رد: النص الكامل لرواية «ذاكرة الأشجار» للروائي الكبير محمد جبريل
(16)
ألقي نظرة سريعة علي الناحية المواجهة، امتداد نصوح إلي محطة القطار مزدحم بعربات اليد والباعة والمارة، والغروب القريب يدفع محل كريشة والمحال المجاورة إلي الإضاءة.
رأي عبدالرحيم بائع الأقمشة في الدكان المقابل للكنيسة. شتمه المسيو ميكيل حين عرض الزواج من دومينيك. يقف خلف البنك بقامته القصيرة، وشعره المفلفل، وبشرته السمراء، ووجهه المستدير، والشفتين الممتلئتين، يعلوهما أنف أفطس. الأرفف من خلفه، رصت فوقها أثواب القماش، يقيس ما يعد لبيعه بالمتر الخشبي. كان الرجل -في رواية سيلفي قد كون ثروته من تجارة السوق السوداء، ومن بيع أكفان الموتي. أضاف إلي بيع الأقمشة بالبطاقات - في أعوام الحرب العالمية الثانية - مواد التموين التي تباع بالبطاقات: السكر والزيت والصابون والشاي. خصص لبيعها دكاناً صغيراً ملاصقاً.
مال إلي شارع نصوح الهندي، الكناس العجوز يكوم أوراق الشجر المتساقطة في جابني الشارع.
قبل أن يميل في اتجاه الفيللا، لامست أنفه رائحة الياسمين، ذابت في أريجها روائح القمامة في الخرابة المهجورة أول الشارع، والبرك الصغيرة المتناثرة.
طالعته - بمفردها - تستند بكوعها علي سور الشرفة. أحكمت الروب المشجر حول نفسها، وتطلعت إلي الطريق الخالية، من خلال أغصان الشجر التي تساقط معظم أوراقها.
قالت لنظرته المتلفتة:
- دومينيك مريضة.
ونترت قطرات مطر حملتها الريح إلي داخل الشقة:
- صحبها عياد إلي الطبيب.
فطن إلي أنه لا يوجد في البيت سواهما، سيلفي وهو، ارتباكه وكلماتها المتوترة.
عرف من كلماتها أن دومينيك تقوم بأعمال البيت، لا تشاركها خادمة مقيمة في البيت، أو تتردد عليه.
ناوشه السؤال، إذا كانت هذه حياة أسرة، كانت أمها أميرة، وكان أبوها - قبل رحيله - موظفاً في بنك أجنبي؟
الفيللا تشي بعز قديم، لا يجد امتداداً في حياة أهلها.
أهمل ما هب عليه من الريح الساخنة، تعمق الاختلاف وما يباعد بينهما، حتي الحياة في فيللا الزيتون، وفي شقة المواردي، تجعل لكل منهما عالمه الخاص، لا صلة له بالآخر.
قال ليبدد الصمت المنفعل:
- هل لايزال أنطوان يرفض زواجنا؟
قالت:
- أدرك أنه لا فائدة، وإن فرض مقاطعة صامتة!
- هل أكلمه؟
- سيتصور كلامك ضعفاً.
وأشاحت بذقنها:
- من كنت أخشي غضبهما ماتا.
ووشي صوتها بالاستياء:
- أنطوان تهمه أخلاقنا، لكنه بلا أخلاق، ما يفعله لمجرد السيطرة علينا!
زادت من إحكام الروب حول صدرها:
- برد؟
كانت الريح تعصف بأشجار الحديقة. يصدر عنها ما يشبه الحفيف أو الوسوسة، يتوالي سقوط الثمار علي الأرض في ارتطام مكتوم، رؤوس الأشجار تهتز، وهبات الهواء الباردة تنفذ من بين الفروع. تنفض قطرات الماء العالقة بها، تتناثر القطرات في المساحة وراء إفريز الشرفة وداخل الفيللا.
ثم وهي تتهيأ للقيام:
- لندخل..
وعلا صوتها بلهجة مرحبة:
- خروج دومينيك فرصة لتشاهد حجرتنا.
الحجرة تطل علي منور يفصلها عن البيت المجاور من الخلف. جدرانها من عروق الخشب المطلية باللون الأبيض، في الوسط سجادة صغيرة ذات ألوان وكومودينو فوقه فازة من الكريستال، فيها زهور صناعية بهتت ألوانها. علي الجانبين سريران منفصلان، أحدهما - الذي اختارت سيلفي الجلوس عليه، منكوش الأغطية.
لا يدري من همس بالنداء، ومن اقترب بالاستجابة.
نزعت الروب، كومته، وألقت علي السرير جوارها:
قالت:
- هنا أدفأ.
التقطت نظرته المحدقة في بطن ساقها.
وهي تفرد راحة يدها في وجهه:
- عينك!
قال:
- تتكلمين كالمصريين!
- أنا كذلك بالفعل..
