو تقضي علي القلق والتوتر أو تتيح لصاحبها أن يعرف معني السعادة الحقيقية‏.‏ ومن المؤكد أننا لا نستطيع أن نحصل علي شيء منذ ذلك كله دون إيمان يشرح النفس‏,‏ ويجعل المعاملة بين الناس طيبة وكريمة‏,‏ومثل هذا الإيمان لابد أن يكون بعيدا عن التعقيد والغموض والتظاهر واستخدامه كوسيلة لخداع الآخرين‏,‏ كما لابد أن يبتعد مثل هذا الإيمان الجميل البسيط عن أي فلسفة زائدة أو زائفة‏.‏
                          وهذا ما يحدثنا في بحث صغير بديع أديب ومفكر كبير هو الدكتور محمد مندور‏1907‏ ــ‏1965,‏ وعنوان البحث هو اعترافات مؤمن‏.‏ وهذا البحث يحمل كل صفات محمد مندور الأساسية وهي الوضوح‏,‏والصدق‏,‏ والأسلوب المليء بالموسيقي الهادئة الهامسة‏,‏ واتساع العلم والثقافة‏,‏ والقدرة علي وضع الحدود الصحيحة بين الأشياء‏,‏ بحيث لا نضطر الإنسان إلى الوقوع في المبالغات والادعاءات‏,‏ والخوض في أمور يكون الخوض فيها جهدا ضائعا لا جدوى منه‏.‏
                          وأول ما يطرحه الدكتور مندور في بحثه الجميل هو أنه ينبهنا وينبه نفسه إلي حدود قدرة العقل الإنساني‏,‏ وفي هذا المعني يقول‏:‏ كنت أحس دائما في غموض أن تطاول العقل إلي مالا يستطيعه دليل ضعف فيه لا قوة‏,‏ ولهذا كم كانت فرحتي يوم سمعت عميدا لكلية الطب في باريس يقول‏:‏
                          إن من أمارات الضعف العقلي أن نبحث بعقولنا عما لا نستطيع أن ننفذ إليه‏,‏ والعقل القوي هو الذي يعرف حدود قدرته‏.‏ لقد أحسست عندئذ أن هذه الألفاظ قد أضاءت جانبا مظلما في نفسي‏,‏ فرأيت بوضوح ما كنت أحسه غامضا‏,‏ ومنذ ذلك الحين آمنت بتفاهة من يناقشني في الإيمان بعقله‏,‏ فهذا إنسان ضعيف العقل يبدد نشاطه هدرا‏,.‏
                          وهكذا يري مندور أن الإيمان أكبر من العقل‏,‏ فالإيمان ليس من المشاعر‏,‏ التي يصح للعقل أن يخوض فيها أو يتفلسف حولها ويدخل في تعقيدات صعبة لتعريفها أو نفيها أو إثباتها‏,‏ وإنما الإيمان هو عاطفة روحانية هادئة تسيطر علي النفس ولا يمكننا إخضاعها لمجادلات ذهنية عقيمة لا جدوى منها‏.‏ والإيمان في هذا المجال يشبه كل المعاني الكبيرة التي نشعر بها ولا نحتاج إلي أي تعقيد فلسفي في وصفها والتعامل معها مثل‏:‏
                          الحب والأمانة والنزاهة والصدق‏.‏ فكل هذه المعاني إنما نتوصل إليها بذوقنا وإحساسنا‏,‏ وندرك وجودها داخل نفوسنا دون أن نكون بحاجة إلي التظاهر بها‏,‏ ووضع شروط لها‏,‏ ووصفها كما نصف الأشياء المادية التي نلمسها بأيدينا‏.‏
                          ويواصل الدكتور مندور حديثه الرائع في اعترافات مؤمن فيقول‏:‏ أنا إذن لا أحب الحديث عن الإيمان‏,‏ ولا أومن بالدعوة إليه‏,‏ ولكنني مع ذلك مؤمن إيمانا راسخا وليست لي في الحياة قوة غير هذا الإيمان‏,‏ فأنا مؤمن بإله عادل اطمأنت إليه نفسي بحيث لا أذكر أنني اتجهت إليه يوما فلم أجد تأييده‏,‏ وعندما أدعوه يسكت في نفسي طنين الفكر فلا أحس في نفسي غير الصمت الساكن‏,‏ ولا أفكر حتى في وسائل القوة التي أبغيها‏,‏ وإنما أساق بعد ذلك في غير وعي كالآلة المسيرة‏,‏ وأكتفي بما أستشعر به من ثقة بأنني مادمت قد تركت السكون إلي الحركة فإنني في سواء السبيل‏,‏ ومهما تكن بعد ذلك من صعوبات فلا يمكن أن يساورني شك في أنها سوف يتم تذليلها ولو في اللحظة الأخيرة‏,‏ وهذا هو الإيمان الهادي‏.‏
                          ولكن كيف وصل مندور إلي هذا النوع من الإيمان الجميل؟‏.‏ إنه لم يصل إليه بإجهاد عقله فيما لا يستطيع العقل أن ينفع فيه‏,‏ ولم يصل إليه بالمناقشات الفلسفية المعقدة‏,‏ ولا بالحرص علي الشكليات والمظاهر وتوافه الأمور‏,‏ ولا بالاستماع إلي من يحترفون الدعوة للإيمان وكأنما هو عندهم تجارة أو مذهب سياسي يدعو إليه أصحابه ليكسبوا له الأنصار والمؤيدين والأصوات الانتخابية‏,‏ بل لقد وصل مندور إلي الإيمان من خلال رياضة نفسيه قام بها وحده‏,‏ واعتمد فيها علي أشياء بالغة البساطة من حيث يقول‏:‏
                          ‏...‏ من أين لي بهذا الإيمان‏,‏ وقد لقيت ضروبا من الناس‏,‏ وقرأت ألوانا من الكتب‏,‏ ودرست أنواعا من اللغات والثقافات‏,‏ وخبرت الحياة‏,‏ هزلها وجدها‏,‏في كافة الأجواء وتحت مختلف السموات؟‏.‏ أستطيع اليوم بعد أن نضجت ملكاتي أن أقول إنني لم يقنعني أحد بهذا الإيمان‏,‏ ولا اكتشفته في بطون الكتب‏,‏ ولا تلقيته من أفواه البشر‏,‏ وإنما هو إحساس قديم تمكن من نفسي بفضل حوادث صغيرة كانت بيني وبين أبي‏.‏
                          بعد ذلك يروي مندور أحداثا صغيرة بسيطة وقعت له وجعلت معني الإيمان عميقا في نفسه فيقول‏:‏
