الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للروائي الكبير محمد جبريل

تقليص
X
  •  
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    كاتب مسجل
    • Jun 2006
    • 1123

    #16
    رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر

    ـ 15 ـ

    قال العجوز :
    ـ لا تخرجى من بيتك هذه الأيام ..
    ـ لماذا ؟
    ـ المظاهرات ..
    وهز إصبعه :
    ـ لا تخرجى .. ولا تأتى إلى العيادة ..
    حذرها من أوامر الضرب فى المليان . المليان هو أجساد المتظاهرين . طلقات الرصاص تندفع من كل مكان ، تتجه إلى غير مكان . حتى الفرار يبدو مستحيلاً . إن لم تخافى على نفسك ، فاشفقى على أبويك .
    قالت فى لهجة مهونة :
    ـ الأمر ليس بهذه الخطورة ..
    ـ قد يتفجر الوضع بأشد مما نتصوره ..
    وفاجأنى بالقول :
    ـ اصحبها إلى محطة الترام ..
    ملنا ناحية البحر ..
    آثار تحطيم وتكسير متناثرة فى شارع إسماعيل صبرى . قهوة فاروق خالية من الرواد ، ومعظم الأبواب مغلقة ، والكراسى تكومت فوق الطاولات . سحب بيضاء ، صغيرة ، تتناثر فى السماء ، ومن وراء الكورنيش الحجرى تترامى أصوات التكسرات المستمرة لمد الموج على المصدات الأسمنتية .
    قالت نورا :
    ـ حتى أبى طلب أن أظل فى البيت ، ولا أذهب إلى الكلية .
    ولوت شفتها السفلى :
    ـ ولا حتى إلى مكتب أبى ..
    استطردت لنظرتى المتسائلة :
    ـ أتردد عليه ساعتين كل صباح لمساعدته فى إنجاز الأوراق المهمة .
    قلت :
    ـ ما شأن ذلك بما يحدث ؟
    ـ امتدت المظاهرات إلى كل مكان ..
    ـ أتصور أنه ليس ملحاً ذهابك إلى الكلية أو المكتب ..
    ـ صحيح .. لكن أوامر المنع تثيرنى !

    [align=center](يتبع)[/align]

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      كاتب مسجل
      • Jun 2006
      • 1123

