الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    كاتب مسجل
    • Jun 2006
    • 1123

    #31
    رد: مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

    الغوريلا .. تهجو الإسلام !!

    بقلم: أ. د . حلمي محمد القاعود
    ...........................................

    لا أدري لماذا قفزت إلى ذهني صورة الغوريلا ، ذلك الحيوان الوحشي المخيف ، وأنا أطالع بعض الكتابات التي تهجو الإسلام وتحرّض عليه ، ولم تعد تجد في ذلك غضاضة أو خجلا ، مع أنها تطعن في دين الأغلبية الساحقة من أبناء هذا الوطن التعيس .. ويأتي الهجاء والطعن على صفحات دوريات يملكها هذا الشعب ، ويمول خسائرها دافع الضرائب المصري المسكين ، وهو الذي لا يفرط في دينه ولا يرضى بالطعن فيه.. بالطبع نحن لا نلوم الغوريلا التي تهجو الإسلام بكل وقاحة وتتحدى المجتمع الإسلامي وقوانينه ، فضلا عن دستوره ، لأنها تستشعر أولا أن هناك نوعا من الحماية الخارجية التي يسبغها العدو الصليبي الاستعماري ممثلا في الولايات الأميركية المتحدة ، والمؤسسات المعادية للإسلام في الغرب بصفة عامة ، ثم هناك ثانيا الرضا الكامل من النظام البوليسي الفاشي الحاكم الذي يعتقد أن الإسلام "السياسي" هو عدوه الأول ، والخطر الأكبر على وجوده الفاشي ، حيث يمثل الإسلام عنصر المقاومة الوحيد الحي الباقي في الساحة ، لمجابهة الاستبداد والخنوع ، فضلا عن الفساد والإفساد اللذين صارا علامة مميزة للمرحلة الراهنة !
    بشاعة الغوريلا لا تقتصر على شكلها الشيطاني الذي يوحي بالرعب والقبح – مع أنها قد تكون حيوانا طيبا لا يعقر أحدا عندما تمتلئ بطنه بالطعام – ولكن من يمثلونه من كتاب البلاط أو كتاب الحرملك ، أو الباحثين عن الرزق الحرام يعطونك هذا الانطباع بالتوحش والبشاعة ، وأنت تطالع وقاحتهم ضد الإسلام وقيمه وتشريعاته انطلاقا من مقولات كاذبة ، وتدليس متعمد ، وافتراء واضح.
    حين تقرأ مثلا من ينفى أن يكون هناك فراغ ديني في مصر ، ويعتقد أننا نعاني من تخمة دينية انطلاقا من كون ما يسميه باللغة الدينية هي السائدة بشراسة في المجتمع وفي الصحف والمجلات وفي المترو , في الميكروباصات ، في الأتوبيسات ، في التوك توك ، في الإعلانات ، في المؤسسات حين يأتي وقت الصلاة ، في المسلسلات ، في مناهج التعليم ، في مجلات الموضة ، في المسرحيات ، في الأفلام ، في ألعاب السيرك وألعاب الأطفال ، في المطبوعات الكثيرة ، في الجرائد والكتب الدينية التي تصدر يوميا وشهريا ، في نساء مصر اللاتي يرتدين الحجاب والنقاب ويذهبن إلى الدروس الدينية ، وحمامات السباحة (!!) حيث يجلسن ويقرأن القرآن بصوت مسموع ، وإذا نزلن إلى الماء يرتدين ما يوهات شرعية تخفى كل الجسم باللون الأسود ، والتخمة موجودة في مجمع البحوث الإسلامية الذي يصادر الروايات والمسرحيات والقصائد الإبداعية ، والتخمة موجودة في كل من هب أو دب يذهب إلى النائب العام يرفع قضية تكفير (!!)ضد المبدعين والمبدعات ، ويطالب بإسقاط الجنسية المصرية عنهم ، ومنع كتبهم من السوق ، وحظر سفرهم ، والتخمة الدينية موجودة في التيارات الدينية الإسلامية التي تمهد لإقامة الخلافة الإسلامية ، والتخمة الدينية موجودة في التاكسيات وشرائطها التي تشتم النساء ، وتطالب بحجز المقابر للآخرة ، التخمة الدينية موجودة في مشايخ الفضائيات المتأنقين الذين يقدمون الفتاوى للفتيات المحجبات الصامتات ، والأولاد المتأسلمين الذين يتكلمون بشكل يسبب الاكتئاب واليأس من ترسيخ التيار المدني في المجتمع ، والغثيان من اختراق سلطة القهر بالدين !!التخمة في الإنفاق على بناء المساجد وإعداد الدعاة الدينيين والتمويل الخرافي للمطبوعات الدينية من جهات معروفة وغير معروفة .. لقد أغلقت اللغة الدينية – حسب الغوريلا – والمرجعية الدينية ، والمناخ الديني ، كل منافذ الهواء مما يؤكد أننا لسنا في فراغ ديني !
    وتقول الغوريلا إننا نضع النقاب ليس على الرءوس فحسب بل على العقول ، والنقاب حالة أفراد فقدوا الزمن " فهاجروا خارجه ، هربا من مجتمع ذكوري سيئ النظرات بذيء العبارات .
    ثم ترى الغوريلا أن أساتذة التكفير يحتلون أرفع المناصب ، ويمثلون محاكم التفتيش ، ويتربصون بأصحاب الفكر والمبدأ والبحث في نوايا الكتاب والأدباء ويصادرون كتبهم وإبداعهم ..
    وتقول الغوريلا إن المتطرفين الإسلاميين يدعون أنهم جند السماء فيرفضون القيم الأميركية المتحضرة ، ويفرضون قيم التخلف والبداوة والصحراء على الآخرين .... الخ
    والذي يتأمل هذه المقولات التي تلح عليها الغوريلا في صحف لاظوغلي وصحف اليسار المتأمرك ، وكتابات مثقفي الحظيرة ، وكتبة البلاط ، وأغوات الحرملك .. يجد أنها تسير في سياق واحد ، لا يتغير ,, هو هجاء الإسلام ، والزراية به ، والرغبة الشيطانية في استئصاله من الوجود لحساب السادة المستعمرين والسادة المستبدين !
    إننا بإزاء خلط عجيب ، وكذب مفضوح ، وتدليس بشع ، تؤكده أحوال الإسلام والمسلمين داخل مصر وخارجها ..إننا أمام هجاء رخيص لا يستحق عناء الرد والتفنيد لأنه يكشف عن نفسه ببساطة شديدة ، ويقول إنه ادعاء لا أساس له من الصحة ، لأن التخمة الدينية لو كانت موجودة بالفعل لتغيرت الأحوال ، وما كنا بهذا التردي الذي وصلنا إليه في ظل النظام البوليسي الذي لا يعرف التسامح أبدا مع الإسلام الفاعل والباني والمنتج ، أما والأمر غير ذلك فإن مقولات الغوريلا باطلة وغير صحيحة ..
    والنقاش العلمي لهذا التخليط العجيب قد يطول ويمله القارئ، ومع ذلك فسوف نكتفي بالإشارة إلى نقطة بسيطة لكشف تهافت منطق الغوريلا وعدم عقلانيته ، واستناده إلى الديماغوغية التي تقوم على المغالطة والمغالبة ليس أكثر ..
    لو كان لدينا تخمة دينية كما تزعم الغوريلا ، ما عانينا من انهيار اقتصادي ، ولا نقص في الإنتاج ، ولا تخلف في شتى الميادين حتى كرة القدم ، تتفوق علينا فيها موزمبيق ، كما تتفوق علينا في مجال التعليم الجامعي ! وذلك لسبب بسيط جدا ، وهو أن الإسلام دين علم وعمل ، وإتقان وإجادة ، وقد آثرت الحكومات المتتابعة منذ ستين عاما ؛عسكرية أو بوليسية ، أن تنفذ الإرادة الاستعمارية الصليبية بمطاردة الإسلام ، وتخليق نخب خائنة وموالية له تهجو الإسلام بمناسبة وغير مناسبة ، وتشكك في تشريعاته وتزري بأتباعه ، بل تقصيهم وتستأصلهم ، وتلقيهم في السجون ، وتعلقهم على أعواد المشانق ، وتحرمهم من مخاطبة الناس ، وممارسة نشاطهم السياسي والاجتماعي مثل بقية خلق الله ، وقد رأينا ما فعله ديكتاتور تركيا يوم أسقط الخلافة وعلق علماء الدين على المشانق في الميادين العامة، وارتمي بكل قواه في أحضان الصليبيين الاستعماريين ، ونسى أن شعبه ، ومثله بقية الشعوب الإسلامية لا يمكن أن تفرط في دينها ، وهاهم الأتراك بعد ثمانين عاما يقولون للصليبيين وخدامهم من أمثال الغوريلا : لا.
    وقد رأينا قبل شهور قليلة كيف قام النظام البوليسي الفاشي الذي تسميه الغوريلا دولة مدنية – أي علمانية – أي ضد الدين الإسلامي وحده، تلقى بالعشرات من الإسلاميين في المعتقلات والسجون ، وتحولهم إلى محاكمات عسكرية ، وتصادر أموالهم وتغلق مكتباتهم ، وصحفهم ودور النشر التابعة لهم ، دون أن تنطق الغوريلا من أي فصيل باستنكار ما حدث ، أو تقول إنه مخالف للمواثيق الدولية وحقوق الإنسان ، والدستور والقانون ، فضلا عن الشرائع السماوية .. وهو ما يدحض كل ما زعمته الغوريلا عن تخمة دينية لا وجود لها على أرض الواقع ، حيث يتم حصار الإسلام في كل المجالات في الصحافة والثقافة والإعلام والتعليم ، وحرمان من تشم فيه رائحة التدين من الوظائف المؤثرة فلا يدخل صحيفة قومية و، ولا جامعة ولا التلفزيون الرسمي ولا القضاء ، ولا كليات الشرطة أو الكليات العسكرية ، ولا حتى النوادي الرياضية المعروفة ..إن التعليم على سبيل المثال يجعل مادة التربية الدينية مادة نجاح ورسوب فحسب ،وحصة التربية الدينية مستباحة من بقية المدرسين الذين يجدون فيها فرصة لإعطاء دروسهم الخصوصية في المواد التي يدرسونها ، ولذلك يكون كتاب التربية الدينية هو الكتاب الوحيد الذي لا يفتحه الطالب إلا في ليلة الامتحان ؛ لأنه واثق أنه سينجح في هذا المادة بقوة السلطة ، سواء أجاب في الامتحان أو لم يُجب ، وبعد أداء الامتحان يلقيه الطالب في أقرب سلة مهملات ! فأين هي التخمة الدينية أيتها الغوريلا المتوحشة ؟
    لو أن الغوريلا تأملت بعض المظاهر الدينية ، وخاصة في إطار الطبقة العامة ، لعرفت أن هذا في معظمه ينتسب إلى ما يعرف بالتدين الشعبي الذي يعبر عن مقاومته للسلطة المعادية لدينه وعقيدته بطريقته الخاصة ، حيث لا يملك النظام الفاشي للمحجبة شيئا ، ولا يقدر على هدم المسجد ، ولا يستطيع أن يمنع امرأة من النزول في الماء بكامل ملابسها السوداء أو البيضاء ..صحيح أنه يمنع علماء الدين الحقيقيين من صعود المنابر ، ويفضل عليهم الجهلة وعملاء ه، ولكن المصريين البسطاء يصنعون علماءهم وأشرطتهم ونماذجهم حتى لو ركزت على الهوامش والفضائل دون الفرائض والواجبات .. ويبقى لهم في كل الأحوال شرف المقاومة ، أما الذين يلمّعون بيادة النظام ، ويمنحهم صحفه وإعلامه لمهاجمة الإسلام وهجائه ، وتحتضنهم قوى الشر الصليبية الاستعمارية بالمال والدعاية والشهرة والمؤتمرات والندوات في عواصم الغرب ؛ فهم في الخانة التي يعرفون اسمها ، ولا أريد أن أسميها ، وفي يوم ما ستنتصر إرادة الشعب على إرادة النخب العميلة ، وفي تركيا مثال ساطع لهذا الانتصار الذي لا بد أن تعرفه الأمة في يوم ما بإذنه تعالى .
    .................................
    *مدونة الدكتور حسين علي محمد

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      كاتب مسجل
      • Jun 2006
      • 1123

      #32
      رد: مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

      تجار الدراما.. وإرهاب الحكومات!

      بقلم: د. حلمي محمد القاعود
      ............................................

      يلعب معظم تجار الدراما والأفلام والمسرحيات من كتاب ومخرجين ومنتجين وغيرهم دورًا مزدوجًا في خدمة القوى الاستعمارية الدولية والحكومات العربية التابعة لها، وفي الوقت نفسه يزعمون أنهم يقدمون صورة الإسلام السمح من خلال أعمالهم وكتاباتهم.
      هذا الدور المزدوج يمثل حالةً من حالات انحطاط الدراما والفن، لأنها تُحوّلها إلى صورة دعائية فجة للحكومات التي تحتفي عادةً بالأعمال التي تتناول عنف بعض الجماعات، وتغدق على المشاركين فيها كثيرًا من الرعاية والامتيازات والشهرة والجوائز، فضلاً عن العوائد المادية والأدبية التي تأتي نتيجة لشراء الجهات الإعلامية الرسمية (التلفزة والإذاعة) لهذه الأعمال، واستضافة أصحابها في البرامج والصحف والندوات والمؤتمرات وإجزال العطايا والهدايا والجوائز لهم!
      أهم ما يُميز هذه الأعمال هو إدانتها للإسلام، وليس للقائمين بالعنف أو الإرهاب، وسبق أن كتبت عن هذا الملمح تفصيلاً في أكثر من مناسبة، ولكن الذي أريد أن أؤكد عليه هو تقديم الصورة القبيحة الدموية الجاهلة التي يعيشها بعض الأفراد، والسلوكيات التي يُمارسونها في واقعهم وحياتهم بوصفها من خصائص الإسلام الطبيعية ومعطياته الحقيقية.
      إنهم مثلاً لا يقدمون شخصًا ضلّ الطريق، وانساق إلى العنف في ظل ظروف معينة ونتيجة لأسباب خاصة، ولكنهم يقدمونه كأنه نبت شيطاني تغذيه جهات أجنبية (؟) يستسلم لها استسلامًا كاملاً، ولا يوجد له في أعمالهم الفنية والدرامية مقابل إسلامي حقيقي، يقدم الإسلام بسماحته ورحمته وكرمه وتعففه وشرفه وكبريائه وعزته.. إن المقابل الذي يقدمونه هو المسلم الذي "تأورب" أو "تغرّب" أو تثقف بالثقافة الأوربية الغربية بكل ما فيها من قيمٍ مغايرة وسلوكيات مختلفة.. وتفيض على هذا المقابل الغريب ملامح الإنسانية الرقيقة والبشرية المسالمة؛ سواء كان شيوعيًّا أو وجوديًّا أو إلحاديًّا أو سكيرًا أو عربيدًا أو إباحيًا بصفةٍ عامة.
      بل إنَّ المفارقةَ تتأتي في بعض الأحيان حين يقدمون صورة المتشدّدين والمتزمتين من غير المسلمين، فهم يقدمونهم في صورةٍ محبوبةٍ جميلة.. فهذه الزوجة غير المسلمة مثلاً، حين تأخذ من زوجها غير المسلم موقفًا حادًّا وعنيفًا؛ لأنه يلعب الورق أو يشرب الخمر، لا يصورونها جافة خشنة قاسية الملامح كما يصورون الشخصيات الإسلامية التي يزعمونها متشددة أو متطرفة، بل يقدمونها في صورة الإنسان الباحث عن الأخلاقِ والمروءة والشرف مما يجعل الجمهور يؤيده ويقف من ورائه!
      وواضح أن إنتاج الأعمال الدرامية التي تعالج العنف والإرهاب- كما يزعمون- تأتي في سياق دولي عدواني تقوده جهات استعمارية معروفة، ليست غايتها التعريف بسماحة الإسلام ومسالمته بقدر ما تهدف إلى تشويهه وتنفير الناس منه وأولهم المسلمون العوام الذين حرمتهم الحكومات الإسلامية من دراسة الإسلام ومعرفة أصوله الصحيحة وقواعده السليمة، وفرضت عليه حصارًا استئصاليًّا في كل مكانٍ يمكن أن يكون فيه فعّالاً ومثمرًا للإسلام والمسلمين بدءًا من الإعلام والتعليم والثقافة حتى القضاء والنيابة والمؤسسات العسكرية والبوليسية.
      إن الإسلام لا يقرّ العنف أو الإرهاب ضد أي أحدٍ من الناس، فما بالك بالمسلمين إخوة الدين وأشقاء العقيدة وأهل الوطن ورفاق المجتمع..؟ إنها حالة واحدة فقط يفرض فيها الإسلام على القادرين حمل السلاح ويُجبرهم أن يرفعوه ضد الغزاة الذين يعتدون على الأوطان ويردعون البلاد والعباد.. أما الاعتداء على الآمنين والمسالمين، فهو أمر يرفضه الدين نصًّا وتطبيقًا.
      ولا شك أن العنف الذي عرفته بعض البلاد العربية في العقود الأخيرة، هو ظاهرة غريبة ليست مألوفة في مجتمعاتنا الإسلامية المسالمة، وقد انحسرت هذه الظاهرة التي كانت تتبناها مجموعات محدودة، نتيجة لعوامل صنعتها السلطات الحاكمة في الأغلب الأعم.
      وكان يمكن لتجار الدراما أن يُعالجوا هذه المسألة في سياق عام ضمن ظواهر اجتماعية أخرى موضحين أسبابها والدوافع التي قادت إليها. ولكن تجار الدراما، وأغلبهم شيوعي أو علماني أو مرتزق يسعى إلى الكسب بأيةِ وسيلة ولو كانت حرامًا، وجدوا الفرصة سانحة، فصنعوا بالوحي البوليسي أو التطوع التلقائي مسلسلات وأفلامًا وتمثيليات، وقاموا بالترويج لها في أجهزة الدعاية التي تسيطر عليها الدولة تؤكد على عدوانيةِ الإسلام وفقدان البديل الإنساني الذي يمثله المسلم المعاصر.. وأضافوا إلى ذلك حالة دعائية مفتعلة تقول إن هناك من يكفرهم؛ وإنهم مهدّدون في حياتهم، وإنهم معرضون للاغتيال، ومعظم ما يقولونه تهويل لا أساسَ له في الواقع، يشبه بعض الرسائل المجهولة التي تصل إلى كتاب الصحف والمجلات ردًّا على بعض مقالاتهم، ويأتيني شخصيًّا كثير منها على الشبكة الألكترونية (النت)، باسم المجلات والصحف والمواقع التي أكتب فيها، ولا آبه لها؛ لأنها في الأغلب الأعم رسائل "فشنك" لا قيمة لها، ولكن القوم صنعوا من أنفسهم ضحايا، وصنعوا من أنفسهم أبطالاً وشهداء، وهم في الحقيقة لا يتجاوزون مخبري الشرطة وعملاء المباحث.
      إن العنف صناعة حكومية في أغلب الأحوال، صنعتها سجون الاستبداد وما يجري فيها من تعذيبٍ وحشي، لا تقره شريعة ولا عقيدة ولا قانون، وصنعتها ممارسات حكومية ظالمة، جعلت الناس تفقد الأمل في العدل والمساواة والكرامة، وصنعتها ممارسات حكومية إجرامية فقدت الرشد والاتزان، ففاقمت من الفقر والتخلف والقهر، وساندت النهب والفساد والانحراف، وخلفت فيالق من العاطلين والمتسكعين بلا عمل ولا هدف ولا غاية، وصار القانون في حماية الأقوياء، وضد الضعفاء.. وانهار التعليم والعلم والثقافة والصناعة والزراعة، ولعبت الدول الكبرى بجواسيسها وعملائها وأتباعها في كل مرافق المجتمع والحياة التي يعيشها العرب والمسلمون؛ ثم كانت الجريمة الكبرى التي ارتكبتها الحكومات العربية الإسلامية بمحاربة الإسلام ودعاته، والتضييق على الفكر الإسلامي في الإعلام والتعليم والثقافة والمساجد، وتفريغ الأزهر والتعليم من العلوم الشرعية الإسلامية والعربية.
      كل هذا لا يذكره تجار الدراما، ولكنهم يركزون على جانبٍ واحدٍ فقط، هو تقديم المسلم الإرهابي الدموي الذي لا يتورع عن القتل وسفك الدماء واستحلال دماء الآخرين واستباحة كل شيء، وامتلاك قلبٍ من الصخر لا يأبه للضعف الإنساني ولا يصغى لخفق القلوب!
      إن تجار الدراما، وخاصةً الشيوعيين- أو من كانوا كذلك ثم تأمركوا- والمرتزقة الذين جاءوا من قاع المجتمع، يرتكبون جريمةً حقيرةً في حقِّ المجتمع والوطن والأمة، وقبل ذلك الإسلام والمسلمين، وهم يخونون بلادهم ويخدمون أعداءها، ولو ادَّعى بعضهم أنه مطلوب على قائمة "الموساد"!