                          عندما اختارتني الجامعة لبعثتها حدث حادثان صغيران كان لهما في نفسي أبلغ الأثر‏:‏ أولهما أنني قبل سفري رتبت كتبي في صندوق كبير وبغير وعي مني وضعت المصحف علي قمة الكتب‏,‏ ورأي والدي ذلك ــ بالصدفة ــ فسر سرورا لم أقصد إليه وإنما جاء بتوفيق من الله‏.‏ وتحدث أبي مع إخوتي عما رآه قائلا‏:‏ إن أخاكم فلان سيكون الله دائما معه وسوف يوفق في كل ما يعمل لأنني لاحظت أنه وضع كتاب الله فوق كل كتاب‏.‏ ثم إنني في يوم السفر فوجئت بهدية من والدي أوصاني أن أحتفظ بها مدة غيبتي وأن أعود بها إليه‏,‏ وكانت الهدية عبارة عن منديل للشيخ العالم النقشبندي الذي عاهده والدي علي الهدي‏.‏
                          وكلمة نقشبند هي كلمة فارسية معناها النقش علي القلب‏.‏ والنقشبندي هو من ينقش اسم الله علي قلبه‏.‏ وقد أخذت المنديل من أبي واحتفظت به خلال الأعوام التسعة التي مكثتها في أوروبا وعدت إلي مصر والمنديل لا يزال بين ملابسي‏.‏ ولا أستطيع أن أزعم أن هذا المنديل كان له علاقة بإيمان خاص أو قوة معينة‏,‏ بل ولا فكرت في شيء من ذلك علي الإطلاق‏,‏ ولكنه نوع من الاطمئنان السلبي المريح‏,‏ وقد اختلطت الهدية في نفسي بمحبتي لمهديها ــ أي أبي ــ وإيماني به‏,‏ وكان لذلك كله فضل دائم
                          في ردي إلي الإيمان كلما تجهمت لي الحياة‏.‏
                          ثم يصل مندور إلي القمة العالية لمعني الإيمان في نفسه فيقول‏:‏ لقد اتخذ الإيمان في نفسي وجهة الإحسان إلي الغير‏,‏ حتى لأحسب أنني عاجز أصلا عن بغض أحد‏,‏ فقد يقسو قلمي ويلذع لساني‏,‏ ولكنني ما عدت إلي نفسي إلا أحسست بفيض من التسامح لا أستطيع دفعه‏.‏
                          ثم يروي مندور حادثة أخري أثرت في نفسه أعمق التأثير فيقول‏:‏ كان لوالدي تسعة إخوة وكان يحبهم جميعا حبا قلبيا صادقا حتى لقد كان يذهلني عندما يموت أحدهم أن أراه وهو الشيخ الكتوم لسره يبكي بدمع حار‏,‏ وكان أصغر إخوته رجلا كريما متلافا لماله‏,‏ وكان والدي يهتز في دخيلة نفسه لكرم أخيه الصغير وإن أحزنه إتلافه لما له‏.‏ ثم حدث أن وقع هذا الأخ الصغير في ديون طائلة‏,‏ وكان والدي يستطيع أن يساعده في سداد هذه الديون من ماله الخاص‏,‏ فلم يتردد في ذلك‏,‏ وكانت والدتي مثل كافة الأمهات تحرص علي أن يستبقي والدي أمواله لأبنائه‏,‏ وكان أخي الأكبر يناصرها في الرأي‏,‏ فانتحي بي والدي في الليل ناحية وأسر لي بنيته في مساعدة أخيه وطلب مني أن أخفي الأمر عن والدتي وأخي‏.‏ وكنت عندئذ في السابعة عشرة من عمري‏.‏ وقد رأيت فيما قاله والدي لي ثقة بي برغم حداثة سني مما ترك في نفسي أبلغ الأثر‏,‏ فتحمست منذ ذلك اليوم لعمل الخير‏,‏ وآمنت أنه جزء من الإيمان‏,‏ حتى استقر بي الرأي إلي أن عون الملهوف وإسداء المعروف إلي الناس لابد أن يخلفه الله بالخير علي صاحبه‏,‏ ولازلت حتى اليوم أعتقد أن بركة الله قد حلت بمال والدي منذ ذلك الحين‏,‏ وذلك لأنه مال لم يطهره بالزكاة فحسب‏,‏ بل زكاه بالإحسان‏.‏
                          وينتهي مندور إلي هذه النتيجة أو الخلاصة العامة فيقول‏:‏
                          ‏..‏ هذه هي عناصر الإيمان في نفسي‏:‏ اطمئنان إلي المجهول‏,‏ وعدم تطاول بالعقل إلي مالا يستطيعه‏,‏ وربط للأخلاق بالإيمان‏,‏ وتسامح مع الناس‏,‏ وعمل للمعروف حيث نستطيع ذلك‏.‏ وأما منابع هذا الإيمان فهي كما تري لم تكن مجادلة عقلية‏,‏ ولا إثارة عاطفية‏,‏ ولكنها كانت حوادث صغيرة هي أبلغ في غرس الإيمان بالنفس من كبار الموسوعات وطوال الخطب‏.‏
                          وهكذا يقدم الدكتور محمد مندور في اعترافات مؤمن صورة حقيقية رائعة للإيمان الصحيح‏,‏ فهو شعور داخلي طبيعي سهل غير معقد‏,‏ وهو إحساس بعيد عن المظاهر والشكليات‏,‏ وهو فيض روحي لا يحتاج إلي محترفين يدعون إليه بالتهديد أو الوعيد أو غير ذلك من الأساليب‏,‏ والمؤمن السعيد بإيمانه لا يكرر الحديث عن هذا الإيمان أو يتفاخر به‏,‏ وإنما يحتفظ به في داخل نفسه‏,‏ فيظهر في سلوكه الطيب ومعاملته الكريمة للناس‏,‏ ويفيض منه علي وجهه نور لا تراه العيون وإنما تحس به القلوب المرهفة والنفوس الصافية‏.‏ وعندما يحدثنا مندور عن المصحف والمنديل‏,‏ فهو يحدثنا حديثا نفسيا موسيقيا جميلا‏,‏ وهو يقول لنا إن كل إنسان في هذه الدنيا من حقه أن يكون له كتابه المقدس مهما كانت ديانته‏,‏ وأن يكون له منديله الذي يحمل معه ذكريات جميلة تبعث في نفسه كل معاني الحب والحنان وانشراح الأرواح‏.‏
                          ..........................
                          *الأهرام ـ في 11/8/2002م.