      #17
      رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر

      ـ 16 ـ

      استعدت العبارة :
      ـ مات النقراشى ؟
      جاء صوت فيصل مصيلحى على التليفون محملاً بالتوتر :
      ـ قتله عضو فى الإخوان المسلمين .
      ظل متكتماً صلته بجماعة الإخوان المسلمين ، لكننى كنت أدرك ـ من كلماته وتصرفاته ـ ارتباطه بالجماعة على نحو ما . أطالع الصحف . أكتفى بنظرة تساؤل صامتة إلى عينيه . تومضان بما أحدس أنه يخفيه : قتل القاضى أحمد الخازندار . إلقاء القنابل والمتفجرات على أقسام البوليس فى الخليفة والموسكى وباب الشعرية والجمالية ومصر القديمة والأزبكية والسيدة زينب . إلقاء القنابل ـ فى ليلة عيد الميلاد ـ على محال يرتادها جنود الجيش البريطانى . توالى الانفجارات فى ممتلكات اليهود : بنزايون ، جاتينيو ، شركة الدلتا التجارية ، ماركونى ، شيكوريل ، شركة الإعلانات المصرية ، تدمير بيوت فى حارة اليهود ، قتل حكمدار القاهرة سليم زكى ، إلقاء قنبلة على رجال الأمن بالمدرسة الخديوية ..
      فضل فيصل أن نلتقى فى قهوة فاروق . مشكلات صغيرة ، علينا إنهاؤها قبل أن نلتقى فى العلن . روى ـ بكلمات سريعة ـ ظروف قتل النقراشى . أطلق عليه طالب البيطرى عبد المجيد أحمد حسن ثلاث رصاصات ، وهو يتهيأ للصعود إلى مكتبه بوزارة الداخلية .
      بدا فيصل ميتاً من الخوف وهو يهمس بقرار حل جماعة الإخوان المسلمين وشعبها ، إغلاق الأمكنة المخصصة لنشاطها : المصانع والشركات والمعاهد والمستشفيات ، ضبط أوراقها ، وثائقها ، سجلاتها ، مطبوعاتها ، أموالها ، كل الأشياء المملوكة لها . حتى شعبة الإخوان فى البناية المطلة على ميدان أبو العباس ، رآه مغلقاً ـ فى وقفته أعلى الدحديرة الخلفية للجامع ـ وأمامه عساكر ..
      قلت :
      ـ هل ينطبق القرار على الشركة ؟
      ـ أى شركة ؟
      ـ شركتنا .. شركتك ..
      ـ لا شأن لهم بها . ورثتها عن أبى ..
      ونقر جبهته بإصبعه :
      ـ فى دولاب حجرة هناء زكريا آلة طباعة بالبالوظة . لابد من وسيلة لإخفائها ..
      هل كان يمارس فى الشركة نشاطاً سياسياً ؟
      اعتدت ـ فى عودتى إلى البيت على الكورنيش ـ رؤية الضوء المنبعث من خصاص النافذة المغلقة . أحدس بقاءه فى الشركة لإنجاز ما يتطلب السهر . ربما كان يلتقى بمن لا أعرفهم ـ هل هم أعضاء فى الجماعة ؟ ـ أو يدير آلة الطباعة فى منشورات يخفيها ؟
      أدركت أنه تخلى عما ألفته منه : إذا استعصت عليه مشكلة ، أو بدت نذرها ، لجأ إلى جزيرته الخاصة ، يحيطها بأسوار عالية ، لا تأذن لأحد برؤية ما بداخلها ..
      همست بما يقلقه للدكتور جارو ..
      قال :
      ـ ما أعرفه أن الاعتقالات شملت الشيوعيين أيضاً ..
      وتنحنح ليزيل احتباس صوته :
      ـ كل من اختلف مع السعديين أودع المعتقلات !
      ورنا ناحيتى بنظرة جانبية :
      ـ خذ من صديقك آلة الطباعة التى يخشى ضبطها ..
      وأردف فى لهجة مشاركة :
      ـ وجودها فى العيادة لن يثير الشكوك ..
      قلت فى ذهول :
      ـ هل تحتفظ بها هنا ؟
      ـ قلت إنه صديقك ..
      ـ أخشى أن أعرضك لمتاعب ..
      ـ عين البوليس لن تفطن إلى عيادة طبيب أرمنى عجوز ..
      ورفع عيناً متسائلة :
      ـ لماذا قتلوا النقراشى ؟
      قلت :
      ـ اتهمه الأخوان بخيانة قضية فلسطين ..
      قال فى نبرته الهادئة :
      ـ قرار الحل منطقى فى ظل تحول الإخوان إلى جماعة عسكرية ..
      اعتدل فى جلسته بحيث واجهنى . قال لنظرتى المستغربة :
      ـ ما فعلته لأن صديقك تهدد فى حريته . أرفض ـ لأسباب تعرفها ـ نفى أى إنسان ومصادرة رأيه وإلغاء حريته .