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        كاتب مسجل
        • Jun 2006
        • 1123

        #33
        رد: مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

        ولا عزاء لأدونيس فى نوبل

        بقلم: د.حلمى محمد القاعود
        .............................................

        قبل أيام كتبت عن جائزة نوبل التى مُنحت فى أكتوبر 2006م للروائى التركى (( أورهان باموك ))، الذى كتب عدّة روايات تعالج الصراع بين الشرق الإسلامى والغرب الصليبى ، وتنحاز للطرف الثانى بصفة عامة ، حيث عبّر عن إدانة بلاده بسبب المذابح المزعومة ضد الأرمن والأكراد التى يدعيها الغرب ، وقلت إن (( باموك )) لو أدان مذابح الغرب الاستعمارى الصليبى ضد العراقيين والأفغان والبوسنيين ، مثلا.. ما كان قد حصل على جائزة نوبل أبداً .
        كان عدد من الكتاب العرب وغير العرب من الذين ينتمون إلى العالم الإسلامى ، ينتظرون الحصول على الجائزة ولكن " التركى " سبق بها . وكان من بين هؤلاء الكتاب على أحمد سعيد ( أدونيس ) ، وهو من الطائفة النصيرية ( التى تسمى بالعلوية ) الحاكمة فى دمشق ، وانتمى إلى القوميين السوريين، وبعد الوحدة السورية المصرية ترك سورية احتجاجاً على الوحدة وعاش فى بيروت ، ويُقال إنه " تنصّر " وتم تعميده فى جامعة القديس يوسف ، التى منحته درجة دكتوراه الفلسفة فى الأدب عن كتابه الشهير " الثابت والمتحول " الذى صدر فى ثلاثة أجزاء .
        وأدونيس ، الذى ولد عام 1930م فى قرية قصابين باللاذقية ( معقل الطائفة النصيرية / العلوية ) ، هو فى الأصل شاعر ، أصدر مجموعة كبيرة من الدواوين ، من أشهرها : أغانى مهيار الدمشقى ، دليلة ، قالت الأرض ، وقدم قراءة للشعر العربى القديم ، ومختارات منه محتذيا فى ذلك الشاعر الرائد " محمود سامى البارودى " مع الفارق الزمنى والفكرى بين الاثنين .
        وأبرز أفكار أدونيس ، التى عبّر عنها بصورة واضحة وصارمة مبثوثة فى مجلة "مواقف " ، فضلاً عن شعره ، هى رفض الإسلام ، والإيمان بمقولات لينين عن الدين بصفة عامة ، وكان يمثل فى الستينيات مع مجموعة من الشعراء اللبنانيين ما يُسمى بشعراء الرفض . والرفض ليس التمرد على الاستبداد أو الظلم أو التخلف ، ولكنه رفض الإسلام والعروبة والوحدة ،ثم تبني ما يسمى الآن بالحداثة بمفهومها الغربي، ويركز دائماً على أن الحياة العربية ليس بها محور غير الانحطاط وأن العربى لا يخرج عن كونه طفلاً أو هيكلاً عظمياً ، وأنه ليس الله فى المنطقة العربية هو الميت ولكنه كذلك العالم والإنسان . وأن القرآن " خلاصة تركيبية لمختلف الثقافات التى نشأت قبله "، وأن عودة العربى إلى نقائه الأول لا يمكن أن تتحقق إلا فى ضوء عودة الشاعر يوسف الخال إلى المسيح !
        وشعر " أدونيس " يمتلئ بعدد من الرموز التى تدور حول النار ، وفينيق ، والصلب ، والجلجلة ، والطوفان والمطر ، والجرح ، والوثنية . ثم إنه يتخذ من " مهيار الديلمى " الشعوبى القديم رمزاً له فى " مهيار الدمشقى " .
        ومن أشعاره : " إننى مهيار هذا الرجيم / إننى خائن أبيع حياتى / إننى سيد الخيانة " . ومنها : " لا الله أختار ولا الشيطان / كلاهما جدار / كلاهما يُغلق لى عينى " أو " أعبد فوق الله والشيطان / دربى أنا أبعد من دروب / الإله والشيطان " أو " خريطتى أرض بلا خالق / والرفض إنجيلى " .
        وبعد أن انتهى " أدونيس " شاعراً بحكم الزمن وتقدم السن واحتضان الأنظمة الشمولية له ، واحتفائها به فى مناسباتها المختلفة ، بل واختلاق المناسبات التى تدعوه إليها ، وتقيم له الأفراح والزينات ، وتُضىء له الشاشات الصغيرة ، ليعبّر عن استعلائية مرذولة ، واحتقار للآخرين وخاصة من الشعراء والنقاد والمفكرين الذين ينقضون أفكاره وتصوّراته ، فقد راح يعزف على وتر آخر ، يصب نغماته فى آذان الغزاة اليهود والغرب الاستعمارى . وبدلاً من أن يقف مع شعوب الأمة العربية فى كفاحها ضد الغزاة والأعداء ، فإنه ينعطف تحت مسميّات براقة ، ليلوى أعناق المضطهدين من أمته نحو قضايا هامشية ، وكأنه يؤكد على صواب ما يفعله الغزاة والأعداء .
        من ذلك مثلاً خطابه الذى وجهه إلى السلطات اللبنانية عام 2001م فى جريدة الحياة ، والانتفاضة الفلسطينية الثانية فى عنفوانها يطالبها فيها بمنع عقد مؤتمر " مراجعة الصهيونية " . إنه لا يُشير أبدا إلى المجازر الصهيونية ضد الشعب الفلسطينى ، وعدوانها المستمر على جنوب لبنان وتحليق الطائرات اليهودية فى السماء اللبنانية التى يعيش تحتها .
        إنه يرى أن " الثقافة العربية " هى الثقافة المجرمة الآثمة التى يجب أن توجه إليها اللعنات ، لأنها تنشغل بمطاردة اليهود وتدمير الغير ، والنتيجة أنه لم تعد لدينا قضية إنسانية (!) تتجاوز حدود أنانيتنا ولماذا لا يمكن أن نحارب إسرائيل ونسالم فى الوقت نفسه الفن والأدب اللذين ينتجهما كبار الأدباء والفنانين اليهود خارج إسرائيل وداخلها ؟ "
        لا شك أن الشاعر الكبير أدونيس لايدرى شيئاً عن واقع الصراع الجارى بين الغزاة النازيين اليهود ، وبين من يفترض أنهم شعبه وأهله وأنه واحد منهم . ولا ندرى هل لديه علم عما يقوله عنا أدباء اليهود وفنانوهم وصورة العربى فى قصصهم وأشعارهم ومسرحهم ؟
        هل تزعجه العمليات الاستشهادية ، وعمليات المقاومة عموماً ، ولا يُزعجه قصف بيروت وغزة وخان يونس والمخيمات الفلسطينية ؟
        وهل ما يقوله أدونيس عن " ثقافتنا المتوحشة " له علاقة بالمؤتمرات التى انعقدت فى برشلونة وغيرها وشارك فيها مع نفر من اليهود الغزاة ؟
        لا ريب أن أدونيس كان يتهيأ بكلامه وأفكاره ليتلقى جائزة نوبل ، ولكنها للأسف أخطأته ، وذهبت إلى " درويش " أكثر عشقاً للأوربيين ، وهو التركى " أورهان باموك " .
        ويبدو أن بعض الجهات العربية لم يرضها أن يحزن " أدونيس " الذى طال انتظاره لنوبل ، ولم تأت ، فجهزت له نوعاً من التعويض الذى يجعله موجوداً على الساحة ، ولو أعاد إنتاج كلامه القديم ، فقد قررت مكتبة الإسكندرية استضافته لمدة أسبوعين ضمن برنامج يُسمى الباحث المقيم ، يلقى فيه أربع محاضرات ، ويلتقى عدداً من رواد المكتبة المختارين بدقة ، فيلقى محاضرة عن " الثابت والمتحول " فى الثقافة العربية : قراءة لكتابه الثابت والمتحول " وأخرى عن " الذائقة الشعرية " وثالثة عن " الشعر والفكر " ورابعة عن " الشعر والهوية " .. وبذا تكون مكتبة الإسكندرية قد قدمت عزاءً مناسباً لأدونيس الذى يرى ثقافة أمته لا تهتم بالإنسانى الذى يحيى الذات وتحيا بها الذات وتساعد الآخرين على الحياة . لكنها مشغولة بتشويه الإنسان اليهودى والاستعمارى طبعا وقتله والتضحية به ونفيه !!
        أما رأيه في المصريين الغزاة ، فهو أمر يحتاج إلى كلام كثير ، ويكفى أنه يرى أن كل شىء يبدأ بالفراعنة ينتهي بالموت والخراب ، وسماهم في عهد الوحدة مع سورية بالرمل والغربان ..!!
        ما رأيكم دام فضلكم فى أسطورة " أدونيس " الذى يرى فيمن يقتلنا إنسانية وتحضراً ، ويرى فى ثقافتنا توحشاً وتخلفاً ؟
        ....................................
        *المصريون ـ في 1/11/2006م.

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          كاتب مسجل
          • Jun 2006
          • 1123

          #34
          رد: مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

          كامل أمين.. شاعر الملاحم الإسلامية

          بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
          ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

          قبل ربع قرن تقريباً، رأيت رجلاً أبيض الشعر، متواضع الهيئة، يدخل مكتب رئيس التحرير لإحدى المجلات الأدبية، ويتحدث حول أعماله الشعرية، وقصائده التي يرشحها للنشر، كان متحمساً حماسة الشباب، مع أنه كان في ذلك الحين يبدو قد جاوز الستين بسنوات، عرفت أن الرجل هو الشاعر "كامل أمين"، واسمه الكامل: "كامل أمين محمد"، وكان له موقف من الحياة والمجتمع، يقوم على التصور الإسلامي، ويرفض التصورات العلمانية والماركسية التي كانت سائدة في الواقع الثقافي آنئذ، وهو ما جعل القوم المهيمنين على الصفحات الأدبية في الصحف والمنابر الثقافية ودور النشر الرسمية، يقفون منه موقفاً سلبياً، ويرفضون نشر إنتاجه الشعري والأدبي.
          وفي مرحلة تالية، أتيح له أن يجد فرصة مناسبة لنشر بعض أعماله، سواء في الصحف أو المجلات أو دور النشر الرسمية، ولكن عودة الماركسيين والعلمانيين إلى الهيمنة مرة أخرى حجبه عن القراء وعن الساحة الأدبية بصورة شبه كاملة!
          وقبيل وفاته في الأسابيع الماضية اشتد به المرض، فتوسطت له كاتبة إسلامية عند بعض ذوي النفوذ من مثقفي السلطة وكتابها كي يعالج لدى المستشفيات المتخصصة على نفقة الدولة، ووعد هؤلاء بعلاجه، ولكن مر الوقت والمرض يرعى جسد الشاعر المسن الفقير، وتجاهل ذوو النفوذ من مثقفي السلطة وكتابها أمر الرجل، حتى قضى نحبه، دون أن تكلف الصحف الرسمية وغير الرسمية نفسها عناء نشر خبر في سطرين عنه، ولم تستطع أسرته أن تنشر نعياً له!! وبالطبع لم يكتب أحد عنه شيئاً، لا مقالاً، ولا تحقيقاً ولا متابعة، مما يحظى به صغار الأدباء اليساريين والعلمانيين، عندما يصابون بالكحة أو الأنفلونزا!
          وسمعت أن الكاتبة الإسلامية التي توسطت من أجل علاج شاعرنا الراحل، أعادت الكرة مرة أخرى من أجل نشر إنتاجه الشعري والأدبي الضخم، ولكن القوم لن يسمعوا لها لسبب بسيط جداً، وهو أن كامل أمين "ليس يسارياً ولا علمانياً"، وقبل ذلك وبعده، فهو يعبِّر عن تصور إسلامي يرفضه اليساريون والعلمانيون جميعاً!
          نشأته
          ولد كامل أمين، في مدينة "طنطا" عاصمة مديرية الغربية، في الخامس من يوليو سنة 1915م، وقد تلقى تعليمه في المدارس الفرنسية أولاً، وواصل دراسته بعدئذ في المدارس المصرية، واشتغل موظفاً في وزارة الري "الأشغال"، وعاش حياة متواضعة حتى أحيل إلى التقاعد، وقد منح تفرغاً لبعض الوقت من وزارة الثقافة.
          نشر الشاعر قصائده في المجلات الأدبية والإسلامية، وكانت "الرسالة" تتزين بقصائده، وبمطولاته، وفي المرحلة الساداتية كان ينشر في "الأهرام"، و"الثقافة"، و"الهلال" وغيرها، واتسم شعره بقوة السبك، ووضوح العبارة، وقرب الألفاظ، وإيثار الموضوع الإسلامي، والدفاع عن الفكرة الإسلامية في مواجهة خصومها.
          من بناة الملاحم في الشعر الحديث
          ويعد كامل أمين من الشعراء البناة للملحمة في الشعر العربي الحديث، وكما نعلم فالملحمة لم تكن معروفة في شعرنا العربي الذي تغلب عليه صفة الغنائية، أي المقطوعات والقصائد التي يعالج من خلالها الشاعر موضوعه أو تجربته. الملحمية كانت من سمات الشعر اليوناني القديم، والشعر الروماني القديم أيضاً، والشعر عند اليونان والرومان كان وسيلة للتعبير المسرحي والملحمي، بحكم معتقداتهم وتصوراتهم، حيث كانت تقوم على الوثنية وتعدد الآلهة، وصراع هذه الآلهة مع البشر، وخاصة أبطال وقادة اليونان والرومان. لقد امتزجت الوثنية عند هؤلاء بالأسطورة والخرافة، وهو ما عبر عنه شعراء الإغريق والرومان في أعمال ملحمية شهيرة ترجمت إلى معظم لغات العالم، ومنها: أجا ممنون، ألكترا، حاملات القرابين...
          ومع أن العرب قبل الإسلام كانوا وثنيين، وكانت لهم أساطيرهم وخرافاتهم، إلا أن طبيع تهم وبيئتهم ورحلتهم في المكان والزمان، جعلتهم ينتمون إلى القصيدة الغنائية دون المسرح والملحمة، وفي بدايات عصر النهضة، سعى "محب الدين الخطيب"، ليكون للعرب والمسلمين ملاحمهم التي تقوم على تاريخهم الحقيقي، وفيه من الصراع بين الحق والباطل، ما يفوق أساطير اليونان والرومان وخيالاتهم، وقد ذهب إلى "أحمد شوقي" أشهر شعراء العصر الحديث آنئذ، وعرض عليه فكرة نظم الملحمة إسلامياً، ولكن "شوقي" صمت ولم يعلن قبوله أو رفضه، فذهب الرجل إلى "أحمد محرم" وعرض عليه الفكرة، فقبلها على الفور، وبدأ في النظم ونشر الملحمة "الإلياذة الإسلامية" أو "مجد الإسلام"، في مجلة "الفتح"، على أجزاء، وكان محرم بذلك أول من راد هذا الطريق وعبّده لغيره من الشعراء العرب المحدثين، المفارقة أن "شوقي" فاجأ الناس بعد ظهور "إلياذة محرم" بنشر "مطولته" ولا أقول ملحمته المعروفة باسم "دول العرب وعظماء الإسلام"، ترصد حركة الإسلام منذ فجر الدعوة حتى أيامه، ولكن لم تكن لها قوة ملحمة "محرم".
          جاء "كامل أمين" ليحقق أول ملحمة عربية إسلامية مكتملة فنياً، ولم يكتف بملحمة واحدة فقط، ولكنه كتب أكثر من ملحمة، وساعده على ذلك قدرته الكبيرة على النظم وطواعية اللغة، ودراسته الجيدة للسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي.
          كانت أول ملحمة يكتبها هي ملحمة "السماوات السبع" عام 1957، وكانت بداية متواضعة من حيث المستوى الفني، تلتها ملحمة "عين جالوت"، وإني لأعدها أعظم ملاحمه على الإطلاق، ليس لضخامتها أو تعبيرها عن معركة خالدة في حياة الإسلام والمسلمين، حيث كان الانتصار كبيراً ورائعاً وفريداً على التتار الغزاة، ولكن لأنها استطاعت أن تبني فنياً لحظة من أروع لحظات التاريخ الإسلامي، وتثبت بحق أن تراثنا التاريخي فيه ثروة هائلة من الأحداث والوقائع الباهرة التي تفوق خيال اليونان وأساطيرهم، كما تفوق ما لدى نظرائهم من الرومان.. ومع أن الشاعر أنجز هذه الملحمة عام 1968 (العهد الناصري)، فإنها لم تنشر إلا عام 1975م (المرحلة الساداتية).
          تابع الشاعر كتابة ملاحمه التاريخية، فكتب ملحمة "القادسية" عام 1978م، عن المعركة العظيمة التي خاضها المسلمون ضد الفرس، وانتصروا عليهم فيها.
          وهناك ملحمة أخرى هي الملحمة "المحمدية" عام 1979م، وترصد السيرة النبوية، وقد تناولتها في كتابي "محمد صلى الله عليه وسلم في الشعر العربي الحديث".
          إن "كامل أمين" في احتشاده لكتابة الملحمة التاريخية الإسلامية ليعد صاحب جهد فريد وكبير ونادر، نقل الشعر العربي من الغنائية إلى الملحمية، وأغناه بهذا التراث، فضلاً عن توظيفه في ميدان جديد يبعده عن كثير من السلبيات التي تصاحب الشعر الغنائي.
          مجموعة دواوين
          ومع ذلك، فإن "كامل أمين" أصدر مجموعة من الدواوين التي تضم قصائد غنائية معظمها يدور حول الدفاع عن الإسلام واستنهاض الأمة وشحذ عزيمتها لمواجهة المحن والأزمات والصعاب والتغلب عليها.
          أصدر عام 1947م ديوانه "نشيد الخلود"، وفي عام 1964م أصدر ديوانه "المشاعل"، وأصدر عام 1979م ديوانيه: "مصباح في الضباب"، و"عندما يحرقون الشجر".
          ومن المؤكد أن أوراقه التي تركها بعد رحيله، تضم كما علمت شعراً كثيراً لم ير النور، في ظل الحصار المفروض على التوجه الإسلامي بصفة عامة، سواء كان شعراً ملحمياً أو غنائياً.
          ويحسن أن نتناول نموذجاً من شعره، قبل ختام هذه السطور؛ لعلنا نرى فيه بعض خصائص شعره، يقول في إحدى قصائده "صيحة مسلم"، مدافعاً عن اللغة العربية "لغة الضاد" وربط الهجوم عليها بالمؤامرة الكبرى على الإسلام والمسلمين:
          رحمة الله والسماء عليها / كانت الضاد للكتاب لسانا
          وبها كان يهبط الروح جبريل / ويوحى للمصطفى القرآنا
          أيها المفلسون من كل شيء / فارقونا وهرّجوا في سوانا
          كل تاريخنا ديون عليكم / لا تظنوا استرداده إحسانا
          كل وجه لكم بألف يهوذا / ألف قابيل واغلٌ في دمانا
          قد تركنا كتابنا فضللنا / بعد أن كان في الكتاب هدانا
          أيها المسلمون في كل أرض / التقوا حول دينكم حيث كانا
          ولعل تسمية القصيدة "صيحة مسلم"، تتناغم مع صوت الجهارة الذي يسودها، واللغة المباشرة التي لا تلجأ إلى المجاز كثيراً، والتعبير القوي العميق عن القضية التي يدافع عنها، ويستبسل في سبيل المنافحة عن حماها، فهو مستمسك بالضاد التي صنعت مجداً، وكانت وسيلة الخير الإلهي الذي أصاب المسلمين وهو القرآن الكريم، وبالإضافة إلى ذلك، فهو يرى أن الضاد طريقنا لاستعادة المجد، وتقدم الصفوف، أما الذين يحاربون اللغة، فهم "يهوذا" و"قابيل"، ويدلل على خسارة الأمة وضلالها بترك كتاب الله، ويوجه نداءه إلى المسلمين كافة بالالتفاف حول الإسلام والتمسك به؛ لأنه طوق النجاة.
          رحم الله "كامل أمين"، فقد استمسك بإيمانه وكرامته حتى مات في صمت، مؤمناً زاهداً كريماً.