                          تعليق

                          • د. حسين علي محمد
                            كاتب مسجل
                            • Jun 2006
                            • 1123

                            #28
                            رد: مع رجاء النقاش

                            ( 27 ) بين طه حسين وتوفيق الحكيم وجبران:
                            مقال لطه حسين يجعل من توفيق الحكيم نجما أدبيا بين يوم وليلة

                            بقلم: رجاء النقاش
                            .......................

                            عندما مات جبران خليل جبران سنة 1931 عن ثمانية وأربعين عاما، كان توفيق الحكيم لا يزال مجهولا من الحياة الأدبية في مصر والعالم العربي، وكان الحكيم في الثالثة والثلاثين من عمره، ولم يسطع نجم توفيق الحكيم إلا بعد وفاة جبران بعامين، أي سنة 1933، وذلك عندما أصدر الحكيم مسرحيته "أهل الكهف" فتلقفها طه حسين في فرح وسعادة، ورحب بها ترحيبا واسعا، وأشاد بها إشادة كبيرة واعتبرها فتحا جديدا في الأدب العربي، ذلك أن الأدب العربي قبل ظهور "أهل الكهف" لم يكن قد عرف "فن الحوار" أو الفن الذي يمكن أن نسميه بالأدب المسرحي.
                            كان هناك مسرح عربي ولكنه كان في معظمه قائما على الترجمة والاقتباس. ولم تكن لنصوص المسرح العربي قيمة أدبية خارج التمثيل فوق خشبة المسرح، ولكن توفيق الحكيم بمسرحيته "أهل الكهف" كان يقدم نصا كاملا قائما على حوار أدبي سليم ودقيق، ومقال طه حسين عن "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم تعتبر من المقالات النقدية المهمة في الأدب العربي المعاصر، لأن هذا المقال أحدث هزة كبيرة في الأوساط الثقافية في مصر والعالم العربي، وكان هو السبب الأول في شهرة توفيق الحكيم التي بدأت قوية ساطعة منذ اللحظة الأولى، فتوفيق الحكيم لم يكدح طويلا في سبيل النجاح الأدبي كما حدث مع نجيب محفوظ، فقد قضى نجيب محفوظ ما يقرب من عشرين سنة يكتب وينشر رواياته المختلفة، وهو يكاد يكون في الظل طيلة هذه السنوات العشرين، حيث لم يلمع اسمه إلا في أواخر الخمسينيات، وهو يكتب وينشر قصصه ورواياته منذ أواخر الثلاثينيات. أما توفيق الحكيم فقد ظهر منذ اللحظة الأولى نجما ساطعا، وأصبحت له شهرة واسعة بعد أن أصدر مسرحيته الأولى "أهل الكهف" والفضل في ذلك يعود إلى طه حسين وإلى نفوذه الأدبي لدى جماهير المثقفين، فعندما كتب طه حسين عن توفيق الحكيم بحماس شديد، أصبح توفيق الحكيم نجما، وأصبح واحدا من كتاب الصف الأول في الأدب العربي المعاصر منذ بدايته، ومقال طه حسين عن توفيق الحكيم هو نموذج حي على تأثير "الناقد" في الحياة الأدبية وأذواق الناس، فعندما يكون الناقد صاحب كلمة مسموعة وموثوق بها، فإنه يستطيع أن يبني ويهدم، ويستطيع أن أن يخلق نجوما ويطفئ نجوما أخرى.
                            وقد كان طه حسين عند أول ظهور لتوفيق الحكيم سنة 1933، هو هذا الناقد القوي، صاحب التأثير الواسع على الناس، وصاحب الكلمة المسموعة بينهم، ولعل هذه الحادثو الأدبية التاريخية تلفت النظر إلى أهمية "النقد" القوي المؤثر في حياتنا الأدبية، وفي حياة أي أدب آخر من آداب العالم، وبدون "الناقد" القوي الواعي الشجاع فإن الحياة الأدبية تفقد القيادة السليمة وتضيع منها أية رؤية واضحة.
                            ومقال طه حسين عن توفيق الحكيم منشور في كتابه "فصول في الأدب والنقد"، وأمامي منه طبعة "دار المعارف"، وليس للطبعة تاريخ مدون عليها، وهذا من أسوأ أخطاء الناشرين العرب، والتي لا يزال البعض يقع فيها حتى الآن، والسبب في ذلك هو سبب تجاري، فقد ييكون توزيع الكتاب بطيئا، وقد يستغرق توزيعه عدة سنوات، والناشر لا يريد أن يشعر القارئ الذي يشتري الكتاب بعد سنوات من صدوره أنه يشتري كتابا قديما، وقد كان الناشرون في الجيل الماضي مثل أصحاب "دار المعارف" معذورين لأن سوق الثقافة كانت محدودة، وتوزيع الكتب كان بطيئا، أما الآن فقد اتسع سوق الثقافة، بالإضافة إلى أن تسجيل تاريخ صدور الكتب هو واجب علمي وأمانة مفروضة على أساليب النشر السليمة، فلا معنى لإصرار بعض الناشرين على تجاهل تاريخ صدور الكتاب والنص عليه في كل طبعة.
                            ونعود إلى مقال طه حسين الذي كشف الستار عن توفيق الحيكم وجعل منه نجما أدبيا بين يوم وليلة، لنجد طه حسين يتحدث عن مسرحية الحكيم الأولى "أهل الكهف" في فرح وحماس وتبشير بميلاد موهبة جديدة فيقول في أول مقاله "... أما قصة "أهل الكهف" فحادث ذو خطر. لا أقول في الأدب المصري وحده، بل في الأدب العربي كله، وأقول هذا في غير تحفظ ولا احتياط، وأقول هذا مغتبطا به، مبتهجا له، وأي محب للأدب العربي لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول، إن فنا جديدا قد نشأ فيه وأضيف إليه، وإن بابا جديدا قد فتح للكتاب وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة، ما كنا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن؟. نعم. هذه القصة حادث ذو خطر يؤرخ في الأدب العربي عصرا جديدا.
