الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

أدب الرحـــــــلة ...

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • السندباد
    كاتب مسجل
    • Mar 2006
    • 48
    • ---
      سافرْ تَجِدْ عِوَضاً عَمَّنْ تُفَارِقُهُ
      وَانْصَبْ، فإنَّ لَذِيذَ العيشِ في النَّصَــــبِ
      إنِّي رأيتُ وُقُوفَ الماءِ يُفْسِدُهُ
      إنْ سَالَ طَابَ، وإنْ لم يَجْرِ لم يَطِــــــــبِ
      والشمسُ لَوْ وَقَفَتْ في الْفُلْكِ دائمةً
      لَمَلَّهَا الناسُ مِنْ عَجَمٍ ومِن عُرْبِ

    #91
    رد : أدب الرحـــــــلة ...

    الرحلة في أدب يحيى المعلمى
    أحمد مصطفى حافظ
    أدب الرحلة فن معروف في الآداب العالمية، له سماته وخصائصه المتميزة، وقد حفل التاريخ بأسماء الكثير من أعلام هذا الأدب ورواده، الذين قاموا برحلات متعددة، خارج ديارهم أو داخلها، وطافوا بأنحاء شتى من العالم، من أمثال الرحاليْن العربييْن: ابن بطوطة وابن جبير الأندلسي، ومن الغرب: كريستوفر كولمبس وماركو بولو، وغيرهم.وللعلامة الإدريسي كتاب مشهور، يحمل عنوان: (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)، وهو من أهم وأمتع كتب الرحلات.
    وفي عصرنا الحديث، نجد الأديب السعودي الكبير عبد السلام هاشم حافظ، يقوم بعمل استفتاء في نهاية كتابه الذي يحمل عنوان (العذراء السجينة)(1) عن الوسائل التي يراها صفوة من رجال الفكر والأدب في المملكة، للنهوض بأدب بلاده، وتعريفه للعالم.

    ويستهل الأستاذ الكبير عبد الله بلخير الإجابة في هذا الاستفتاء، بقوله: "... وهناك الرحلات والاحتكاك بالحضارات الشرقية والغربية، سواء منها الأدبية أو الفنية أو العلمية".

    ولسنا في صدد الحديث بإفاضة عن أدب الرحلة اليوم، ولذا نقتصر على ذكر إسهام بعض كبار أدبائنا المعاصرين، بمؤلفات ضافية لهم في هذا الموضوع.. فللدكتور محمد حسين هيكل كتاباه: (ولدي) و(في منزل الوحي) وللمازني (رحلة الحجاز) وللدكتور زكي مبارك: (ذكريات بغداد) و(ذكريات باريس) وللدكتور حسين فوزي: (السندباد البحري) وللدكتور عزام: (رحلات عبد الوهاب عزام).

    هذا، وينفرد الأستاذ العقاد، برأي مخالف في (أدب الرحلة)، حيث يقول: ''أعتقد أن ملكة الرحلة غالبة على الرحّالين، وغير الرحالين، ولكنها تظهر في صور كثيرة، غير صورة الرحلة الخارجية، ومنها الرحلة إلى داخل النفس، أو في عالم الخيال.. والظاهر ــ لا.. بل المحقق ـ أنني أنا أحد الرحالين بغير انتقال.. ومع هذا، يحلو لي أن أقول: إنني طفت العالم من مكاني الذي لا أبرحه، لأنني رأيت من هذا المكان، مالا يراه الرحالة المتنقلون "

    ولعل العقاد، في قوله هذا، يحاول أن يبرز إيثاره للعزلة والانفراد، مع أقلامه وأوراقه.. على القيام برحلات إلى العالم الخارجي، تكبّده مشقات ونفقات، هو في غنى عنها.. إلا أن من قرأ فحسب، ليس كمن قرأ ورأى وسمع، وانفعل.. ومزج كل شيء حوله، في شتى الأصقاع، بمشاعره، وتأملاته، وخواطره.. ومن هذا المنطلق، نحاول أن نلج إلى عالم الفريق يحيى بن عبدالله المعلمي ـ رحمه الله ـ، كتحية ووفاء له، وهو في أكرم جوار. وقد اخترنا كتابه: «رحلة علمية: ورحلات أخرى"(2)، الذي كان يعتز به كثيراً.

    وبادىء ذي بدء، يلفتنا حرصه، في الصفحة الأولى من كتابه هذا، على إثبات أبيات الشاعر المشهورة، التي يقول فيها:

    تغرب عن الأوطان في طلب العلا

    وسافر، ففي الأسفار خمس فوائد:

    تفرّج همّ واكتساب معيشة

    وعلم وآداب، وصحبة ماجد

    فإن قيل في الأسفار همّ وكربة

    وتشتيت شمل وارتكاب شدائد

    فموت الفتى خير له من حياته

    بدار هوان، بين واش وحاسد

    ثم يقول في مقدمة كتابه، ما يدلنا على مناسبة تأليفه له: " هذه مجموعة من المقالات، كنت قد نشرتها في جريدة (البلاد) السعودية(3)، وكانت تتحدث عن رحلة علمية، قمت بها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، عندما ابتعثت للتخصص في إدارة الأمن العام، وحصلت على شهادة الماجستير" وواكب ذلك، لحسن حظ المعلمي، تفضل خادم الحرمين الشريفين (الملك فهد بن عبد العزيز) ـ وكان يعمل وزيراً للداخلية في ذلك الحين ـ بالموافقة على الابتعاث إلى أمريكا، للتخصص في علوم الشرطة، لنهاية الشوط.. وآثر المعلمي أن يدخل الولايات المتحدة من غربها، فبدأ رحلته بالاتجاه إلى بيروت، ومنها إلى إيران، ثم باكستان، فالهند.

    وتم له مشاهدة إحدى عجائب العالم السبع في الهند: (تاج محل)، الذي أنشأه الملك شاه جيهان، ليكون ضريحاً لزوجته، وقد وصفه وصفاً تفصيلياً لما شاهده، باعتبار أنه إعجاز معماري، يقوم شاهداً على عظمة الحضارة الإسلامية، وأدهشه في (تاج محل) جمال النقوش، وروعة الخط العربي ويستمر المعلمي في تقديم تصوير بديع، بلغة سلسة فكهة، عن: (الحلاقة في بانكوك) وعن مشاهداته في (تايبيه) (التي بدأوا رحلتهم منها في يوم السبت) وأخبرهم الطيّار أنهم سيصلون إلى (هونولولو) في يوم الجمعة " وتفسير ذلك، أن قائد الطائرة أخبرهم أنه قد عبر بهم خط التاريخ الدولي، وأنهم عادوا مرة أخرى إلى يوم الجمعة، لأن الشمس لم تغب عن أمريكا ومن ثم اخترقوا الزمن، عائدين إلى الخلف، وأنهم قد كسبوا 24 ساعة من حياتهم ،وحينما وصلوا إلى (لوس أنجلوس) ـ وهي من أكبر الموانىء في المحيط الهادىء، بل وفي العالم بأسره ـ بدأت رحلته إلى أمريكا.
    ثم يصحبنا إلى «ديزني لاند» ومدينة السينما العالمية (هوليود) ولولا خشية الإطالة، لأثبتنا الوصف التفصيلي الممتع، الذي قدّمه لمشاهداته، وخاصة في الفصل الذي حرّره عن (سان فرانسيسكو) إلى أن نصل معه، بخيالنا وتصورنا، إلى محطة الوصول الأولى، لتحصيله العلمي في (شيكاغو).. وفي حديثه عن الغرفة التي استأجرها بها، ويغلب عليه المرح وخفة الظل، بما يذكّرنا بمصطفى أمين، في كتابه الرائع (أمريكا الضاحكة).. ثم يصطحبنا معه، إلى جولة على شاطىء بحيرة (متشجان)، حيث نشاهد معه، بعين الخيال، أسراباً من الحسان حولها، يستمتعن بدفء الشمس، على رمال الشاطىء، أو يتلاعبن على أمواج البحر، على حد تعبير المعلمي.
    وأخيراً، انتظم في سلك الطلاب، وحقق نجاحاً باهراً، بعد إتقان اللغة الإنجليزية، وحصل على (الماجستير) التي أتى إلى الولايات المتحدة الأمريكية، من أجلها.. ولهذا حديث شيّق يتعين إثباته، لفائدة من يمرون بمثل تجربته هذه، إذ يقول: «ومع أني أدعو إلى أن يتذرع الطالب بالهدوء، عند أداء الامتحان، وأن ينبذ شعور القلق، فإني لا أكتم القراء سراً، إذ أخبرهم بأنني قد شعرت بالقلق، وأنا أمثل بين يدي ثلاثة من كبار الخبراء في علوم الشرطة في العالم، لكي يناقشوا رسالتي للماجستير، التي كانت عن " تطور أجهزة الأمن»، ولكنني ـ بعد دقائق، من بدء المناقشة ـ هدأ جأشي، وسكنت نفسي، وشعرت بالطمأنينة والسكينة، لأنني كنت، ولله الحمد، متمكناً من الموضوع الذي تحدثت عنه في الرسالة، ملماً بكل وقائعه وتفاصيله، حاضر الذهن للإجابة عن أي سؤال، وللاشتراك في أي حوار حول الموضوع" . وهكذا حصل على درجة الماجستير بامتياز، وبدأ يفكر في الحصول، بعد ذلك، على درجة الدكتوراه، وتقدم إلى الجامعة في واشنطن، بطلب قبوله للدراسة في منهج (الدكتوراه)، في مادة (الإدارة الحكومية أو العامة) وكم كانت دهشته وفرحته، عندما تلقى من الجامعة الأمريكية خطاباً بقبول طلبه.. وقد زكاه أساتذته، وأوصوا بقبوله، وأشادوا به.. إلا أن (المعلمي) تردد في الأمر: هل يواصل تعليمه؟ أم يكتفي بما حصّل من علم.. ويستجيب لدواعي الشوق والحنين إلى الوطن والأهل والأصدقاء؟ وعوّل على التريث، حتى يصل إلى القرار الحاسم في هذا الشأن، مؤثراً أن يستمتع بإجازة، لمدة ثلاثة أشهر، يجوب خلالها الولايات المتحدة الأمريكية، طولاً وعرضاً.. فإذا جاء موعد الدراسة للدكتوراه، يحزم أمره، بالالتحاق بالجامعة، أو العودة إلى أرض الوطن.
    ثم آثر اختصار المدة (الثلاثة شهور) والاكتفاء بالتجول في مدن أوروبا، وركب أول طائرة متجهة إلى (لندن)، وما أن وصل إلى مطار (هيثرو) حتى قال لنفسه: لماذا أبقى في لندن، وقد زرتها من قبل، وعشت فيها فترة من الزمن.. " ومن ثم ركب تواً أول طائرة متجهة إلى ألمانيا، وما أن وصلت الطائرة إلى (فرانكفورت)، حتى قال لنفسه: إن (جنيف) أروع من (فرانكفورت) و(سويسرا) أجمل من (ألمانيا).. فلتكن إجازته في (جنيف)، التي قال فيها الشاعر الدكتور مختار الوكيل:
    الله أكبر يا جنيف
    فوق الجمال دم خفيف
    وما أن استقل الطائرة، التي أوصلته إلى (جنيف)، حتى عاد يقول لنفسه: «ياشيخ فلتكن الرحلة القادمة الآن، إلى (جدة) حتى أشتري منها ما كنت أعتزم شراءه من أسواق أوروبا من هدايا.. ومن ثم، استقل أول طائرة متجهة إلى جدة، وشعر براحة نفسية غامرة، كما أخبرني فيما بعد، بعد أن وصل إلى أرض الوطن في جدة، وتساءل: هل لي أن أبقى في (جدة) وليس بيني وبين (الرياض) ـ التي كان يقيم فيها إقامة دائمة ـ إلا ساعة واحدة.. أرى بعدها الأهل والأصدقاء، فحزم أمره، وشد رِحْله إلى الرياض، وهو يردد قول الشاعر:
    فألقت عصاها، واستقر بها النوى
    كما قرّ عيناً بالإياب المسافر
    ومن ثم لم تعد به رغبة في السفر مرة أخرى، ولا في مواصلة الدراسة، بعد أن شدته أرض الوطن، ولقيا الأحباب، والاندماج في غمار العمل.
    الهوامش
    أحد فصول كتابي: «الفريق يحيى بن عبدالله المعلمي: رحلة حياة وإبداع» المعد تحت الطبع.
    1ــ طبع بالقاهرة سنة 1957م.
    2
    ــ طبعة دار المعلمي للنشر بالرياض، سنة 1412هـ الموافق 1992م.
    3
    ــ ونشر بعضها أيضاً بمجلة (أهلاً وسهلاً) التي تصدرها إدارة العلاقات العامة بالخطوط الجوية السعودية.
    السندباد


    تعليق

    • أبو شامة المغربي
      السندباد
      • Feb 2006
      • 16639


      #92
      رد : أدب الرحـــــــلة ...