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            كاتب مسجل
            • Jun 2006
            • 1123

            #35
            رد: مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

            قراءة في كتاب «الصحافة المُهاجرة»
            للدكتور حلمي محمد القاعود

            بقلم:أ.د. حسين علي محمد
            ......................................

            في 190 صفحة من القطع المتوسط صدرت عن دار الاعتصام بالقاهرة الطبعة الثانية من كتاب الناقد المعروف الدكتور حلمي محمد القاعود "الصحافة المُهاجرة: دراسة وتحليل، رؤية إسلامية"، وكانت الطبعة الأولى قد صدرت منذ ثمانية أعوام عن الدار نفسها.
            ويقع الكتاب في أربعة أبواب تتناول ظاهرة الصحافة العربية المغتربة؛ حيث صدر الكثير من الصحف والمجلات العربية في باريس ولندن وقبرص … وغيرها.
            ويرى المؤلف أنّ أصحاب هذه الصحف والمجلات هاجروا بها، أو أنشأوها، بعد الحرب اللبنانية الأهلية في منتصف السبعينيّات. ويرى أنه كان من المنتظر أن تُعالج هذه الصحف قضايا العرب والمسلمين بحيدة وانتصاف، ولكن كيف يتم ذلك، والظاهرة "كانت في المحل الأول تجارية تقوم لدى كثير من أطرافها على لعبة محرّمة وآثمة، إنها لعبة العمل لحساب من يدفع، والدفاع عنه بالباطل، وتزداد حرارة الدفاع كلما ازداد مقدار الدفع، ثم إن كثيراً من أطراف اللعبة لم يكونوا بمعزل عن التلوث الفكري والعقدي، بل كانوا قادةً وروّاداً في هذا المجال، وكان رائدهم الأول وهدفهم النهائي هو تلويث الإسلام، وتشويه الصحوة الإسلامية لحساب جهـات شتى، مع تقنين الطغيان في العالم العربي، وتكريس الاسـتبداد والقهر، وتجميل الوجوه القبيحة في عالم الفكر والسياسة. (ص143).
            ولقد أضاف المؤلف إلى هذه الطبعة الباب الرابع ( ص ص143-179)، وهذا الباب عنوانه "بعد ثماني حجج"، يُثبت فيه الكاتب بالوثائق كيف كانت دعاواه صادقة في طبعة الكتاب الأولى، فهذا صاحب إحدى المجلات الأسبوعية ـ التي مازالت تصدر في باريس ـ يقول أثناء أزمة الكويت 1990م "وأعرف أنَّ هناك من سيُعيِّرني بأن لحـم كتفيَّ من العراق، ولن أتردّد في القول: نعم، هذا صحيح" (ص154).
            لا نستطيع في هذه الزاوية أن نتناول كل زوايا ظاهرة الصحافة المُهاجرة: النشأة، والانحراف العقدي، والاستمرار في هذا الطريق الطويل الموحل، ولماذا استمرّت؟ وهل ستستمر في المستقبل؟
            يكفينا ـ في النهاية ـ أن نقول: هذا كتاب جدير بالقراءة، ونرشحه لمكتبتك.

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              كاتب مسجل
              • Jun 2006
              • 1123

              #36
              رد: مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

              قراءة في كتاب "الحداثة تعود.."
              تأليف: د. حلمي القاعود

              عرض: أ.د. حسين علي محمد
              ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

              ارتبطت الحداثة العربية ـ في بعض تجلياتها ـ بالمُخالفات العقدية، والجرأة في استخدام اسم "الله" ـ جل وعلا ـ فيما لا يليق، ومن ذلك ما يقوله "نزار قباني" في قصائد عديدة، مجترئاً على عقيدتنا في وجوب تكريم الله وتنزيهه، فيصفه بما لا يليق في مثل قوله:
              (والله مات وعادت الأنصاب).
              وبقوله:
              (بلادي تقتل الرب الذي أهدى لها الخصبا).
              وقوله:
              (حين رأيت الله مذبوحاً في عمان).
              وقوله:
              (من بعد موت الله مشنوقاً على باب المدينة).
              وقوله:
              (ويتزوج الله حبيبته).
              يدور كتيب الحداثة تعود للدكتور "حلمي محمد القاعود" (56 صفحة من القطع الصغير) حول ظاهرة الحداثة في حياتنا الفكرية والأدبية، وهذا الكتيب موجّه لمخاطبة القارئ العادي "ليحذره من مغالطة شاعت في أوساطنا الثقافية فحواها أن الحداثة مرحلة من التطور والتجديد ضرورية لفكرنا وأدبنا جميعاً، وأنها أمر طبيعي يتسق مع تطور الحياة والمجتمعات".
              والحداثة كما يراها الغرب مصطلح term "يضم عدة اتجاهات خاصة ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين… ويعني عدم التواصل أو الانقطاع عن الماضي تاريخيا وجماليا، أو رفض كل القيم المرتبطة بالماضي". وهذا ما جاءت تُنادي به الحداثة العربية على أيدي عرّابها أدونيس (في مجلته "مواقف"، العدد 6 ، 1969) حيث يقول:
              "ما نطمح إليه ونعمل له كثوريين عرب (!) هو تأسيس عصر عربي جديد. نعرف أن تأسيس عصر جديد يفترض ـ بادئ ذي بدء ـ الانفصال كلية عن الماضي. نعرف كذلك أن نقطة البداية في هذا الانفصال ـ التأسيس ـ هي النقد: نقد الموروث، ونقد ما هو سائد وشائع. لا يقتصر دور النقد هنا على كشف أو تعرية ما يحول دون تأسيس العصر الجديد، وإنما يتجاوزه إلى إزالته تماماً".
              "إن ماضينا عالم من الضياع في مختلف الأشكال الدينية والسياسية والثقافية والاقتصادية. إنه مملكة من الوهم والغيب تتطاول وتستمر، هي مملكة لا تمنع الإنسان العربي من أن يجد نفسه وحسب، وإنما تمنعه كذلك من أن يصنعها".
              والدكتور "حلمي محمد القاعود" في تتبعه لـ "أدونيس" ومن لف لفه من الحداثيين يرى تعسر محاولة التفريق بين الحداثة الفكرية التي تعنى بإلغاء الماضي والانفصال عن التراث ومحاربة الإسلام من جهة والحداثة الأدبية، يقول:
              "لقد حاولت أن أُقنع نفسي باستخدام مصطلح "الحداثة الأدبية"، وإن كان داخلي غير مقتنع أصلاً؛ لسبب بسيط، وهو أن أية نظرة أدبية لا بد أن تنطلق من مفاهيم فكرية أو أسس أيديولوجية، أيا كانت هذه الأسس أو تلك المفاهيم".
              لقد ازدهرت الحداثة العربية ووراء ازدهارها:
              * الإلحاح الدؤوب والمستمر الذي جعل القيمة الأدبية للشكل الأدبي (النقد الشكلاني من البنيوية إلى الأسلوبية) وإغفال الإشارة ـ عمداً ـ إلى الموضوع الأدبي حتى لو كان إلحاداً صارخاً، أو جنساً مكشوفاً، أو شذوذاً فجاً.
              * التزوير والتزييف الذي يمارسه نقّاد الحداثة حيث يفسرون النصوص الحداثية التي لا تلتزم بأي تقليد فني تفسيرات غريبة وعجيبة، بل مضحكة في بعض الأحيان.
              * جذب أصحاب المواهب الضحلة وطلاب الشهرة ـ وهم كثر ـ وجواز مرورهم الإيمان بالحداثة أو الماركسية.
              ويختم المؤلف بحثه الموجز بسؤال:
              ـ وما العمل؟
              ويجيب:
              "لابد من التوعية والمتابعة: التوعية بخطورة الحداثة منهجاً فكريا، والمتابعة لمسيرتها تطبيقاً بشعاً يرفض الحرية والدين والجمال".
              لقد جاء كتاب الدكتور "حلمي محمد القاعود" في وقته فهو يكشف عن ظاهرة الحداثة الفكرية التي استشرت في حياتنا الأدبية، وأصبحت مرضاً لا يُمكن البرء منه، وظهرت تجلياتها واضحة في العديد من الأعمال الأدبية (كالشعر والقصة والرواية والمسرح)، وقُدِّمت الدراسات المطوّلة عن أصحابها الذين أصبح لهم منابرهم وإصداراتهم في العالم العربي من الماء إلى الماء (أو من الخليج إلى المحيط).
              لكننا لا نُوافق الدكتور "حلمي محمد القاعود" في أن "الحداثة الأدبية هي الحداثة الفكرية"؛ فقد جاء في آخر المعاجم الأدبية "معجم مارتن جراي" martin gray حول "مصطلح الحداثة":
              " تعتبر الحرب العالمية الأولى 1914-1918م بصفة عامة مستهل الفترة الحديثة في الأدب، و"الحداثة" هي التي تُميِّز بعض خصائص كتابات القرن العشرين فيما يتعلّق بمدى اختلافها عن الأعراف الأدبية الموروثة من القرن التاسع عشر … وأهم الملامح المميزة خاصية التجريب التي يُعتقَد أنها استجابة للحياة في عالم يتبنّى الطرائق العصرية، وقد حدثت الابتكارات التقنية الجذرية في جميع الأجناس الأدبية الرئيسة"
              وطبقاً لهذا التعريف لمصطلح "الحداثة" فنحن نختلف مع الدكتور "حلمي محمد القاعود" في جعله الحداثتين الأدبية والفكرية مصطلحاً واحداً "يضم تحت ردائه نخبة من أصحاب الفكر ومحترفي الأدب الذين يتفقون فيما بينهم على قطع صلة العربي المُعاصر بماضيه تماماً… سواء أكان هذا الماضي العقيدة الإسلامية أو التاريخ أو التراث، اللهم إلا ما اتفق من هذا التراث أو ذلك التاريخ مع مناهجهم، سواء تمثّل في الحركات الشعوبية أو الباطنية أو الإلحادية (الزنادقة)، أو غير ذلك ممّا يتناقض مع الإسلام وتصوُّره الصحيح"
              إنّ الحداثة في تصوّرنا حداثتان:
              الأولى: حداثة فكرية، وهذه نرفضها؛ لأنها تريدنا أن ننخلع عن الماضي، فأي ماضٍ لنا نخجل منه ونريد الانخلاع عنه؟!
              إن ماضينا الإسلامي بإشراقاته وانتصاراته مازال ماثلاً للعيون، ومازلنا نعيشه ونتمثله حتى لو امتلأت حياتنا بالإحباطات والمثبِّطات، فكيف ننخلع عن هذا الماضي الذي نعيشه بكل ذرة من كياننا؟
              الثانية: حداثة أدبية، وهي التي تُريد التجديد في أشكال الكتابة، فكيف نرفضها ونُلحقها بالحداثة الفكرية المرفوضة؟
              صحيح أن كثيراً من أهل الحداثة الأدبية يُمكن أن نُلحقهم بأهل الحداثة الفكرية، وهؤلاء مَن يملؤون الساحة ضجيجاً وصخباً
              لكن في المقابل هناك من يرتبط بالإسلام، وينطلق منه لمواجهة العالم وإشكالاته، بفنه "الحداثي"، ومن هؤلاء في الشعر: صابر عبد الدايم، وأحمد فضل شبلول، وعبدالرحمن العشماوي، ومحمد بنعمارة، وحسن الأمراني، ومحمد علي الرباوي، وجميل محمود عبد الرحمن، وعبد الله السيد شرف، ونشأت المصري، ومحمد سعد بيومي، ومحمود مفلح … وغيرهم.
              هؤلاء يكتبون قصيدة التفعيلة ـ وهي شكل حداثي للشعر ـ بجودة واقتدار، ويكتب بعضهم ـ نشأت المصري ـ قصيدة النثر، فلماذا نُلحقهم بركب المُعادين للأمة، من الحداثيين الفكريين، وهم منهم براء؟!

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                كاتب مسجل
                • Jun 2006
                • 1123

                #37
                رد: مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

                سيادة اللواء .. رئيس جامعة!

                بقلم: أ.د. حلمى محمد القاعود
                ...............................................

                رؤساء الجامعات ، مثل غيرهم من رجال الوظائف العامة ، فيهم " أولاد ناس " ، على مستوى رفيع من الخلق والعلم ، ولا ينسون أبداً أن مهمتهم الأولى والأخيرة هى البحث العلمى ، فيخلصون لها ويعيشون من أجلها ، وحين تدفع بهم الأقدار إلى مناصبهم ، فإنهم يترفعون عن الصغائر ، ويرتقون إلى مستوى العلم وأهله ، ويتجاوزون المواقف التى تحط من أقدارهم أو تزرى بهم ، ولو كانت ضغوط الدولة مثل الجبال ، صحيح أنهم يؤثرون عدم المواجهة مع السلطة البوليسية الفاشية ، ويفضلون حلّ المشكلات بهدوء وذكاء ولكنهم لا يسقطون فى وحل الخضوع لإرادة السلطة أو مشيئة الحرس الجامعى ، بل يظلون فى دائرة شموخ العلم ومهابة العلماء ، وهو ما يجعل السلطة او الحرس يخشى الاستهانة بهم أو النيل منهم .
                وأحسب أن بعضهم خرج من منصبه " أستاذاً متفرغاً " ، ولكن ذكره فى المجالس العلمية والموسوعات العالمية ، يبقى بالنسبة لهم أكبر من كل منصب ، وأعظم من كل وظيفة .
                ولكننا للأسف ، عشنا حتى رأينا من يتدنى بمسلكه ، ليخضع لضابط بوليس فى سنّ أولاده ، يأتمر بأمره وينفذ مشيئته ، فيشعل النار فى جامعته ، ويصنع مأساة دون داع ، وكانت انتخابات اتحاد الطلاب فى الأسابيع الماضية نموذجاً ساطعاً على التدنى والخضوع من جانب بعض رؤساء الجامعات ، الذين شاركوا السلطة البوليسية الفاشية فى عدوانها الآثم على طلاب التيار الإسلامى داخل الحرم الجامعى ، جهاراً نهاراً ، وكانت لديهم الجرأة العجيبة على الكذب أمام الرأى العام ، وتأييد رواية البوليس التى يعلم الناس جميعاً أنها كاذبة جملةً وتفصيلاً !
                وللأسف ، فإنهم لا يكتفون بالكذب العلنى ، بل يحلمون أن يكونوا ضباط بوليس ، يبحثون عن كيفية قهر زملائهم وطلابهم ممن لا يرضى عنهم جهاز الأمن .. وقد نشرت بعض الصحف التى تتحدث باسم " لاظوغلى " كلاماً لبعض هؤلاء الرؤساء يكشف عن فجيعة حقيقة فى " صفوة المجتمع " التى ينظر إليها الناس نظرة احترام ، ونظرة أمل فى قيادة المجتمع إلى الحرية والمساواة والمستقبل (!) فإذا بهم يخذلونهم ويتخلون عنهم ، ويقومون بمهمة أخرى لا تليق بهم ولا تتناسب مع أقدارهم ، وقد صُعقت وأنا أقرأ قول أحدهم : " أن الوضع الحالى فى الجامعات خطير وغير مريح " ثم نفيه أن يكون هنالك من بين رؤساء الجامعات من يعلم بحجم النشاط الإخوانى داخل جامعاتهم ، خاصة أن القانون لا يعطى لرئيس الجامعة صلاحيات لاتخاذ أى إجراء ضد أساتذة الجامعة الذين ينتمون للجماعة المحظورة ، ومن بينهم أعضاء فى مجلس الشعب فكيف يمكن التصرف معهم ؟!!
                ولم يكتف رئيس الجامعة – الذى تحدثت عنه صحيفة " لاظوغلى ؟ دون ذكر اسمه – بما سبق ، بل وجه نداء للمجلس الأعلى للجامعات لمناقشة هذه المشكلة (؟) وإصدار بيان خاص بوضع التيار الإسلامى داخل الجامعات ، يرفع إلى رئيس الوزراء للتصرف فيه حيث تفاقمت الأمور خلال السنتين الماضيتين .. وأضافت صحيفة " لاظوغلى "على لسان سيادة رئيس الجامعة المجهول؛ أن المؤشر الخطير فى هذا السياق هو ظهور طلاب الإخوان المسلمين فى الأحداث الهمجية الأخيرة (؟) بعين شمس عندما وضعوا عصابة رأس برتقالية اللون بعد أن كانوا فى الماضى يستخدمون العصابة السوداء ويحملون أعلاماً سوداء ، ولكنهم بدءوا يستبدلون اللون البرتقالى بها ، وهى تعنى أن التغيير موجود وقادم ، بالإضافة إلى أن الدولة غلّت يد الأمن فى التحرك ضدهم ..!!
                رئيس الجامعة المجهول الذى نسب إليه الكلام فى صحيفة لاظوغلى ، بدلاً من أن يسعى بأساتذته وطلابه لتحقيق حرية الشعب واستخلاص حقوقه من قبضة النظام البوليسى الفاشى ؛ أو يلزم الصمت على الأقل ، تشغله قضية الإخوان أو الجماعة المحظورة ، وكيفية القضاء على التيار الإسلامى الذى تنتمى إليه أغلبية الشعب المصرى شاءت السلطة الفاشية أم أبت ، ويُبدى انزعاجه الشديد من العصابة البرتقالية التى كانت شعار الشعوب المغلوبة على أمرها وانتصرت فى أوكرانيا وجورجيا وبولندا ورومانيا وقيرغيزيا وأوزبكستان وغيرها من الدول التى منّ الله عليها بالحرية ، بعد أن كافحت وناضلت وأعلنت الثورة البرتقالية السلمية ، فغيرت الأنظمة الفاسدة وأقامت ديمقراطية حقيقية ، وحققت منهجاً جديراً بالاحترام لمقاومة الفساد وبناء المستقبل ..
                ولكن رئيس الجامعة " المجهول " منزعج من العصابة البرتقالية ، ولسنا ندرى حقاً فى أية جامعة رأى هذه العصابة التى لا يمكن للنظام البوليسى الفاشى أن يسمح بها حتى لو زعم أنه رآها فى عين شمس التى سمح البوليس للبلطجية الدخول إلى حرمها الجامعى بالسنج والسيوف لضرب الطلاب حتى أشرف بعضهم على الموت ؛ والأمن واقف يتفرج وينتشى !، وإذا كان اللون البرتقالى يُخيفه من التغيير فسحقاً له ولأمثاله من أعوان النظام المستبد الذى أزرى بالعلم والعلماء ، وجعل أساتذة الجامعة الذين لا يملكون عيادات أو مكاتب استشارية أو مكاتب محاسبة أو صيدليات شبه متسوّلين ، وخاصة بعد أن ينقلوا إلى " أساتذة متفرغين أو غير متفرغين " يتحكم فيهم تلاميذهم اعتمادا على لوائح وزارية وضعت لتصفية الحسابات وإذلال الشرفاء الذين وصلوا إلى مرحلة النضج والعطاء السخىّ ..
                إن رئيس الجامعة الذى ينحاز إلى السلطة المستبدة الغشوم ، ويتجاهل أن من حق أساتذة الجامعة وطلابها أن يعبروا عن أنفسهم ، وأن يختاروا قياداتهم مثلما يحدث فى كل جامعات الدنيا وأن يحصلوا على مقابل مادى يتكافأ مع جهودهم وبحوثهم وعنائهم ، إنما يدق مسماراً فى نعش التعليم بصفة عامة والتعليم الجامعى بصفة خاصة .
                ويعلم الناس جميعاً بما فيهم رؤساء الجامعة ووزير التعليم العالى أن وضع الجامعة المصرية لا يسرّ ، وأنها خرجت من مجال الجامعات التى يتوقف عندها الناس بالاهتمام سواء على مستوى العالم أو إفريقية بسبب النظام البوليسى الفاشى الذى يتحكم فى كل جزئية من جزئياتها ؛ وإذا كان بعض رؤساء الجامعات الذين استنطقتهم صحيفة " لاظوغلى " قد أكدّوا على أن طلاب " المحظورة " كما يسمونهم ، أعدادهم قليلة لا تؤثر فى المسار الجامعى ، وقال أحدهم إن عددهم أربعة أو خمسة ، قد أجروا انتخابات لاتحاد حرّ مواز ، وتركهم يقومون بعمليتهم ، حتى انصرفوا .. فما هو المزعج والمخيف فى الأمر ؟ وما هو المسوّغ الذى يجعل الأمر خطيراً ويقتضى عرضه على المجلس الأعلى للجامعات ، ثم رئيس الوزراء للتصرف ؟ وما معنى المطالبة بصلاحيات لرؤساء الجامعات لفصل أساتذة المحظورة ؟ وهل سيطالبون غداً بصلاحيات لفصل الأساتذة الشيوعيين والوفديين والمستقلين ؟ وماذا ستكون عليه الحال لو انقلب الأمر وحكم البلاد شيوعيون أو وفديون أو غيرهم ؟
                يبدو أن بعض السادة رؤساء الجامعات نسى دوره ووظيفته الأصلية ، ويصر أن يكون " ضابط بوليس " بدلاً من أن يكون باحثاً يعزّز من قيمة الحرية ، وفى مقدمتها حرية " الاعتقاد " والفكر ، وأظن أن أمثال رئيس الجامعة هذا لا يصلح أبداً أن يكون ضابط بوليس سياسى مهما قدم من تنازلات للنظام ، فهو فى نظره يتحول إلى شئ آخر لا أسميه ، وسلام على أساتذة أبطال كانوا أكبر من عمادة الكليات وإدارة الجامعات بل ورئاسة الوزارات .
                .........................................
                *المصريون ـ في 8/12/2006م.