                            ولست أزعم أنها قد برئت من كل عيب، بل سيكون لي مع الأستاذ توفيق الحكيم حساب لعله لا يخلو من بعض العسر، ولكنني على ذلك لا أتردد في أن أقول إنها أول قصة وضعت في الأدب العربي، ويمكن أن تسمى قصة تمثيلية، ويمكن ان يقال إنها أغنت الأدب العربي وأضافت إليه ثروة لم تكن له، ويمكن أن يقال إنها رفعت من شأن الأدب العربي وأتاحت له أن يثبت للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة، ويمكن أن يقال إن الذين يعنون بالأدب العربي من الأجانب سيقرأونها في إعجاب خالص لا عطف فيه ولا إشفاق ولا رحمة لطفولتنا الناشئة.
                            بل يمكن أن يقال إن الذين يحبون الأدب الخالص من نقاد الأدب الأجانب يستطيعون أن يقرأوها إن ترجمت لهم، فسيحدون فيها لذة قوية، وسيجدون فيها متاعا خصبا، وسيثنون عليها ثناء عذبا كهذا الذي يخصون به القصص التمثيلية البارعة التي ينشئها كبار الكتاب والأوروبيين".
                            هذا هو ما كتبه طه حسين في مقدمة مقاله عن توفيق الحكيم ومسرحيته الأولى "أهل الكهف"، وقد ظهر هذا المقال بعد نشر الطبعة الأولى من المسرحية سنة 1933، ونشره طه حسين في مجلة "الرسالة" في عددها التاسع الصادر بتاريخ 15 مايو سنة 1933، أي بعد أسابيع قليلة من صدور مسرحية "أهل الكهف"، ثم أعاد طه حسن نشره في كتابه "فصول في الأدب والنقد".
                            هذا المقال النقدي الذي كتبه طه حسين هو الذي جعل توفيق الحكيم نجما أدبيا من أول خطوة له، وليس من المبالغة في شيء أن نقول إن طه حسين قد وفر على توفيق الحكيم ما لايقل عن عشر سنوات من الجهد المتواصل لكي يصل إلى ما وصل إليه منذ بداية حياته الأدبية.
                            ولا شك أن توفيق الحكيم كان شديد الذكاء والمهارة والدهاء، وذلك إلى جانب موهبته التي لا شك فيها. فتوفيق الحكيم لم يطبع مسرحته "أهل الكهف" طبعة شعبية عند صدورها لأول مرة، بل طبع منها ـ على نفقته ـ طبعة محدودة من ثلاثمائة نسخة فقط، وقام بإهدائها إلى طه حسين وغيره من كبار الأدباء والنقاد المعروفين في ذلك الوقت، أي أنه اتجه منذ البداية إلى أن يحصل على اعتراف النقاد به قبل أن يتوجه للجمهور العام، والطبعة الأولى من "أهل الكهف" مفقودة ولا يمكن العثور عليها حتى في "دار الكتب المصرية"، وكان من حسن الحظ أن وقعت في يدي نسخة من هذه الطبعة الأولى لـ"أهل الكهف"، أحتفظ بها وأعتبرها من الأشياء الثمينة التي أعتز بها. وبعد هذه الطبعة الأولى المحدودة، أصدر توفيق الحكيم طبعة شعبية لقيت نجاحا واسعا بعد أن أشاد بها طه حسين ولفت الأنظار إليها، وإلى كاتبها الجديد.
                            من ناحية أخرى فإن توفيق الحكيم كان من عادته التي ملازمة له حتى وفاته سنة 1987 أن يكتب مؤلفاته ويحتفظ بها لنفسه، ثم ينشرها عندما يرى الأجواء مناسبة لنشرها. ولذلك فعندما أصدر "أهل الكهف" ولقيت النجاح الذي كان يرجوه، سارع بإصدار روايته الجميلة المعروفة "عودة الروح" في نفس العام، أي سنة 1933، ثم أصدر مسرحيته النثانية "شهر زاد" سنة 1934، وتوالت أعماله الأدبية بعد ذلك دون توقف.
                            وقد ساعد هذا كله على تدعيم نجاحه، وتوسيع قاعدة شهرته والاهتمام به من جانب القراء والنقاد. وقد بقي توفيق الحكيم على عادته هذه حتى البنهاية، فكان يكتب أولا ويحتفظ بكتاباته ولا ينشرها بعد الانتهاء منها مباشرة، بل يختار التوقيت المناسب لنشرها وتقديمها إلى الناس، فقد كان يحرص دائما على أن تكون له "مدخرات أدبية" كثيرة ويحرص أن ينفق هذه المدخرات، أي ينشرها بحساب شديد للذوق السائد واللحظة المناسبة والفرصة الصحيحة لخلق التأثير الذي يريده لأعماله. ولم يكن توفيق الحكيم مثل غيره من الأدباء والكتاب الذين يعتبرون تعود معظمهم على نشر ما يكتبونه فور الانتهاء منه.
                            ولا أريد أن أترك الحديث عن مقال طه حسين الذي كان السبب الأول في شهرة توفيق الحكيم السريعة، دون أن أتوقف أمام ملاحظتين هامتين أثارهما طه حسين في مقاله عن توفيق الحكيم حيث قال:
                            "... ولكن! وما أكثر أسفي للكن هذه! وما أشد ما أحببت ألا أحتاج إلى إملائها. ولكن في القصة، أي "أهل الكهف"، عيبان: أحدهما سوءني حقا، ومهما ألوم فيه الكاتب فلن أؤدي إليه حقه من اللوم، وهو هذا الخطأ المنكر في اللغة، هذا الخطأ الذي لا ينبغي أن يتورط فيه كاتب ما، فضلا عن كاتب كالأستاذ توفيق الحكيم قد فتح في الأدب العربي فتحا جديدا لا سبيل إلى الشك فيه، وأنا أكبر الأستاذ، وأكبر قصته عن أن أقف عند هذه الأغلاط القبيحة التي يمس بعضها جوهر اللغة، ويمس بعضها النحو والصرف، ويمس بعضها الأسلوب وتركيب الجمل.