      توقع أن يرد الإخوان المسلمون على قرار الحل : الضربة مؤلمة ، لكنها ليست قاتلة . المئات ـ مثل صديقك ـ خارج المعتقلات . هؤلاء لن يسكتوا . لابد أن يردوا . عرف الإخوان التشكيلات المسلحة والعمل السرى واستخدام المتفجرات . لم تعد الكلمات وحدها وسيلتهم إلى التعبير . علينا أن ننتظر مفاجآت ..
      عاب على الإخوان المسلمين أنهم أنفقوا الأموال فى شراء السلاح ، والتدرب على استخدامه . لكن السلاح ظل فى المخازن ، حتى بدأ استخدامه فى عمليات الاغتيال والتفجير . أتشكك فى الدعاوى الدينية منذ استغلت حكومة الأتراك جهل مواطنيها المسلمين بحقيقة دينهم. حرضتهم على قتلنا باعتبارنا كفاراً !
      استعدت لقاءاتنا . لم يكن يشير إلى الدين على أى نحو . وحين أتمتم " الله أعظم " بتعالى صوت مؤذن جامع سيدى على تمراز بالأذان " الله أكبر " لم يكن يبدى ملاحظة ما ..
      قال :
      ـ موقفى ، رأيى ، ضد الإخوان المسلمين . لا شأن لذلك باختلاف الديانة . ورثت عقيدتى ، ولا شأن لى بها . إجازتى الأسبوعية أقضيها فى البيت ، لا أتردد على الكنيسة . أعامل البشر باعتبارهم كذلك . ما فعله الأخوان المسلمون فى عهد صدقى أثارنى . مهادنة صدقى جريمة ارتكبها من ادعوا انتماءهم إلى دين متطور . أثق أن الإسلام دين متطور . إذا كان النقراشى قد أخطأ فى حل الإخوان المسلمين ، فإنهم قد أخطأوا بعمليات الاغتيال والتفجير ..
      وعلا صوته :
      ـ من يضع يده فى يد الديكتاتور فهو يوافق على أفكاره وتصرفاته !
      ثم غير صوته :
      ـ كان فى بالى أنى غريب عن هذه المدينة ، غريب عن مصر كلها . لا شأن لى بما أراه أو أسمعه . ثم جرنى التعاطف مع الفلسطينيين إلى الاهتمام بما يعانونه ، ثم اجتذبتنى الأحداث فأنا ـ كما ترى ـ أنشغل بها ..
      استطرد فى ابتسامة متكلفة :
      ـ التقاط طرف الخيط جر البكرة كلها ..
      ***
      كانت مفاتيح الشركة معى . أذهب إلى الشركة فى كل صباح . أتوقع ضباط المباحث ـ أمام الباب ، أو فى الداخل ـ والإغلاق ، والشمع الأحمر ، والحراسة ، وبطاقتك الشخصية ، والسؤال : من تريد ؟
      ألغت الحكومة قرار حل جماعة الإخوان المسلمين . تشجع فيصل ـ بغياب ما يقلق ـ فعاد إلى الشركة ..
      ـ الحمد لله أنى لست واحداً من الآلاف الذين أودعوا المعتقلات .
      قلت فى نبرة لوم :
      ـ لم تبلغنى بعضويتك فيها ..
      تردد فى الإجابة ، ثم قال :
      ـ ربما لأن الموضوع شخصى .
      لم أتحدث عن الموضوعات الشخصية التى يقاسمنى فيها الرأى : تحقيقات عيسوى أبو الغيط ، عيادة الدكتور جارو ، علاقتى بنورا ..
      اكتفيت بالقول :
      ـ الحمد لله !
      أطرق إلى الأرض ، ثم رفع عينين منداتين :
      ـ أسخف الأمور أن تحتفظ فى داخلك بخوف لا تصارح به أحداً !
      أردف فى كلمات متباطئة :
      ـ الجهاد يتطلب شجاعة .. لا أمتلكها !
      ـ حاولت أن ألتقى بك فى صلاة الجمعة بعلى تمراز ..
      ـ اكتفيت بالصلاة فى البيت ..
      ثم وهو يتشاغل بتقليب أوراق فى يديه :
      ـ همنى أن أبتعد عن الجوامع ..
      تكلم عن الحزن الذى تملك مشاعره ، وهو يحرق ـ فى دورة المياه ـ كل ما له صلة بالجماعة . أوراق ومطبوعات ـ يرى أنها مهمة ـ ائتمنته الجماعة عليها . حتى خطب الإمام وكتب قيادات الجماعة . حتى الصورة الوحيدة وهو يتابع درساً للإمام البنا . أحزنه مجرد التفكير فى رد السؤال ، بعد أن تزول المحنة : أين الأوراق التى لديك ؟
      لم تمتد إلى المكتب يد التفتيش ، ولا الإغلاق . شاب شعورى بالراحة إدراك أن فيصل مصيلحى كان أداة هامشية فى نشاط الجماعة . لم تلحظها عين الدولة ، فأهملتها .