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  كاتب مسجل
                  • Jun 2006
                  • 1123

                  #38
                  رد: مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

                  العصا الغليظة!

                  بقلم : أ.د.حلمي محمد القاعود
                  ............................................

                  كالعادة؛ أبت السلطة البوليسية الفاشية أن تتوب عن سلوكها القمعي الإرهابي ضد كل من يخالفها أو يحكم القانون والعقل والمنطق ؛ فأشهرت عصاها الغليظة في وجه قضاة مصر الشرفاء الذين أبرءوا ذمتهم أمام الله والناس ، وأعلنوا أن جريمة التزوير قد حدثت في دائرة بندر دمنهور الانتخابية ، وأن المرشح الخاسر قد أعلن فوزه في سابقة غير مسبوقة ولا مقبولة..كان إعلان القضاة من الجرأة والشجاعة مما جعل الأمة تحتفي بهم وتلتف حولهم، وأيضا كان إعلانا لتنقية ثوبهم الأبيض الذي يحرصون على بقائه ناصع البياض أيا كان الترهيب أو الترغيب الذي يمارسه النظام الديكتاتوري الحاكم !
                  لقد أعلنت السلطة من خلال مجلس القضاء الأعلى التابع لها عن إجراءات عقابية ضد القضاة الذين تحدثوا عن التزوير ، وأبلغوا الأمة حقيقة ماجري في الدوائر الانتخابية عامة ، وبندر دمنهور خاصة ، ورأى المجلس أن قلة من القضاة دون العشرة تحدثت إلى الفضائيات ووصفت الانتخابات بأوصاف رديئة –يعني بالتزوير –مما يعرض البلاد للفتن ويعصف بالاستقرار ، وطلب المجلس تحويل القضاة المذكورين إلى التحقيق الفوري أمام النائب العام .
                  هذا هو المضمون العام لبيان المجلس المذكور الذي جاء ليؤكد حرص السلطة على الاستمرار في ممارساتها الاستبدادية، بدلا من الرجوع إلى الحق والتحلي بفضيلة الاعتراف بالخطأ ، وتصحيح الوضع المقلوب الذي أعلن خسارة الفائز ، وفوز الخاسر.
                  إن المستشار نهى الزيني التي بدأت الإعلان بضمير حي عن جريمة التزوير ، وتلاها نادي القضاة الذي أعلن من خلال لجنة متابعة الانتخابات التي شكلها عن شهادة سبعة وثلاثين ومائة قاض قالوا في شهادتهم بالأرقام أن هناك مايقرب من ستة عشر ألف صوت هي الفارق بين الفائز الرسمي والخاسر المظلوم.. لقد احتكم القضاة إلى الشعب وحمايته ، لأنهم رأوا أن السلطات المختصة تقر التزوير وتؤيده ، وأن الشكوى إليها هي من قبيل الحرث في البحر بل إن عواقب الاستعانة بها ستكون تنكيلا وحصارا ومطاردة!!
                  كان من المفترض أن يهب المجلس لمعاقبة من شاركوا في جريمة التزوير ، ومن قبلوا إملاء السلطة المستبدة لإرادتها التي أهدرت كرامة القضاء ، وأزرت بنزاهة القضاة وحيدتهم ، ولكن المجلس آثر تهديد القضاة بالعصا الغليظة إن لم يغلقوا أفواههم متهما إياهم بالعمل السياسي !! في حين أنهم يعلنون رأيهم فيما وصلت إليه الأوضاع الانتخابية من استهتار بالقضاء ، واعتداء على القضاة، ومحاولة تحميلهم وزر التزوير الذي يجب فضحه وإعلانه على الملأ لأن ذلك من صميم عملهم واختصاصهم .. أليسوا المشرفين على سير العملية الانتخابية والحريصين على نزاهتها وشفافيتها ؟!
                  لقد استنكرت ثماني منظمات لحقوق الإنسان بيان المجلس المذكور ، وحذرت أن يكون ذلك مقدمة لمذبحة جديدة للقضاة ، كما أعلنت قلقها من لغة التهديد التي تغلف البيان .. وهو مايعني أننا بصدد حملة تخويف لكل قاض يتحرك ضميره في اتجاه الحق والصدق والعدالة التي هي من صميم عمل القضاء في كل الظروف والأحوال .
                  من المؤكد أن نادي القضاة قد أزعجه بيان العصا الغليظة ، ومن المؤكد أيضا أنه سوف يتخذ موقفا يناسب مضمون البيان ودلالاته ، ومن المؤكد كذلك أنه لن يرضخ للتهديد أو التخويف .
                  أما مايخص الأمة فيجب أن تكون على مستوى الحدث ، وهى كذلك بالفعل لأنها تساند القضاة الذين يعبرون عن ضميرها وإرادتها ، وقد قدمت الأمة كثيرا من التضحيات في سبيل حريتها وكرامتها ، وهى لن تدخر جهدا في سبيل تقديم المزيد من هذه التضحيات.
                  ولعل السلطة تتسق مع نفسها فيما تقول وتفعل ، فإذا كانت حقا تريد حياة ديمقراطية حقيقية فعليها أن تقبل بتبعات الديمقراطية الحقيقية من نزاهة وشفافية ، وقبول للفوز والهزيمة في الانتخابات ، وتداول سلمي للسلطة .. أما إذا كانت مصرة أن المسألة لاتعدو ديكورا ينصب ليراه العالم الخارجي ويعتقد أن لدينا ديمقراطية ؛ فلتعلن ذلك على الملأ . . وبعدها فليكن لشعبنا قراره الذي يراه ملائما سواء بالمشاركة في اللعبة أو التعبير عن إرادته الحقيقية بانتزاع الحرية من بين أنياب النظام المستبد الفاشي.
                  تحية لكل صاحب ضمير في هذا الوطن سواء كان من القضاة أو من غيرهم .. والنصر للشعوب الحرة !
                  ............................................
                  * المصريون ـ في 28 - 11 - 2005م.

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    كاتب مسجل
                    • Jun 2006
                    • 1123

                    #39
                    رد: مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

                    أم حسنين ..!

                    بقلم: أ.د. حلمى محمد القاعود
                    .............................................

                    أم حسنين امرأة عادية .. من عامة النساء المصريات . حملت عبء أسرة ضخمة وقامت بواجبها خير قيام .. وأخيراً ودّعتنا قبل أيام - ( 4/9/2007م ) - إلى العالم الآخر بعد عمر يناهز التسعين عاماً !
                    هى امرأة مجهولة ، لا يعرفها المجلس الأعلى للمرأة ، ولا المجالس الأخرى التى تدعى دفاعاً عن المرأة وحقوقها ومساواتها بالرجال ، ورفض الختان ، والميراث وفقاً للشريعة الإسلامية ، وتعدّد الزوجات .. ولكنها أثبتت بفطرتها البسيطة ، أنها أذكى وأفضل وأعظم من كل المجالس العليا والسفلى التى تتشدق باسم المرأة ومصير المرأة ..
                    لقد أنجبت أربعة عشر رجلاً وامرأة ، من ضمنهم ولد غير شقيق كان يعدّها أمه الحقيقية ، وكان ولاؤه لها قبل أمه الأصلية ، فقد ربّته مع أخوته ورعته وزوّجته وفرحت بأبنائه وأحفاده أيضاً ..
                    لقد حملت عبء الحياة العائلية مبكراً حين فقدت زوجها الرجل البسيط الذى كان متعهد صحف فى باب اللوق ، وكان الحاج مدبولى – الناشر المعروف الآن – من ضمن من عملوا معه ، وتعلموا منه ، حتى صار علامة لدى مثقفى الحظيرة وخارج الحظيرة ، فى مصر والعالم العربى على السواء .
                    إنها أم الأستاذ " حسنين كروم " – الصحفى المعروف ، ومدير مكتب جريدة " القدس العربى " ، وأم زوجتى أيضاً ، وجدة أبنائى وبنتى ، وقد تركت من الأحفاد وأبنائهم ما قرّ عينها وأسعدها فى حياتها ، مع كل ما عانته من متاعب الدنيا ومصاعبها وأحزانها .
                    ولعل القارئ يسألنى ، لماذا تشغلنا بأمر هذه المرأة البسيطة ؟ ألم يكن أجدر بك أن تكتب لنا فى موضوع عام يهمّنا ويشغلنا فى غمرة الحوادث التى لا تنجلى ، ومعمعة الهموم التى لا تهدأ ولا تتوقف ؟
                    وأقول للقارئ الكريم ، إننى أتناول موضوعاً عاماً من خلال هذه السيدة البسيطة التى تكشف عن معدن الشعب المصرى وأصالته فى مواجهة المحن والهموم ..
                    لقد كان أبناؤها ممن انشغلوا بهموم الوطن وقضاياه ، بحكم اقترابهم من القراءة ، وتعاملهم مع الكلمة المكتوبة أو المقروءة ، وكان عمهم الأكبر " إبراهيم كروم " – أحد فتوات بولاق – الذين لعبوا دوراً سياسيّاً فى أواخر العهد الملكى وأوائل عهد العسكر .. عرض عليه الشهيد حسن البنا ، الانضمام إلى الإخوان المسلمين ، فسأله عن الإسلام و " الفتونة " ، فأجابه الشهيد بالإيجاب ، فطوّح عصاه وألقى بها على الأرض قائلاً : اللهم صلّ على أجدع نبى ! وصار فتوة بولاق المشهور ، واحداً من أهم أتباع حسن البنا ، وحين قامت حركة الجيش عام 1952م ، كان عنصراً مهمّاً من عناصر دعمهما على النحو الذى تكلم عنه بعض الباحثين .
                    أبناء أم حسنين ، كانوا على الدرب ذاته برؤى متغايرة . حسنين ومحمد ، ناصريان حتى النخاع ، وفُصل الأول من عمله الصحفى قبل حرب رمضان بسبب انتمائه ، نصر كان عضواً فى جماعة التبليغ التى رعاها الشيخ " إبراهيم عزت " – رحمه الله – ودفعت به الأقدار إلى دخول المعتقل ليقضى سبعة عشر عاماً ، ويخرج بقايا إنسان ، بعد التعذيب والمعاناة ، ليرى أمّه قبل وفاتها باسابيع قليلة .. ومن المفارقات أن ابنه " محمد " أُلقى به فى معتقل الواحات أحد عشر عاماً وهو صبى لما يبلغ الخامسة عشرة ، فيُصاب بأمراض فتاكة ويكتب عمّه " حسنين " راجياً نقله إلى أحد معتقلات القاهرة حتى تمكن معالجته وزيارته ، ولكن لا استجابة من النظام البوليسى الفاشى ، الذى ألقى الغلام فى قعر مظلمة دون محاكمة بعد مشاجرة على أحد المقاهى فى حىّ بولاق !
                    الآخرون من أبناء أم حسنين عاشوا متاعب مختلفة بسبب السياسة وواقع الحياة ، وكانت الأم فى صبرها وجلدها ، مثالاً للتحمل والصلابة ، مع ما أصابها من أمراض الضغط والأعصاب وهشاشة العظام فى أواخر أيامها حتى صارت تتحرك على كرسى !
                    أم حسنين صورة مصغرة لمصر فى بذلها وعطائها ، دون منّ ولا أذى ، حيث يعترف بفضلها البعض ويجحده الآخر ، ولكنها فى كل الأحوال لا تنتظر من أحد جزاءً ولا شكورا ، إلا الدعوات ممن أحبّوها ، وعرفوا قدرها وقيمتها ..
                    ترى هل يمكن أن تعيش مصر فى ظل الغلاء المتوحش والقهر البشع والاستبداد القبيح ، لولا أمثال هذه المرأة ، التى نسيت نفسها ، وراحت تغدق كل ما تملكه من عطف وحنو ورحمة على أبنائها وأحفادها ، وهى تعايش مشكلاتهم ومتاعبهم وأحزانهم وأفراحهم ونجاحاتهم ومسرّاتهم ..
                    كانت تقطع المسافة من القاهرة إلى قريتى – نحو مائتى كيلو مترا – لتطمئن على ابنتها وأحفادها وتقدم المساعدة والنصح والخبرة ، وتفعل ذلك مع بقية البنات ، عدا تلك التى تزوجت فى تركيا ، ولا تستطيع الوصول إليها إلا عبر الهاتف ، أو تنتظر زيارتها .
                    أى أم تلك التى تهتم بأحفادها ومطالبهم ، وتسأل عنهم وتتابع أخبارهم ؟ كان ابنى " محمود " أحد الأحفاد الذين يمارسون " شقاوتهم " الزائدة عن الحدّ ، لدرجة أنه كان يوقظها من النوم لتتحدث معه وتحكى له ، ويسألها عن قصة قرابتها للقارئ الشهير الراحل " الشيخ محمود خليل الحصرى " – رحمه الله – وكانت تهدد أحياناً بالعودة إلى القاهرة إعلاناً عن غضبها منه ، ولكنها حين تسافر وتتصل هاتفياً ، يكون أول سؤال لها عن " محمود " ! وعندما كبر " محمود " وتخرّج هذا العام بعد الجامعة كان هو المفضل لديها ، وهو الذى يجلس معها ويحكى لها وتحكى له .
                    يتساءل الناس عن سرّ بقاء مصر دولة قائمة على الأرض – وأقول لهم : إن السرّ يكمن فى أمثال هذه المرأة الطيبة التى فقهت معنى الحياة بفطرتها البسيطة ، فأعطت بلا حدود ، وحصدت حبّاً بلا حدود ايضاً .. وأثبتت أن المرأة المصرية الحقيقية ، ليست ضمن مجالس المرأة القومية أو القطرية أو المحلية ، ولكنها موجودة فى أعماق الشعب البائس تمدّه بشريان الحياة والأمل .
                    رحم الله أم حسنين وجعل الجنة مثواها .
                    ............................................
                    *المصريون ـ في 11/9/2007م.

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      كاتب مسجل
                      • Jun 2006
                      • 1123

                      #40
                      رد: مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

                      عبدالمنعم سليم جبارة.. رجل لا يحبّ الضجيج

                      بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
                      ..............................................