ومالت برأسها ناحيته:
- من تظنني؟
فطن إلي النهدين المتحررين من السوتيان، تحت قميص النوم الأسود، المطرز بالدانتيل. يشي المنبت باستدارتهما المتماسكة، وطزاجتهما. شعر - للمرة الأولي منذ تعرف إليها - بتوتر في ذكورته.
مدفوعاً بجرأة لم يعهدها في نفسه:
- ممكن؟
اتسعت عيناها بالتساؤل..
همس:
- ألمس صدرك؟
وضعت في عينيها ليناً محرضاً:
- ما يمنعك؟
وشي ارتجاف أصابعه بارتباكه. حاول الملامسة بالجرأة المواتية، ترك لأصابعه الإبانة عن ألق التعري، لامس الجسد الباذخ بيدين تائهتين. جاست اليدان في الأحراش الناعمة الباذخة، وما كانت العينان تخالسه النظر. باحت الأسرار بطلاسمها. اختلطت، وتشابكت، وجوه وملامح وكلمات: شارع المواردي، وفيللا الزيتون، وغناء المسيو ميكيل، والانتظار، والشوق، واللهفة، وتهويمات الأحلام، والشوق، والرهبة، والتوتر، والاكتشاف، والفقد المستعاد، واندفاع الطوفان، وإهالة التراب علي جسد الأم، واجتذاب الدوامة للقرار الذي لا يدركه، وميدان ابن سندر، وتعالت أجراس الكنيسة، وعظات الأب يوحنا، وقول الخالة إيفون: هل توافق علي أن تحتفظ سيلفي بدينها؟ والنافذة المطلة علي النيل، وزفرة السيدة كاترين: لم تعد الزيتون كما كانت، وزحام شارع السلطان سليم، واستطالة الظلال، والإيماءات، وتوسط قوس قزح وسط السماء، وتطوح الذاكرون - علي أنغام الأورغن - في خيمة الصوفية، وأبحار القارب في أمواج متلاطمة، وعلو أجراس النشوة، وترامي صوت أم كلثوم من راديو قريب: »شمس الأصيل نورت فوق النخيل يا نيل. وثمة القرب والبعد والانثناء والتقلب والتمدد والعناق والتصلب، وهمس الغمغمات والتمتمات والدمدمات، والأنين الخافت، والعينين المغمضتين، والشفتين السخيتين بما لم يتوقعه، تشابكت الأيدي والأقدام بدا الجسدان قطعة واحدة، متكورة.
(16)
ألقي نظرة سريعة علي الناحية المواجهة، امتداد نصوح إلي محطة القطار مزدحم بعربات اليد والباعة والمارة، والغروب القريب يدفع محل كريشة والمحال المجاورة إلي الإضاءة.
رأي عبدالرحيم بائع الأقمشة في الدكان المقابل للكنيسة. شتمه المسيو ميكيل حين عرض الزواج من دومينيك. يقف خلف البنك بقامته القصيرة، وشعره المفلفل، وبشرته السمراء، ووجهه المستدير، والشفتين الممتلئتين، يعلوهما أنف أفطس. الأرفف من خلفه، رصت فوقها أثواب القماش، يقيس ما يعد لبيعه بالمتر الخشبي. كان الرجل -في رواية سيلفي قد كون ثروته من تجارة السوق السوداء، ومن بيع أكفان الموتي. أضاف إلي بيع الأقمشة بالبطاقات - في أعوام الحرب العالمية الثانية - مواد التموين التي تباع بالبطاقات: السكر والزيت والصابون والشاي. خصص لبيعها دكاناً صغيراً ملاصقاً.
مال إلي شارع نصوح الهندي، الكناس العجوز يكوم أوراق الشجر المتساقطة في جابني الشارع.
قبل أن يميل في اتجاه الفيللا، لامست أنفه رائحة الياسمين، ذابت في أريجها روائح القمامة في الخرابة المهجورة أول الشارع، والبرك الصغيرة المتناثرة.
طالعته - بمفردها - تستند بكوعها علي سور الشرفة. أحكمت الروب المشجر حول نفسها، وتطلعت إلي الطريق الخالية، من خلال أغصان الشجر التي تساقط معظم أوراقها.
قالت لنظرته المتلفتة:
- دومينيك مريضة.
ونترت قطرات مطر حملتها الريح إلي داخل الشقة:
- صحبها عياد إلي الطبيب.
فطن إلي أنه لا يوجد في البيت سواهما، سيلفي وهو، ارتباكه وكلماتها المتوترة.
عرف من كلماتها أن دومينيك تقوم بأعمال البيت، لا تشاركها خادمة مقيمة في البيت، أو تتردد عليه.
ناوشه السؤال، إذا كانت هذه حياة أسرة، كانت أمها أميرة، وكان أبوها - قبل رحيله - موظفاً في بنك أجنبي؟
الفيللا تشي بعز قديم، لا يجد امتداداً في حياة أهلها.