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        كاتب مسجل
        • Jun 2006
        • 1123

        #18
        رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر

        ـ 17 ـ

        واصل تقليب جواز السفر ، كأنه يتأكد من أنه حصل عليه . غمغم بكلمات غير واضحة ولا مترابطة ، وإن عكست الفرحة فى داخله ..
        قلت :
        ـ هل هذه هى المرة الأولى التى تحصل فيها على وثيقة سفر؟
        ـ عندما قدمت إلى مصر اكتفيت بتجديد الإقامة ..
        لاحظ دهشتى من أنه استخرج الجواز للمرة الأولى . ألم يغادر مصر طيلة تلك السنوات ؟
        حدثنى عن رحلته الوحيدة خارج مصر ، بعد ثلاثة أعوام من استقراره بالإسكندرية . سافر إلى الشام ليلتقى بأفراد من رحلة النفى . أعياه النبش بأصابعه فى كومة القش . تحدد الموطن فى الإسكندرية ، لا يغادرها .
        شرد بنظره إلى نقطة غير مرئية :
        ـ لم أفكر فى أنى قد أعود إلى أرمينية ..
        ثم وهو يدنى فنجان القهوة من فمه :
        ـ أريد أن أحتسى هذا الفنجان هناك ..
        قلت :
        ـ هل نسيت المذابح ؟
        ـ إذا استعدت الماضي فأنا أخلصه من كل الذكريات السيئة!
        حدثنى عن رسالة من أرمينية . جميل أن أجد ـ بعد هذا العمر ـ من يراسلنى . عد إلى الوطن لتقضى فيه ما بقى من حياة ..
        يسلمه الشرود إلى الحياة فى أرمينية ، إلى البنايات والشوارع الضيقة المغطاة بالأسقف والكاتدرائيات والكنائس وجبال القوقاز ، والبحر الأسود وبحر قزوين ونهر أراكس وبحيرة سيفان وجبل أرارات ، سقف العالم ..
        ـ هو إذن يعرف أنى فى لحظات النهاية ..
        ـ لك طول العمر . أثق أنهم يحنّون إليك مثلما تحنّ إليهم ..
        قال :
        ـ أفكر فى العودة إلى أرمينية ..
        ـ لماذا ؟
        ـ هذا أفضل ..
        ـ كنت ترفض العودة إلى الحكم الشيوعى بعد انضمام أرمينية إلى الاتحاد السوفييتى فى 1922
        ورمقته بنظرة مستفهمة :
        ـ ما أعرفه أن الأمور لم تتغير ..
        ـ ليس صحيحاً . آلاف من المهاجرين عادوا إلى أرمينية فى السنوات الأخيرة ..
        ـ لماذا ؟
        وهو يشيح بيده :
        ـ لماذا .. لماذا .. ربما لأن الأوضاع تغيرت ..
        ثم فيما يشبه الضيق :
        ـ أنا أرمنى ، ولست سوفييتياً !

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          كاتب مسجل
          • Jun 2006
          • 1123