                      كنت كلما دخلت عليه مكتبه أداعبه بالآية الكريمة، "ومزاجه من تسنيم" (المطففين/27).. وكان يبتسم ابتسامة هادئة، ولكنها تعبِّر عن فرح عميق، فقد رزق بفتاة سماها "تسنيم" بعد ولد سماه "زياد". كان اسم "تسنيم" نادراً، ولكنه اسم قرآني جميل، صارت صاحبته اليوم عروساً في الدراسات العليا بعد أن تجاوزت العشرين.
                      مرَّ الزمان سريعاً مذ قابلته لأول مرة في مقر مجلة "الدعوة" بالتوفيقية عام 1976م، كان هادئ السمت، قليل الكلام، يهتم بما هو مفيد، لا يحفل بالثرثرة، ولا يبدي انفعالاً، ولكنه يتجه نحو العمل، العمل فقط، وحوله كوكبة من الشباب، صاروا اليوم مبرزين في أعمالهم، "صلاح عبدالمقصود"، وكيل نقابة الصحفيين، "بدر محمد بدر" مدير تحرير "آفاق عربية"، "أحمد عز الدين"، مدير تحرير "المجتمع"، وغير هؤلاء من جيلهم والجيل التالي بعدهم أعداد أخرى حققت نجاحات في ميدان عملها الصحفي والثقافي والفكري، تعلمت من "عبدالمنعم سليم جبارة" وعملت معه.
                      تعرفت إليه بواسطة صديقي الراحل "جابر رزق"، وكانا يديران مجلة "الدعوة" في ظل الأستاذ "عمر التلمساني" والأستاذ "صالح عشماوي" ـ رحم الله الجميع ـ وكانت "الدعوة" آنئذٍ تصدر شهرية، وتغطي مع مجلة "الاعتصام" التي كنت محرراً بها نشاط الحركة الإسلامية، وتعبِّران معاً عن رؤية إسلامية لأحداث تلك الفترة التي أعقبت حرب رمضان، والإفراج عن المعتقلين من التيار الإسلامي، والسماح بهامش من الحرية التعبيرية.. كان لي شرف الكتابة في الدعوة، وخاصة بعد إعلان مبادرة الرئيس الراحل "أنور السادات" بزيارة القدس المحتلة، والتفاوض مع الكيان الغازي اليهودي الغاصب في فلسطين المحتلة.
                      توطدت معرفتي بعبدالمنعم سليم جبارة بعد ذلك، وكان هناك مفارقة طريفة، وهي أننا تزوجنا في عام واحد (عام1 978)، ثم تعاونت معه فيما بعد حين أعيد إصدار مجلة "لواء الإسلام" التي صار رئيساً لتحريرها، وكنت أتولى تحرير القسم الأدبي فيها، حتى سافرت إلى العمل بالخارج، وجاءت حرب الخليج الثانية (احتلال الكويت من جانب العراق)، فأغلقت "لواء الإسلام" تحت ضغط الأحداث ومضاعفاتها، فلم أقابله إلا لماماً، ولكني كنت أتابع مقالاته المستمرة والدؤوب في العديد من المجلات والصحف: "المجتمع، الأحرار، الشعب، الحقيقة، آفاق عربية، وغيرها". وكان فيما يكتبه ملتزماً بالرؤية الإسلامية النقية التي لا تتأثر بالدعاية السائدة، ولا تنخدع بالأقوال التي تصدر عن خصوم الإسلام، كان يرى الأشياء كما يوجب الإسلام أن تُرى، لا كما يريد الآخرون أن نراها. ثم إنه يصوغها في عبارات علمية دقيقة بعيدة عن الانفعال العاطفي أو الهجاء السياسي.. فقد كان يرصد ما يراه، ثم يبدي رؤيته الإسلامية في وضوح، لا يراوغ ولا يخاتل ولا ينافق، وكانت مقالاته في معظمها تتجه نحو معالجة القضية الفلسطينية ومستجداتها على الساحة السياسية والعربية، منطلقاً من فهم محدد يؤمن أنَّ الجهاد هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين واستعادة بيت المقدس.
                      لقد تخرج عبدالمنعم سليم جبارة في كلية الآداب، وكان تخصصه في "الجغرافيا"، وهو ما ساعده في تحليلاته السياسية على استيعاب أحوال العالم الإسلامي، بل العالم كله، فقد كانت الدنيا تحت ناظريه يعرف تضاريسها الجغرافية كما يعرف تضاريسها السياسية، ولذا جاءت كتاباته عميقة، تشير إلى وعي جاد بما يدور على خريطة العالم.
                      وكانت تجربته الإنسانية زاخرة وعامرة، مع قسوة بعض جوانبها ومراراته وبشاعته، فقد ولد في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1930م لعائلة ميسورة في مركز فاقوس بمحافظة الشرقية، ومكّنه المستوى المادي المرتفع لأسرته من دخول جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً). وانضم وهو طالب في ا لجامعة إلى جماعة الإخوان المسلمين، وشارك في عمليات الفدائيين ضد المستعمرين الإنجليز بمنطقة قناة السويس في أوائل الخمسينيات، واعتقل عام 1955 وظلَّ بالمعتقل حتى أفرج عنه عام 1974م بعد أن قضى نحو عشرين عاماً ذاق فيها مرارة السجن وبشاعة التعذيب وقسوة الظلم، وقد عبَّر "نجيب الكيلاني" ـ رحمه الله ـ عن هذه المحنة في روايته المؤثرة "رحلة إلى الله"، وكان صديقاً لعبدالمنعم سليم ورفيقاً له في السجن، بعد محاكمات 1965م، وقد أشار "نجيب الكيلاني" إلى علاقته بعبدالمنعم مذ كانا طالبين في الجامعة، الأول كان طالباً في الطب، والآخر في الآداب، وسجلها في كتابه الضخم الذي ترجم فيه لنفسه "لمحات من حياتي"، وأذكر أنني حين ذكرت له بعض الوقائع التي وردت في الكتاب، وحكاها لي نجيب شفاهة، ضحك، ولم يعلق، كعادته، وكأنه يستحي أن يشير إلى ما تعرَّض له في المعتقل، على العكس من صديقه "جابر رزق" الذي سجَّل ما جرى وحدث بصراحة بالغة، وكان الهدف منها كشف الممارسات الوحشية لبعض البشر الذين ماتت قلوبهم، وهو ما عبَّر عنه أيضاً الكاتب الراحل "مصطفى أمين" في كتابه المشهور "سنة أولى سجن" وأشار فيه إلى ما أصاب المعتقلين السياسيين من تعذيب بشع!
                      لقد خرج "عبدالمنعم سليم" من غياهب الظلمات وهو في الرابعة والأربعين من العمر، لم يتزوج، ودون وظيفة، فعمل في وزارة التربية والتعليم موجهاً بالتعليم الثانوي، وفي عام 1976م انضم إلى مجلة "الدعوة"، ثم أعير إلى الإمارات العربية المتحدة ليعمل في مجال التدريس، ويؤسس مع آخرين مجلة "الإصلاح"، ثم ترك الإمارات وعاد إلى مصر بعد سنوات.
                      الميزة الرئيسية التي تميز عبدالمنعم سليم، هي أنه لا يحب الضجيج، بمعنى أنه يريد أن يخدم دينه ودعوته إلى الله في صمت، فلا يسعى إلى الأضواء، ولا يجري وراء البريق، ولا يستشعر "الأنا" التي تعبِّر عن حب الذ ات أو النفس، إلا في مواقف التضحية والبذل، حينئذٍ يقدم نفسه وروحه، في صمت ودون ضجيج. إنَّ بعض العاملين في مجال الحركة الإسلامية والدعوة إلى الله تتسلل إليهم آفة "النرجسية" أو "حب الظهور" أو "الانتفاخ الكاذب". ولكن رجلنا كان متواضعاً، أو حريصاً على التواضع الذي يدخله في دائرة الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. هو يريد أن يقول كلمته في هدوء ثمَّ يمضي، وكأنَّه لا يريد أن يعرف أحد أنه هو الذي قال، ولعلَّ ذلك كان من وراء كتابته مئات المقالات بأسماء مستعارة، حيث كانت بعض المطبوعات تحمل له أكثر من مقالة، فيوقع بأسماء مثل: أبوزياد، أبوطارق، د. سيد الفضلي، د. أحمد عبدالحميد البنهاوي، وغيرها..
                      وأذكر أنَّ كاتباً يحمل اسمه ـ وهو من تيار آخر ـ احتج كتابة بأنَّ تشابه الاسمين يوقع صاحبنا في مآزق مع التيار الذي ينتمي إليه، فأضاف الراحل الكريم إلى اسمه لقب العائلة "جبّارة" دون أن يجد في ذلك غضاضة، ليفرِّق الناس بين الاسمين.
                      إنَّ تواضع "عبدالمنعم سليم جبّارة" في الحياة والدعوة الإسلامية، يجعله نموذجاً للداعية الإسلامي، الذي تمكن الإيمان من قلبه، فلم تشغله زخارف الدنيا ولا عرضها الزائل، وفي الوقت نفسه يقدم درساً حياً وبليغاً إلى "المغرورين" أو "السفيانيين" الذين يدورون حول أنفسهم وذواتهم، ويتناسون أنَّ الخدمة في ميدان الدعوة الإسلامية تقتضي التواضع أو إنكار الذات، ليكون عملهم خالصاً لوجه الله، وأشهد أني ما رأيت الرجل يوماً يضع نفسه في مستوى فوق مستوى المسلم البسيط الذي يرجو رحمة ربه وعونه.. مع أنه كان في مواقع تتيح له أن يتيه وينتفش ويزهو ويفاخر.. ولكنه كان ينظر إلى الآخرة متخلقاً بأخلاق الإسلام والسلف الصالح.
                      ولعل ذلك كان من وراء التكريم الإلهي له، وهو التكريم الذي تبدَّى عند وفاته، فقد ظلَّ واقفاً عل ى قدميه، يصلي ويتهجَّد ليلة السابع والعشرين من رمضان الماضي، وهو الليلة المباركة التي يرجح العلماء أن تكون ليلة القدر، فقد اختاره الله وهو يصلي، وتمَّ دفنه يوم الجمعة، ورأى من رافقوه إلى مثواه معالم كرامات تدل على أنَّه من المقبولين إن شاء الله.
                      هذا الرجل الطيب والداعية الذي ينكر نفسه، كان مثالاً للمسلم الذي يعرف القناعة والرضا بقدر الله، تقول عنه زوجته: "كان زوجي نسمة لطيفة في حياته ومماته، كان معلماً منذ أول لحظة ارتباطنا، منذ أن ارتضينا هذا الطريق نقطعه معاً إلى الجنَّة، فبدأنا بشقة صغيرة في شبرا الخيمة، ولم اشتر فستان زفاف، بل استعرت فستان أختي، وعقدنا زواجنا بمسجد صلاح الدين بالمنيل في حفل عائلي صغير، ثم فتحت علينا الدنيا أبوابها، فتدفق المال، ولكن كل هذا كان في يده لا في قلبه. لم يغيره فيض العطاء بعد طول الحرمان؛ لأنَّ قلبه قد تعلق بأمل آخر.. الجنة، رغم حياته الزاخرة لم يكن يذكر ما حدث له إطلاقاً، بل كنت أعرفه من الكتب ولا أحدثه فيه، كان يشعر بأن ما يقدمه لدعوته هو كنزه، فكان أحرص ما يكون عليه، وعلى ألا يطلع عليه أحد، فلا أذكر أنه روى لنا ما حدث معه في السجن إلا مرة واحدة، كنا نشكو من شدة الحر، فشرد ببصره قليلاً ثم قال: سبحان الله، لقد كانت تأتي على الأخوان أيام في سجن قنا نظن فيها أنَّ الموت يكاد ينالنا من شدة الحر. وإذا بالمولى عزَّ وجل يرسل ما يلطف به الجو فيخفف عنا والجنود حولنا في ذهول. وحينما كنت أرى إصابات جسده من أثر التعذيب وأسأله عنها كان ينكر بشدة ويتهرب من أسئلتي..".
                      وأكتفي بهذا القدر من شهادة الزوجة الصابرة، وما تضمنته من حفظه للقرآن الكريم ودأبه على قراءته وتلاوته باستمرار.. لأقول: "إنَّ عبدالمنعم سليم جبّارة" يقدم أنموذجاً لخدمة الإسلام في صمت ودون ضجيج ودون رياء أيضاً.. رحمه الله، وجعل مست قرَّه في الفردوس الأعلى.

                      تعليق

                      • د. حسين علي محمد
                        كاتب مسجل
                        • Jun 2006
                        • 1123

                        #41
                        رد: مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

                        حديث الوردة .. حديث النار
                        قراءة في بعض الظواهر الشعرية لدى الشاعر حسين علي محمد

                        بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
                        ..............................................

                        (1)
                        حسين علي محمد (1950- ) واحد من أهم شعراء السبعينيات، الذين حملوا رؤية صافية نقية، تنبع من فهم واع لهوية الأمة وشخصيتها، وتحركوا من خلال تصور واثق، يؤمن بقيمة الفن ووظيفته في مخاطبة المشاعر والأفئدة، وتجييش العواطف والأحاسيس بما يجعل المتلقي، قارئا أو مستمعا، شريكا في العمل الفني بالاستجابة والتفاعل، وليس مجرد مشاهد لا يفهم أو لا يدري ما يُقال أو يُتلى أو يُقرأ.
                        إن "حسين علي محمد" شاعر ينتمي إلى الريف المصري، وقد ظل وفيا لهذا الريف منذ مولده وحتى اليوم، يعيش مع أهله وناسه همومهم وآمالهم، دون استعلاء عليهم، أو تنكر لهم، فهو واحد منهم، يُغني أناشيدهم، ويُنشد أغانيهم، دون أن تستهويه أضواء العاصمة، أو تخلعه من جذوره، أو تجعله يبيع هويته في سوق الرق الفكري، الذي يشتري الباحثين عن الشهرة بأبخس الأثمان، وأرخص القيم.
                        ظل حسين علي محمد في بلدته الصغيرة "ديرب نجم ـ بمحافظة الشرقية" يقرأ ويدرس ويعمل ويقرض الشعر، حتى استطاع بموهبته وخبرته ومثابرته أن يفرض أدبه وإنتاجه في معظم الصحف والدوريات التي تصدر في العاصمة، وبقية العواصم العربية، وأن يكون واحداً من شعراء زماننا الذين يُقدِّمون شعرا عذبا وجميلا، يذهب بطعم الحصرم ـ الذي نتجرّعه بالقوة والإرهاب ـ عبر الوسائط الإعلامية والأدبية، لنفر من الطغاة الذين ظنوا السخف الذي يقولونه أو يكتبونه شعراً وأدباً، وذهبت بهم الصلافة والغرور إلى الحد الذي تصوروا معه أنهم أتوْا بما لم يأت به الأوائل، وأنهم أحدثوا تطورا غير مسبوق وَصَلَ بالشعر العربي إلى ذروةٍ لم يصل إليها أحد من الغابرين! وهيهات أن يكون هذا الأمر صحيحاً، إذ لو كان كذلك ما أعرض عن كلامهم الناس، ولا وقفوا منه موقف "الأطرش في الزفة" .. ولكن الآلة الإعلامية الرهيبة تعمل على قلب الحقائق، وتوهم بالباطل بما لا أساس له في الواقع.
                        على كل، فإن "حسين" قد نمت موهبته الشعرية من خلال دراسته النظامية التي وصلت به إلى الحصول على درجة "الدكتوراه" (عام 1990م)، وإن كنت أرى أن ثقافته الحقيقية قد نمت وتبلورت من خلال قراءاته ومتابعاته الأدبية والثقافية خارج الدرس "النظامي"، فالتثقيف الذاتي ـ فيما أعلم ـ كان وراء ذلك الوعي العميق الذي يظهر عبر قصائده وأشعاره بأبعاد التراث الإسلامي، الناضج، والواقع الراهن بملامحه المأساوية المتردية، والحلم الجميل بمستقبل أفضل من خلال تتبع ما يجري في الدنيا، ولدى الآخرين من مميزات التفوق والقوة والبناء.
                        نحن إذن أمام شاعر يملك نضج الرؤية الحضارية على المستوى الفكري، حيث يلتقي الماضي والحاضر والمستقبل في وجدانه وعقله وخياله، وهو بهذا يستطيع إذا أنشد أن يقدم لنا شعراً ذا قيمة، وذا أصالة أيضا .. فضلا عن "الكم" الكبير الذي نشره وكتبه من القصائد والمسرحيات.
                        نشر "حسين علي محمد" مجموعة من الدواوين أو المجموعات، بعضها بالجهد الذاتي (بطريقة الماستر)، وبعضها عبر أجهزة النشر الحكومية، وأيضا فإن لديه أكثر من مسرحية ومجموعة شعرية لم تنشر، وإن كان نشر بعض قصائدها في صحف ودوريات محلية وعربية متعددة.
                        من المجموعات التي نشرها بجهده الذاتي"السقوط في الليل" عام 1977م، وساعده في نشرها: اتحاد الكتاب العرب بدمشق، أيضا نشر بجهده الذاتي مجموعته "أوراق من عام الرمادة" عام 1980م، ضمن دورية"أصوات" التي كان يُصدرها في الشرقية مع فريق من زملائه الشعراء والفنانين التشكيليين، وهي أسبق من الدورية الأخرى التي صدرت بالاسم نفسه بوساطة فريق آخر في القاهرة.
                        ومن المجموعات الأخرى المخطوطة التي لم تنشر بعد: "تجليات الواقف في العراء"، و"زهور بلاستيكية"، و"من دفاتر العشق" .. وله أيضا مسرحيتان مخطوطتان: "الرجل الذي قال"، و"الحاجز الرمادي".
                        وإلى جانب ذلك فهناك بعض الدراسات الأدبية التي نشرها الشاعر، مثل: "البطل في المسرح الشعري المعاصر"، وصدر في القاهرة عام 1991م، و"القرآن ونظرية الفن"، وقد صدرت طبعته الثانية عام 1992م.
                        ومازال الشاعر ينشد شعرا، ويكتب دراساته ومقالاته التي تدل على أصالة وعيه العميق.
                        (2)
                        من يقرأ شعر حسين علي محمد يستشعر أنه بإزاء شاعر له شخصيته المتفردة في الأداء الفني والرؤية الشعرية، صحيح أننا نستشعر ملامح التقليد في البدايات ـ وهذا أمر طبيعي ـ ولكن مرحلة النضج قدّمت شاعراً يمتلك الأداة التي يستخدمها بتميز، ليعبر من خلالها عن رؤيته الصافية وحلمه المتميز.
                        في البداية بدا الشاعر معجباً بمجموعة من شعراء التجديد المعاصرين أمثال بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وقد رثى السياب عند وفاته بقصيدة جيدة، ولكن تأثره الواضح ارتبط بالشاعر صلاح عبد الصبور، ولعل ذلك يرجع إلى شهرة الأخير في مطلع حياة حسين الشعرية، وإلحاح أجهزة الإعلام حينئذ على شعره وأخباره، ومن ناحية أخرى فلعل العامل الجغرافي كان من وراء هذا التأثر، حيث ينتمي الشاعران إلى محافظة واحدة هي محافظة الشرقية، ولعل أبرز نماذج التأثر تبدو في قصيدة حسين التي عنوانها "أربع صفحات من مذكرات أبي فراس" التي نشرها في مجموعة "السقوط في الليل"، ويقول في مطلعها:
                        "أعودُ منْ بلادِ الثلجِ والضبابِ والرؤى المهوِّمهْ
                        وقلبيَ الصغيرُ وزدةٌ حمراءْ
                        تنِزُّ بالدِّماءْ
                        أعودْ
                        وليتني ما عدْتُ يا صِحابْ
                        فهاهيَ الوجوهُ مُعْتِمهْ
                        لمْ تبْتسِمْ لعوْدَتي بالحبِّ والصَّفاءْ
                        وهاهُمُ الصِّغارُ في الأركانِ نائمونْ
                        يحلمونَ أنْ تقومَ فوقَ أركانِ المدينةِ المُهَدَّمَهْ
                        مدينةٌ جديدهْ
                        مدينَةٌ سعِيدَهْ
                        لايصدِمُ الصِّغارَ فيها منظرُ الدِّماءِ والأشلاءْ" (ص36)
                        وإذا كنا في هذه القصيدة نستشعر صورا عديدة تذكرنا بقصيدة "صاحب الوجه الكئيب" خاصة، فإن قصيدة حسين تقودنا بوجه أخص إلى قصيدة صلاح عبد الصبور الشهيرة، التي عنوانها "الخروج"، وفيها يستلهم هجرة الرسول  من مكة إلى المدينة، ليعبر عن تجربة شخصية مرَّ بها، ويقول في أحد مقاطعها:
                        "لو مت عشت ما أشاءُ في المدينةِ المنيرهْ
                        مدينةِ الصحو الذي يزخرُ بالأضواءْ
                        والشمسُ لا تُفارقُ الظهيرهْ
                        أوّاهُ يا مدينتي المُنيرهْ
                        مدينة الرؤى التي تشربُ ضوءِا
                        هل أنتِ وهم واهمٍ تقطّعتْ بهِ السُّبلْ؟
                        أم أنت حق؟
                        أم أنتِ حق" (الأعمال الكاملة، ص237)
                        ولسنا هنا في مجال المقارنة والتقويم بين الشاعرين، ولكننا نشير إلى بدايات الشاعر التي تكون عادة أقرب إلى التقليد والتأثر بالآخرين، منها إلى الاستقلال والذاتية الصرفة، وهو ما صنعه الشاعر فيما بعد، رؤية وأداة.
                        والحديث عن رؤية الشاعر وأبعادها يقضي مجالا أرحب، ولكننا نشير إليه هنا باقتضاب، لنؤكد على ما يمكن أن نسميه "الواقعية المثالية" .. حيث ينطلق الشاعر من واقعه ليطلب المثال وفق تصور واضح، لا غموض فيه ولا التباس ولا التواء.
                        وهذا الواقع الذي ينطلق منه هو واقعه اليومي المعاش على المستوى الشخصي ومستوى الأمة. وإن كان ما يجري للأمة ويعصف بكيانها وحضارتها وتاريخها ومستقبلها يمثل العنصر الأغلب والأعم والأكثر أهمية .. قليلة هي القصائد التي تنضح بالهم الشخصي، وقليلة هي الأشعار التي تقدم لنا معالم خاصة في حياة الشاعر تشغله أو تمنعه عن التفكير في واقع الأمة ومأساتها .. إنه شاعر يعيش لأمته، وينسى نفسه إلا في حالات قليلة يمكن عدها على الأصابع، بل إنه يوظف تجاربه الشخصية لتكون معبرا يصل إلى واقع الأمة، أو صدى لواقع الأمة.
                        من تجاربه الشخصية القليلة التي استأثرت بهمه الذاتي رثاؤه لأبيه الذي فقده، وهي مرثية قصيرة محكمة، يبدو فيها الرضا بالقدر والتسليم بالقضاء مع الإحساس الحاد بالفقد:
                        " .. وهلْ يسمعُ الشيخُ صوْتَ الرياحِ
                        بوادي الفناءْ
                        أيا فرسَ الموتِ ،
                        أقبِلْ ، وطِرْ بي
                        ودعْهُ هنا نائماً
                        مُستريحاً
                        وألْقِ عليْهِ .. الرِّداءْ".
                        وبصفة عامة فإن التجارب الذاتية تدور غالباً حول الرثاء للأحبة والأصدقاء والشعراء الذين ارتبط بهم عاطفيا وفنيا، ومن خلالها يبث شجنه، ويومئ ضمنا إلى الهم العام الذي يؤرقه ويضنيه، والذي يتفرد بالساحة الشعرية للشاعر، ويفرض ملامحه عليها، وعليه أيضا، كما نرى في قصيدة "الحصار يليق بالشاعر"، حيث يصير الشاعر "مجرَّدُ فرْضٍ في ذاكرةِ الطينِ"!:
                        "في الشارعِ يقفُ السمسارْ
                        في النّافذةِ المُخبرُ
                        في الذاكرةِ بقايا النّارْ
                        كيْفَ تُخاطبُكَ الأشجارْ
                        يا رجلَ الأقدارْ
                        ـ أنت مجرَّدُ فرْضٍ في ذاكرةِ الطينِ
                        وقبرُكَ
                        محفورٌ
                        في الأشعارْ".
                        ولعل هذه القصيدة القصيرة تجمع عناصر رؤيته في ذلك الصراع غير المتكافئ بينه وبين قوى الشر العاتية المتمثلة في "السمسار": رمز الانتهازية، والميكافيللية، والكسب بلا تعب، والمخبر: رمز السلطة والحصار والملاحقة .. ونتيجة الصراع واضحة سلفاً، حيث إنها محسومة لصالح الجبهة التي يقودها السمسار والمخبر .. أما الشاعر ـ رجل الأقدار ـ فمصيره إلى القبر!، وعلى الرغم من أن القصيدة تومئ إلى ملامح المقاومة والوقوف ضد التيار من خلال "بقايا النار" و"الأشجار"، وسنرى فيما بعد دلالة "النار" على صورة المقاومة والتطهير والأمل، فإن "الأحجار" بكل ما ترمز إليه من صلادة وقسوة وفقدان للإحساس، تعطي ملمحا مأساويا يُكرِّس الهزيمة والموت!! مما يعني واقعية الشاعر ومثاليته في وقت واحد.
                        وللإنصاف فإن الشاعر على مدى تجربته الشعرية، كان الأمل يومض في أشعاره بالرغم من قتامة الواقع المحبط، والذي يتبدّى عبر تفاصيل الحياة اليومية والأحداث السياسية والاجتماعية، وظل يحلم بهذا الأمل إلى عهد قريب، ولكنه ـ فيما يبدو ـ وصل مؤخرا إلى درجة الاقتناع باليأس وعدم الجدوى، لأنه يرى ما حوله ينبئ عن الهزيمة، ويتحدث عن الموت. ولا بأس أن نورد نموذجاً للأمل الذي كان يُداعب خيال الشاعر باستمرار طوال فترة غير قصيرة، ظل يحلم فيها ـ إلى درجة اليقين ـ بقدوم السلام والأمان:
                        "لنْ أضربَ في أرجاءِ الوهِمِ الحيْرانِ
                        سأعودُ لداري فرِحاً
                        ذات مساءٍ نشوانْ
                        وستُفرِخُ أطيارُ الحبِّ على نافذتي
                        وستشدو ..
                        ذات مساءٍ نشوانْ :
                        عمَّ الكونَ سلامٌ وأمانْ
                        عمَّ الكونَ سلامٌ وأمانْ".(من قصيدة "هموم شاعر أشبيلية العاشق")
                        وإذا كان هذا الحلم يبدو "طوباويا" ساذجا، ينقض ما أشرنا إليه من قبل عن "الواقعية المثالية" لدى الشاعر، فإنه في قصائد أخرى يتشكل وفقاً لقانون التضحية والفداء، وهو يُعلن عنه بخطابية مباشرة:
                        "أقفُ وأحميكِ من السِّفْلةِ والأوغادْ
                        وأُقدِّمُ عمري قُربانا
                        حتى ترتسمَ على أوجهِ أطفالكِ
                        بسماتُ الأعيادْ
                        ويظلُّ الشعرُ رسولاً للإيمانْ
                        سيفاً في الأرزاءْ
                        أنزفُهُ كلَّ صباحٍ ومساءْ
                        منْ أجلِ بنيكِ الفقراءِ الشرفاءْ" (ختام قصيدة "وشم على ذراع مصر")
                        (يتبع)