أهمل ما هب عليه من الريح الساخنة، تعمق الاختلاف وما يباعد بينهما، حتي الحياة في فيللا الزيتون، وفي شقة المواردي، تجعل لكل منهما عالمه الخاص، لا صلة له بالآخر.
قال ليبدد الصمت المنفعل:
- هل لايزال أنطوان يرفض زواجنا؟
قالت:
- أدرك أنه لا فائدة، وإن فرض مقاطعة صامتة!
- هل أكلمه؟
- سيتصور كلامك ضعفاً.
وأشاحت بذقنها:
- من كنت أخشي غضبهما ماتا.
ووشي صوتها بالاستياء:
- أنطوان تهمه أخلاقنا، لكنه بلا أخلاق، ما يفعله لمجرد السيطرة علينا!
زادت من إحكام الروب حول صدرها:
- برد؟
كانت الريح تعصف بأشجار الحديقة. يصدر عنها ما يشبه الحفيف أو الوسوسة، يتوالي سقوط الثمار علي الأرض في ارتطام مكتوم، رؤوس الأشجار تهتز، وهبات الهواء الباردة تنفذ من بين الفروع. تنفض قطرات الماء العالقة بها، تتناثر القطرات في المساحة وراء إفريز الشرفة وداخل الفيللا.
ثم وهي تتهيأ للقيام:
- لندخل..
وعلا صوتها بلهجة مرحبة:
- خروج دومينيك فرصة لتشاهد حجرتنا.
الحجرة تطل علي منور يفصلها عن البيت المجاور من الخلف. جدرانها من عروق الخشب المطلية باللون الأبيض، في الوسط سجادة صغيرة ذات ألوان وكومودينو فوقه فازة من الكريستال، فيها زهور صناعية بهتت ألوانها. علي الجانبين سريران منفصلان، أحدهما - الذي اختارت سيلفي الجلوس عليه، منكوش الأغطية.
لا يدري من همس بالنداء، ومن اقترب بالاستجابة.
نزعت الروب، كومته، وألقت علي السرير جوارها:
قالت:
- هنا أدفأ.
التقطت نظرته المحدقة في بطن ساقها.
وهي تفرد راحة يدها في وجهه:
- عينك!
قال:
- تتكلمين كالمصريين!
- أنا كذلك بالفعل..
ومالت برأسها ناحيته:
- من تظنني؟
فطن إلي النهدين المتحررين من السوتيان، تحت قميص النوم الأسود، المطرز بالدانتيل. يشي المنبت باستدارتهما المتماسكة، وطزاجتهما. شعر - للمرة الأولي منذ تعرف إليها - بتوتر في ذكورته.
مدفوعاً بجرأة لم يعهدها في نفسه:
- ممكن؟
اتسعت عيناها بالتساؤل..
همس:
- ألمس صدرك؟
وضعت في عينيها ليناً محرضاً:
- ما يمنعك؟
وشي ارتجاف أصابعه بارتباكه. حاول الملامسة بالجرأة المواتية، ترك لأصابعه الإبانة عن ألق التعري، لامس الجسد الباذخ بيدين تائهتين. جاست اليدان في الأحراش الناعمة الباذخة، وما كانت العينان تخالسه النظر. باحت الأسرار بطلاسمها. اختلطت، وتشابكت، وجوه وملامح وكلمات: شارع المواردي، وفيللا الزيتون، وغناء المسيو ميكيل، والانتظار، والشوق، واللهفة، وتهويمات الأحلام، والشوق، والرهبة، والتوتر، والاكتشاف، والفقد المستعاد، واندفاع الطوفان، وإهالة التراب علي جسد الأم، واجتذاب الدوامة للقرار الذي لا يدركه، وميدان ابن سندر، وتعالت أجراس الكنيسة، وعظات الأب يوحنا، وقول الخالة إيفون: هل توافق علي أن تحتفظ سيلفي بدينها؟ والنافذة المطلة علي النيل، وزفرة السيدة كاترين: لم تعد الزيتون كما كانت، وزحام شارع السلطان سليم، واستطالة الظلال، والإيماءات، وتوسط قوس قزح وسط السماء، وتطوح الذاكرون - علي أنغام الأورغن - في خيمة الصوفية، وأبحار القارب في أمواج متلاطمة، وعلو أجراس النشوة، وترامي صوت أم كلثوم من راديو قريب: »شمس الأصيل نورت فوق النخيل يا نيل. وثمة القرب والبعد والانثناء والتقلب والتمدد والعناق والتصلب، وهمس الغمغمات والتمتمات والدمدمات، والأنين الخافت، والعينين المغمضتين، والشفتين السخيتين بما لم يتوقعه، تشابكت الأيدي والأقدام بدا الجسدان قطعة واحدة، متكورة.
تعليق