                            ولا أتردد في أن أكون قاسيا عنيفا، وفي أن أطلب إلى الأستاذ في شدة أن يلغي طبعته هذه الجميلة، وأن يعيد طبع القصة مرة أخرى بعد أن يصلح ما فيها من أغلاط. وأنا سعيد أن اتولى عنه هذا الإصلاح إن أراد، ولعل ما سيتكلفه من الطبعة الثانية خليق أن يعظه وأن يضطره إلى أن يستوثق من صوابه اللغوي فيما يكتب قبل أن يذيعه على الناس.
                            أما العيب الثاني فله خطره ولكنه على ذلك يسير، لأن القصة هي الأولى من نوعها، كما يقولون. هذا العيب يتصل بالتمثيل نفسه، فقد غلبت الفلسفة وغلب الشعر على الكاتب حتى نسي أن للنظارة "أي المشاهدين" حقوقا يجب أن تراعى، فأطال في بعض المواضع، وكان يجب أن يوجز، وفصل في بعض المواضع وكان يجب أن يجمل، وتعمق في بعض المواضع وكان ينبغي أن أن يكتفي بالإشارة ولعله يوافقني على أن من الكثير على النظارة "المشاهدين" أن يستمعوا في الملعب "أي المسرح" لهذه الاقصة الجميلة جدا، الطويلة جدا، التي تقصها "بريسكا" على "غالياس" وهي تودعه وقد اعتزمت أن تموت في الكهف مع عشيقها القديس.
                            هذا العيب خطير لأنه يجعل القصة خليقة أن قرأ لا أن تمثل، وأنا حريص أشد الحرص على أن تمثل هذه القصة، وأثق أشد الثقة بأن تمثيلها سيضع الأستاذ على ما فيها من عيب فني، وسيمكنه من اتقاء هذا العيب في قصصه الأخرى، ومن إصلاحه في هذه القصة".
                            هذان العيبان اللذان أشار إليهما طه حسين في مقاله الهام عن توفيق الحكيم، أما العيب الأول، وهو الأخطاء اللغوية، فقد تخلص منه توفيق الحكيم في الطبعة الثانية الشعبية لمسرحية "أهل الكهف"، وتخلص منه نهائيا بعد ذلك في أعماله التالية، فقد أصبح توفيق الحكيم من كبار العارفين بأصول اللغة العربية، ومن الذين يحرصون على الصواب والدقة فيها، وقد ساعد ذلك على أن يحتل توفيق الحكيم مكانته الأدبية العالية، فهو صاحب أسلوب سهل ناعم ولعله عند دراسة أساليب أدباء الجيل الماضي يكون صاحب أجمل وأبسط الأساليب بين هؤلاء الأدباء جميعا بمن فيهم طه حسين، وعندما أضاف توفيق الحكيم إلى موهبته الرفيعة في الأسلوب البسيط الجميل الذي يتميز بالإيقاع السريع والذي لا يفرض على القارئ لحظة ملل واحدة.
                            عندما أضاف توفيق الحكيم إلى هذه الموهبة العالية في الأسلوب دقة لغته، أصبح الحكيم في المقدمة من أصحاب الأساليب الخاصة المتميزة في الأدب العربي المعاصر، بل في الأدب العربي كله منذ نشأته إلى اليوم.
                            أما العيب الثاني الذي أشار إليه طه حسين، وهو أن مسرحيات توفيق الحكيم يمكن أن تصبح قابلة للقراءة وغير قابلة للتمثيل، فهو عيب أساسي ظل يلاحق أعمال توفيق الحكيم المسرحية حتى نهاية حياته، وقد حاول توفيق الحكيم أن يجد لذلك العيب مخرجا في اصطلاح فني هو اصطلاح "المسرح الذهني"، وهو اصطلاح ذكي، ولكنه لم يستطع أن ينقذ أعمال توفيق الحكيم المسرحية من "المأزق" الذي نبهه إليه طه حسين منذ البداية. فقد كانت أعمال مسرحية كثيرة لتوفيق الحكيم تستعصى على تقديمها فوق خشبة المسرح، لإفراطها في الحوار النظري، وعدم توفيرها للحداث الضروريةالجذابة المتماسكة التي يمكن أن تمسك بالمشاهدين من بداية العرض المسرحي حتى نهايته.
                            وفي بعض الأحيان تبدو مسرحيات توفيق نوعا من التفكير الخالص مثلها في ذلك مثل "محاورات أفلاطون"، وهي محاورات فلسفية ذهنية لا يمكن تقديمها على المسرح، وقد حاول توفيق الحكيم ان يتخلص من هذا العيب الأساسي في مسرحياته المختلفة، فنجح أحيانا مثلما نجد في مسرحية "السلطان الحائر" ومسرحية "الصفقة" ومسرحية "الأيدي الناعمة"، ولكنه في كثير من من مسرحياته الأخرى ظل محصورا في مجال "المسرح الذهني" الذي يمكن قراءته ويصعب تمثيله على المسرح كما هو الحال في مسرحية "شهرزاد" ومسرحية "سليمان الحكيم" ومسرحية "بجماليون" وغيرها من مسرحيات توفيق الحكيم.
                            ولا شك أن ملاحظة طه حسين حول مسرحية "أهل الكهف" كانت دقيقة وخطيرة، ولو التفت إليها توفيق الحكيم بدرجة كافية من العناية، كما التقت إلى أخطائه اللغوية، لتغير الوضع الراهن لمسرح توفيق الحكيم، ولأصبح هذا المسرح كله قابلا للتمثيل، لا ببقراءة فقط، وللأسف فإن النسبة الأكبر من مسرح توفيق الحكيم غير قابلة للتمثيل، أما ما هو قابل للتمثيل من مسرحياته فهو نسبة أقل من المسرحيات الفكرية التي تقوم على الحوار الفلسفي الجميل الممتع، وتخلو من الأحداث المتماسكة الجذابة، والتي هي شرط أساسي للنجاح فوق خشبة المسرح.
                            على ان توفيق الحكيم رغم ذلك كله يبقى واحدا من أكبر وأعظم الأدباء العرب في كل العصور، فهو لم يكن كاتبا مسرحيا فقط، بل كان روائيا، وناقدا، ومفكرا ساسيا، وكاتب مقال من الدرجة الأولى، وهو صاحب أسلوب متميز يبدو لي أفضل من أسلوب بين أدباء الجيل الماضي، بل وأرقاها وأبسطها وأجملها في الأدب العربي كله.
                            (يتبع)