                        تعليق

                        • د. حسين علي محمد
                          كاتب مسجل
                          • Jun 2006
                          • 1123

                          #42
                          رد: مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

                          وفي كل الأحوال فإن الهم العام يظل يؤرق الشاعر، ويحضر أمامه في شتى المناسبات التي تجعله يحمل الأمة في حنايا صدره، يهتف لها، ويغني جراحاتها، ويأمل في غدها الجميل، وقد تحزبه هموم آنية، فتضيق أمامه جسور الأمل، وتسودُّ الرؤية، ولكن الأمل يظل قائما في أكثر من صورة يجسدها بصفة عامة إحساسه الحاد بضرورة الحركة نحو الأفضل والأنقى والأصفى.
                          ثمة ملمح آخر للرؤية الشعرية لدى حسين علي محمد يتمثل في تجاوز الدائرة الوطنية والقومية إلى الدائرة الإسلامية حيث يُعاني المسلمون ألوان عديدة من القهر والعسف، والطرد من بلادهم، وتطهيرهم منها بعد مذابح دامية بشعة ورهيبة، وغير مسبوقة في العصر الحديث، كما حدث في "البوسنة والهرسك" مثلاً، والشاعر لا ينسى في غمرة همومه ما يجري هناك لإخوانه المسلمين، الذين تآمر عليهم أعداء الإنسانية، وأشرار الأرض، وخذلهم المسلمون وصمتوا على ما يحدث لهم.
                          في قصيدته "أربعة مقاطع دامية أو: صهيب ينادي وا معتصماه!" التي يهديها "إلى سراييفو المحاصرة"، يوجز مأساة المسلم المعاصر، الذي تتناوبه الأرزاء، ويزري به الأعداء، ويعيش حالة بؤس وانفصام لا مثيل لها في تاريخه، ولعل المقطع الأول في القصيدة يُلخص هذه المأساة حين يستخدم النص القرآني في قوله تعالى أول سورة الروم "ألم غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون" لتقديم المفارقة في الواقع الإسلامي الراهن، وبدلا من أن يكون الحكم هو "هزيمة الروم" (غُلِبتْ = على البناء للمجهول) يجعل الشاعر الحكم معكوساً (غَلَبتْ = على البناء للمعلوم)، ويسرد ما تفعله الروم (رمز الإجرام الغربي المعاصر) بالمسلمين في سراييفو (أو البوسنة والهرسك) .. ويكثف الشاعر المفارقة من خلال الإشارات التاريخية إلى الماضي حيث كان المسلمون يغلبون، وكانت جيوش محمد  تحقق انتصاراتها في كل مكان، وكان يستنجد به كل مظلوم، وكل مقهور، وكل خائف:
                          "مشى الرومُ فوقَ جبينيَ هذا المساءْ
                          وداستْ خيولُهمو بالسنابكِ وجهَ الضياءْ
                          وكان "صهيبُ" يُنادي جيوشَ محمدْ
                          فلمْ تُرجعُ الريحُ حتى الصّدى
                          وضَاعَ النداءْ
                          وظلِّي تجمّدْ
                          فلا الأُفقُ تعلوهُ رايةُ أحمدْ
                          فلا الخيْلُ خيلي
                          ولا الظلُّ ظلِّي !"
                          وبالرغم من اسوداد الواقع الراهن، وسوءاته، وبالرغم من العجز والإحباط الذي يتبدّى في مقاطع القصيدة، فإن الشاعر في المقطع الأخير تراوده الآمال التي يراها بعيدة، ولكنه يتساءل عنها في لهفة وسخرية:
                          "هلْ تضحكُ الأيامُ للوجْهِ الحزينْ ؟
                          هلْ تعرفُ المخدوعةُ الحسناءُ
                          أكثرَ منْ حصادْ التُّرَّهاتْ ؟"
                          وهكذا فإن مأساة المسلم المعاصر ليست قاصرة على إقليم بعينه، ولكنها حالة عامة تشغل الشاعر في سياق عام يمثل محورا مركزيا في بصيرة الشاعر، وإن تعددت الملامح وزوايا الرؤية.
                          (3)
                          إلا الذئاب التي تعوي، وعام الرمادة، والصحاب الجوف، والليل اللدود، والدمع الذي يحفر نهره في الوجه المكدود ..
                          يبدأ الشاعر قصيدته بمقطع يمتزج فيه الماضي والحاضر، والخاص بالعام، في إشارة ذكية وموحية، بل عامرة بالإيماءات من خلال مفردات تشير إلى الوحدة والجوع والشوق والأمل:
                          "هذا أنا
                          وحدي هنا
                          خلفَ الجموعْ
                          الجوعُ يقتلُ ناقتي
                          والشوقُ يعصِفُ بالضلوعْ !"
                          ثم يُقلِّب معاني هذا المقطع بصورة أخرى تُشير ضمنا إلى الشاعر ووظيفة الكتابة، مع إحساس رومانسي عارم، يحفل بالتشاؤم والأسى:
                          "هذا أنا
                          سقطتْ إشاراتُ الكتابةِ ، والدموعْ
                          سالتْ على وجْهي ، وأوراقُ الربيعْ
                          سقَطَتْ ، تهاوتْ .. والمُنى
                          ذبُلتْ بقلبي ، تحتَ أقدامِ الصقيعْ"
                          وإحساس الوحدة الذي يستشعره الشاعر، ينبئ في المقطع التالي عن وجهين، أو وجه يمكن أن نديره، فيكون خاصا مرة،أي معبرا عن تجربة شخصية، وعاما مرة أخرى، أي يحتضن رؤية اجتماعية تلمّح إلى فجيعة يعيشها المجتمع، حيث لم يبق صامدا ونقيا إلا الشاعر ـ وما يرمز إليه ـ أما الساحة التي تحولت إلى فياف وقفار، فإن الذئاب هي التي تعمرها بالعواء والوحشة، والوحشية أيضا:
                          "مرَّ الصحابْ
                          وبحثتُ عنهمْ في الفيافي والقِفارْ
                          وظللتُ أصرخُ علّني أجدُ الجواب
                          فلمْ أجدْ غيرَ الذئابْ
                          تعوي ، ولمْ أجدِ الصحابْ !"
                          ويُلاحظ أن الشاعر هنا يستخدم قافية "الباء" ذات الجهارة والانفجار في ختام أغلب الأشطر بوصفها قافية ذات دلالة وتناغم مع المناخ المتوحش الذي بستشعره في وحدته وصموده، وصراخه أيضا.
                          في المقطع الرابع والختامي ـ وهو أطول المقاطع ـ يبدو الشاعر وكأنه يفيق من مثاليته ليجبه الواقع، الذي ينكشف عن جهامة عام الرمادة والصحاب الجوف، والليل اللدود، والدمع الذي يهمي .. وهنا تبدو الحيرة والتخبط، فهل يرجع الشاعر عن متابعة البحث عن الطريق ويستريح من العناء: عناء الوحدة والوحشة، أو عناء مواجهة المجتمع الذي تحوّل إلى ذئاب، أم يُتابع المسيرة ويقف خلف الجموع، يُعرِّض ناقته الجائعة للخطر، وضلوعه للشوق العاصف؟
                          "ضَلَّتْ خُطاكْ
                          يا أيها المجنونُ قدْ ضَلَّتْ خُطاكْ
                          وبحثتَ عنْ أثرِ الخُطا
                          وبحثتَ عنْ أثرِ الطريقِ
                          فلمْ تجدْ أثراً هناكْ
                          عامُ الرمادةِ ، والصحابُ الجوفُ
                          والليلُ اللدودُ
                          هواجسٌ ، والدّمعُ يحفرُ نهرَهُ
                          في وجهِكَ المكدودِ ، هلْ تبْغي الرجوعْ ؟"
                          ولكن الحيرة تبقى قائمة، والفجيعة تظل جاثمة، سواء على المستوى الشخصي أو المستوى العام، لأن الصحاب مروا، ولم يبق إلا الذئاب، وإن كان الشاعر يُقرِّر أيضاً أنه لم يبق في حوزته إلا الدموع!:
                          "لمْ يبقَ لي غيْرُ الدموعْ
                          هذا أنا
                          وحدي هنا
                          خلفَ الجموعْ
                          الجوعُ يقتلُ ناقتي
                          والشوقُ يعصِفُ بالضلوعْ !"
                          وأيضاً، لنا أن نتأمل هنا "قافية العين" الذي يختتم بها بعض الأشطر في هذا المقطع لنرى تأثيرها الموسيقي الفاجع، والذي يُنبئ عن عمق الفجيعة والحسرة، وهو عمق يتساوى مع موضع خروج العين من الحلق، ودلالته الحزينة اليائسة.
                          لعل "أوراق من عام الرمادة" التي قرأنا بعضها هنا تُنبئ عن توظيف جيد وساطع، لدلالة عام الرمادة ومعطياته في التعبير عن تجربة الشاعر تجاه لحظة حياتية أو واقع يلتحم به، ويصطلي بأحداثه وأناسه.
                          من ناحية أخرى فإن الشاعر يستدعي شخصية الشاعر "ابن الرومي" ليطرح من خلالها مأساة الشعراء الصادقين في كل زمان ومكان، عبر حكاية فقر ابن الرومي وجوع أولاده، وعدم قدرته على الوصول إلى أبواب السلطان كي يمدحه وينال نصيباً من المال يُعينه على مواجهة الحياة. وابن الرومي في ذاته شخصية معروفة على مستوى الشعر، ولكن ما يتعلق بها ـ على مستوى الشاعر ـ وقصة فقره، وطموحه إلى مديح السلطان، غير معروف لدى عامة القراء أو جمهورهم على الأقل، وهذا يُضعف التواصل بين الجمهور وابن الرومي، أو بين القراء وقضية العلاقة بينه وبين السلطة، وما يستتبع هذه العلاقة من أثر اجتماعي وخلقي.
                          ويمكن القول إن الشاعر أخفق في تقديم "ابن الرومي" بوصفه رمزاً ناجحاً على المستوى الفني، كما كانت الصياغة للمقاطع الخمسة التي كوّنت القصيدة "أوراق عن ابن الرومي" متفاوتة من ناحية الإحكام البنائي، فالمقطعان الأول والثاني جيدان، أما المقاطع الثلاثة الأخرى فليست على مستوى المقطعين الأول والثاني، فبينما نجده في المقطع الأول يُقدم توطئة مقبولة، بل مشوقة لما يريد أن يطرحه من خلال ابن الرومي، نجده في المقطع الأخير يلجأ إلى تقديم نهاية غير مبررة (فنيا) وتاريخيا، فضلاً عن صوت جهير يتسم بالتقريرية والمباشرة، وهو ما ينطبق إلى حد ما على المقطعين الثالث والرابع.
                          ولنقرأ ما قدّمه في المقطع الأول حيث يقدم توطئته التي تعتمد الحكاية والقص:
                          "افتحْ لي باباً أدخلُ منهْ
                          يا موْلايَ السُّلطانْ
                          أبعدني عنكَ الحجَّابْ
                          طردوني دونَ البابْ
                          ظنوني أحدَ السِّفْلهْ
                          خافوا أنْ أفتكَ ـ حاشا ـ بالسلطانْ
                          وأنا...
                          ـ علِمَ اللهْ ـ
                          أعْددتُ قصيدةَ مدْحٍ عصماءْ
                          وحلُمتُ بأنْ أُلقيَها في حضْرتِكُمْ ذات مساءْ
                          فتنيلوني شيْئاً
                          أوْ ترضونَ عليّ"
                          أما المقطع الأخير، فيبدو صاخباً على هذا النحو:
                          "عابَ أشعاري وفي منزِلِــهِ .:. كلُّ عَــارٍ ومخَــازٍ ورِيَبْ
                          أنا لا أشتُـمُ إلاَّ أُمَّــــهُ .:. فلْيزِدْني غضـباً فـوقَ غضَبْ
                          مالِمَنْ يُغمــزُ في أنْسابِـهِ .:. ويَعيبُ الشعرَ منْ أهلِ الأدبْ"
                          ويبدو أن الشاعر لم ينتبه إلى أن قصة "ابن الرومي" كان يمكن أن تُشكل في السياق الذي صنعه دلالة أخرى أكثر غنىً وعمقاً، وبخاصة أنها دارت حول محور البحث عن "النوال"، ولكنه آثر فيما يبدو أن تنتهي تلك النهاية التي تعيب فيها "البطانة" أشعار ابن الرومي، وهنا يتوقف الشاعر حسين علي محمد حيث لم نستطع فهم السبب الذي يجعل السلطان ـ ولو من خلال الحلم ـ لا يُجيز قصيدة عصماءَ "قد صيغتْ لآلئها بألفيْ بيْتْ".
                          (يتبع)

                          تعليق

                          • د. حسين علي محمد
                            كاتب مسجل
                            • Jun 2006
                            • 1123

                            #43
                            رد: مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