      مائة رحلة مغربية إلى مكة المكرمة
      أحمد محمّد محمود*
      ولأن العام 1426 هجرية 2005م هو عام مكة المكرمة ـ عاصمة الثقافة الإسلامية ـ فقد أصدرت مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في لندن التي أنشأها ويرأس مجلس إدارتها الشيخ أحمد زكي يماني وزير البترول الأسبق، في مجـــلدين (100 رحلة مغربية ورحلة إلى مكة المكرمة) من تأليف الدكتور عبد الهادي التازي، ولأنه يصعب استعراض هذا الكم الهائل من الرحلات في دفتي المجلدين، فقد يكون أنسب أن نتجول في المقدمات التي صدّر وختم بها المؤلف، لبعض رحلات المغاربة إلى عاصمة الإسلام، فهي تتنقل بك بين جد الرحالة وهزلهم، ويسرهم وعسرهم، وتناولهم لما رأوه وعايشوه من أمور الدنيا والدين، في شعر ونثر.
      ولا بد من الإشارة في البدء إلى الأهمية التي أدركها الباحثون في الثقافة الإسلامية لما تقدمه كتب الرحلات من معين لا ينضب من المعلومات عن بلدان العالم الإسلامي خاصة، وبالأخص عن مكة المكرمة، ومن الوفاء لرائد الدراسات الاستشراقية لكتب الرحلات (أغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي) أن نقدم الاستشهاد بما قاله في مقدمة كتابه تاريخ الأدب الجغرافي العربي، حينما أشار إلى كتب الرحلات والجغرافيا على أنها "اتخذت طابعاً جم الحيوية والنشاط منذ القرون الأولى للخلافة، وغدت المصدر الموثوق به في دراسـة ماضي العـــالم الإســــلامي، إذ تتوافر فيه مادة لا ينضـــب معينــــها، لا للمؤرخ ولا للجغرافي فحسب، بل أيضًا لعلماء الاجتماع والاقتصاد، ومؤرخي الأدب والعلم والدين واللغويين وعلماء الطبيعة "ويستشهد (كراتشكوفسكي) بالمؤرخ ـ المقَّري ـ صاحب نفح الطيب الذي أورد في مؤلف وضعه في القرن السادس عشر أسماء 280 شخصًا ممن رحلوا إلى مكة المكرمة في طلب العلم وحده، وليس بغرض التجارة أو الحج.
      وهذا ما دعا ( كراتشكوفسكي) ومن بعده (حمد الجاسر) إلى القول بأن الرحالة المغاربة بذوا زملاءهم من عرب وعجم كماً وكيفاً في أدب الرحلات إلى الحرمين.
      ولا عجب في ذلك، فإن من أطرف ما استأثرت به مرويات التاريخ المغربي ما تضافرت الروايات على نقله من توجه وفادة مغربية منــــذ الأيام الأولى لظهور نبي الإسلام إلى مكة المكرمة للاجتماع به صلى الله عليه وسلم والاستماع إليه قبل أن يهاجر إلى المدينة المنورة، ويتعـلق الأمر بجمـــاعة تتألف من سبعة رجال من قبيلة رجراج، أشراف قبائل مصمودة، كان شاكر بن يعلى بن واصل على رأسها، وعن طريق هذه الوفادة سمعت بلاد المغرب بالإسلام أول الأمر على ما ذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد المرغيتي السوسي المتوفى عام 1089 هجـرية (1678م).
      الحج رسالة
      ويذهب (الدكتور عبد الهادي التازي) مؤلف ـ رحلة الرحلات ـ الذي نحن بصدده إلى أن الحج "كان أكبر وأعظم مؤسسة قدّمها الإسلام للمسلمين أينما كانوا وحيثما كانوا، بما تشتمل عليه من تنوع زادٍ، كان الحج أبرز رسالة موجهة إلينا لمعرفة الآخر، ولاكتشاف الآخرين لحوار الحضارات" ويضيف المؤلف إلى ذلك ما تضمنته كتب رحلات المغاربة إلى الحج من ثروة فقهية نادرة المثال، ومن هنا وجدنا بعض الرحلات تزخر بالفتاوى حول ما يمكن أن يحصل في أثناء الحج، وزاد من قيمة الفتاوى أنها لا تنتمي إلى رأي معين ولكنها تعتمد على عدة آرء، وكل رأي له مدركه ومستنده في القضية: ومن هنا كانت الرحلات الحجازية موسوعة فقهية جديرة بالاطلاع.
      ولأن الفتاوى اجتهادات بحسب معارف المجتهد وسعة إحاطته بالنصوص التي يقيس عليها، فقد شهدت فتاوى الحج كما وردت في ـ رحلة الرحلات ـ ما أثار الجانب المغربي بصفة خاصة دون الجانب المشرقي من الحجاج، فلم ير المغاربة السكوت عليه مما رآه غيرهم أمرًا غير ذي بال، ومـــن ذلك ما يتعلق ـ بالتبغ أو الدخــــان، فكل الرحالة المغاربة كــانوا لا يتصورون أن يقوم زميلهم بإشعال سيجارة، وعدّوا فعله حدثاً غريباً يستحق أن يروى للناس في المغرب على أنه منكر من المنكرات، وهذا الرحالة ـ ابن الرواندي ـ ثار على الذين يدخنون، فيما علّق على ذلك شعرًا السنوسي التنوسي:
      إن أهل الشرق طراً ولعوا
      بدخــــان ذي البخــار النتن
      واكتفوا من نقطة زيدت على
      نتن لســــــــتره بالتـــــــــتن
      وأوجدت كتابات الرحالة المغاربة في رأيه فكرًا خلاقاً َكوّن "ثقافة الحج التي مزجت الجانب الفقهي بالجوانب الأخرى المتعلقة بالأسفار وآدابها، وقضايا الإيجار، والعلاقات بين الرجل والمرأة، وضبط تلك العلاقات في أثناء الحج، والتدريب على تحمل المشاق، ومواجهة المصاعب وتخليق الممارسات.
      ومما أشار إليه القرآن الكريم في أداء المسلمين لفريضة الحج ليشهدوا منافع لهم، فقد أشار المؤلف في قراءاته لرحلات المغاربة إلى مكة المكرمة إلى ما قرأه فيها عن "الآصرة التي تربط العالِم المغربي من فاس وسوس بالعالِم من بخارى أو خراسان ، كان المغاربة يعودون بحمولة مهمة من الزاد العلمي والمعرفي، كانت مكة المكرمة بالنسبة لهم المرجعيّة التي يشعرون إزاءها بوجدانهم وآمالهم، كما يعودون وهم يحملون معهم ذكريات وإفادات ينقلونها إلى المجتمع الذي ينتسبون إليه".
      أحاديث الرحال
      ولا بد أن القارئ الكريم يتخيل وهو يخوض في غمار - رحلة الرحلات - التي تستعرض ما قاله (101) رحال في أسفارهم إلى مكة المكرمة تنوعت كتاباتهم لتباين ثقافة كاتبيها وأغراضهم كل يتحدث بما كان يعتقد أنه مقصده، وبما كان يهتم به هو في خاصة نفسه: هذا يهتم بمن يلقاه من الرجال العلماء، وذاك مهتم بالمنشآت المعمارية، وهذا مهتم بالطبيعة وألوانها، وآخرون مهتمون بالمخالفات والمنكرات التي شاهدوها في رحلاتهم، وهؤلاء بأحوال الحكم في البلاد، وهؤلاء بأحوال الأوبئة والمناخ والجو، حتى قرأت عن بعضهم رصد خسوف القمر على سماء مكة المكرمة مما لم أقرأه في كتاب يتعلق بتاريخها، وقد سجل الرحالة المغاربة بعين لاقطة دقيقة أحوال مكة المكرمة وموانئها وما عليه أوضاع سكانها من مختلف النواحي، فهذا (ابن جبير) يفاجئه ما رآه في مكة المكرمة مما لم يره في الأندلس من الأرزاق والطيبات: (كنا نظن أن الأندلس اختصت في ذلك بحظ المزية على سائر حظوظ البلاد، حتى حللنا بهذه البلاد المباركة، فألفيناها تغص بالنعم والفواكه) وهذا الرحالة (ابن بطوطة)، يلاحظ أن الناس في مكة مهتمون بهندامهم ونظافتهم.

