الباحث عماد الأرمشي
جامع يلبغا هو من الجوامع المندثرة في مدينة دمشق منذ حُقبة السبعينات من القرن العشرين، وكان عامراً بالعلماء والمصلين في حينها. وأحببت أن أخصه بالذكر هنا لكونه ثاني أكبر المساجد المملوكية التي بُنيت في مدينة الياسمين دمشق .
وجامع يلبغا هو امتداداً للإبداع المعماري الذي بلغ أوجه في العصر المملوكي الممتد قرابة ثلاثة قرون. وكان الجامع آبدة معمارية بديعة البناء، من أجمل أوابد مدينة دمشق الذي أضحى أثراً بعد عين .. خارج حدود سور مدينة دمشق القديمة في منطقة تعرف قديماً باسم "تحت القلعة" وتحديداً في ساحة المرجة حالياً.
أنشئ الجامع كما ورد على لسان فضيلة الشيخ علي الطنطاوي طيب الله ثراه: على تلّ كانت يومها في طرف البلد يشنق عليه المجرمون
وسمّي المسجد بجامع يَلْبُغَا نسبة إلى والي الشام الأمير المملوكي (سيف الدين يَلْبُغَا) الذي أنشأه عام 747 للهجرة - 1347 للميلاد على أطراف المدينة، ويُعدّ الجامع من أشهر جوامع دمشق، وهو أحد الجوامع الكبرى التي بُنيت على نسق الجامع الأموي خارج سور المدينة كجامع الحنابلة وجامع التوبة وجامع تنكز.
فمن هو يَلْبُغَا:
قال الذهبي في العبر: أن الأمير (سيف الدين يَلْبُغَا اليحياوي الناصري) عُين نائباً عن الشام في شهر صفر سنة 745 للهجرة.
ولما عاد الأمير يلبغا إلى دمشق بغير قتال، عَمّر " قبة " عند موضع خيمته عند مسجد القدم سماها (قبة مصر أو النصر) التي كانت تعرف (بقبة يلبغا).
قال الأسدى في ذيله في سنة 839 في المحرم في يوم السبت الرابع والعشرين منه رأينا القبة التي كانت مشهورة بقبة يلبغا، قد أزيلت، وبني موضعها سقف على المسجد .. فعل ذلك الأمير محمد بن منجك، وكان سبب ذلك أن الناس كانوا يظنوها قبة يلبغا وأن الزاوية له، وإنما ذلك للأمير محمد بن منجك، وأما قبة يلبغا فإنها غربيها، ولعل صوابه شرقيها .

وهذه الصورة النادرة لصحن جامع يلبغا ملتقطة من الشرق أي من جهة باب سوق علي باشا وساحة سوق الخيل الى الغرب أي بأتجاه المئذنة وحي البحصة، وتعتبر الصورة من أقدم الصور الفوتوغرافية الملتقطة لمدينة دمشق (لصحن جامع يلبغا ومئذنته الشهيرة) في عام1843 للمصور الفرنسي جوزيف فيليب غيرو.
وبما أن فترة ولاية الأمير سيف الدين يلبغا كانت شبه مستقلة عن القاهرة، لذلك فإن مسجده كان ضخماً جداً ليعبّر عن الطريقة التي يفكر بها هذا الأمير في منافسة حكم السلطان الملك المظفر في القاهرة، وقد تعطل العمل في بناء الجامع بعد مقتله، ثم سار الأمر ببطءٍ شديد واكتمل البناء بعد عشر سنوات ... كما هو حاله الآن في القرن الحادي والعشرين ؟؟ !!
وبرز أخيراً كمسجدٍ جامع، وحضر افتتاحه عدداً كبير من الأمراء الذين شاركوا أصلاً في قتل الأمير سيف الدين يلبغا اليحاوي .
فكان في غاية الحسن، لما حفل به من المحاريب والنوافذ المقرنصة والزخارف المحفورة، والشرفات والنوافذ الزجاجية الملونة، بأسلوب المعشّق، فضلاً عن المئذنة والأبواب حتى بدا وكأنه نسخة مصغّرة عن الجامع الأموي بدمشق.