                            (4)
                            يمكن القول إن لغة "حسين علي محمد" في إطارها العام، أقرب إلى الرمز الشعري منها إلى لغة الخطاب العادي، فمعظم ألفاظه تنحت لنفسها دلالة تتجاوز المعنى المُتداوَل، لتُشير إلى معنى خاص يفرضه أداء الشاعر وصياغته. ومن هنا فإن "الرمز اللغوي" لديه يُشكِّل معجماً له ملامحه وسياقاته التي يُمكن تتبعها عبر قصائده، لنستخلص منها دلالات رمزية توحي بما يلح عليه الشاعر ويؤرقه.
                            ويمكننا أن نذكر هنا بعض الألفاظ / الرموز غزيرة الاستخدام ، أو التي تُشكِّل بعضاً من معجم الشاعر، ويستطيع الباحث لو أراد أن يغوص في حقولها الدلالية، فيكشف كثيراً من الرؤى والمعطيات على أكثر من مستوى، ومنها على سبيل المثال:
                            (الحلم ـ الندى ـ الحنين ـ السراب ـ الليل ـ الفجرـ النور ـ العشق ـ الحب ـ الرحيل ـ السفر ـ الغربة ـ الوحدة ـ الموت ـ الحزن ـ الشدو ـ الغياب ـ الصمت ـ الجرح ـ القنديل ـ الفصول الأربعة ـ الخوف ـ الريح ـ الشجرة ـ العصفور ـ الغراب ـ الصحراء ـ اللؤلؤ ـ الغيم ـ القوافل ـ الصهيل ـ النسيان … إلخ).
                            وكل لفظة منها تأتي مفردة أو مجموعة أو مضافة أو مشتقة أو مرادفة، لتتقلب عبر القصائد بدلالات شتى ومتعددة.
                            في هذه الوقفة القصيرة نكتفي بالدوران قليلا في حقلي "الوردة والنار"، فكل منهما تملأ حقلا دلاليا يُضيء في أكثر من اتجاه، وقد تكررت كل منهما في عناوينه وسطوره، لدرجة توحي بسيطرتهما عليه، واقتحامهما لشعوره، ولاشعوره أيضا. ففي العناوين يمكن ان نقرأ مثلاً: "الرحيل على جواد النار" ـ عنوان مجموعة شعرية ـ وفي القصائط يمكن ان تقرأ أيضا بعض الأمثلة: "العصفور وكرة النار"، و"ووردة"، و"أيتها الوردة"، و"زهور بلاستيكية"، و"زهرة الصبار"، و"زهور جافة إلى يارا" …
                            تتحوّل "الوردة" ـ ومرادفاتها ـ في حقولها الدلالية إلى صورة "الحلم الجميل" الوديع، هذا الحلم الذي يتبدّى في أكثر من صورة وأكثر من وجه ـ كما سنرى إن شاء الله ـ وكذلك "النار" التي تُمثِّل الوجه الآخر لهذا الحلم، الذي يمكن أن نسميه "الحلم المناضل" ـ كما فعل الدكتور "علي عشري زايد" في مقدمة لمجموعة الشاعر "شجرة الحلم" ـ إنه الحلم الذي يقضي ـ في كل الأحوال ـ بتحطيم الواقع الظالم وإحراقه وتطهيره .. فالنار مطهِّر فعال، لأنها لا تُبقي أثراً للظلم أو التشويه!!
                            في مستهل قصيدة "جراح" يقول الشاعر:
                            "لا يذكرْ
                            كيفَ الوردةَ صارتْ
                            مُفتتحا للجرح !"
                            الورد غالباً مرتبط بالجراح والطعنات والآلام والإحباطات، ولعل المشابهة بين لون الورد ولون الجرح هي التي جعلت الشاعر ـ في العادة ـ يختزل فيها ومن خلالها كثيراً من الأحزان والصعوبات.
                            وفي قصيدة أخرى قصيرة تحمل اسم "وردة" يلخص الشاعر تصوره لمفهوم عام من مفاهيم الوردة، يكاد يكون هو المسيطر على دلالاتها الأخرى عبر شعره. إنه يصفها في إيجاز شديد بوردة الفجر .. ثم ينوع بعد ذلك أوصافها وملامحها، ولكنها تظل في معظم الأحوال "وردة" الشاعر التي يحلم بها، سواء أكانت قصيدة جميلة أم غاية يسعى إليها، أو وطناً يتغلّب على عجزه وسكونه وهزائمه .. يخبرنا الشاعر بحديث وردته في أبيات أو سطور تحكمها قافية توحي بالعمق والغموض والأحزان في آن واحد:
                            "هيَ وردةُ الفجْرِ التي
                            ألقَتْ مباسمَها إليْكَ
                            ولا تروحُ !
                            ولكلِّ لفْظٍ نبْضُهُ
                            ولكلِّ فاتنةٍ جموحُ
                            ولكلِّ سهْمٍ برْقُهُ
                            ولكلِّ لاحظةٍ جروحُ !"
                            وقد تكون الوردة رمزاً رومانسيا حالماً للمستقبل المنشود الذي يملأ جفاف الحياة / الصحراء، بالري بعد الظمأ، ويُعيد الدنيا ربيعاً منتشياً بالنصر بعد عذابات الهزيمة والضياع، كما نرى في قصيدته "بقية الموال" من مجموعته "السقوط في الليل":
                            "متي يجيُْ الفارسُ المُهابْ
                            على حصانِهِ السريعْ
                            ويزرعُ الفلاةَ بالورودِ واللبْلابْ
                            ونحيا عمرنا ربيعْ ؟"
                            وفي دوائر الحزن التي تُحيط بالشاعر تتحول "الوردة" إلى علامة على الرحيل والبعث في آن واحد، أو دلالة على الموت والعزاء في الوقت نفسه، شريطة أن تكتسب حالة مغايرة للورد الذي نعرفه في الحديقة، وفي شعر الشاعر .. فهي هنا "وردة أخرى" أو "وردة ثلجية" تنبت في الثلج، أو هي بنت الثلج، وما أكثر دلالات الثلج في الواقع وفي النفس معاً:
                            "هذي وردتُكَ الأُخرى !
                            وردتُكَ الثلجيةُ .. تعلو شاهِدَ قبرِكْ
                            تتفتَّحُ بوْحاً .. وعزاءْ :
                            ما عادَ القلبُ بصيرا
                            ما عادَ الحبُّ كبيرا
                            فابْكِ صباحاً
                            ومساءْ
                            وابكِ صباحاً
                            ومساءْ!" (من قصيدة "زهور بلاستيكية" التي تحمل عنوان مجموعة شعرية).
                            وترتبط الوردة الثلجية ـ كما نرى ـ بعمق الأحوال الشعورية لدى الشاعر؛ فالقلب الذي فقد البصيرة، والحب الذي تقامأ وتصاغر حتى لم يعد له وجود، يُنبئ عن محنة أصابت الشاعر، وجعلته يُكرّر الدعوة إلى البكاء صباحاً ومساءً، وتبقى "الوردة الأخرى" أو "الثلجية" شاهداً على قبر "الحلم" و"الأمل" الذي لا بد له أن يتجدّد بالرغم من كل شيء!
                            وإذا كانت "الوردة" بصفة عامة رمزاً للنقاء والصفاء والأمن والاطمئنان والسلام، والحلم الطوباوي الرومانسي، فإنها تأتي في صورة أخرى ـ وما أكثر ما تأتي ـ دلالة على الحبيبة / الوطن، التي أُصيبت بالطعنات والجراح، وأُثقلت بالأحزان والآلام. وفي المقطع الثاني من قصيدة "مواريث" ـ مجموعة "تجليات الواقف في العراء" ـ يُشير الشاعر إلى ما أصاب الوردة من طعنات وأحزان، وإن كنت لا أ دري لم حدّد عدد الطعنات بإحدى عشرة طعنة؟:
                            "أيتها الوردةُ
                            في نسغٍكِ إحدى عشرةَ طعْنهْ
                            وضِمادانْ
                            تلكَ فضاءاتُكِ مُثقلةٌ بالبوْحِ
                            وبالأحزانْ
                            قولي …
                            كيفَ اخْتَرَمتْ يُمناكِ السمةُ والجُرْحْ ؟"
                            وفي مطوّلة الشاعر "ثلاثة مشاهد" والتي يتناول فيها مأساة الواقع العربي، العاجز والمُحبَط والذليل، نراه يستلهم مع الرمز الديني سيدنا "نوح" ـ عليه السلام ـ بوصفه المُنقذ من الغرق، رمز الوردة أو الورد، فيصير للوردة أوردة، وتتحوّل إلى كائن حي، يتحدث إليها خرير الذاكرة الصخرية، ثم تتحوّل مرة أخرى إلى بديل للمطر، يُمطر صحراء الروح:
                            "ألا تمسحُ دمعكَ يا "نوحُ"
                            ألا تُمطرني بالوردِ النازفِ في بطْنِ السَّدِّ
                            تُبلِّلُ صحراءَ الروحِ بأمطارِ يقينِكَ ؟"
                            وتدخل الوردة في سياق التناص أو الاقتباس، بديلا للدنيا في عبارة "علي بن أبي طالب" ـ  ـالمشهورة: "يا دنيا غُرِّي غيري"، وكأنَّ الشاعر يتوهّمَها مُقبلةً عليه، ولكنها في الواقع تتمنّع وتتأبَّى وتُراوغ، والشاعر أيضا يُراوغها بحثاً عنها، أو عن الحلم الضائع:
                            "يا "وردةُ" غُرِّي غيْري
                            أخلعُ ثوبَكِ منْ ذاكرتي الناسيةِ
                            هلُمِّي تحجبُكِ الشمسُ نهارا
                            تُشرقُ أعمدةُ التذكارِ عشيا
                            أُلقي في تابوتِ الأجداد جنيني"
                            وتتحوّل الوردة أو الورد في نهاية القصيدة ـ مرةً أخرى ـ إلى رديف للجنون، يُنذر بالويل في الواقع العربي، المليء بالفوضى والجنون:
                            "يا ويْلي !
                            أتساقطُ ورداً وجنونا
                            في فوْضى الصحراءِ العربيهْ
                            وثنايا الوهْمْ !"
                            إن الوردة تتحوّل في ثنايا النسيج الشعري إلىكائن حي، له وجوده الفاعل بإيحاءاته ودلالاته، وينطلق وينطق بكثير مما يُريد الشاعر أن يقوله شعراً .. ويمكن أن نجد نظائر عديدة للوردة في السياق الشعري الفاعل، مثل الزهرة، والنرجس، واللبلاب، والفل، وبقايا الأنواع المنسوبة إلى عالم الوردة والورد.
                            وتُشكِّل "الوردة" في منعطف آخر، مزيجاً مع "النار"، لتُنتج ثنائية الحلم الهامس مع الحلم المناضل، أو الحلم الأول الذي يقود إلى الحلم الثاني، الذي يود الشاعر أن يُصبح حقيقة .. هاهو في قصيدته الأولى من "تجليات الواقف في العراء" التي يُهديها إلى الشاعر الراحل "محمد العلائي"، يتوجّه إليه بالخطاب، وقد واجه بعد رحيله منذ ست عشرة سنة نوعاً من الجحود والنكران، والسطو أيضا:
                            "أغلقْ عينيْكَ ثانيةً
                            أيها المسكونُ بوجعِ النارِ
                            غيرِ المُقدَّسة
                            ووردةِ الفوْضى
                            فالأغوالُ التي ذُعِرتْ منها قصائدُكْ
                            مازالتْ تتريَّضُ في الساحةِ
                            بصحبةِ الثعابينِ والدببةِ"
                            وهكذا يبدو مزيج "وردة الفوضى" و"وجع النار"، محكوماً عليه بالموت أو الرجوع إلى القبر: "أغلقْ عينيْكَ ثانيةً" فالأعداء كثيرون، والقتلة أكثر (الحدأة، الأغوال، الثعابين، الدببة ..).
                            ويأخذ مزيج الوردة والنار بُعداً آخر، فبالرغم من صخبه وعنفوانه يُعطينا إحساساً يقينيا بالأمل، وانبلاج الصبح، وعن طريق ما يُعرف في بلاغتنا القديمة بالمقابلة والمطابقة، أو ما يُعرف الآن بالمُفارقة، فإن الشاعر يجمع بين صورتين للنار والوردة: (النار المستعرة بالأعراق، والأوردة الثلجية التي صارت وردة)، ويُقدِّم من خلال مُفارقة أُخرى (أهداب الليل ـ أكمام الصبح) معالم الأمل الذي يحلم به، ويُناضل من أجله:
                            "النَّارُ بأعراقي مُسْتَعِرَهْ
                            أوردتي الثلْجِيَّةُ صارتْ ورْدَهْ
                            أهدابُ الليلِ أراها تتفتَّحُ
                            .. عنْ أكمامِ الصُّبحِ المُمتدَّهْ" (المقطع الثالث من "شجرة الحلم")
                            وفي المقطع السادس من القصيدة السابقة، والذي جعل عنوانه "عرس الكلمات"، تنفرد النار بالحلم المناضل، وتصير الكامات ناراً، ويُشير الشاعر إلى الدور الذي كانت تلعبه في الماضي كلماته ـ ويقصد شعره طبعاً ـ لتغيير الواقع وترطيب جهامته بالنسبة للناس، وبخاصة الفقراء .. ثم يُوازن بين بعض كلامه الآن حيث صار هشيماً لا قيمة له، وبعض كلامه الان حيث هو نار محرقة مُطهِّرة ، تقوم بدورها في وضوح لا لبس فيه، ويؤكِّد ذلك التكرار الذي تبدأ به السطور الثلاثة الأولى:
                            "كلماتي كانتْ زاد الفقراءْ
                            كلماتي كانتْ نبعَ الماءِ الدَّافِقِ في الصَّحراءْ
                            كلماتي كانتْ مُنذ زمانْ
                            أما الآنْ
                            .. فبعْضُ كلامي صار هشيماً تذروهُ الرَّيحْ
                            والبعضُ الآخر صارَ النَّارْ"
                            في القصيدة المدوّرة "فيلم عربي" مقطع بعنوان "النار / النار"، تبدو فيه النار مصنعاً يُنضج الأفكار والأجساد، ويُعدُّها لمواجهة الواقع، ولكن ما تفعله النار يذهب بدداً، وتنهبه الثعالب من شتى أنحاء الأرض، وتبدو النار هنا قريناً للأمل المحبط أو الحلم الضائع، أو رديفا للاستلاب والقهر .. يتساءل الشاعر في بداية المقطع:
                            "لماذا كلُّ هذا الرعبِ ؟ والجسدُ الذي في النارِ أنضجناهُ تأكلُهُ الثعالبُ منْ فِجاجِ الأرضِ ، تنهشُ حدأةٌ في الرُّوحِ ألواحاً من الصَّخْبِ الذي عشناهٌ أحقاباً .."
                            ويكشف الشاعر ملامح هذا الجسد الذي يُعبِّر عن نصر شامخ (عشناه) أشعاراً من قبل، فيما يُشبه بكاء الماضي، ولكنه يستخدم الجسد (طفلة في النار) مرةً أخرى، آملا أن تقوم النار بدورها في الإنضاج والإثمار:"في نيشانِ نصْرٍ شامخٍ (عِشناهُ) أشعاراً ، تركنا طفلةً في النارِ .. تُنضِجُها سمُومُ القصْفِ والغسقِ المُحمْحِمِ في خضابِ الرملِ والقيعانِ :
                            هيّا يا جياعَ القلبْ !"
                            على كل فالنار هنا تظل هي المُنضجة للأمل، الحلم بالرغم من الغيبوبة التي (عشناها) في نصر كذوب (مُتناه) من قبل:
                            “هذي قبضةٌ مرفوعةٌ بعلامةِ النصرِ الذي (مُتْناهُ) فوقَ الحائطِ المهدومِ .."
                            ويستخدم الشاعر "النار" منذ مرحلة شعرية مبكرة في معنى التطهير والإنضاج لتحقيق الحلم المناضل، ففي قصيدته "العصفور وكرة النار" تأتي النار مقابلاً للعصفور في تحقيق التوازن والتكامل بين الحلم الجميل المأمول، والحلم المناضل الواقعي، فالعصفور رمز الأول، والنار هي رمز الثاني، وكلاهما ـ كما سبقت الإشارة ـ يُكمل الآخر، ويدعمه ليتحقق على أرض الواقع:
                            "مع نسماتِ الفجرِ أراني أولدُ ثانيةً في تغريدةِ عصفورٍ دحْرجَ كرةَ النّارِ على أوديةِ الأحزانْ"
                            إن "كرة النار" هي المطهِّر الذي يأتي على الأحزان والآلام، ويصنع عالماً جديداً، ويحقق الحلم المأمول.
                            في لفظة "اللهيب" ـ رديف النار ـ نجد المضمون ذاته الذي يحمل معنى التطهير، والقيام بدور المزيل للحزن الأزلي، والصدأ الذي يترسّب على القلوب والصدور .. حيث يتحقق الحلم الذي يرجوه الشاعر ويأمله:
                            " ونحلُمُ أنّا وُلِدْنا
                            وأنَّ الصدورْ
                            ربيعٌ ونورْ
                            وأنَّ اللهيبَ يمورْ
                            ويقضي على حزنِنا الأزلِيّْ
                            ويأكلُ كلَّ الصَّدأْ
                            فتولدُ فوقَ الشِّفاهِ
                            ابتسامةُ شعْبٍ ظَفَرْ"
                            ولا ريب أن الحلم باللهيب أو النار لتطهير الواقع هو حلم عام، على المستوى الذاتي والقومي والإنساني، يبحث عنه الشاعر مع آخرين، ينتظرون ولادة "ابتسامة" فوق شفاه الشعب الصابر، وهنا نتأكد أن النار رمز لمعنى كبير، يحقق للشاعر والأمة: الأمل والنصر والحرية.
                            (يتبع)

                            تعليق

                            • د. حسين علي محمد
                              كاتب مسجل
                              • Jun 2006
                              • 1123

                              #44
                              رد: مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