                            تعليق

                            • د. حسين علي محمد
                              كاتب مسجل
                              • Jun 2006
                              • 1123

                              #29
                              رد: مع رجاء النقاش

                              هذا بعض ما كان بين توفيق الحكيم وطه حسين، فماذا كان بين توفيق الحكيم وحبران؟
                              في 15 مايو سنة 1935 نشرت مجلة "مجلتي" التي كان يصدرها الأديب والصحفي المعروف أحمد الصاوي محمد مسرحية من فصل واحد لتوفيق الحكيم تحت عنوان "نهر الجنون"، وبعد أقل من شهر، وبالتحديد في 11 فيراير 1935، نشرت مجلة "الرسالة" مقالا عنوانه "إلى الأستاذ توفيق الحكيم ـ سياحة في نهر الجنون ـ هل هناك اقتياس..؟!"، وكاتب هذا المقال ذي العنوان الطويل هو أديب لم يصادفني اسمه بعد ذلك أبدا، ولم أقرأ له شيئا غير هذا المقال، وهو أديب اسمه "جورج وغريس" من الإسكندرية. وربما كان هذا الاسم اسما مستعارا لأديب من أدباء الإسكندرية، وربما كان أديبا من الأدباء ذوي الأصل الشامي الذين كانوا يعيشون في الإسكندرية في ذلك الوقت ومنهم خليل شيبوب وشقيقة صديق شيبوب وفيلكس فارس وغيرهم، والذي يرجح عندي أنه أديب شامي هو أنه يقارن في مقاله بين عملين لتوفيق الحكيم وجبران خليل جبران، ولم يكن جبران معروفا في تلك الفترة على نطاق واسع بين الأدباء المصريين، رغم أن شهرته بين ادباء الشام كانت واسعة، أما لماذا أتصور أنه اسم مستعار فلأنني لم أقرأ لصاحب هذا الاسم شيئا سوى هذا المقال الجيد، وربما كان تصوري خاطئا.
                              يقول كاتب المقال:
                              "ليعذرني الأستاذ توفيق الحكيم إن أردت أن أقوم بسياحة قصيرة في "نهر الجنون"، ذلك النهر الرهيب الذي شاء الأستاذ أن يتدفق ماؤه من قطرات قلمه على صحائف إحدى عشرة من "مجلتي" الغراء في العدد الرابع منها الصادر في منتصف يناير الماضي 1935، والحق أنني لا أخشى أن أصاب بالجنون إن قمت بسياحة قصيرة في ذلك النهر أو انتهلت جرعة من مائه، فليس أحب إلى نفسي من أن ترشف من فيض ذلك القلم العذب الذي يذكرنا بصاحب "أهل الكهف" و"شهرزاد" و"عودة الروح". و"نهر الجنون" الذي خطر لي أن اكتب عنه هو عنوان لقصة تمثيلية طريفة من فصل واحد تناولها الأستاذ الحكيم في حوار لطيف، وتتلخص وقائع تلك القصة في أنه في قديم الزمان كان يجري في بلاد نائية نهر يشرب منه سكان تلك الجهة، ففي إحدى الليالي نقمت الطبيعة على ذلك النهر، فأرسلت أفاعيها تسكب سمومها في مائه فإذا به في لون الليل، ويرى الملك كل ذلك في رؤيا هائلة، ويسمع من يهتف به: "حذار أن تشرب بعد الآن من نهر الجنون..." فيمتنع الملك هو ووزيره عن الشرب من ماء النهر، فإذا بهما في تمام قواهما العقلية، أما الملكة وسائر أفراد الشعب فإنهم يتعافتون على الماء ويستقون منه فيصيب عقولهم مس من الجنون".
                              ويستمر الكاتب في تلخيص مسرحية "نهر الجنون" لتوفيق الحكيم والتي تنتهي بأن يضطر الملك ووزيره للشرب من نهر الجنون ليكونا مثل بقية أفراد الشعب، بعد أن كان الشعب يتهمهما ـ وهما العاقلان الوحيدان في البلاد ـ بأنهما المجانين. ومسرحية توفيق الحكيم تنتهي بهذا الحوار بين الملك ووزيره:
                              الوزير: أجل يا مولاي! وإنه لمن الخير أن تعيش الملكة والناس في تفاهم وصفاء ولو منحت عقلك من أجل هذا ثمنا.
                              الملك: (في تفكير) نعم. إن في هذا كل الخير لي. إن الجنون يعطيني رغد العيش مع الملكة والناس كما تقول. وأما العقل فماذا يعطيني..؟
                              الوزير: لا شيء.. إنه يحعلك منبوذا من الجميع، مجنونا في نظر الجميع.
                              الملك: إذن فمن الجنون ألا اختار الجنون؟
                              الوزير: هذا عين ما أقول.
                              الملك: بل إنه لمن العقل أن أؤثر الجنون.
                              الوزير: هذا لا ريب عندي فيه.
                              الملك: ما الفرق إذن بين العقل والجنون؟
                              الوزير: (وقد بوغت) انتظر.. (يفكر لحظة) لست أتبين فرقا.
                              الملك: (في عجلة) إليّ بكأس من ماء النهر.
                              وهكذا يشرب الملك ووزيره من "نهر الجنون" ويصبحان من المجانين مثل الملكة وسائر أبناء الشعب. ويقول كاتب المقال بعد أن لخص مسرحية توفيق الحكيم وقدم جزءا من الحوار الذي دار بين الملك ووزيره:
                              "... هذا مجمل القصة، والجزء المهم من الحوار الذي دار بين الملك ووزيره، وانتهيا منه بأن العقل لا يغنيهما شيئا في مملكة من المجانين، لذلك آثرا أن يكونا منهم. وموضوع القصة ـ كما نرى ـ طريف وليس في هذا مجال لشك أو موضع لغرابة، ولكن مما استرعى نظري أنني كنت أقرأ بدايتها قراءة الشاعر بما سيحدث في نهايتها، فما أتيت على آخرها ظللت أفكر فيمن سمعت او قرأت عنه تلك القصة، حتى هداني التفكير إلى كتاب "المجنون" للمرحوم جبران خليل جبران، فعثرت فيه على قصة قصيرة تحت عنوان "الملك الحكيم".. ثم يقدم الكاتب نص قصة جبران، وهي قصة فصيرة جدا، لذلك فلا بأس من ان نقدم نصها هنا. يقول جبران في قصته:
                              "كان في إحدى القرى النائية ملك جبار حكيم، وكان مخوفا لجبروته، محبوبا لحكمته، وكان في وسط تلك المدينة بئر ماء نقي عذب يشرب منه جميع سكان المدينة، من الملك وأعوانه فما دون، لأنه لم يكن في المدينة سواه "أي البئر"، وفيما الناس نيام في إحدى الليالي جاءت ساحرة إلى المدينة خلسة، وألقت في البئر سبع نقاط من سائل غريب، وقالت: "كل من يشرب من هذا الماء فيما بعد يصير مجنونا، وفي الصباح شرب كل سكان المدينة من ماء البئر، وأصبحوا مجانين على نحو ما قالت الساحرة، ولكن الملك ووزيره لم يشربا من ذلك الماء. وعندما بلغ الخبر آذان المدينة طاف سكانها من حي إلى حي، ومن زقاق إلى زقاق قائلي:"قد جن ملكنا ووزيره، إم مكلنا ووزيره قد أضاعا رشدهما. وفي ذلك المساء سمع الملك بما جرى، فأمر على الفور بملء حق ذهبي، كان قد ورثه عن أجداده، من مياه البئر، فملأوه في الحال وأحضروه إليه، فأخذه الملك بيده وأداره على فمه، وبعد أن ارتوى من مائه، دفعه إلى وزيره فأتى الوزير على بقيته، فعرف سكان المدينة بذلك، وفرحوا فرحا عظيما جدا، لأن ملكهم ووزيره ثابا إلى رشدهما".