      ولم يفت بعض الرحالة تسجيل ما رأوا عليه بعض مدن الحجاز من رفاهية عيش، ومن ذلك ما كتبوه عن (ينبع) التي قال عن أسواقها أحد الحجاج المغاربة إنها تحتوي حتى على "لبن النّمل".
      على أن كم المعلومات عن مكة المكرمة في كتب الرحالة المغاربة، وهو كم هائل يغطي جوانب هائلة من المعارف والأحداث والأشخاص ، دفع المؤلف إلى أن يقرر "أن تاريخ مكة المكرمة موزع في أقاليم عديدة أخرى، ومن أبرزها وأهمها بلاد المغرب الكبير، بما فيها: الأندلس وطرابلس وتونس والجزائر وموريتانيا وغرب أفريقيا على العموم، ونردد هنا أنه من العام الذي شُرع فيه الحج أصبحنا مدعوين للبحث عن تاريخ الجزيرة العربية في جميع بلاد الدنيا، وحيث يوجد الإسلام، أي إن الجزيرة العربية لم تبق حدودها على ما كانت قبل السنة الثامنة من الهجرة ـ عندما فرض الحج ـ ولكنها حدود اتسعت وترامت وأمست، أو بعض أجزائها على الأقل، محرمة على من يريد اقتحامها ما لم تتوافر فيه شروط الإقامة التي كان من أبرزها اعتناق الإسلام".
      وللمرأة حضور في رحلات المغاربة إلى مكة المكرمة التي "سجلت وبشهادة مكتوبة حضور سيدات فضليات وأميرات عالمات جليلات حظِين بشهادة قاضي مكة المكرمة، وطوافهن وسعيهن ووقوفهن بعرفة وبسط ذات اليد للفقير المحتاج، واقتنائهن العقار، وتحبيسه على أهل الخير والصلاح من المنقطعين المتبتلين".
      وقد سجل المؤلف معلومات دينية واجتماعية وتاريخية وجغرافية وأدبية، دون أن يترك إسهامات وعطاءات المغرب والمغاربة، ممثلة في ملوكها وسراتها إلى بلاد الحرمين الشريفين و ينبع وبدر وغيرها من المواقع التي عرفت بحاجة ساكنيها أو اشتهرت بدور تاريخي في عصور الرحالة في القرون الماضية، وقد سجل الرحالة ما كان يعطى للأسر الساكنة في مكة المكرمة والمدينة المنورة من أموال سنوية ويشمل ذلك العلماء والخطباء والأئمة، والأغوات، وخدَمة عين زبيدة، ومصالح الحرم، وشيخ زمزم، وجماعته من الموقتين والمؤذنين بالمنابر، والمكبرين، والمرحمين، ووقادي الحرم، وسراجي الأروقة الأربعة، وسراجي منائر الحرم، وشيالة القمائم، وكناسي الحرم، وفراشي مقامات الحرم، والجباذين ببئر زمزم، والبوابين بأبواب الحرم، وحاملي مبخرة باب الكعبة، وحاملي أعلام الخطــــيب، وكناسي ما بين الصفا والمروة، ومؤذني جبال مكة ، وخدَمة مشــاهد مكة، ومعلمي الصبيان من الرجال والنساء... عالم كبير من الموظفــين نجد تفصيل الحديث عنـــهم في الرحــلات المغربية.
      وقد تساءل المؤلف بعد هذا الاستعراض "متى كنا نعرف أن هناك مؤذنين على الجبال المحيطة بمكة المكرمة يُسمّعون ذكر الله لمن كان وراء تلك الجبال؟ ويعرفون أن لهم عطاءات خاصة لضمان وصول صدى تلك الأصوات، عطاءات تأتيهم من وراء البحار؟.
      العلم والعلماء
      الجانب العلمي في الرحلات المغربية يشغل حيزاً كبيراً من كتابة الرحالة، فرحلة الحج أداء لفريضة افترضها الله على المسلمين، وانتهزها الحاج ليجعل كل رحلته في العبادة، فخصص معظم الرحالة الكثير من وقتهم لطلب العلم أينما حلّوا في رحلتهم، ففي كل مدينة ما بين المغرب الكبير إلى مكة المكرمة يسألون عن العلماء، ويجلسون في حلقات دروسهم يتلقون منهم الإجازات العلمية فيما درسوه، وبعض الرحالة من العلماء يجلسون لإعطاء الدروس لطلبة العلم في المدن التي يمرون عليها، فهي رحلة أخذ وعطاء، وتبادل منافع في أعظم باب من أبواب القربات وهو طلب العلم.
      "كل الرحالة المغاربة كانوا يرون أن أخذهم عن علماء مكة كان بمنزلة الختم الذي يزكي زادهم العلمي، ويأذن لهم في إشاعة المعرفة ونشر العلم، أخذوا في مكة المكرمة عن علماء من السند والهند وهمذان وخراسان، والطريف في الرحلات المغربية أنها تروي أيضاً عن سيدات فضليات كذلك من اللاتي كُنّ مصابيح يضئن تلك الأرجاء بعلومهن وثقافتهن وصلاحهن، فيستفيد منهن كل الذين يردون على الكعبة من الأندلس وبلاد المغرب، وهكذا نجد أن مكة حاضرة في الذاكرة المغربية وكأنها كانت ـ كما ذكرنا ـ الختم الذي ُيتوّجون به حياتهم العلمية في أثناء السفر إلى الحجاز، إلى مكة المكرمة، هذا السّفَر الذي ينعتونه بسيد الأسفار".
      ويورد المؤلف ـ في رحلة الرحلات - نماذج لأخذ علماء المغرب عن علماء مكة المكرمة ومنهم راوي ـ الموطأ ـ يحيى بن يحيى الليثي المتوفى عام 234 هجرية والذي سمع من سفيان بن عيينة، وأبو عبد الرحمن الشهير الذي ذكر الإمام ابن تيمية أن تفسيره للقرآن أفضل من تفسير الطبري، ومنهم أبو عبد الله محمد بن ابراهيم بن حيّون من أهل وادي الحجارة ـ قريباً من مدريد اليوم ـ ولقي عبد الله بن أحمد بن حنبل، وقد قيل عنه ـ لو كان الصدق إنساناً لكان ابن حيّون ـ ومنهم دراس بن إسماعيل المتوفى عام 357 هجرية والذي كان أول من أدخل مدونة سحنون إلى المغرب، ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح القحطاني المعافري الأندلسي المالكي والذي أدركه أجله في بخارى عام 383 هجرية، ومنهم أبو بكر اليابري، أصله من ـ يابرة ـ بالبرتغال، رحل إلى مكة وفيها دفن، ومنهم أبو عمر ميمون بن ياسين الصنهاجي اللمتوني وكان من أمراء المرابطين رغب في السماع من عيسى بن أبي ذر والمتوفى بأشبيلية عام 530 هجرية، ومنهم أبو عبدالرحمن مساعد بن أحمد بن مساعد الأصبحي، ومئات غيرهم من أعلام علماء المغرب ممن ذكرهم المؤلف، وممن ضاق الكتاب عن تتبعهم عبر القرون.
      الرحلات المغربية
      ويرد المؤلف على تساؤل المتسائل: ماذا قدّمت الرحلات المغربية لقرائها من معلومات؟ ويجيب : قدّمت - في الجانب العلمي - جرداً كاملاً بأسماء الكتب التي كانت تدرّس بمكة، وعناوين الفنون التي كانت محل اهتمام العلماء، المدارس بمكة، كما أفادتنا الرحلات عن ملك من ملوك الإسلام قام بنسخ المصحف الشريف بيده من أول حرف إلى آخر حرف، وأهداه إلى الحرم بمكة مصحوبًا بالأحجار الكريمة واليواقيت الثمينة، وقد أهدى نسخة مماثلة للمسجد النبوي الشريف وثالثة للمسجد الأقصى المبارك، واهتمت الرحلات برصد الأوبئة التي كانت تنتشر في مواسم الحج وتفتك بالحجاج، وكيف أن أمراء مكة كانوا يضبطون أسماء الأموات ولا يسمحون بدفنهم إلا بعد التأكد من هويتهم ووضعهم، كما اهتم الرحالة بالسيول التي كانت تجتاح مكة في المواسم، وكيف دخلت مياهها إلى الحرم، وكيف أن العديد من الحجاج كانوا يطوفون بالحرم سباحة، وما يترتب على ذلك من سؤال فقهي: هل يجزئ الطواف سباحة أم لا بد من الطواف على الأقدام؟ كما تركوا لنا ما رصدوه من أنواع الإنتاج الزراعي من خلال ما كان يحتاج إليه الحاج من طعام وشراب.
      ولم يغفل الرحالة نقل ما شاهدوه من طرائف وغرائب بعض الممارسات ممن يفدون إلى الحج، واللافت للنظر في حديث الرحالة عن وسائل المواصلات الشائعة في عهودهم: الحمار الذي يربط بين جدة ومكة المكرمة بما ذكر عنه من صغر الحجم وخفة الحركة، وقد اشتهرت الكسوة التي كانت ترد من مصر من أوقاف الحرمين فيها إلى الكعبة المشرفة كل عام وينقل لنا المؤلف أن ملوك المغرب، ومنهم يوسف بن يعقوب كانوا يرسلون كسوة إلى الكعبة المشرفة منافسين في هذا العطاء في عصرهم دولة المماليك في مصر، كما كان الركب المغربي ينافس ركب العراق والشام.
      ويشكل لقب الحاج أهمية معنوية يحرص عليها كل من يؤدي فريضة الحج من المغاربة، خاصة من غير المنتسبين منهم لآل البيت، وأمسى لقب الحاج عند بعض المغاربة يعوّض الاسم العائلي، لأن المسافة بينهم وبين مكة المكرمة لم تكن مسافة قصيرة ولا سهلة، ولا حتى آمنة، ومرت بنا مجموعة كبيرة من المغاربة ممن كانوا يرون أن شخصيتهم إنما تكتمل عندما يذكرون أن لهم رحلة إلى المشرق، وأنهم قصدوا مكة المكرمة بالذات، وحرصوا على أن يأخذوا عن شيوخها، ولم يكن الأمر يقتصر على الرحالة من الرجال ، فقد احتوى السِّفر الكبير على سيدات ممن رحلن إلى الحج وسجلت رحلاتهن، ومنهن:
      الأميرة ـ الوالدة ـ 728 هجرية (1338م)، وهي الأميرة مريم حظية السلطان أبي سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق رأس دولة بني مرين "كان السلطان يرغب في إرسال والدته للحج فلما توفيت أرسلها لكونها في منزلة والدته، فقد كانت مربيته فعلا ً، ومما زاد في أهمية الرحلة أن الأميرة كانت تحمل معها هدية فريدة إلى المسجد النبوي لم يعرف التاريخ مثلها لملك من ملوك الإسلام، فقد نسخ العاهل المغربي السلطان أبوالحسن ابن أبي سعيد بيمينه نسخة من القرآن برسم الوقف الخالص للمسجد النبوي الشريف، وزود الركب بمبلغ كبير من الأموال لشراء الضياع بالمشرق لتكون وقفاً على الذين يقرؤون في المصحف عبر الدهور والعصور، ومنهن الأميرة مريم أخت السلطان أبي الحسن والتي حملت معها المصحف الثاني والذي كتبه السلطان بيده وأهداه إلى بيت المقدس، وقد تصفحه المؤلف خلال زيارته للقدس الشريف عام 1379 هجرية (1959م)، وكانت رحلة الأميرة عام 745 هجرية (1345م)، وحملت رسالة من أخيها إلى ملك مصر الملك الصالح أبي الفداء إسماعيل بن الملك الناصر، تضمنت رغبة ملك المغرب أن يدعو له الخطباء يوم الجمعة، وأن يُكتب لأهل الحرمين الشريفين كذلك.
      ومنهن الأميرة خناثة بنت بكار ـ المتوفاة عام 1155 هجرية ـ
      (1742م) زوجة السلطان المولى إسماعيل مؤسس الدولة العلوية، وكانت من العالمات اللائي أسهمن في حياة المغرب السياسية والفكرية، وقامت بحجتها التاريخية عام 1143 هجرية (1731م، وقام بتسجيل الرحلة الوزير أبو محمد عبد القادر الجيلاني الإسحاقي، والذي حرر للأميرة وبطلب منها فتوى بمكة المكرمة تجيز تملك العقار في البلد الحرام.
      ويصف حج الأميرة "وصلت ليلة السادس ـ من ذي الحجة ـ إلى مكة المشرفة بعد العشاء وعليها السكينة مرفرفة، وهي في جلالة عظيمة وسيادة فخيمة، في محفل من الأجناد، وجمع من الأجواد، ولهم زجل بالتلبية والأدعية، فطافت طواف القدوم وطلعت إلى دارها المكري المعلوم، ثم إنها طلعت إلى عرفات ولها دويّ بالتسبيح والتقديس، وكانت الوقفة يوم الخميس، ثم نزلت إلى منى فأقامت ثلاثة أيام وأكثرت من الهدي، وبذلت الشراب والطعام، ثم نفرت إلى مكة وجاءت بعمرة الإسلام، تكثر من الصدقات على الدوام، وبذلت بغير حصر، وأعطت عطاء من لا يخاف الفقر.
      ويصعب على القارئ ترك مجلديْ الكتاب ـ رحلة الرحلات ـ قبل أن يأتي على آخر صفحة فيهما، لما تضمناه من اختيار لأطرف القصص والمعلومات التي أوردها الرحالة في شتى المجالات، ولا شك أن تتبع وتلخيص أكثر من مئة رحلة بعضها في مئات الصفحات ما كان بالأمر الهين، لقد كان لزامًا عليّ أن أرحل إلى حيث أحقق رغبتي، فرحلت إلى ألمانيا الشرقية، وإلى لندن، وإلى مصر والإسكندرية، وإلى الجزائر، ولا أتحدث عن المغرب فقد أزعجت المشرفين على المخطــوطات سواء بالعاصمة الرباط أو سلا أو بفاس أو مراكش أو تطوان أو طنجة، ومع كل الأتعاب التي كنت أحسها، لكني مع ذلك كنت أشعر بالمزيد من المتعة وأنا أعيش مع المعلومة الجديدة أقرؤها ومع الخط الصعب أكتشفه.
      وما من قــارئ لهذا السفر الكبيــــر إلا ويشارك (أحمد زكي يماني) مؤسس ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي الرأي في تقديمه: "مهما تحدثتُ عن القيمة العلمية والتاريخية لهذا المؤلف الجليل فلن أوفيه حقه، ومهما توجهتُ إلى أستاذنا التازي بالشكر على صنيعه فلن أوفيه جزاءه، فذلك أمر نكله إلى رب البيت الحرام الذي قيّض لنا مثل هذا العالِم، فأضاف إلى الكثير من مؤلفاته وتحقيقاته هذا المؤلّف الذي تضعه ـ الفرقان ـ بين يدي الباحثين، ليكون درّة مضيئة بين أعمال أستاذنا التازي.
      ...........................
      *كاتب سعودي
      المرجع: رحلة الرحلات ـ مكة في مائة رحلة مغربية ورحلة ـ تأليف الدكتور: عبد الهادي التازي ـ مراجعة الدكتور عباس صالح طاشكندي ـ الناشر: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي ـ لندن عام 1426 هجرية 2005م.

      د. أبو شامة المغربي

      تعليق

      • أبو شامة المغربي
        السندباد
        • Feb 2006
        • 16639


        #93
        رد : أدب الرحـــــــلة ...