                              (5)
                              إذا كان الشاعر قد استخدم الرمز الذي ينسجم مع رؤيته تاريخيا ولغويا، فإنه دعَمَ هذا الاستخدام بالشكل الشعري الذي يُتيح له هذه الفرصة الأفضل للتعبير عن هذه الرؤية .. وبصفة عامة يُمكن القول: إن الشاعر اتكأ على الموسيقا السريعة الأقرب إلى الدفقات الشعورية المتلاحقة، والنغمات الراقصة، التي ما تكون غالباً ـ ويا للمفارقة ـ في ساعة الموت أو الوحدة أو الإحباط أو القهر! وهي موسيقا تقوم عادة على بحرين صافيين: "المتدارك" و"المتقلرب"، وفيهما ما فيهما من تدافع أو تدفق نغمي يتناغم مع حالات الفرح والحزن، وإن كانت رؤية الشاعر بصفة عامة تُثير من الشجن والأسى أكثر ما تُثير من المرح والبهجة، ونادراً ما نجد الشاعر يعبر إلى موسيقا البحور المركبة، بسبب إلحاح رؤيته الشعرية على التعامل مع الواقع الممتلئ بالجراح والآلام والأحزان.
                              ولعل لهذا السبب أيضاً تفاوتت قصائده قصراً وطولا، وإن كانتْ عموماً أميل إلى الإيجاز والتركيز، ومُحاولةً أن تكون القصيدة دفقة شعورية واحدة، تجمل رؤية الشاعر وهمومه .. ومن ثم تعددت صور القصيدة أو الشكل الشعري لديه، فهناك القصيدة التقليدية، وقصيدة التفعيلة، والقصيدة المدورة، وهناك أيضا ما يسمى بـ"قصيدة النثر"، فضلاً عن محاولاته في المسرح الشعري، وشعر الأطفال.
                              وتكاد تكون القصيدة التقليدية (العمودية المقفاة) نادرة، ولم أجد فيما لديَّ من إنتاجه غير قصيدة واحدة قصيرة لا تتجاوز خمسة أبيات بعنوان "شتاء على القلب":
                              أقبِلْ على درْبِنا ، إني إليْــكَ ظَمي
                              أشْـرِعُ أماميَ بابَ الفتْحِ لا النَّـدَمِ
                              الليْلُ في جُرْحيَ الممْرورِ بعضُ شذى
                              فافْتحْ ذراعيْكَ واحْضُنْ بـوْحَ مُنْهَزِمِ
                              الليْـلُ والآهُ في نبْضي قدِ امْتَزَجـا
                              فأوْرَقَ الحُـــلْمُ في بوّابةِ الحُمَمِ !
                              حدِّقْ بشوْقِكَ ، أمْطِرْني بفيْضِ ندى
                              لعلَّ صمْتيَ مُشتــــاقٌ إلى النَّغَمِ
                              يا أيُّها النَّبْـعُ ، يا ذكْرَ الرياضِ أَعِدْ
                              لمسْمَعِ القلْبِ موسيقـا من القِمَـمِ !
                              ولعل بداية الشاعر من خلال شعر التفعيلة، هي التي وجّهته بحكم الإلف إلى الإنشاد من خلال تفعيلاته التي تطول سطورها أحياناً، بل وتتطور في بعض القصائد إلى ما يُسمّى "التدوير" أو "القصيدة المدورة"، وهي عبارة عن فقرات شعرية طويلة تتكوّن من عدد كبير من التفغيلات، قد يصل أويتجاوز ثلاثين تفعيلة في الفقرة الواحدة، والفقرة الشعرية في هذه الحالة تعدُّ بمثابة البيت أو السطر الشعري، وهناك عدد واضح الحضور من "القصائد المدورة" سواء في مجموعاته المبكرة أو الجديدة، منها على سبيل المثال: "العصفور وكرة النار"، في مجموعته "أوراق من عام الرمادة"، و"الأميرة تنتصر" في مجموعته "شجرة الحلم"، و"لماذا تظل العصافير تشدو؟" في مجموعته "السقوط في الليل"، و"جراح" في مجموعته "تجليات الواقف في العراء"، و"فيلم عربي"، و"محاولة للنسيان"، و"السر الأعظم"، و"خمس صفحات من كراسة المجنون" في مجموعته "زهور يلاستيكية"، وقد أشرنا من قبل إلى بعض التماذج، ونورد هنا نموذجاً آخر يكشف أكثر كيف تتتابع التفعيلات لتشكل الفقرة الشعرية ـ بديلا عن البيت ـ دفقة شعورية متناغمة رغم كثرة عدد التفعيلات وعدد الجمل أيضا. يقول في قصيدة "محاولة للنسيان":
                              "لماذا تُناديكَ هذي السفوحُ بخضرتِها ؟ وبهذي الفلولِ الأليفةِ ؟ (كانتْ تسوقُ تراباً فيرتجُّ منا الفؤادُ ، طيورُ أبابيلَ تُسقِطُ أحجارَها ، وأفيالُ صنعاءَ تتركُ أسوارَها ، وورْدتُكَ / النارُ تُفرغُ كأْساُ".
                              ويقول في أحد مقاطع "الأميرة تنتصر" الذي تطول تفعيلاته بصورة ملحوظة، معبرا عن لحظة الصدام بالصليبيين في المنصورة بينما جسد الصالح أيوب مُسجّى، و"شجر الدر" تُدير المعركة:
                              *أولادُكِ يامصرُ الحرةُ يأتونَ ، وإني مُبْتهِلٌ في السَّحَرِ إلى اللهِ ، وأحمِلُ سيْفي كيْ أدفعَ عنْكِ الأعداءَ ، وهذا شجرُ النيلِ الأسمرِ يتحرّكُ ويُقاتلُ أعداءكِ . هذي ذرَّاتُ ترابِكِ نارٌ وبراكينُ تُحمحِمُ في الميدانِ ، وهذا صوتُ الحافرِ يخلعُ أفئدةَ الصُّلبانِ ، وإنّا مُعتكِفونَ على حُبِّكِ يا مصْرُ ، نُصلِّي للهِ ، وفي القلبِ القرآنُ (أهذا قصرً الصالحِ نجْمِ الدينِ .. فهيّا ندخلْ مملكةَ الريحِ ، ونبْعثُ في الجسدِ الميِّتِ روحاً ، نحفرُ فوقَ نوافذهِ الصَّامتةِ الليْلةَ ـ هذا الفرْحَ / النَّصْرَ / الذُّرَّهْ !".
                              والتدوير له مزالقه الفنية التي توقع في النثرية بصفة خاصة ما لم يكن الشاعر واعياً لطبيعة التدوير بوصفه وسيلة متناغمة مع مع الرؤية الشعرية المتدفقة، وقد لاحظ الدكتور "علي عشري زايد" في مقدمته لمجموعة الشاعر "شجرة الحلم"، أن قصائده سلمت من المزالق إلى حد كبير "وإن كان الشاعر لم يسلم تماماً من الوقوع في مزالق النثرية وعدم الانضباط التي يقود إليها استخدام هذا الأسلوب" (ص25).
                              وقد لاحظ الدكتور "عزالدين إسماعيل" أنه قد تحقق من خلال عملية التدوير في الشعر مزية كان من الصعب من قبل تحققها، وهي ألا يرتبط الجرس الصوتي للكلمات بإيقاع الوزن، دون إلغاء لهذا الإيقاع.
                              وعلى هذا الأساس ـ كما يقول ـ فإن كل تدوير تُنفى عنه هذه الوظيفة، حين تقوم كل عبارة فيه، أو بعض هذه العبارات مستقلة إيقاعيا ومعنويا .. ومن ثم يفقد التدوير مبرره الفني (الشعر العربي: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار الفكر العربي، ط3، ص431).
                              أي أن الكاتب يرى أن تكون الفقرات شحنات نفسية ومعنوية، تتكامل العبارات في تقديمها للكاتب، فإذا استقلت عبارة فنية إيقاعيا ومعنويا عن الأخرى فَقَدَ التدوير معناه.
                              وبالنسبة لشاعرنا "حسين علي محمد" فإن التدوير كان وعاءً مناسباً لتدفقه الشعري والشعوري معاً، وإن كان شرط الدكتور عز الدين إسماعيل بالنسبة لترابط الإيقاع بالمعنى، لم يتحقق تماماً، وهو ما أشرنا إليه قبل قليل من خلال كلام الدكتور علي عشري زايد.
                              وسوف نلاحظ بصفة عامة أن الشاعر يحرص على نوع من التقفية بالنسبة لسطوره، أو فقراته الشعرية، مما يتضح في كثير من النماذج التي قدّمناها سلفاً ـ وهو ما يعني احتفاء الشاعر بالإيقاع، بالرغم من ميله إلى التجريب فيما أسماه بـ"قصيدة النثر"، فقدرته الموسيقية وسيطرته على الإيقاع (وزناً وقافيةً) تُؤهِّلُ للاستغناء عن هذا اللون الذي ابتدعه بعض الشعراء لغايات غير أدبية .. فالقصيدة النثرية المزعومة، لا تُمثل إلا حالة تعبيرية نثرية مغايرة تماماً للشعر الذي يعتمد على الإيقاع أولا وآخرا؛ فلا شعر بدون إيقاع، وقد سبق لأدباء عديدين ـ لعل أبرزهم "الرافعي" يرحمه الله ـ كتابة هذا اللون من النثر الذي يعتمد على الصورة والخيال والتكثيف، بصورة جيدة وراقية، دون أن يدّعوا أنه قصيدة نثرية، أو نثر شعري، ولأنني لا أريد أن أخوض كثيراً في هذه المسألة، فسأكتفي بتقديم نموذج من هذا اللون الذي كتبه الشاعر تحت مسمّى "القصيدة النثرية"، وهاهو مقطع مما كتبه تحت عنوان "أحمد زلط"، يقول فيه مُشيراً إلى رحلته للعمل في اليمن:
                              يمسحُ نظارتَهُ الطبيهْ
                              استعداداً لسهرةٍ شجيةٍ
                              مع محمد حسين هيكل ومحمد زغلول سلام
                              والسنهوتي وصابر عبد الدايم
                              ومحمد عبد الحليم عبد الله
                              قبلَ أنْ يُلقيَ بالكتب إلى عُبابِ النهرِ
                              متتبعا آثارَ بلقيس !
                              وواضح أن هذا النص ـ وغيره أيضا ـ يشد الشاعر إلى طبيعته الأصيلة بالرغم من محاولته الانفلات من الإيقاع، ليقلد من كتبوا "قصيدة النثر"، فهناك ما يمكن وزنه، فضلاً عن إنه يكتب كلامه على هيئة الشعر، مما يؤكد أن تلك المحاولة في كتابة القصيدة النثرية، ماهي إلا نزوة سيُقلع عنها في يوم قريب، لأن طبيعته الأصيلة ـ وهي الشعر ـ أقوى في كل الأحوال من محاولات الهبوط إلى قاع النثرية.
                              (6)
                              ثمة ظاهرة شعرية جديدة نباركها ونؤيدها، وندعو إليها، وهي الكتابة الشعرية للأطفال، فمنذ المحاولات القديمة لأحمد شوقي ومحمد الهرّاوي وبعض الشعراء في مصر والدول العربية، لم يكتب المعاصرون شعراً للأطفال إلا قليلاً، ومع الإغراق في الضبابية والإلغاز الذي سقط فيه فريق من شعراء السبعينيات في مصر والعالم العربي، فإن الكتابة الشعرية للأطفال تُصبح حدثاً مهما تنبغي الحفاوة به، حتى لو كانت قيمته الشعرية متواضعة، أملاً في تنميته وازدهاره وتفوقه .. وبخاصة أن أدب الأطفال العرب يُعاني عموماً من فقر حاد، لأسباب لا مجال للخوض فيها هنا.
                              يُحسب لشعراء السبعينيات أن أحدهم (وهو أحمد زرزور)، قد فاز بجائزة تشجيعية حول أشعاره للأطفال، وإن كنت للأسف لم أطلع على هذه التجربة، كذلك فهناك من أطلعني على بعض نماذجه التي لم تُنشر في هذا المجال مثل الشاعر أحمد فضل شبلول . أما شاعرنا "حسين علي محمد" فقد أعد مجموعة قصصية شعرية للأطفال بعنوان "مذكرات فيل مغرور" تضم ست قصص أو حواريات شعرية، تحمل قيما خلقية نبيلة، واداءً فنيا ناضجاً.
                              وأتصوّر أن اتجاه شعرائنا نحو أدب الأطفال سوف يُسهم في حل معضلات فنية عديدة، لعل أبرزها الخروج من دائرة الغموض والإبهام التي تجتاح بتيارها وعواصفها كثيراً من النماذج الشعرية التي تُطرح في الساحة للكبار .. كذلك أتصوّر أن هذا الاتجاه سيُخرج الشعراء أنفسهم من دائرة الرتابة والتكرار، والتي حوّلت الكثير من النماذج الشعرية (وخاصة ما يأتي منها في إطار الشعر الحر) إلى فصائد تقليدية، يمكن الاستغناء يواحدة منها عن مائة، لتشابهها ونمطيتها .. أيضا فإن التوجه إلى أدب الأطفال سيُثري التجربة الشعرية العربية المعاصرة عامة، وتجربة أدب الأطفال خاصة.
                              وفي إيجاز يمكن أن نجد في تجربة "حسين علي محمد" الشعرية للأطفال خصوبة وثراءً واضحيْن، فقد اتجه الشاعر إلى مجال القص أو الحكْي، وهو أساس أدب الأطفال عموماً؛ لأن القصة أو الحكاية هي المجال الذي يعشقه الأطفال ويحبونه على تفاوت أسنانهم وأعمارهم، ولذا فإن الشعر حين يأتي مرتكزاً على القصة أو الحكاية يتسلّل إلى أعماقهم ومشاعرهم، ويجذبهم للتفاعل مع النص والعيش معه، على العكس من الوصف الخارجي لبعض التجارب التي لا تقوم على القص أو الحكي .. ولعلنا نتذكّر أن قصائد شوقي للأطفال كانت تعتمد على "الحدوتة"، مما جعل الأطفال ـ بل والكبار ـ يتناغمون معها ويتفاعلون.
                              يقدم "حسين علي محمد" مجموعة من القصص التي تستدعي التاريخ الحقيقي أو الأسطورة، ومن النوع الأول القصة الأولى "مذكرات فيل مغرور"، وتتحدث عن قصة "أبرهة الأشرم" الذي حاول هدم الكعبة بعد أن حاول أن يُقيم لنفسه كعبة في اليمن تحج إليها العرب، وسماها "القليس"، أما النوع الثاني فمعظمه يرتكز على أساطير هندية، تدعو إلى الخير والحق والعدل ..
                              وأسلوب الشاعر في قصصه سهل وبسيط، ويعتمد على ألفاظ قريبة المنال، بعيدة عن المجاز ـ غالباً ـ ولا تجنح إلى مزالق الكلمات ذات المعاني المتعددة.
                              وفي كل الأحوال فقد استخدم الشاعر نظام الشعر التفعيلي الحر لينطلق في قصصه وحكاياته على سجيته، ويُوصِّل مفاهيمه إلى الأطفال، ولنأخذ مثالا من "مذكرات فيل مغرور"، بعد هزيمة "أبرهة الأشرم" وأفياله، وعدم قدرته على هدم الكعبة:
                              "أُبصِرُ "عبدَ المطَّلبِ" وجبهتُهُ ترتفعُ
                              إلى علياءِ سماءْ
                              يضحكُ جذلاً مسروراً
                              : قدْ جاءَ الطفلُ مُحمَّدْ
                              نوراً يرتفعُ إلى آفاقِ الجوزاءْ
                              ينحازُ إلى الضُّعفاءِ الفقراءْ"
                              وربما كانت قصص الأساطير أكثر إحكاماً من الناحية الفنية لدى الشاعر، ويقل فيها الإلحاح على مخاطبة الكبار الذي تفرضه العادة والإلف، ولعل قصة "الطفل الأخضر" من أفضل قصصه الشعرية، لبساطتها من ناحية، وإحكامها الفني من ناحية أخرى، وهي تحكي قصة طفل يتيم فقير، يتصف بالأمانة، يسمع الساحر "دندش" عن أمانته فيختبرها، وينجح محمود، فيكافئه الساحر:
                              أنت أمينٌ يا محمودْ
                              وسأُعطيك هديَّهْ
                              خذ هذا الخاتمَ يا محمودْ
                              سيساعدُكَ كثيراً في المستقبلْ"
                              وترمد عين السلطان، وتعمى، ويقول الطبيب إن شفاء العين في زهرة "شجر القشدة" في قمة جبل "عبقر"، ولا يستطيع أحد أن يصل إليها، ويسمع محمود القصة، فيُصرُّ على تحقيق طلب السلطان، ويستخدم الخاتم الذي أهداه له "دندش"، ويعود بعد جهد بالمطلوب .. فيشفى السلطان، ويقول لعائلته:
                              "محمودٌ ولدٌ طيبْ
                              وشجاعْ
                              بنتي "نرجسُ" معجبةٌ بهْ
                              سأُزوِّجها ـ لو يرغبُ ـ لهْ"
                              وتبدو الغاية من القصة أكبر من المكافأة التي حصل عليها محمود من الملك، بالزواج من ابنته، وتولي السلطة من بعده، إنها تكمن في الوعي بقيمة العمل والجهد والمبادرة، وهو ما يُفصح عنه الحوار التالي بين الساحر دندش ومحمود بعد نجاح الأخير في الحصول على زهر "شجر القشدة" التي شفي بسببها السلطان:
                              "دندش: أنت شجاعٌ ، وجريءٌ، وصبورْ
                              محمود: لولا خاتمُكَ الذهبيّْ
                              ما كنتُ وصلْتُ
                              لقمة (عبقرْ)
                              دندش: الخاتمٌ لا يفعلُ شيئاً يا ولدي
                              أنت شُجاعْ
                              وسأحكي قصتكَ لمنْ ألقاهْ"
                              وهكذا يملك الشاعر مفاتيح الخطاب الشعري للأطفال في لغة شفافة وبسيطة من خلال الحكي والقص، ويستلهم في كل الأحوال نماذج تراثية ملائمة وشائقة.
                              ولعلنا في هذه المناسبة نأمل أن يتوجّه الشعراء إلى تراثنا الإسلامي ليأخذوا من قصصه وحكاياته ما يلائم أطفالنا قصصا ومسرحيات وحواريات، فما أغزر هذا التراث، وما أكثر ما يمتلئ به معينه الذي لا ينضب ولا يجف.
                              ***
                              وبعد؛
                              فهذه الرحلة السريعة والخاطفة مع شعر "حسين علي محمد"، تُنبئ عن شاعرية شاعر ناضج ومتمكن، يملك لغة الشعر بأبعادها الفنية المتنوعة، ويملك أيضا الرؤية الشعرية المنتمية إلى الأمة الإسلامية بتراثها المضيء، وحاضرها المضطرم، ومستقبلها المنشود
                              د. حلمي محمد القاعود
                              ......................................
                              *من كتاب القاعود "الورد والهالوك"، دار الأرقم، الزقازيق 1993، ص ص 69 ـ 97،

                              تعليق

                              • د. حسين علي محمد
                                كاتب مسجل
                                • Jun 2006
                                • 1123

                                #45
                                رد: مع الناقد الأديب الدكتور حلمي محمد القاعود

                                فقه الحكومة .. وصلاة الجمعة !

                                بقلم: أ. د. حلمى محمد القاعود
                                ..........................................

                                البيت بيتهم والدار دارهم والدستور دستورهم والقانون قانونهم ، والفقه فقههم أيضاً .. كان المذيع اللزج يجلس فى برنامجه مع كاتب من كتاب البلاط ، واستعرضا أموراً عديدة ، أبدى فيها كاتب البلاط تأففه وتضجره واشمئزازه من صورة كاريكاتير مرسومة على حائط ، وتُبين أن الشياطين فى شهر رمضان المعظم أو المبجل على رأى صديقى الأديب الكبير " وديع فلسطين " ، يتم تصفيدها وتقييدها فلا تؤذى أحداً ، ولكن رسام الكاريكاتير ، رأى من وجهة نظره أن الشياطين الجنية المقيدة ، يقابلها شياطين إنسية مطلقة السراح فى التلفزيون ! وهى وجهة نظر معقولة للغاية ، حين يتبنى التلفزيون تصريحات الكذب والضحك على المواطنين ، وحين يقدم وجهة نظر شيطانية لا تعبّر إلا عن المستبدين والمستفيدين ، وحين يقصر نجومه على من يسمونهم أهل الفن والكرة ،لدرجة أن أناشيد الأطفال تتغني بأحمد رمزي ورشدي أباظة ، وكأن مصر خلت من العلماء والمجاهدين والأبطال الذين لا يعلنون عن أنفسهم خارج الحقول والمصانع والمدارس والجامعات والمعمار ومصارعة الغلاء الفاحش والأيام البيضاء (..) والتمييز العنصرى ، طبقيا وفتويا ومهنيا ....
                                كاتب البلاط ، لم يدرس الظاهرة ، ولم يفسرها تفسيرا علميا ، ولكن اكتفى بوصمها بأبشع ما فى القاموس ، ودخل مع المذيع اللزج فى وصلة من الهجاء لأمثال هؤلاء الذين لا يرقبون فى مشاعرهما الحساسة ذوقاً ولا رقة ! ثم أراد المذيع أن يتوج غضبته المضرية على الرسم الساخر والتغطية عليه ، بالتنويه عن أمر يرفضه الناس جميعا قال إنه سيتناوله فى الحلقة القادمة ، وهو قيام فتاة بأداء أغنية اسمها " أحمد يا عمر " بذيئة الكلمات هابطة المضمون !
                                تذكرت مصطلحاً ورد على لسان ولد ضال فى أحد المسلسلات وهو يرد على أبيه أو يجيبه على سؤال يتعلق بقضية فقهية فقال : إنه فقه الحكومة ! أى إن هناك فقها وضعه أو استنبطه علماء الشريعة الحقيقيون ، وفقها آخر وضعه علماء السلطة وفقهاء الشرطة ، كما يسميهم الشيخ محمد الغزالى رحمه الله .
                                فقه الحكومة يتوقف عند الهامشيات ، وبحلل جرائم بعض المستبدين ضد شعوبهم ، وليته يقدم تفسيراً حقيقياً أو منطقياً ، ولكنه يتبنى على طول الخط رأى السلطة البوليسية الفاشية ، ووجهة نظرها حتى ولو لم تطلب هذه السلطة من أهل الفقه رأيا ولا فتوى .
                                وقد رأينا من يتطوع مؤخراً ويذكر أن شهر رمضان هو شهر مقاومة الشائعات ، ويكتب فى ذلك مقالات مطولة فى كبريات الصحف يتقاضى عنها الشىء الكثير ، ثم يعيد نشرها فى أماكن أخرى تخضع لهيمنته تحت هيمنته ليزداد العائد وتتضخم الأرصدة ، وتكثر القصور والفيلات ، والشقق التمليك .. مع أن مقاومة الكذب – وخاصة كذب السلطات الفاشية – مطلوب فى رمضان وغير رمضان وعلى امتداد العمر والزمان ، ولكن فقه الحكومة له تجليات عجيبة تثير الضحك والابتسام مع أنها تجلب فى النهاية الكآبة والبؤس والإحباط !
                                وقبل ذلك رأينا من يهتم بمسألة الختان ، ويبعزق أموال الدولة على نشر كتب تحرّمه – وهو من المباح الذى لم يرد فيه نص بتحريمه- ثم يشغل نفسه بما يسمى الأذان الموحد ، وبول الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإرضاع الكبير ، دون أن يتذكر واحد منهم القتال أمام أفران الخبز ، الذي يموت من أجله أبرياء يبحثون عما يمسك الرمق !
                                فقه الحكومة لا يتطرق أبداً إلى حكم التعذيب فى السجون والمعتقلات ، ولا نهب أموال الدولة وتهريبها ، ولا بيع البلد بتراب الفلوس ، ولا الاقتراض بالربا من حكومات العالم ، ولا إلقاء الناس داخل الأسوار بسبب الخلاف فى الرأى أو معارضة الفساد أو هيمنة البوليس على البلاد والعباد باسم الطوارئ أو مكافحة الإرهاب أو ... أو ...
                                فقه الحكومة يتطوع ببذر التطرف والتشدد حين يلغى فقه المذاهب الأربعة ( المالكي والحنفى والشافعي والحنبلى ) من أجل غاية تافهة جداً وهى الحصول على مكافأة تأليف كتاب عن الفقه الميسر ، فلا يعرف الطالب الأزهرى أن هناك آراء أخرى ، وأحكاماً مخالفة فى قضايا التشريع .
                                إلغاء فقه المذاهب ، يقود عمليا بعد إلغاء وتقليص عدد من مناهج اللغة العربية فى المعاهد الأزهرية ، إلى توحيد التعليم الأزهري مع التعليم العام ، وإلغاء الإسلام تماماً من الدروس داخل الأزهر المعمور ، ليبحث الناس بعدئذ عن مفت يجيب عن أسئلتهم فى حارات إمبابة أو عشوائيات ساقية مكى !!
                                فقه الحكومة يتماهى مع الاستبداد حيث كان ؛ لأنه ليس استبداداً محلياً ، ولكنه استبداد مستورد ماركة " الاستعمار الغربى المتوحش " ، وهذه الماركة أو العلامة تفرض على السادة المستبدين أن يكون لهم فقههم المخالف للفقه الذى عرفه الناس منذ أربعة عشر قرنا .
                                مثلاً ، فإن تونس الخضراء ، مذ كانت تحت الهيمنة الفرنسية الاستعمارية المتوحشة ، كانت عطلتها الأسبوعية يوم الأحد ، وبعد الاستقلال الصورى ظلت الإجازة يوم الأحد ، وكان الناس وأغلبيتهم الساحقة مسلمون ، يعملون يوم الجمعة ويصلونها فى أثناء العمل ولكنهم قبل فترة فوجئوا بفقه الحكومة يلغى صلاة الجمعة فى موعدها ، ويجد فتوى تجيز صلاة الجمعة مع صلاة العصر ؟
                                المعلوم في الفقه أن جمع الصلوات لا يجوز إلا لضرورة ، مثل السفر الطويل ، والقتال ضد الأعداء ، وفى أثناء الحج ( يوم عرفة ) .. ولا توجد ضرورة سياسية ضمن الضرورات التى عرفها الفقهاء الأصليون .
                                فقه الحكومة ، لأنه يحبذ الاستبداد المستورد ، فهو يضحى بكل شئ إرضاء للسادة المورّدين ولو كانت تغييرا للإسلام نفسه باسم تغيير الخطاب الدينى الإسلامي وحده ، والانشغال بسفاسف الأمور وهوامشها لإشغال الناس عن الواقع الكريه الذى يحيونه ، ويسرى فى دمائهم وعروقهم على مدار الساعة .
                                ومن التجليات المضحكة المبكية أن تونس الخضراء اخترعت ذات يوم اختراعاً عجيباً فريداً فى نوعه ، يتمثل فى استخراج بطاقة ممغنطة يستخدمها المصلون فى المساجد التى تخصص لهم حسب أماكن الإقامة ، ويقوم المصلى باستخدام بطاقته إذا أراد أن يصلى فى المسجد المحدد له، فإذا أراد أن يصلى في مسجد غير المسجد المخصص له ، فإن باب المسجد لا ينفتح أبداً ! وكان تسويغ السلطة لهذا الاختراع العجيب آنئذ هو " محاربة الإرهاب " والقضاء على التطرف " .. وحين وجدت السلطة البوليسية الفاشية أن الأمر لقى استنكاراً على مستوى الأمة الإسلامية ، تراجعت ، وقامت بنفى الأمر تماماً ..
                                بيد أن " فقه الحكومة " لاتعنيه أسباب الإرهاب أو التطرف الحقيقية ، ولا يناقشها ولا يتحدث عنها ، ولا يقول للمستبدين إنكم سرقتم الحرية واعتقلتم الإسلام وسجنتم الكرامة وأهدرتهم كل مبادئ حقوق الإنسان .. وفقد الناس العدل ، وشاع بينهم الظلم والقهر ، فصار بعضهم أقوى من القنابل الموقوتة ، ضد نفسه وضد المجتمع كله ..
                                وإذا كانت " صلاة الجمعة " قد هانت على المستبدين بحكم خضوعهم للمورّدين المتوحشين ، فإن الخوف الأعظم يأتى من جانب ضحايا " فقه الحكومة " ، فهؤلاء فى كل الأحوال لا يعرفون شيئا اسمه العقل أو المنطق ، لأن ما يعيشونه من فقدان للحرية والعدل والكرامة ، يدفعهم إلى ارتكاب كل ما يخطر أو لا يخطر على البال .. وهو أمر لو تعلمون نتائجه عظيم ! فهل هناك من أمل فى إلغاء " فقه الحكومة " ، وإحلال فقه العلماء مكانه ؟
                                ........................................
                                *المصريون ـ في 25/9/2007م.

                                تعليق

                                يعمل...