          #19
          رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر

          ـ 18 ـ

          كنا نطل ـ من وقفتنا داخل الحجرة ـ على صدام المتظاهرين والجنود . اصطف العساكر على مفارق الطرق . حاصروا المظاهرة ، وتقدموا فى اتجاهها . انقضوا بالعصى والسيور الجلدية . اختلطت الهتافات والضربات والبروق والصواعق والبراكين والصرخات الوحشية ..
          صرخت نورا بما أخافنى . كأنها تواجه الموت ..
          لم ألحظ كيف سقط الشاب ، لكن العسكرى أهمل الأنين والحركات المتشنجة . واصل الضرب بدبشك البندقية حتى هدأت حركة الشاب تماماً ، كأنه مات . أدارت نحوى ملامح مستغيثة .. قهرها الخوف ، تصورت موت الشاب قد انتقل إليها . احتضنتنى . دست رأسها فى صدرى ، كأنها تريد أن تدخل جسمى . أحسست صدرها وهو يتنفس فى صدرى . مسدت أصابعى شعرها وعنقها وكتفيها وذراعيها . اقتربت شفتاى من شفتيها . تظاهرت بالرفض ، وإن بدا القبول فى إغماض عينيها ..
          قالت ـ فى صوت مرتعش ـ إنها أحست بتكسر عظامها ، والعسكرى ينهال على الشاب بدبشك البندقية ..
          تخليت عن قرارى فى أن أرجئ مصارحتى بمشاعرى قبل أن أتأكد من أنها تبادلنى المشاعر نفسها . حلقنا فى أفق المينا الشرقية . شيدنا القصور على السحب . سرنا فوق الماء كما المتصوفة . راقصنا عرائس البحر فى الأعماق البعيدة . انتشينا بالسحر والأسطورة . بدت الجنة متاحة فى الدنيا .
          سرقتنا اللحظة . لم ألحظ متى تراخت ذراعاها ، ولا كيف تغيرت ملامحها ، وغلب الشرود على نظرتها ، كأنها لا ترى ما تتجه إليه عيناها ..
          غلبنى شعور بالارتباك :
          ـ كنت أظن أنك لا تعنين بفكرة الخطيئة ؟
          أدركت سخف ما قلت ، فتمنيت أن أعتذر ..
          أحيا معها بمشاعر موزعة بين العاطفة والرغبة . لا أدرى متى ، ولا كيف تحل اللحظة التى تجتذبنى . أحلق معها فى سماوات لانهائية الآفاق ، تتناغم فيها أصوات الشفافية والسحر . أشعر ـ فى لحظات تفاجئنى ـ أن ما أطلبه هو جسدها ، لا شأن لى بآرائها ، ولا رسالتها الجامعية ، ولا حتى بالدكتور جارو والخواجة أندريا . الجسد هو المطلب الذى أتوق لملامسته وعناقه . أركز فى الجسد الذى تخفيه ثيابها . أتصور علاقة تبرق فيها الرعود ، وتشتعل النيران ..
          مشطت شعرها بأصابعها ، وعدلت الجونلة ، وواجهتنى بنظرة متسائلة :
          ـ هل تظننى مومساً ؟
          ـ بل أثق أنك محبة ..
          ـ لا أحب أن تنظر لى نظرة الذكر إلى الأنثى ..
          ـ لكننا كذلك بالفعل ..
          مدت يدها تدير خصلة الشعر :
          ـ نحن أصدقاء . هذا يكفى !
          أخذت حقيبتها القماشية من على الكرسى . طوحت بها فى الهواء . نقلتها من يد إلى الأخرى . ألقت بها على كتفها . همست بالسلام ، واتجهت ناحية الباب ..

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            كاتب مسجل
            • Jun 2006
            • 1123

            #20
            رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر

            ـ 19 ـ

            أسرعت فى خطواتى . قفزت درجات السلم ، لأبلغ فيصل مصيلحى بالنبأ الذى نشرته الصحف : حسن البنا قتل فى أثناء خروجه من مبنى جمعية الشبان المسلمين .
            اكتفى بالقول وهو يتطلع من الشرفة المطلة على شارع التتويج :
            ـ أعرف ..
            هل كان يتوقع ما حدث ؟
            قال :
            ـ ما يحيرنى أن الأستاذ البنا أصدر بياناً هاجم فيه قاتل النقراشى ..
            حدجنى بنظرة جانبية :
            ـ لماذا دفعوه إذن إلى إصدار البيان ماداموا قرروا قتله ..
            قلت :
            ـ قتله الإخوان عندما وضعوا حقيبة المتفجرات فى مبنى محكمة الاستئناف ..
            وهو يهز رأسه :
            ـ أضعف إبراهيم عبد الهادى الإخوان المسلمين لصالح الوفد .
            قلت :
            ـ الحمد لله أنك أفلت من الاعتقال
            ـ أنا واحد من نصف مليون عضو فى الإخوان ..
            وعلا حاجباه فى تساؤل مستغرب :
            ـ من الصعب أن يقتلوا كل هذا العدد !
            ثم بصوت خفيض :
            ـ لا تنس أنى استقلت من الإخوان منذ مقتل النقراشى !
            أذهلتنى البساطة التى تحدث بها عن استقالته ، كأنه لم يكن ذلك العضو الذى يطبع المنشورات ، ويحتفظ بها ، ويخفى ما يفعل .
            كان يتابع حملات الاعتقال ، والمصادرات . تتبدل ملامحه بتوالى متابعتنا للأخبار . يحاول كتم ما يعانيه من خوف . يجرى بلسانه على شفتيه ـ بعفوية ـ كمن يتذوق العطش . يعلو صوته ليقضى ـ هذا ما أتصوره ـ على القلق فى داخله ..