        أدب الرحلات
        "السندباد"
        مكتشف أمريكا!
        طايع الديب
        إذا كان "حب الاستطلاع" هو الذي أخرج آدم وحواء من الجنة، فإن لهذا النوع من التشوق الإنساني إلى المعرفة فضيلة واحدة –على الأقل- هي أنه كان السبب الأول وراء ظهور نوع فريد من الأدب العالمي يعتبر جسراً للتواصل الحضاري هو "أدب الرحلات"!
        وقديماً قال الرحالة العربي المعروف أبو الحسن المسعودي: "ليس من لزم جهة وطنه وقنع بما لديه من الأخبار كمن وهب عمره لقطع الأمصار، فاستخرج كل دقيق من معدنه واستجلى كل نفيس من مكمنه".
        ولهذا السبب كان أدب الرحلات حتى عهد قريب وقبل عصر الفضائيات والكمبيوتر والإنترنت، فرعاً مزدهراً من فروع الأدب ومصدراً مهماً من مصادر المعرفة الإنسانية يسجل طرائق حياة الشعوب وغرائب المجتمعات، حتى إن كتاب الصحفي الكبير أنيس منصور بعنوان "أغرب الرحلات في التاريخ" ظل –على ضخامته- يتصدر أعلى الكتب مبيعاً منذ صدوره عام 1982 وحتى عام 2002 أي على مدى 20 عاماً تقريباً.

        ولكن لماذا تراجع أدب الرحلات العربي في أيامنا الحالية، رغم أن العرب هم أول من ابتدع هذا الجنس الأدبي عبر رحلات الإدريسي والمسعودي وابن بطوطة وغيرهم من الرحالة العرب العظام، الذين جابوا مشارق الأرض ومغاربها وقدموا للمكتبة العربية كتابات أصبحت بمثابة مراجع في مضمارها.. ولماذا لم يعد هناك "أدباء رحالة" مثل أنيس منصور ود. حسين فوزي في عصرنا الراهن؟ أسئلة عديدة سنحاول الإجابة عليها في السطور التالية.
        المعقول واللامعقول
        يقول د. صلاح الدين الشامي أستاذ الجغرافيا بجامعة صنعاء إن أدب الرحلات العربي ازدهر قديماً على أيدي الجغرافيين والمستكشفين الذين اهتموا بتسجيل كل ما وقعت عليه عيونهم أو وصل إلى آذانهم، حتى لو كان خارج نطاق المعقول ويدخل في باب الخرافة، ولكن الرحلة سواء في البر أو البحر ظلت –على الدوام- هي العين المبصرة التي قادت الاجتهاد الجغرافي على مر العصور.

        ويعترف الأكاديمي الفرنسي جان ماري كاريه في بحث يعتبره الكثيرون البحث العماد لأدب الرحلات، بأن العرب كانوا سباقين في هذا الفرع من فروع الأدب، وأن اتساع رقعة الفتوحات الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي، جعل للعرب الفضل الأول في نشأة أدب الرحلة بالمعنى الذي تعارف عليه الغرب –فيما بعد- عبر كتابات ورحلات ماركو بولو ودانيال ديفو ولورانس ستيرن وسواهم، كما أن شخصية "السندباد العربي" المتخيلة هي التي ألهمت كبار الرحالة الأوربيين في عصر النهضة ومنهم فاسكو دى جاما وماجلان وكولمبوس، ويقال إن هذا الأخير كان مغرماً "بالسندباد" وابن ماجد الرحالة العربي العماني الشهير الذي قاد الأوربيين إلى الشرق الأقصى.
        البشر.. بشر
        أما الناقد د. مجدي وهبة فيرى في دراسته حول "أدب الرحلات بين الشرق والغرب" أن هذا الأدب هو أحد الفنون المكتوبة التي تترك لمؤلفها قسطاً كبيراً من الحرية في اختيار الشكل والمضمون، ففيه شيء من السيرة الذاتية، وشيء من فن القص، وشيء من تيار الوعي والشعور المسترسل والذي لا يخضع لقاعدة سوى وحي الساعة وتداعي المعاني.

        والحقيقة أن المرونة النسبية في هذا الفن لا تعني أنه لا يخضع لأي معيار أو قاعدة نقدية، فملاحظات الرحالة لابد أن ترمي إلى دلالات معينة في نفوس القراء إذا أرادت أن ترتقي إلى مرتبة الأدب، فليس كل من يسجل "انطباعاته" عن رحلة ما أديباً!
        ومع أنه من المسلم به أن الحبكة القصصية ليست من ضرورات أدب الرحلات، لأن الرحلة الأدبية غالباً ما تسير في خط مستقيم، إلا أن عنصر التشويق دعامة أساسية من دعامات نجاح هذا اللون من الأدب، وأهم عناصر الجذب والتشويق في هذا الصدد هو رصد الغريب والمثير في مكان الرحلة، سواء العادات والتقاليد أو الحكايات الخرافية أو غرائب الأشياء، ومن هذا المنطلق كان المشرق العربي مقصداً للرحالة والأدباء والباحثين عن المغامرة، وظلت كتب الرحلات إلى الشرق هي الأكثر إمتاعاً للقارئ الأوروبي منذ مئات السنين، إلى حد أن بعضهم وصف هذه الرحلات بأنها "الوجه المبتسم للاستعمار".
        ولكن المتعة الحقيقية في تقدير د. مجدي وهبه لأدب الرحلات هي كشف "بشرية البشر" في كل زمان ومكان، عن طريق التعرض لعادات الناس وتصرفاتهم أينما كانوا، فكلنا - في عرف الأديب الرحالة - لآدم، وآدم من تراب، وإذا كان حب المغامرة والاستطلاع هو الدافع الأول، فإن الهدف الأخير هو الاقتناع بأن البشر.. بشر!
        رحلة الأميرة فاطمة
        ومن جانبها تقول الناقدة الإماراتية د. فاطمة الصائغ: إن أدب الرحلات من الآداب الراقية التي تعكس الأوضاع الثقافية والفكرية السائدة في المجتمعات الإنسانية، وليس الوضع المجتمعي للأفراد فحسب ولكن أنجح كتب الرحلات هي التي يصف مؤلفها بلاداً وشعوباً قلما تتاح للقارئ الفرصة لزيارتها أو التجوال فيها، لذلك كانت الكتب التي تتناول المشرق العربي هي الأكثر رواجاً، ومنها رحلات جيرار دى نرفال وهيرمان هيسه وغيرهم من ألمع كتاب وأدباء العالم في مطلع القرن العشرين.

        وفى هذا الصدد يحكى أن الأديب الألماني الكبير هيرمان هيسه سئل ذات يوم عن السبب وراء رحلته إلى الشرق، فأجاب إجابة مبهمة مفادها أنه يرغب في "رؤية الأميرة فاطمة والظفر بحبها إن أمكن"!
        وما لا يعرفه الكثيرون أن هذه الأميرة "فاطمة" التي ظنها البعض أميرة متخيلة، ما هي إلا الأميرة فاطمة طوسون التي حاول الملك أن يوقعها في حبه عام 1942، وعرض عليها الزواج منه لكنها فضلت أن تتزوج رجلاً من عامة الشعب أحبته وهاجرت معه إلى البرازيل هرباً من الملك، والطريف أنه كتب عن هذه الرحلة كتاباً صغيراً يعد من أمتع كتب الرحلات على الإطلاق.
        رحلات "ابن عطوطة"!
        وأخيراً يقول الكاتب الصحفي الكبير محمود السعدني وهو صاحب العديد من الكتب التي تدخل في عداد أدب الرحلات ومنها "رحلات ابن عطوطة" و"الولد الشقي في المنفى" وغيرها: إذا كان المسرح "أبو الفنون" حقاً فإن أدب الرحلات هو "أبو الآداب" ذلك أن في الأسفار –كما يقولون- سبع فوائد، مع العلم أن جيلنا كله من المثقفين نكتب عليه "لعط" في البلاد وداخ فيها دوخة الأرملة فكان لابد أن يكون العبد لله "ابن عطوطة"!

        ورحم الله عمنا الكبير ابن بطوطة الذي كان دقيق الملاحظة شديد الاهتمام بالناس، شديد الشوق للبلاد والعباد، وعندما بدأ ابن بطوطة رحلته الميمونة على صهوة بغل، كان الوطن العربي يسترخي في هدوء والحدود سداح مداح والبساط أحمدي، وكان أمير المؤمنين يعطس في القاهرة فيقول له من في الدار البيضاء "يرحمكم الله" فلا جمارك ولا مكوس ولا حدود و.. لا يحزنون!
        وماذا عن أدب الرحلات العربي في عصرنا الراهن؟

        - في زمن العبد لله لا حول ولا قوة إلا بالله، الجمارك في كل مكان من بلاد العرب لا تنقض إلا على العربي، ولا تفتش إلا من يبدو من سحنته أنه من نسل عدنان أو قحطان، ورجل الشرطة في بلاد العرب الجديدة لا يقتفي إلا أثر الأعراب "الأغراب"!
        ولهذا تدهور أدب الرحلات العربي تدهوراً لا مثيل له، ولم يعد في مقدور الكاتب أن يزور بلداً عربياً شقيقاً إلا ويخضع للمساءلة أو المراقبة على أقل تقدير، ناهيك عن أن زيارة الكاتب العربي لأي بلد أجنبي في أوربا أو أمريكا معناه أن يتهموه مسبقاً "بالإرهاب" والكباب في هذا الزمن الهباب!

        د. أبو شامة المغربي

        تعليق

        • أبو شامة المغربي
          السندباد
          • Feb 2006
          • 16639


          #94
          رد : أدب الرحـــــــلة ...

          تعليق

          • أبو شامة المغربي
            السندباد
            • Feb 2006
            • 16639


            #95
            رد : أدب الرحـــــــلة ...