                              وبعد أن أورد الكاتب نص قصة جبران القصيرة قال:
                              "فما رأي القارئ اللبيب في هذا؟.. أليس هناك تشابه تام بين القصتين في الفكرة والمعنى والأشخاص وفي بعض الألفاظ؟.. إني مع احترامي الشديد وتقديري العظيم للكاتب الفنان توفيق الحكيم أرى في ذلك أحد أمرين: إما أن تكون فكرت توفيق الحكيم ماخوذة مما كتبه المرحوم جبران خليل جبران، وليس في هذا حرج، ولكنه كان الأجدر بالكاتب توفيق الحكيم أن يذكر اسم المؤلف الذي أخذ عنه تلك الفكرة، وله بعد ذلك الفضل في تقريبها إلى الأذهان بصوغها في قالبه الخاص الرائع، وفي تحويرها من حكاية قصصية إلى قصة تمثيلية، وإما أن يكون ذلك من قبيل توارد الخواطر وتشابه الأفكار بين كاتبين مختلفين في زمنين متقاربين، وليس في هذا أيضا من حرج.. ولكن دعني ألا أعتقد به هنا قبل أن تأتيني بجرعة من ماء ذلك النهر في حق من ذهب أو إناء من خزف".
                              ومعنى هذا التلميح الأخير في مقال الكاتب أن لا يعتقد في أن المسألة توارد خواطر، وأن القضية في حقيقتها هي اقتباس صريح، أو سرقة من جانب توفيق الحكيم لقصة جبران خليل جبران.. وإن كان من باب التهذيب والتعفف لم يذكر كلمة السرقة.
                              وقد علقت مجلة "الرسالة" على مقال الكاتب بعبارة قالت فيها "... هناك فرض ثالث وهو أن يكون مصدر الكاتبين واحدا".
                              وبعد أسبوع من ظهور المقال في مجلة "الرسالة" كتب توفيق الحكيم تعليقا نشرته المجلة في عددها التالي رقم 85 والصادر بتاريخ 18 فبراير سنة 1935، وفي هذا التعليق يقول توفيق الحكيم:
                              "قرأت في العدد الأخير من مجلة "الرسالة" الغراء كلمة لأديب فاضل عن فكرة "نهر الجنون" وتماثلها مع فكرة قطعة نثرية لجبران خليل جبران. وقد حار الأديب علة هذا التشابه، وافترض بعض الفروض، وعقبت الرسالة بفرض قريب من الحقيقة. وردا على ذلك أقول إني سمعت عن هذه القصة لأول مرة منذ نيف وعشرين سنة، وقد وجدتها شائعة على الألسن كغيرها من الأساطير، ولا ريب عندي أن جبران خليل جبران لم يخترع هذه القصة اختراعا، وإنما كتبها كما سمعها من الناس. ومثل هذه الساطير ما ابتدعها كاتب، وإنما نبتت من قديم الزمان بين الشعوب والأجناس كأكثر النوادر والحكم والأمثال. وإني لم أكن أعلم قط قبل اطلاعي على عدد الرسالة الأخير أن أحدا من الكتاب والشعراء قد تناول من قبل هذه الأسطورة ولم يصل إليّ خبرها عن طريق شيء مكتوب، وإنما عن طريق أفواه الناس".
                              ذلك ما كتبه توفيق الحكيم دفاعا عن نفسه ضد اتهامه بالاقتباس أو السرقة من جبران خليل جبرا، والحقيقة أن التشابه بين مسرحية "نهر الجنون" لتوفيق الحكيم وقصة جبران هو تشابه واضح لا يستطيع أن يجادل فيه أحد بالإضافة إلى أن جبران كتب قصته قبل أن يكتب الحكيم مسرحيته "نهر الجنون" بسنوات طويلة، مما جعل الشبهة في الاقتباس أو السرقة قائمة، ولكن دفاع توفيق الحكيم عن نفسه معقول، ويمكن الاقتناع به، فقصة "نهر الجنون" هي أسطورة شعبية قديمة تنتقل بين الناس من جيل إلى جيل، فالمادة القصصية موجودة قبل أن يكتبها جبران او توفيق الحيكم، ويبدو لي أن توفيق الحكيم كان صادقا في حجته أو دفاعه عن نفسه، فأعمال جبران لم تكن منتشرة في مصر في تلك السنوات الأولى من الثلاثينيات، كما أشرت من قبل، والمصريون لم يعرفوا أعمال جبران معرفة واسعو إلا بعد ذلك بسنوات طويلةن كما أن أي بحث أدبي منصف يؤكد أن الأصل في القصة هو الأسطورة الشعبية المنتشرة بين الناس، والتي لا تختلف في تفاصيلها القصصية عما ورد في مسرحية الحكيم أو قصة جبران.
                              وهكذا نجا توفيق الحكيم من تهمة الاقتياس أو السرقة. ولكن الطريف في الأمر أن توفيق الحكيم ظل طيلة حياته يعاني من تهمتن، أما التهمة الأولى فهي التي أشار إليها طه حسين في مقاله الذي كان سببا في أول أضواء يتم تسليطها على توفيق الحكيم وهي تهمة "المسرح الذهني" الذي يصلح للقراءة أكثر مما يصلح للتمثيل، أما التهمة الثانية فهي تلك التهمة التي وجهها إليه الأديب الإسكندراني المجهول "جورج وغريس"، والذي ما زلت أظن أنه اسم مستعار لأديب آخر من أدباء الشام المقيمين في الإسكندرية في تلك الفترة، والذين كانوا على معرفة واسعة بجبران وأدبه، وأقصد بهذه التهمة الثانية الموجهة إلى توفيق الحكيم: تهمة الاقتباس والتي حاول بعض النقاد أن يجعل منها نوعا من السرقة الأدبية الصريحة، فقد اتهمه بعض النقاد بأنه اقتبس روايته المعروفة الجميلة "الرباط المقدس" من رواية "أناتول فرانس"، وأنه اقتبس كتابيه "حمار الحكيم" و"حماري قال لي" من كتابات الكاتب الإسباني "خيمنيز".. وهناك اتهامات أخرى عديدة من هذا النوع، ولا تزال هاتان التهمتان معلقتين على رقبة توفيق الحكيم إلى اليوم وهما موضع دراسات عديدة، بعضها ينفي وبعضها يثبت.
                              على أن ذلك كله لا يمنع من القول بأن توفيق الحكيم (1898ـ1987) كان صفحة جديدة مشرقة من صفحات الأدب العربي في القرن العشرين، وكان نموذجا لعبقرية أدبية متنوعة الجوانب، قادرة على أن تبقى حية ومؤثرة في هذا الجيل وفي كل الأجيال القادمة، ويكفي أن نعيد هنا ما قلناه في البداية من ان توفيق الحكيم صاحب أسلوب من أجمل الأساليب التي عرفها الأدب، إن لم يكن أجملها على الإطلاق.
                              ــــــــــــــــــــــــ
                              مجلة "الوطن العربي" ـ العدد 1183 ـ 5/11/ 1999