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              كاتب مسجل
              • Jun 2006
              • 1123

              #21
              رد: النص الكامل لرواية «صيد العصاري» للر

              ـ 20 ـ

              هل اعتبرت اعتزام جارو السفر نهاية لعلاقتنا ؟
              ترددت على الأماكن التى اعتدنا اللقاء فيها . مكتبة البلدية ، مكتبة الجامعة ، ميدان محطة الرمل ، شاطئ ستانلى ، المسافة من الكورنيش بين تمثال الخديو إسماعيل ولسان السلسلة ، قلعة قايتباى ، ميدان أبو العباس . حتى بائع الصحف على ناصية أجزخانة جاليتى ، سألته عنها ..
              قال فى ابتسامة تذكر :
              ـ نعم .. البنت الخوجاية ..
              وقلب شفته السفلى :
              ـ لم أرها إلا معك ..
              رنا فيصل مصيلحى ناحيتى بنظرة مشفقة :
              ـ يبدو أن علينا تبادل النصائح ..
              ثم هز سبابته فى وجهى :
              ـ لا تكثر من الحركة هذه الأيام ..
              ـ ماذا تقصد ؟
              ـ المظاهرات والمؤتمرات الشعبية . نحن فى حرب ، وعين البوليس صاحية ، ويده لا ترحم !
              ***
              كان الوقت عصراً ..
              لمحت ضلفتى الشرفة المطلة على المينا الشرقية مفتوحتين . مضيت نحو البيت بعفوية . ضغطت على الجرس .
              ـ نورا ..
              كانت تعانى ارتباكاً ، والترحيب يغيب عن نظراتها ..
              ـ ماذا حدث ؟
              أدارت وجهها تتفادى نظرتى المتسائلة :
              ـ لا شئ ..
              سبقتنى إلى مقعد الدكتور جارو . أكرهت نفسى على الابتسام ، حتى لا تفطن إلى ما أعانيه ..
              ـ تبدين متغيرة ..
              وهى تهز الهواء براحتها :
              ـ لعله الحر !
              تظل ساكتة ، ثم تقول :
              ـ قد يتأخر الدكتور عن العيادة ..
              ـ هذه فرصة لنتبادل الحديث ..
              واستطردت :
              ـ لم أرك منذ أيام ..
              بدا أنها تريد تفويت الملاحظة :
              ـ أظن أن جارو لن يأتى اليوم ..
              لاحظت نطقها اسمه دون لقب . أردفت :
              ـ طلب منى أن أتحدث إليك ..
              ـ ماذا تخفين ؟ ماذا تخفيان ؟
              ـ تزوجت الدكتور ليلة أمس ..
              ت .. ز .. و .. جـ .. ت ..
              متى ، وكيف ، نشأت العلاقة ؟
              كنت على ثقة أن نورا والعجوز من عالمين متباعدين ، يجهل أحدهما أفكار الآخر ومشاعره . لم ألحظ عاطفة ما بينها وبين العجوز : عبارة ، ضحكة ، تبدل نبرة الصوت ، لمسة الأصابع على ظهر اليد ، همسة فى الأذن ، إيماءة ، ابتسامة ذات مغزى . صمت مفاجئ مرتبك . أى تصرف يشى بعاطفة معلنة ، أو مستترة . حتى حواراتهما بالأرمنية غاب عنها انفعال العاطفة .
              قلت وأنا أحاول السيطرة على مشاعرى من تأثير المفاجأة :
              ـ لماذا لم يحدثنى الدكتور جارو بنفسه ؟ لماذا لم يبلغنى باعتزامه الرحيل ؟
              قالت :
              ـ هو يحبك كما تعلم !
              الحب دعوى كاذبة . يختفى المجرم بعد ارتكاب جريمته . أدرك العجوز ما فعل ، فلجأ إلى الاختفاء . إن لم يكن هذا هو العداء ، فماذا يكون ؟