            أحمد محمّد محمود*
            أورد ( خير الدين الزركلي ) في موسوعته "الأعلام" عن الرحـــالة ما يلي: محمد بن عبد الوهاب بن عثمان المكناسي، وزير، رحالة، من الكتاب البلغاء من أهل مكناسة، استخدمه السلطان سيدي محمد بن عبد الله في بعض الأعمال، ثم استوزره وانتدبه لكثير من المهمات وعقد المعاهدات، وكان سفيره في إسبانيا، ومالطة، ونابولي، والآستانة، وإلى إمبراطور النمسا، توفي بمراكش، من كتبه: الإكسير، البدر السافر، رحلة إلى مالطة، وهذه الرحلة التي أطلق عليها (إحراز المعلى والرقيب في حج بيت الله الحرام وزيارة القدس الشريف والخليل والرسول الحبيب)، توفي عام 1213هـ - 1798م.
            حقق رحلته وقدم لها بدراسة قيمة ضافية "محمد بوكبوط" ووصف الرحالة الذي انتهت رحلته في آخر يوم من شعبان عام 1202هـ "بأنه من عيار كبار رجال الدولة الذين ساهموا بفعالية في صنع أحداث النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي" ووصف الرحلة "بأنها تقدم مشاهدات على طول طريق الحج العثماني، بحيث ينفرد الرحالة بذلك، نظراً لكون جل الرحلات المغربية إلى الحج، كانت تسلك عبر طريق مصر الذي ظل ركب الحج المغربي يتخذها، كما تساهم الرحلة في تصحيح كثير من المقولات التي علقت بتاريخ العثمانيين، من جراء الاعتماد شبه المطلق على كتابات وتقارير الأوروبيين، وبالإضافة إلى ما يراه من إحاطتها بوصف دقيق لطريق الحج، أتى الرحالة على مواضيع ثقافية وإسلامية ومعلومات واسعة، فكانت رحلته: حجازية، سياحية، اكتشافية، سفارية، زيارية، علمية."
            ولما لهذه الرحلة من قيمة علمية، وتاريخية وأدبية، ودبلوماسية، نستعرضها في عددين - إن شاء الله -، ونبدأ بمنطلق الرحلة حتى انتهاء زيارته الدبلوماسية لعاصمة الدولة العثمانية ومشاهداته فيها وملاحظاته عليها، ووصوله إلى دمشق في طريقه لأداء الحج.
            ويقدم الرحالة المكناسي لكتابه بالحديث عن فوائد الرحلة والاغتراب، "فإن التنقل في البلاد والتأمل في مخــلوقات الله من العباد، تذكرة للقلوب، وتبصرة على أن الاغتراب وحده يحدث في القلب خشوعاً، وإلى الله رجوعاً، وعن غيره نزوعاً، ولو لم يكن في الاغتراب إلا هذه الفائدة لكفاه فضلاً، وأحـــــرز في السبق إلى الفضل خصل."
            وجاء الرحالة على مناسبة تعيينه في مهمة دبلوماسية إلى القسطنطينية العظمى "حتى نتلاقى مع سلطانها "السلطان عبد الحميد خان" 1725 ـ 1789م، ومن هناك نستعد للسرى إلى أم القرى، لقضاء مناسك الحج، ونفرق هديته على أهل الحرمين الشريفين، وأن نرسم له ما تتفق رؤيته في هذا السفر، في البدو والحضر."
            انطلاق الرحلة
            بدأ الرحالة أول عام 1200هـ - 1785م، منطلقاً من الرباط، إلى تطوان، ومنها تعذر سفره بحراً بسبب اضطراب البحر في فصل الشتاء، فأمضى أربعة أشهر ونصف في انتظار الفرصة المواتية للإبحار، وبقي في تطوان "لا نستطيع من كثرة الأمطار والطين خروجاً" ثم توجه إلى طنجة، ومنها عشية ثاني رجب من عام السفر، "ركبنا البحر في مركب بعثه عظيم الإصبنيول، ملك إسبانيا كارلوس الثالث<، فتوجه إلى قرطاجنة الإسبانية فوصلها في ثلاثة أيام، ومنها أبحر في مركب كبير "فبقينا نتردد في البحر لأن الريح غير مواتية شهراً ويومين، حتى تغير الماء وتأذى الناس من شربه فوصل إلى (سرقوزه) على الطرف الجنوبي الشرقي لجزيرة صقلية، ومن هذه المدينة كان دخول المسلمين على عهد بني أمية حتى تملكوها وبقيت تحت حكمهم نحواً من 300 سنة."
            وقد فرح سكان صقلية بدخول المركب وطلبوا من ركابه النزول في الجزيرة، "ولما رأوا امتناعنا جاؤوا ذات ليلة إلى المركب بقضهم وقضيضهم، ومعهم المنشدون، واستعد قبطان السفينة بتزيينها، بما يناسب عوائدهم، وبعد غروب الشمس أتى أهل البلد، وبدأ حفل السمر متبوعاً بتوزيع الحلويات، ثم شرعوا في الغناء."
            وفي رابع رمضان، غادر المركب صقلية، وكانت الريح مواتية، فوصلوا إلى جزائر بحر إيجة والتي سماها الرحالة "جزر بر الترك" "وتحرك علينا ريح غير موافق، وبقينا نساعفه باستعمال السير أمامه يميناً وشمالاً، إلى أن قربنا إلى بغاز (البوسفور- القسطنطينية)، وفي هذه النواحي توفي عضو من أعضاء الرحلة، وكان البر بعيداً، فألقيناه في البحر، رحمة الله عليه<، ووصف الرحالة عادات المراكب البحرية إذا أرادت دخول الموانيء العثمانية: "يخرج المركب مدفعاً إعلاماً به ويتمادى في سيره، فتخرج سلطات الميناء مدافع كثيرة يباعدونها عنه حتى لا تصيبه، إظهاراً للقوة" ، فوصل إلى ميناء القسطنطينية رابع شوال من عام السفر، فأرسلت السلطات زوارق تسأل قبطانه عن خبره - كما هي العادة - "ولما علم السلطان بخبر السفارة والسفير بعث إلينا ونحن في المركب على سبيل الإهداء والإكرام، أواني كثيرة من الزجاج، مملوءة بأنواع الحلوى والتحف الكاملة الظرف، مع فواكه الموسم، ومن الغد أتى أعيان الدولة بزوارق فركبناها وتوجهنا إلى العاصمة."
            وقد أنزل رجال التشريفات الوفد المغربي في دار كبيرة وواسعة، فخيمة الفرش تطل على البحر في منظر عجيب، "وأقمنا خمسة أيام بعد نزولنا، واستدعانا الوزير "الصدر الأعظم" يوسف باشا خوجا إلى ملاقاته، فمن عاداتهم ذلك، وسرنا في موكب فخم، يضم جماعة من الأعيان، فركبنا الخيول وتقدمت خيلهم أمامنا ورجالهم حافون بنا، ومررنا بطرقات المدينة حتى وصلنا دار الوزير المعدة لجلوسه، واستفهم منا الوزير عن حال السفر والتعب وما يناسب المقام، ثم أُتي بالقهوة فشربنا وتلك عندهم عادة لازمة، ثم البخور والطيب، وبعد أن كسانا بقفاطين، وقدم للوزير رسالة سلطان المغرب للسلطان العثماني على ما جرت به عوائدهم، ترجمت إلى التركية قبل تقديمها للسلطان، ثم طلب إلينا التوجه إلى مكتب (الكاهية) ففعل معنا مثل ما فعل الوزير، ثم توجهوا بنا إلى "الدفتردار" الذي بيده أموال السلطان، فأكرمنا على نحو سابقيْه."
            مع السلطان العثماني
            وفي يوم 72 من شهر الوصول، حدد الصدر الأعظم للسفير ورفاقه موعداً لملاقاة السلطان العثماني وتحركت البعثة الدبلوماسية من مكان نزولها قبل الفجر "فقدموا لنا خيلاً مكلفة السروج، فركبناها وتقدمت خيلهم موكبنا وحفت رجالهم بنا، وانتهينا إلى مسجد صلينا فيه الفجر، ثم توجهوا بنا إلى ممر قبالة دار الوزير وأوقفونا صفاً، وانضممنا إلى موكب الوزير عند تحركه بعد طلوع الشمس حتى وصلنا باب دار السلطان فنزلنا، وجلسنا على مساطب مهيأة للراحة، فأخذونا إلى حيث يجلس الوزير فأجلسونا إلى يساره، وشاهدنا جانباً من أسلوب إدارة الدولة حيث تعرض على الوزير القضايا والشكاوى فيرد عليها، ونودي على كل من له شكاية أن يتقدم، والسلطان يراقب ذلك من نافذة مجاورة، وبعد انتهاء النظر في القضايا، أُحضر الطعام، فأخذوا في وضع أواني الطعام، إناء في إثر إناء، فنصيب من كل إناء أكلة ويُرفع، ثم قمنا إلى مكان جلوسنا، فطافوا علينا بأباريق الماء والصابون لغسل الأيدي، ثم بالطيب والبخور، ثم توجهوا بنا إلى موضع آخر، وخلعوا على جميع من حضر، فلبسنا الخلع، ثم أخذونا إلى مكان تمهيداً لملاقاة السلطان العثماني."
            ويصف الرحالة مراسم استقبال السلطان له ولمرافقيه: "ووجدنا أقواماً معينين للدخول معنا على السلطان، فأمسك بثوب كل واحد منا رجلان منهم عن يمين وشمال، فدخلنا عليه في قبة فوجدناه جالساً على مرتبة والوزير قائم عن يمينه، فشرح الوزير للسلطان وضعنا ومهمتنا، ومن أين أتينا، فقدّمتُ له هدايا سلطان المغرب، ووقفنا أمامه مقدار وقت قليل ثم خرجنا من عنده< وشرح الرحالة كيف أن استقبال السلطان العثماني لهم بهذه السرعة، وبالبروتكول الاحتفالي الذي شاهده "لم يتفق لأحد من قبل، كما أخبرنا بذلك أهل الديوان، وإنما يقابل السلطان البعثات والوفود في مناسبات الأعياد، أو عرض العسكر لقبض الراتب."
            ويعطي الرحالة (المكناسي) نبذة عن سيرة السلطان العثماني، وموجزاً لتاريخ الدولة العثمانية، ووصفاً للعاصمة "القسطنطينية": "وما رأيت ما يؤدي وصفها ومعناها وما اشتمل عليه أقصاها وأدناها، إلا ما أجابني به بعض أحبار النصارى ممن استوطنوها، يقال إنها مدينة هذه الدنيا، ففيها من الأمور الدنيوية ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فلا يمكن أن تسأل عن شيء غريب إلا تجد له سوقاً، حتى الحشرات لها سوق يرتاده أهل الطب."
            "فهي محشر الأمم، ومحط الرحال، وبحر العمران، وغاية القصاد والمورد العذب للوراد، إلا أن بردها عاصف، وقرها لا يصفه واصف، ولا يرده دثار، ولا موقد نار، فهي إناء للثلج المصبوب، فتنبو عن المضاجع من قرها الجُنوب."
            وكفاها فخراً أن ضمت قبر الصحابي (أبي أيوب الأنصاري)، وكونها موطن جهاد وقراع للعدو وجلاد، وما بهــا من الخيرات تفصــــيلاً فشيء لا تفي به عبارة، ومن أغرب الغرائب ثبات أسعار الحاجيات فيها على كثرة سكانها، وترسو في مينائها من السفن في وقت واحد 80,000، والسفن ترد إليها كأنها القوافل.
            ويعطي وصفاً لأعظم مساجدها، وفي مقدمة ذلك أيا صوفيا، ومسجد السلطان أحمد، ومسجد السليمانية، الذي بناه السلطان سليمان القانوني- 1520 - 1566م، ومسجد العثمانية، ومسجد السلطان محمد الفاتح، وبه 16 مدرسة يتلقى طلابها جراية شهرية، ويصف مكتباتها- التي لا يوجد مثلها في سائر البلاد-"ويســـهر على أمــــــن الـمدينـــة 40,000 شخص يتناوبون الحراسة ليلاً ونهاراً وهي مشحونة بالسلع والأمتعة ولا يضيع منها شيء، ولا تجد فيها على كبرها جلبة ولا غوغاء، ويعاقب من يقوم بشيء من ذلك."
            ويصف الرحالة حفل زفاف أميرة عثمانية، وما فيه من الفخامة والبذخ، ويأخذ عليهم بعض الممارسات "ومنها أنهم في الاحتفالات إذا أكلوا وشربوا وتطيبوا كسروا الأواني جميع."
            وبعد أن أدى السفير ـ المكناسي ـ مهمته في بلاط السلطان العثماني، جاء وقت سفره من العاصمة التي أعجبته كثيراً: "وفي يوم الثاني والعشرين من الشهر استدعانا الوزير بقصد الملاقاة والوداع، وتم ترتيب موكب على نحو موكب الاستقبال يوم وصولنا، وفي مجلس الوزير تدارس مع السفير المغربي علاقات الدولة العثمانية بأوروبا، ثم خلع الوزير خِِلعاً على المكناسي ورفاقه "وكان السلطان العثماني قد عين الخيام والبهائم لحمل أثاثنا وأثقالنا والمحامل لركوبنا، فتأهبنا للسفر، وقطعنا البحر إلى البر الآخر يوم الجمعة 23 من رجب، مبتدئين الرحلة إلى الحجاز عبر طريق الحج العثماني."
            الرحلة إلى الحجاز
            ويحــــدد المكناسي خمس مراحل بين القســـطنطينية والشام، يقطعها ركب الحجيــــج العثماني، بحيث يستريح بعد نهاية كل مرحلة، ويريــــح الدواب، ويســــتكمل الركب تأمــــين وشــــراء وكراء ما يحــــتاج من مـــؤن لبقية مراحل الرحلة.