                              تعليق

                              • د. حسين علي محمد
                                كاتب مسجل
                                • Jun 2006
                                • 1123

                                #30
                                رد: مع رجاء النقاش

                                ( 28 ) من المحرر:
                                أستاذ رجاء النقاش.. شكراً!

                                بقلم: محمد جبريل
                                .....................

                                لم أعرف بحفل تكريم الناقد الكبير رجاء النقاش في نقابة الصحفيين إلا من وسائل الإعلام.
                                من حق رجاء النقاش. ومن واجبي. أن اتحدث عن إسهامه الإيجابي في حياتنا الثقافية. لا كناقد فحسب. وإنما كمكتشف للطاقات الإبداعية الحقيقية.
                                كان النقاش أول من قدم الطيب صالح إلي قراء العربية. قرأ موسم الهجرة إلي الشمال. وجد فيها عملاً متميزاً. فلم يكتف بنشرها في روايات الهلال التي كان يرأس تحريرها. لكنه قدم لها بدراسة مطولة تبين عن جوانب التفوق. بما أتاح لمؤلفها أن يحصل علي المكانة التي يستحقها.
                                الدور نفسه قام به النقاش لشعراء الأرض المحتلة. سلط الضوء علي إبداعاتهم من خلال دراسات متعمقة.
                                وأذكر أن النقاش قدم لمبدع من أجمل أدباء الستينيات وأصدقهم موهبة. هو أحمد هاشم الشريف. لم يقصر مجلة الكواكب علي أخبار المغنيين والممثلين والراقصات. بل خصص جزءاً منها لإبداعات الأدباء.. أليسوا فنانين؟
                                كان تقديمه لأحمد هاشم الشريف في هذا الإطار. ولا زلت أذكر كلماته المتحمسة التي تبشر بميلاد مبدع حقيقي وموهوب. وإذا كان الشريف قد أهمل فن القصة الذي قدم فيه محاولات جميلة لحساب الخواطر الصحفية فإن النقاش ظل علي حرصه في تقديم من يراهم جديرين بذلك.
                                بالنسبة لي. فقد زارني الصديق الشاعر أحمد هريدي يوماً. عرض باسم النقاش أن أنشر كتابات لي في جريدة خليجية كان النقاش يشرف علي قسمها الثقافي. كانت لقاءاتي بالنقاش محدودة بحيث يصعب نسبتها إلي الصداقة. لكنه كرر عرضه شخصياً. ونشر لي بالفعل ماقدمته له.
                                وحين كان النقاش يعد لإصدار مجلة ثقافية في مستوي قومي. نقل لي الصديقان طلعت الشايب وحسين عيد عرض النقاش بأن أنشر فيها كتاباتي. وقدمت إلي المجلة المشروع دراسة مطولة بعنوان "نعم. مصر هي بيت أبي". وقلت للصديقين الشايب وعيد: إذا نشرت هذه الدراسة دون حذف فستكون هي البداية. وفوجئت بأن النقاش جعل الدراسة التي ناقشت وأدانت. أولي مواد العدد الصفر من المجلة. مامثل إلغاء لتصوري أنه ربما يجد فيها مايحول دون نشرها في مجلة حكومية لم تبدأ خطواتها بعد. وانتظرت نشر مقالات أخري في الأعداد التالية. لكن النقاش ترك رئاسة تحرير القاهرة في ظروف لا أعرفها. وطلبت استعادة ماقدمته إلي القاهرة باعتبار أنه كان استجابة لعرض منه.
                                أمثلة أخري كثيرة تخص الآخرين وتخصني تؤكد الدور الريادي الذي أضاء به رجاء النقاش جوانب حياتنا الثقافية. بداية من الكلمة الناقدة المسئولة. إلي رعاية كل الطاقات المبدعة التي يري أنها بعض دوره.
                                أستاذ رجاء النقاش.. شكراً!
                                ..................................
                                *المساء ـ في 2/2/2008م.

                                تعليق

                                يعمل...