وكان للمسجد الجامع ثلاث مداخل جميلة جداً، مدخل شمالي، وآخر شرقي، وثالث غربي ضمن سور حرم الجامع حيث المدخل المملوكي للمسجد الذي ظل محافظاً على شكله الأساسي متماسكا وقوياً طوال قرون خلت.
وأخبرنا الدكتور محمد أسعد طلس هنا بلغة عصره سنة 1941 للميلاد واصفاً بدقة أكثر تلك الأبواب فقال: للجامع ثلاثة أبواب :
باب شرفي يطل على جوزة الحدباء أمام السوق العتيق، ويسمى سابقاً (باب الحلق) كما ورد عند أبي البقاء بن محمد البدري.
وباب غربي يطل على جادة البحصة، وكان يٌنحدر منه في درج الى أول الوادي ويمسى باب المنزه.
وباب شمالي مغلق تحت المئذنة. وكان يخرج منه الى الميضأ ويسمى سابقاً (باب الفرج).
وللأبواب الثلاثة زخارف ومقرنصات حسنة، ولكن الباب الرئيسي هو الشرقي، والى جانب الباب الأيمن شباكان يطلان على الصحن والى الجانب الأيسر اثنان يطلان على القبلية، وقد جعل أحدهما بويباً يدخل من الى القبلية .
وعموماً الصحن يشكل مساحة تشغل الجانب الشمالي من المساحة العامة، وبهذا الصحن أروقة تحيط بالصحن من جهاته الشرقية والغربية والشمالية، وهي شبيهة بأروقة الجامع الأموي بدمشق، من حيث أنها مبنيّة على قناطر محمولة على أعمدة وعضائد.
في أطراف الصحن الثلاثة غرف أخذت من الجامع وجعلت مدرسة ابتدائية، وفصل بين الجامع والمدرسة بحائط شوه صحن الجامع، وعزل المنارة عنه، وهي منارة مربعة من حجر لطيفة الصنعة .

محراب الجامع
ونستطيع القول أن قبلية الجامع (حرم بيت الصلاة) هي نسخة مصغرة عن قبلية جامع بني أمية، ويوجد سنم جملوني صغير فوق المحراب، شبيه وبشكل مصغر (غارب الأموي)، والمحراب من الرخام المزخرف الحسن الصنع، ويشبه إلى حد التطابق محراب الجامع الأموي الكبير بدمشق، وكان بجانبه منبر خشبي بديع النقش، وإطار من الزخارف البديعة يحيط بجدار القبلية، وشبابيك زجاجية ملونة، وكتابات كوفية حسنة .

حرم بيت الصلاة (القبلية) لها جبهة حجرية شمالية عريضة فيها اثنا عشر باباً تطل على الصحن، ومن فوق تلك الأبواب أربع عشرة كوة.
وكان على جدار القبلية شريط من آيات الكتاب العزيز (من سورة التوبة)
في أركان الجامع الأربعة يوجد محاريب على شكل قبة ويتدلى منها مقرنصات تحتية محفورة بنقوش جميلة جداً، وهذه المحاريب كانت خاصة فقط بجامع يلبغا، وبقي فيها الجامع متفرداً عن سائر مساجد دمشق الشام. إذ لا يوجد مساجد وجوامع في دمشق، تحوي مثل هذه المحاريب الأربعة في أركانه كما هو واضح بالصورة التي تظهر حرم بيت الصلاة والمحراب التزيني عند التفاء الجدار الشرقي بالجدار الجنوبي.


أما المئذنة فقد بنيت على الجدار الشمالي للمسجد مربعة الشكل متقابلة مع مدخل بيت الصلاة مباشرة وقد جددت أكثر من مرة .
وهي مئذنة حجرية ضخمة خالية من المقرنصات وبقية العناصر التزيينية التي عهدناها في المآذن المملوكية، وهي ذات جذع مربع، متقشف في عمارته ضخم في محيطه، وشاهقة الارتفاع في جذعها السفلي تعلوها شرفة خشبية وحيدة مثمنة الأضلاع خالفت شكل الجذع تغطيها مظلة خشبية أخذت شكل الشرفة، ومتوجة بذروة مخروطية الشكل وبها ورمح وثلاث تفاحات وهلال مغلق إلى الأعلى.

والصورة ملتقطة من الجنوب (من مبنى العابد) باتجاه الشمال (أي باتجاه جامع يلبغا) حيث نشاهد في مقدمة الصورة العربات التي تجرها الخيول تلتف حول النصب التذكاري للاتصالات السلكية بين مدينة دمشق وبين المدينة المنورة. والقائم في منتصف الساحة ( عمود المرجة).
وتبرز خلفهم مئذنة جامع يلبغا الشهير مهيمنة على حرم بيت الصلاة الظاهر بين (سوق ومقهى علي باشا) وبين (مبنى البريد والبرق) ويظهر بوضوه جملون صغير، هو جملون حرم بيت الصلاة بالجامع....

المجمع الذي ليس له اسم معلن حتى الآن، كان عبر التاريخ: منصة لشنق الخارجين عن القانون في العهد المملوكي ثم مقرَّاً لجامع يلبغا، ومركزاً لشيخ الإسلام ابن تيمية، وبعدها مقراً لتجمّع المتطوعين لقتال التتار ليصبح معملاً للبسكويت في عهد إبراهيم باشا، ثم المدرسة السلطانية الثانية في عهد الشريف فيصل، إلا أنه هُدِّم منتصف السبعينيات، ليطلق مكانه مشروع (مجمع ديني وجامع يلبغا)، ثم مجمع (تجاري) وجامع يلبغا، ثم مجمع وجامع الشهيد باسل الأسد، ثم اختفت اللوحة التي كانت تشير إلى اسمه، لتنتصب لوحات إعلانية كبيرة تابعة لسيرياتيل ( شركة هواتف محمولة).
نسيم الشام