            وكان منطلق الرحلة بعد عبور البوسفور من أسكدار، مروراً على التوالي بـ: قرطل، كبزة، ديل سقال سي، خارسك كوي، "ثم رحلنا فســــرنا بين جبــــال يتخللها وادي يقال له "كاور كو" أي قرية الكفــــار، وتمادينا في المسير في الوادي يعترضنا في دورانه بينها، فقد عبرناه نحو 12 مرة حتى وصلنا للقرية السابقة، وأهلها كلهم نصارى تحت رعـاية السلطان عبد الحميد، وعليـــها بساتين كثيرة وجلها شجر التوت الذي يعلف بورقه دود الحرير، ومنها وصلنا إلى "جنزنك" أي مدينة الرخام، ولها سور من أعظم الأسوار وأمنعها وأعظمها حجارة إلا أن به خراباً، ومنها إلى "لفك" التي أخذت اســـمها من نهر تقع عليه، ومنها إلى "خان الوزير" الذي ابتـــناه ســنان باشا بقصد أن ينزل به ركب الحجاج زمن الشتاء والثلج والوحل."
            "ومنذ أن غادرنا العاصمة ونحن نمر ببلاد ليست سهلة ولا صعبة بل هي وسط بين ذلك، ماؤها كثير، وأثرها كبير، وظلها من كثرة الأغصان ظليل، ونسيمها عليل، ولا تمر بساقية فضلاً عن واد إلا على قنطرة، ولا بمكان ذي وحل إلا على جسر بحجارة مرصفة منصوبة."
            ومنها إلى مدينة السكوت، فمدينة أسكي شهر، وهنا تنتهي المرحلة الأولي من مراحل قوافل الحج، "فأقمنا بها يومين، بقصد الاستراحة وإراحة الدواب، وفيها يأتي في العادة جميع الخدمَة من سقائين وطباخين وفراشين وأصحاب المحامل ودواب الحمل وغير ذلك يطلبون من مخدوميهم إكراماً زيادة على الأجرة المعلومة، وصار ذلك عادة لازمة ويسمون ذلك "البقشيش" بلغتهم، وبها حمام مبني على ماء يخرج من الأرض في غاية الحرارة، وجعلوا له حوضاً كبيراً عمقه أقل من القامة فهو مثل المغطس يصب فيه الماء ويخرج منه، والناس يغتسلون فيه، وعليه من يخدم الزبائن مقابل أجر يعطى على الفوطة، وقد اغتسلت فيه ولم أستطع المكوث فيه كثيراً لحرارة الماء."
            ومنها مر الرحالة على "سيدي الغازي" وهي مؤسسة على ربوة من الأرض أسفلها نهر عذب وعليه كان نزولنا، وهي شديدة البرد كالبلاد التي مررنا عليها من قبل، وبعد عدة قرى في الطريق مررنا على "بياض كوي" فوجدناها خالية من أهلها، لأن أهلها يرحلون في طلب الكلأ لماشيتهم، لأن بلادهم باردة، وربيعهم متأخر.
            وبعد قرى بلودم، تاي ـ سقلي، "سافرنا في بلاد منفسحة وفجاج ومياه وطيور وأزهار على أنواع متعددة، ما رأيت مثل هذه الأرض مياهاً عذبة، حتى وصلنا "أق شهر" ويقول أهل البلد إنها مدينة "جحا" صاحب الحكايات المعروفة، وأرونا قبره، ومررنا على "اللاذق شمال قونية" وأهلها يصنعون الزرابي الكثيرة، وجاء أهلها إلينا يعرضون بيعها، ومنها إلى "قنية" الشهيرة بين عمورية وأنطاكية، وقبل وصولنا إليها مررنا بفجاج وصحارى كثيرة الغبار والعجاج قليلة النبات، وقُنية هي بداية المرحلة الثانية من مراحل قافلة الحج العثمانية إلى الشام، وأقمــنا فيــها يومين للراحة، وفيـها شــــيخ من عــــادة العثــمانيين أن يذهب للســلطان الجديد ليبايعه ويأخذ عليه العهد في أن يسير بالمسلمين بالعدل، ويقلــــده الســــيف علامة على تمام البيعة والانقياد لحكمه وأمره ونهـيه، وبعده يبايع السلطان الجديد الأعيان والناس."
            ومر الرحالة في المرحلة الثالثة من مراحل الطريق بقرى منها "قربنار" "لم يستقر لنا فيها مقــام ولا اســــــتراحة ولا منام، لرياحها الشديدة وعجاجها، وتصنع في هذه القرية الجوارب التي تجعل في الأرجل من الصوف ومنها تصدر للبلاد."
            ووصـــلنا لقرية "كُجُك شام" وهي ذات بســـاتين وأزهار وجداول وأنهار وأغصان وأطيار، والجداول تتلوى في القــــرية كالثعبان، ومعنى اسمها بالتركية "الشــــام الصغير" لكثرة مياهها وأنهارها.
            "ووصلنا إلى قرية "ألن قشلة" وبها خان "فندق" عظيم ومسجد شيد بقصد نزول الحجاج إذا صادفوا فصل الشتاء لشدة البرد، وكان بردها شديداً عندما مررنا بها في شهر مايو، ومنها إلى "الصندقلي" وفيها نزلنا من المحامل وركبنا الخيل لصعوبة أرضها، وكان بردها شديداً وبها رعود، ونزلت صاعقة قتلت واحداً من مرافقينا، فدفناه في مكانه، ولم يصب بجرح ولا كسر وإنما مات من قوة الصيحة."
            وسار موكب الحجاج في طريق صعبة وخطرة "فمررنا بطريق محفور في حاشية الجبل، والوادي أسفله، مع توالي صب البرد والأمطار حتى وصلنا إلى "أوابل" وفي هذا الطريق عدد من الفــــنادق يأوي إليها الحجاج والمسافرون إذا أعاقهم المطر والثلج، حتى وصــلنا إلى أدنة، وهي بداية المرحلة الرابعة من المراحل الخمس إلى الشام، بحيث يستريح فيها المسافرون ودوابهم، ويشترون ما يحتاجون للمرحلة التالية."
            "وأدنة" هذه فيها ما يدل على أنها كانت من أعظم المدن، ومن بديع ما رأيت بها القنطرة المقامة على نهرها، تتكون من 16 قوساً في غاية الكبر، بين كل قوسين منفذ للماء، ومن غريب ما رأيت بالوادي: بيوت كبار كلها من الخشب على متن الوادي مربوطة بسلاسل في القنطرة، وفي داخلها مطاحن للقمح تدور بدواليب مربوطة فيها يديرها الماء، فإذا كثر الماء في موسم الأمطار وخشي عليها ترخى السلاسل ويؤتى بها إلى شاطئ الوادي، ومنها توجه موكب الحجاج إلى "المصيصة" قرب أنطاكية، "وهي كثيرة القطن ولأهلها اعتناء به فنزلنا بأرض يقال لها "قرطقراط" تلقّانا عند قنطرتها رجل ثائر في شرذمة من خيله، له شيء معين يأخذه من الركب كل سنة، ويمر مع الركب حتى يخرجه من بلاده في مسيرة يومين، وأكرمه كبير الركب وخلعوا عليه، وأخذ من الركب ما شاء من الخيام وما أشبه ذلك مقابل الخفارة في أرضه، وسار أمام القافلة حتى بلغ بها قلعته "بيّاس" وهي كثيرة البساتين إلا أنها مهدمة خربة، وبعدما خرجنا من أرضه مررنا بجماعات من أصحابه متفرقين يهنئون الركب بالسلامة ويقولون لهم: هاتوا حق السلامة، فيعطونهم."
            في الشام
            ومرّ موكب الحجاج بقرية الإسكندرونة، ويقال لها "مرسى حلب"، "وأهل الجبال التي مررنا بها لم تنلهم الأحكام، فقد تعرضوا للركب يأخذون منه لا على وجه الطلب، ولكن بالقوة، وربما يمدون يدهم إلى بعض البهائم الحاملة حتى يستنقذها أصحابها بما يطلبونه منهم، وإسكندرونة بنيت بين جبال وعرة ذات أنهار وعيون ثرة، طرقاتها في غاية الصعوبة، مررنا بها ليلاً بالمشاعل على خطر، وربما سقط بعض الإبل من بعض جرفاتها فما أمكن استنقاذها< ومر الركب بأنطاكية المشهورة "وهي مدينة كبيرة وأرضها أرض حراثة وفلاحة، على وادي العاصي، وقد جرى على لسان العامة خرافة أنه من النيل، ولا أصل لذلك، وهي اليوم ليست بالحال الذي يناسب شهرتها، فقد غيرها توالي القحط والوباء، وقد وجدنا بقيته، وصلناها في الصيف والزرع في سنبله لم يحصد لقلة الناس، فقد أبادهم الوباء، ودخلت حماماً بها فأخبرني واحد من عماله أنهم كانوا قبل ذلك 60 شخصاً، وهم اليوم اثنان فقط، وزاد من سوء حالها ظلم حكامها، الذين يأكلون اللحم ويمتشون العظم، جبر الله حال المسلمين."
            ويقال إن بها قبر الرجل الصالح "حبيب النجار" الذي وردت قصته في القرآن الكريم في سورة يس، وهي من وقفات الراحة في مراحل الطريق الخمس إلى الشام.
            ومع انطلاق الركب في المرحلة الأخيرة قبل الوصول إلى الشام، "مر ركب الحجاج بأرض الزنبق على وادي العاصي، ومنها إلى جسر الشغر، وبها بساتين كثيرة وزيتون، ومنها إلى قلعة المضيق وهي أقرب إلى أغادير بالمغرب قائمة على جبيل تحتها فندق كبير لنزول الحجاج، ومنها توجه الركب إلى "حماة" وهي مدينة كبيرة مؤسسة على نهر العاصي يشقها، وعليه دواليب كثيرة لاستخراج الماء في غاية الكبر، ويزرع بها القطن، وينسج على ألوان وأشكال، ولما حططنا الرحال بظاهرها، خرج أهل البلد بجميع الأشياء للبيع، والفواكه الموجودة في الوقت لاسيما المشمش الحموي فهو في غاية الحلاوة، وكذا الأردية والأُزر التي يحرم بها الحجاج فهي تشترى من هذه المدينة، فاشترينا منها كما فعل الناس<. ومنها توجه الركب إلى "حمص" وكانت فيما تقدم من الزمان "محفوفة بالمياه الجارية في السواقي، والغدران، فكأنها جزيرة في بحر، أو قلادة في نحر، فوجدنا فيها قبور المشاهير: سيف الله خالد بن الوليد، عبد الله بن عمر بن الخطاب - على حسب ما يزعم أهل حمص-، والصحيح أنه رضي الله عنه توفي ودفن بمكة، وكعب الأحبار من التابعين، وجعفر الطيار أخي الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، وعكاشة بن محصن، والصحيح أنه استشهد في حروب الردة في اليمامة، وعمرو بن أمية الضمري، والصحيح أنه دفن بالمدينة، وسعد بن أبي وقاص، والصحيح أنه دفن بالبقيع بالمدينة، وأبو موسي الأشعري ويقال إنه دفن بالكوفة، ودحية الكلبي والراجح أنه مدفون في دمشق بقرية المزة، وعبد الله بن مسعود والصحيح أنه دفن بالمدينة، وغيرهم من الصحابة ممن يقال إنهم دفنوا في حمص."
            ويصـــف المكناسي مدينة حمص فيقول: لها سور من أعظم الأسوار، وأزقتها وأســــواقها مرصوفة بالحجــــارة من عمل الروم، ولها القلعة الحصينة، ويقال إن بها المصحف العثماني يخـــرجونه للناس يوم الجمعة، ولم نصـــادف بها جمـــعة حتي نراه.
            ومن حمص توجه الركب إلى دمشق "فنزل الركب خارجها، ثم تقدم إلى البلدة فوجدنا أهلها جميعاً خرجوا لملاقاة ركب الحجاج بالفرح والإجلال، والطبول والمزامير، والخيول في مهرجان عظيم، فأنزلونا داراً فيها مياه كثيرة في عدة مواضع، لكون أرض الشام من أكثر البلاد مياهاً، إذ يشقها سبعة أنهر، وأجروا علينا من المؤن والعلوفات ما هو فوق الكفاية في إكرام عظيم، ووجدنا فيها قبوراً للمشاهير مثل قبر نبي اللّه يحيى بن زكرياء، وتبركنا بمصحف الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي اللّه عنه، فقد أخرجه لنا القيّم من خزانته."، وبها قبر بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد بن عقيل بن أبي طالب، أسماء بنت أبي بكر الصديق، عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، معاوية بن أبي سفيان، أبو الدرداء عويمر بن زيد الأنصاري الخزرجي وزوجته أم الدرداء، وعمر بن عبد العزيز، وأويس بن أويس الثقفي، محمد بن مالك الجياني النحوي صاحب الألفية، وغيرهم كثير.
            وينهي المكناسي رحلة ركب الحج من العاصمة العثمانية إلى الشام بوصف مقتضب لدمشق: هي مدينة عظيمة بما أضيف إليها، فعدد حماماتها نحو 60 ، ومناسج الحرير تزيد على 15000، عامرة الأسواق، قريبة من جبل قاسيون، كثيرة المياه والبساتين، وكلها على السقي.
            ----------------------------------
            * كاتب سعودي
            المرجع:
            1- رحلة المكناسي ـ إحراز المعلي والرقيب في حج بيت الله الحرام، حققها وقدم لها: محمد بوكبوط ـ الناشر: دار السويدي للنشر والتوزيع ـ أبو ظبي ـ الإمارات العربية المتحدة ـ والمؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت لبنان ـ ط أولى عام 3002 م.
            2- الأعلام ـ خير الدين الزركلي.