              داخلنى إحساس أن كل شىء زائف ، وغير حقيقى . التفت البنايات بعاصفة من الغبار المصفر ، وحلقت الطيور السوداء فى أفق المينا الشرقية ، وتساقطت حجارة الكورنيش فى قلب البحر ، وواصل عفريت الليل سيره دون أن يضىء بعصاه فوانيس الطريق ، وتداخلت حلقة الذكر المترامية من على تمراز بما اختلطت كلماته ومعانيه ، وعانت صفارات البواخر فى الميناء الغربية حشرجة مقبضة ، وتحول ميدان الخمس فوانيس إلى سرادق للعزاء ، وهتفت المظاهرات للظلم ، وللشيطان ، وتمنيت لو أن الأتراك أفنوا الأرمن عن آخرهم ..
              ـ أنت ؟!
              وفى دهشة :
              ـ لكنك ..
              ـ أعترف أنى أحبك ..
              عصتنى الكلمات ، تتشكل فى فمى ، لكننى أعجز عن نطقها :
              ـ وأنت برهنت لى على حبك ..
              شعرت أن العبارة أفلتت منى دون أن أتدبر المعنى . استطردت :
              ـ ووافقت على زواجنا ..
              ـ أن أحبك ، لا يعنى أن أتزوجك ..
              وسرت ارتعاشة فى صوتها :
              ـ الحب شئ والزواج شئ آخر ..
              شردت فى معنى الكلمات ، ثم غمغمت كأنى أخاطب نفسى :
              ـ أنا لا أفهمك ..
              ـ الزواج استقرار . أريد أن أستقر فى أرمينية ..
              استطردت فى ابتسامة متكلفة :
              ـ تزوجته ليصحبنى إلى أرمينية ..
              ـ لا أفهم .. هل زواجك منه شرط للسفر ؟
              ـ جنسيتى مصرية ..
              ثم وهى تضغط على الكلمات :
              ـ هذه فرصتى الوحيدة لأرى أرمينية ..
              ـ تتخلين عن كل شىء لرؤيتها ؟
              ـ أذهب للإقامة لا للفرجة !
              ـ ألن تستكملى إعداد الماجستير ؟
              ـ ما أريده الآن أن أسافر إلى أرمينية .
              ـ سافرى للسياحة .. للفسحة .. وعودى ..
              ـ لا أهل للدكتور هناك ..
              أضافت فى نبرة واثقة :
              ـ يريدنى أن أكون أهله ..
              ـ هذه مشاعر شفقة ..
              ـ أطلت التفكير قبل أن أتخذ قرارى ..
              ـ الرجل أكبر من أبيك ..
              ـ أعرف ..
              لم يعد لدىّ ما أقوله ، فسكت . رفضت أن أجتر الكلمات التى لا تعنى شيئاً فى الأغلب ..
              حل صمت ، مفعم بالمعانى الحزينة . أحسست أنى وحيد فى صحراء مترامية الأطراف ..
              بدا لى العالم مليئاً بالأسئلة القاسية ، وبالألغاز . لماذا لم يحدثنى العجوز عن العلاقة بينه وبينها ؟ لماذا صمت عن تعلقى بها ـ لابد أنه لاحظه ـ وواصل نسج غزله حتى ألقى طراحته فى وقت لا أعرفه ، وفاز بعروس البحر ؟ هل حدثته عن مصارحتى بحبى له ؟ هل كان يعتبرنى غريماً ؟..
              شغلنى ، صرف انتباهى ، بمتاعب الشيخوخة ، البناية المهددة بالانهيار ، اختلاف الرأى بتباعد السن . لم يحاول حتى مجرد الإشارة ، فأكف عن إلحاح النظرات ، أو أستكين إلى تلاشى التوقع ..
              خمنت من نظرته المتأملة ، الصامتة ، فهمه وموافقته . فارق السن بينه وبينها ، بينه وبينى ، لم يطرح معنى مغايراً . علاقة الأب بابنته هى التى تصورتها ، بين رجل متقدم فى السن وفتاة تصغره بعشرات الأعوام ..
              انطلق الخيال . توقعت أن يريحنى العجوز من عناء المصارحة ، ومن العقبات التى ربما تفرضها أسئلة غير متوقعة من أسرة الخواجة أندريا ؟
              قلت :
              ـ هل يعرف الخواجة أندريا ؟
              ـ هذا شأنى ..
              فى دهشة :
              ـ تتزوجين دون أن تستشيرى أسرتك ؟ دون أن تخبريها ؟
              ـ أنا لست فتاة من بحرى ..
              ضايقتنى العبارة ، وإن جاوزتها بالقول :