            د. أبو شامة المغربي

            تعليق

            • أبو شامة المغربي
              السندباد
              • Feb 2006
              • 16639


              #96
              رد : أدب الرحـــــــلة ...

              رحلة سلام الترجمان
              بحثا عن سد ذي القرنين
              أحمـــد محـمّد محمود*
              قال تعالى:{ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكراً. إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً} "الكهف: 83-98".
              اختلف المؤرخون والرواة والمفسرون في شأن ذي القرنين على أقوال عديدة يصعب الجمع بينها، كما يصعب القطع بصحتها كلها لتباعد تفسيراتها وتعليلاتها، ونقل ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية) بعضاً من هذه الأقوال عن ذي القرنين: "قيل ملكاً من الملوك العادلين، وقيل نبياً وقيل رسولاً، وقيل إنه ملك فارس والروم، وقيل الإسكندر المقدوني، وقيل إنه كان من حمير وأمهرومية"، وقد خرج بعض المفسرين بمحاولة للجمع بين الروايات فقالوا "ملك صالح، نصح اللّه فأيده".
              نقل القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) عن ابن إسحاق "أنه أوتي ما لم يؤت غيره، فمدت له الأسباب حتى انتهى إلى مشارق الأرض ومغاربها، لا يطأ أرضاً إلا سُلط على أهلها، قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مشرقاً ومغرباً حتى وصل إلى جرمها فمسه لأنها تدور مع السماء حول الأرض، ولكن المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهتي المشرق والمغرب".
              آراء متباينة
              ونقل ابن جرير الطبري في تفسيره (جامع البيان): "أن الجبلين اللذين بنى عليهما السد هما: أرمينية وأذربيجان، وفيما ذو القرنين يسير إذ وجد أمة صالحة يهدون بالحــق وبه يعدلون، يقسمون بالسوية ويحكمون بالعدل، ويتأسون ويتراحمون، حالهم واحدة وكلمتهم واحدة وأخلاقهم متشابهة، قلوبهم متآلفة، ســيرتهم حســـنة، قبـــورهم على أبــــوابهـــم، وليس لبيــــوتهم أبواب، وليــــس عليهم أمراء وليـــــس بينـهم قضــــاة، وليـــــس بينــهم أغنــياء، ولا مــلوك ولا أشــراف، لا يتفـاوتـــون ولا يتفاضلون، ولا يختلفون ولا يتنازعون، ولا يستبون ولا يقتتلون ولا يقحطون ولا يحردون ولا تصيبهم الآفات، وهم أطول الناس أعماراً، ليس فيهم مسكين ولا فقير ولا فظ ولا غليظ، وجدوا آباءهم يواسون فقراءهم ويرحمونهم.. إلخ".
              ونقل الفخر الرازي في تفسيره الكبير عن أبي الريحان الهروي: أن الســـد في ناحية الشمال، لا بين الصين ولا أذربيجان، ويـــــرى الحافظ ابن كثير في تاريخه: أن ذا القرنين بنى السد من الحديد والنحـــاس، وسـاوى بين الجبال الصــم الشــامخات الطوال، فلا يعرف بناء على وجه الأرض أجل منه، ولا أنفــع للخلق في دنياهم.
              ويرى الطاهر بن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) أن اليهود الذين كانوا منفردين بمعرفة أخبار أهل الكهف وذي القرنين والروح: أرادوا اختبار نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فجعلوا مشركي قريش يسألونه صلى اللّه عليه وسلم عنها، فأذن اللّه لنبيه بأن يبين منها ما هو موضع العبرة للناس في شؤون الصلاح والعدل، وفي عجيب صنع اللّه تعالى في اختلاف أحوال الخلق، ولم يتجاوز القرآن ذكر ذي القرنين بغير ما اشتهر به إلى تعيين اسمه وبلاده وقومه، لأن ذلك من شـــؤون أهل القصص والتاريخ وليس من أغراض القرآن.
              وعرض المفسر الجليل الاختلاف بين المفسرين في تعيين من هو ذو القرنين :"اختلافاً تفرقت بهم فيه أخبار قصصية وتاريخية واسترواح من الاشتقاقات اللغوية، وهو اختلاف يتصل باختلاف القصاص الذين عنوا بأخبار الفاتحين عناية تخليط لا عناية تحقيق".
              ويستبعد ابن عاشور أن يكون هو الإســكندر المقـدوني، لأنه لم يكن ملكاً صالحاً، ويستبعد أن يكون الملك الفارسي أفريدون "والذي يظــهر لي أن ذا القرنين ملك من ملوك الصين هو تســـــين شـــي هـــوانق تي، لأسباب، منها أن أعظم الســدود موجود في الصين اليوم يفصــل بينها وبـــين المغول، وبـلاد الصـــين في عهد هذا الملك كانت تدين بالكونفوشـيسية فلا جــــرم أن كــان أهلـــها قـــومــاً صالحين".
              واقعة تاريخية
              نعود الآن إلى "سلام الترجمان" الذي اشتهرت رحلته إلى الأصقاع الشمالية من قارة آسيا بحثاً عن سد ذي القرنين، فقد اعتبر المستشرق "دي خويه"رحلته واقعة تاريخية لاشك فيها وأنها جديرة بالاهتمام، وأيده في هذا الرأي خبير ثقة في الجغرافيا التاريخية هو "توماشك"، وفي الآونة الأخيرة يرى عالم البيزنطيات "فاسيلييف "أن سلاماً نقل ما شاهده في رحلته للخليفة العباسي الذي أوفده لهذه المهمة، وبعد أن نقل المستشرق الروسي "كراتشكوفسكي" هذه الآراء مع آراء المشككين في الرحـــلة، قــال: ويـــــلوح لي أن رأي - فاسـيلييف - هذا لا يخلو من وجاهة رغماً من أن وصف الرحــــلة لا يمكن اعتباره رسالة جغرافية، بل مصنف أدبي يحفل بعناصر نقلية من جهة وانطباعات شخصية صيغت في قالب أدبي من جهة أخرى.


              وبدأت قصة الرحلة عندما رأى الخليفة العباسي الواثق باللّه (232- 722م) في المنام حلماً تراءى له فيه أن السد الذي بناه الإســـكندر ذو القـــرنين ليحــول دون تســــرب يأجـــوج ومأجوج، قــد انفتـــح، فـــــأفـــــزعه ذلك، فكلف ســلام التــرجمان بالقيام برحـــلة ليسـتكشف له مــكان سد ذي القرنين.
              ويروي لنا المسعودي في كتابه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)، وابن خرداذيه في كتابه (المسالك والممالك) قصة هـــذه الرحلة على النحو التالي:
              "إن الواثق باللّه لما رأى في المنام أن السد الذي بناه ذو القرنين بيننا وبين يأجوج ومأجوج مفتوحاً، أحضر سلاماً الترجمان الذي كان يتكلم ثلاثــــين لســــاناً، وقال له: إذهب وانظر إلى هذا الســــد وجئني بخبره وحاله، وما هو عليه، ثم أمر له بأصحاب يســيرون معـــه وعــــددهم 60 رجلاً ووصله بخمسة آلاف دينار وأعطاه ديتـــه عشرة آلاف درهم، وأمر لكل واحد من أصحابه بخمسين ألف درهـــم ومؤونة ســــنة ومئة بغـــل تحمل الماء والــــزاد، وأمر للرجال باللبـــابيــد وهي أكســـية من صـــــوف وشعر.
              وحمل سلام رسالة من الخليفة إلى إسحاق بن إسماعيل صاحب أرمينية بتفليس، وكتب صاحب أرمينية توصية لهم إلى صاحب السرير، وذلك كتب لهم إلى صـاحب اللان، وهكذا إلى فيلا شاه وطرخان ملك الخزر، الذي وجه معهم خمسة أدلاء ساروا معهم 25 يوماً حتى انتهوا إلى أرض سوداء منتنة الرائحة، "فسرنا فيها عشرة أيام، ثم وصلنا إلى مدن خراب فسرنا فيها عشرين يوماً وسألنا عن خبرها فقيل لنا هي المدن التي خربها يأجوج ومأجوج، ثم صرنا إلى حصون بالقرب من الجبل الذي في شعبة منه السد، وفي تلك الحصون قوم يتكلمون العربية والفارسية، مسلمون يقرؤون القرآن ولهم كتاتيب ومساجد، وبين كل حصن وآخر فرسخان، ثم صرنا إلى مدينة يقال لها (إيكة) لهـا أبواب من حديد وفيها مزارع وهي التي كان ينزلها ذو القرنين بعسكره، بينـها وبين الســـد مســـيرة ثلاثة أيام، ثم صرنا إلى جبل عال، عليه حصن، والسد الذي بناه ذو القرنين هو فج بين جبلين عرضه 200 ذراع، وهو الطريق الذي يخرجون منه، فيتفرقون في الأرض، فحفر أساسه 30 ذراعاً وبناه بالحديد والنحاس، ثم رفع عضادتين مما يلي الجبل من جنبتي الفج عرض كل منهما 25 ذراعاً في ســمك 50 ذراعاً، وكله بناء بلبن مغيّب في نحاس، وعلى العضادتين عتبة عليا من حديد طولها 120 ذراعاً، وفوقـــها بناء بذلك اللبن الحــــديد إلى رأس الجبل وارتفاعه مد البصر".
              "فيكون البناء فوق العتبة 60 ذراعاً وفوق ذلك شرف من حديد، في كل شرفة قرنتان تنثني كل واحدة على الأخرى، طول كل شرفة خمسة أذرع في أربعة، وعليه سبع وثلاثون شرفة، وباب من حديد بمصراعين معلقين عرض كل مصراع 50 ذراعاً في 75 ذراعاً في ثخن خمسة أذرع، وقائمتان في دوارة على قدر العتبة، لا يدخل من الباب ولا الجبل ريح، وعلى الباب قفــل طوله سبعة أذرع في غلظ باع في الاسـتدارة، والقفل لا يحتضنه رجلان وارتفاع القفل من الأرض 25 ذراعاً، وفوق القفل بخمسة أذرع غلق طوله أكثر من طول القفــل، وقفــيزاه كل واحد ذراعان وعلى الغلق مفتاح معلق طوله ذراع ونصف، وله 21 سناً من الأســـنان واستدارة المفتاح 4 أشبار معلق في سلسلة ملحومة بالبـــاب طولها 8 أذرع في 4 أشـــبار، والحلقة التي فيــها الســلسلة مثــل المنجنيـق، وعتبة البـــاب عرضها 10 أذرع في بســـط مائة ذراع، ومـــع الباب حصـــنان يُكوِّن كل منهــما 200 ذراع.
              "وفي أحد الحصنين آلة البناء التي بني بها السد، من قدور الحديد ومغارف حديد، وهناك بقية من اللبن الذي التصق ببعضه بسبب الصدأ، ورئيس تلك الحصون يركب في كل يومي إثنين وخميس، وهم يتوارثون ذلك الباب كما يتوارث الخلفاء الخلافة، يقرع الباب قرعاً له دوي، والهدف منه أن يسمعه مَن وراء الباب فيعلموا أن هناك حفظة وأن الباب مازال سليماً، وعلى مصراع الباب الأيمن مكتوب {فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً}، والجبل من الخارج ليــــس له مـــتن ولا ســـفح، ولا عليه نبات ولا حشيش ولا غير ذلك، وهــو جبل مســطح، متســع، قـائم أملس أبيض".
              وبعد تفقد سلام الترجمان للسد انصرف نحو خراسان ومنها إلى طبانوين، ومنها إلى سمرقند في ثمــــانية أشهر، ومنهــا إلى أســــبيشاب، وعبر نهر بلخ ثم صار إلى شروسنة فبخــــارى وترمذ ثـم إلى نيسابور، ومات من الرجال في الــــذهاب 22 رجـــلاً وفي العــودة 24 رجلاً.
              وورد نيسابور وبقي معه من الرجـــــال 14 ومن البــــغال 23 بغلاً، وعاد إلى (سر من رأى) فأخبر الخليفة بما شاهده، بعد رحـــلة استمرت 16 شهراً ذهاباً و12 شهراً في الإياب".
              ----------------------
              * كاتب سعودي
              المراجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــع:
              1-البداية والنهاية للحافظ ابن كثير، النــــاشر: مكتبة المعـــــارف بيـــروت ط2 عام 1977م.
              2- تاريخ الأدب الجغرافي العربي كراتشكوفسكي، الناشر: جامعة الدول العربية القاهرة.
              3-المسالك والممالك لابن خردا ذبه، الناشر: وزارة الثقافة السورية عام 1999م.
              4-الشريف الإدريسي ودور رحلته وجغرافيته للدكتور محمد مرسي الحريري، الناشر: دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية 1965م.