              ـ أرجو أن تعيدى مناقشة قرارك ..
              ـ ما قررته نفذته بالفعل . تزوجت الدكتور جارو ..
              ـ سأتغاضى عن الإهانة لأنى أريد أن نفترق صديقين !
              تباعدنا بالصمت ، وبالنظرات المحدقة فى الأرض ..
              حاصرتنى الأسئلة : لماذا ؟ وكيف ؟ وهل تسافر مع العجوز بالفعل ، فلا تعود ؟..
              بدت كل الكلمات فاقدة المعنى ، وسخيفة ، فلا يمكن النطق بها . أضفت صمتها الواجم إلى الجدار الزجاجى بيننا ..
              داخلنى شعور بأنى سأحرم من رؤيتها إلى الأبد . لا أتصور أنى أستطيع فراقها . تصحبنى إلى باب الشقة . تودعنى ، ثم تغلق الباب . أظل فى ذاكرتها ـ ربما ـ لأعوام ، ثم تذوى الملامح ، تشحب ، تختفى . ما كان كأنه لم يكن . لقاءات العيادة ، ذكريات الدكتور جارو ، الجلوس على شاطئ البحر ، رفض فيصل مصيلحى ، ملاحظات الخواجة أندريا ، المناقشات ، المظاهرات ، الأسرار الصغيرة ، التردد على أمكنة المدينة : الشوارع الخالية ، والزحام ، واللافتات ، والأشجار ، والكورنيش ، والحدائق ، ورائحة البحر ، وزرقة السماء ، ورذاذ الأمواج ، وركوب الترام ، وباعة النواصى ، وظلال الشمس على الجدران ، وتلاقى الأذان فى المساجد القريبة .
              هل تواتينى الجرأة لزيارة أسرتها ؟..
              هبطت السلالم إلى الباب الخارجى ..
              طالعنى شارع إسماعيل صبرى بحركته الهادئة . الشرفات الحجرية ذات المقرنصات والأشكال تمتد بطول الواجهة ، ضوء العصر يعلو البنايات ، فغطت التندات الشرفات المفتوحة . امتزج نداء الجرسون فى المقهى على ناصية الشارع بأذان العصر من مئذنة جامع على تمراز المجاور ..
              عبرت تقاطع الشارع مع شارع فرنسا وشارع رأس التين . على ناصية شارع التتويج عربة حنطور ، راح السائق فى إغفاءة ، فوق كرسيه ، ودس الحصان رأسه فى مخلاة التبن . فى الناحية المقابلة عربة تين شوكى ، ينزع البائع بالسكين أغلفته الشوكية عن الثمار ، وعفريت الليل يضىء لمبات غاز الاستصباح
              مضيت فى اتجاه البحر ..
              التفت ـ بتلقائية ـ ناحية شرفة الطابق الأول . كانت نورا تغلق ضلفتى الشرفة . تنبهت ـ بسخونة الشمس ـ إلى أنى أطلت الوقفة أمام قهوة فاروق . يتعالى من داخلها نداءات الجرسون ، وأصوات لاعبى الطاولة والكوتشينة ، وطرقعة القشاط على الطاولة ، وصوت عبد الوهاب يغنى للجندول . وثمة ماسح أحذية يرنو ـ بنظرة متوسلة ـ إلى أحذية الجالسين ، وهو يضرب على الصندوق بظهر الفرشاة ، وقط ـ أسفل الرصيف ـ قوّس ظهره فى مواجهة نباح كلب ..
              البحر حصيرة . ألق الشمس يضوى على مياهه ، وثلاثة قوارب متناثرة ، ألقى أصحابها طراحاتهم ، وانتظروا الصيد . ثمة فى الرمال ، وبين الأحجار الصغيرة والحصى ، جحور للكابوريا ، وطحالب ، وبقايا أعشاب ، وقناديل ميتة . سحابات من الطيور الداكنة اللون ، تحلق فى السماء . تقترب ، تتباعد ، تعلو فى اتجاه الأفق ، ثم تعود ، ثم تنطلق . تشحب فى انطلاقها ، حتى تغيب تماماً ..
              محمد جبريل ـ مصر الجديدة ـ إبريل 1996

              (انتهت الرواية)

              تعليق

              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
              حفظ-تلقائي
              إدراج: مصغرة صغير متوسط كبير الحجم الكامل إزالة  
              أو نوع الملف مسموح به: jpg, jpeg, png, gif, webp

              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

              صورة التسجيل تحديث الصورة
              يعمل...