              د. أبو شامة المغربي

              تعليق

              • أبو شامة المغربي
                السندباد
                • Feb 2006
                • 16639


                #97
                رد : أدب الرحـــــــلة ...

                شاعر سوري كبير ورحالة شهير يزور لبنان
                (التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية)

                تأليف: عبد الغنى بن اسماعيل النابلسي

                تحقيق: هريبرت بوسه

                تقديم: ابن الريف

                هذه الرحلة كنت قدمتها ضمن كتب الرحلات المعروضة من طرفي على هامش الندوة الدولية لابن بطوطة، التى نظمتها مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة أيام 27 ـ28 ـ29 ـ1993...
                (هذه رحلة لطيفة للشيخ الصوفي الأديب الشاعر المبدع عبد الغني إسماعيل النابلسي إلى مدن لبنان: صيدا، وبيروت، وطرابلس، وبعلبك انطلاقا من مدينة دمشق الفيحاء السورية مسقط رأسه وهي في 134 صفحة من تحقيق المستشرق هريبرت بوسه، وتقديم السيد يوسف مقداد مدرس اللغة العربية في معهد الدراسات الشرقية بها سبورغ، عرف فيه بنسب المؤلف وعائلته ومؤلفاته الخاصة بالرحلات، ووصف المخطوطة وطريق التحقيق وطا بع الكتا ب العام، وكذا طريق الرحلة مع ملحق في آخر الكتاب يحتوي على فهرسة أسماء الاشخاص، والأما كن، والبلدان، والاشعار، والكتب، ومصا در التصدير والتحقيق.
                مؤلف الرحلـــــــــة
                هو عبد الغني بن إسماعيل النابلسي العالم الصوفي الشاعر الرحالة المشهور المزداد بدمشق بسوريا عام 1050هـ، الموافق 1641م، كان من أبرز رجال التصوف والرحلات في عصره، كثير التجوال والترحال في البلدان بحثا عن العلماء، والأولياء، والمآثرالتاريخية والمقدسا ت الاسلامية، توفي رحمه الله فى شعبان 1143 ـ مارس 1731م في دمشق، ودفن في الصالحية بجانب ضريح الفيلسوف الشهير ابن عربي، صا حب الفتوحا ت المكية، وبسبب شعبيته الواسعة ففد قيل: إن المدينة اهتزت لموته إلى درجة أن أبوابها أغلقت حزنا على وفاته.
                رحـــلاتـــــــــــه:
                قام بعدة رحلات هامة نذكر منها:
                1 ـ (حلة الذهب الإبريز في رحلة بعلبك والبقاع العزيز): وهي رحلة دامت اسبوعين إلى بعلبك في شهر شتنبر
                2 ـ (الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية): وهي رحلة دامت مدة شهر ونصف، ابتداء من مارس/ أبريل 1690 إلى أن أتمها في 9 ذي الحجة 1101 ـ13 شتنبر 1690، وقد تحدث عنها المؤرخ المصري الجبرتي في كتابه (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) في الجزء 1 الصفحة 154 طبعة القاهرة، سنة 1320 ـ1902م
                3 ـ (الحقائق والمجاز في رحلة بلاد مصر والحجاز): وهي رحلته الكبرى التي قام بها في المحرم 1105 ـ شتنبر 1694م إلى سوريا، ولبنا ن، ومصر، والمدن المقـدسة بالحجاز، استمرت 388 يوما، طبعت في مصر سنة1299 ـ1881م، وفي دمشق عام 1324هـ، وفي القاهرة مرة أخرى سنة1906م
                4 ـ (المنازل الطرابلسية) ـ وهي الرحلة المقدمة، التي بدأها يوم 6 شتنبر 1700، وهناك رحلتان سابقتان مشابهتان لهذه الرحلة هما (المنازل الأنسية في الرحلة الطرابلسية) للحسن البوريني الدمشقي المتوفى سنة 1022 ـ1615 والرحلة إلى طرابلس الشام ـ لرمضان بن موسى العظيمي المتوفى سنة 1090.
                د. أبو شامة المغربي

                تعليق

                • أبو شامة المغربي
                  السندباد
                  • Feb 2006
                  • 16639


                  #98
                  رد : أدب الرحـــــــلة ...

                  رحلة فيلبي إلى أرض مدين
                  مكتبة العبيكان تطبع الإصدار الإثني عشر من سلسلة كتب
                  عبد الله فيلبي
                  د. إبراهيم بن عبد الله السماري*

                  شهدت الحضارة الإنسانية تطورات تاريخية بحسب الحقب الزمنية المختلفة التي شهدت مولد كل عصر حضاري، كما أن كثيراً من الحضارات ارتبطت بالأرض التي شهدت ازدهارها وعلو شأنها حتى عرفت بها مما جعل المتأخرين يجدّون للبحث في هذه الأرض بقصد التعرف على تلك الحضارة التي سادت ثم بادت، بل إن بعض المناطق شهدت مولد عدد من الحضارات مما جعلها أكثر استهدافاً بالبحث والتحري ومن ذلك أرض مدين التي يرجع أوج مجدها إلى عهود إبراهيم وموسى وسليمان، بالإضافة إلى نبوخذنصر البابلي الذي كانت تيماء عاصمته الصيفية وملوك اللحيانيين والمعينيين والأنباط الذين حكموا عرب عاد وثمود وسيطروا على طريق التجارة الذي سارت في دروبه التوابل والعطور من اليمن السعيد إلى مراكز الحضارة العظمى في الأيام الخوالي.
                  وقد اشتهر باحثون ورحالة بحب المغامرة لاستكشاف الحضارات السابقة وأرض مدين بالذات ومن أهم هؤلاء ممن قدموا معلومات جغرافية متقدمة عن تلك الأرض مثل تشارلز داوتي وغوارماني وأوغسطس فالن وألويس موسل وتشارلز هوبر وهاري سانت فيلبي (عبد الله فيلبي) في كتابه (أرض مدين).
                  وقد قامت مكتبة العبيكان بطباعته ضمن اثني عشر إصداراً من سلسلة كتب فيلبي ونشرته هذا العام بتعريب الدكتور يوسف مختار الأمين وبمراجعة وتدقيق عبد الله بن محمد المنيف .
                  يمكن وصف منهج فيلبي في كتابه بأنه يرتكز على أسلوب السهل الممتنع في وصف أحداث رحلته إلى أرض مدين ـ التي تمت بين نوفمبر 1950 ومارس 1953 ـ مع صَبْغِهِ بصبغة قصصية سلسة تطرد السأم عن القارئ ولاسيما عند تطرقه للتفصيلات الدقيقة والمواقف الطريفة التي حصلت له أو لمرافقيه كما يسهل أن يلحظ القاري اجتهاد فيلبي في التعليل والتحليل لمايمر به من أسماء وحوادث ومن ذلك ماذكره عن تسمية الجبل الأبيض وقبر الشيخ كما ظهرت الخلفية التاريخية للمؤلف ولاسيما عند حديثه عن التاريخ القديم لتيماء وتبوك وقلعة الحاج وغير ذلك، وحرصه على الوصف الدقيق للشواهد الأثرية والمعالم من أودية وجبال وسهول وعيون وفوهات بركانية وأخاديد ونباتات وطيور وقصور وطرق وغيرها والتحدث بإسهاب عن إحداثياتها الجغرافية، بل إنه تعدى ذلك إلى وصف الواقع الاجتماعي والحضاري للمناطق التي زارها بدقة متناهية مع التصريح بما يراه من تصورات لتطويرها كما استعان في كتابه بعدد من الصور التي التقطها بعدسته الفوتغرافية لكثير من المواقع والآثار التي اطلع عليها مع خريطة جغرافية لطريق الرحلة ومعالمه الهامة مما جعل المعلومات التي قدمها فيلبي في كتابه (أرض مدين) أدق وأشمل من كتابات الرحالة الآخرين ولاسيما تحريه الدقة في وصف النقوش القديمة والنصوص الثمودية والنبطية والمعينية وحرصه على الوقوف عليها بنفسه.
                  ومما زاد أهمية وصف فيلبي لهذه النقوش والنصوص لجوؤه إلى المقارنة الدقيقة بين ما رآه بنفسه في رحلته وبين وصف من سبقه من الرحالة في كتبهم لما رآه مع الإشارة إلى ما طرأ عليها من تغيرات بسبب العوامل الجغرافية أو نتيجة الاعتداءات البشرية نتيجة للطمع المادي مما جعل وصفه لهذه النقوش والنصوص مصدر ثراء حقيقي للبحوث والدراسات العلمية المخصصة لهذه المنطقة.
                  وملحوظة أخرى تسجل لفيلبي في كتابه (أرض مدين) أنه برغم إتمامه رحلته بدعم من الملك عبد العزيز وبتسهيل من المسؤولين في المناطق والبلدان التي مرّ بها بناء على ذلك الدعم، فإنه لم يجامل في تقاريره التي ضمنها كتابه الحكومة المركزية فقد انتقدها لتأخرها في تطوير وتحديث بعض المناطق والطرق التي زارها وإن أرجع ذلك أحياناً كثيرة إلى سلبية بعض المسؤولين تجاه عرض احتياجات بلدانهم والمطالبة بتطويرها، ولذا حظي منه عبد الله الشنيفي أمير تيماء بالثناء لجهوده في تحديث بلده ووصفه بأنه من الأفراد الساعين للتطور.
                  كما لم ينسَ فيلبي أملاً كرره في أكثر من كتاب ـ ومنها كتابه هذا ـ وهو المطالبة بإحياء سكة حديد الحجاز إلى الشام لمايراه فيها من إنعاش لاقتصاديات البلدان التي تمر بها ولما ستوفره من تسهيل للوصول إلى التراث الحضاري الذي حرم من مشاهدته كثير من الناس وبعضهم من المختصين لصعوبة الوصول إليه بسبب الطبيعة الجغرافية والظروف الاجتماعية.
                  عند تصفح كتاب (أرض مدين) سنجد أنه قسم المؤلف كتابه بعد المقدمة إلى أحد عشر فصلاً كان الفصل الأول منها عن رحلته من المدينة إلى خيبر وخصص الثاني لخيبر ومحيطها والثالث لطريقه من خيبر إلى تيماء والرابع لتيماء وماجاورها والخامس من تيماء إلى تبوك والسادس عن واحة تبوك والسابع عن روافة والحرّة والثامن عن شَرَوْرَى وقريّة والتاسع عن هضبة حسمى والعاشر عن وادي مدين والحادي عشر عن ساحل مدين.
                  ثم خصص ملحقاً عن قبور الأنباط في مغاير شعيب مدين وقارن مجموعاته بالمجموعات التي ذكرها موسل مركزاً على حالتها الراهنة عند زيارته وفي هذا الملحق نبه فيلبي إلى ما انفرد به عن موسل وفي نهاية الكتاب كشاف ثري بالأعلام والأسماء والقبائل والأماكن والمواضع والبلدان والجبال ونحوها أثرى مادة الكتاب وسهّل للباحث والقارئ الاستفادة من المعلومات الغنية التي تضمنها.
                  ومن الجدير بالتنويه إليه استدراك مراجع الكتاب عبد الله المنيف على فيلبي بعض العبارات التي لا يصح إيرادها مثل تشكيك فيلبي في صعود موسى جبل حُراب، وتصحيح بعض المعلومات التاريخية كنسبة فيلبي قلعة الأزلم إلى السلطان سليم وتصحيح المراجع لهذه المعلومة بنسبتها إلى السلطان محمد بن قلاوون وتسجيل القراءة الصحيحة للنص المنقوش على القلعة الذي يثبت صحة هذه النسبة من واقع المصادر الموثوقة التي نشرته.
                  وفي الجملة يظل كتاب فيلبي من أكثر المصادر المكتوبة عن شمال المملكة العربية السعودية شمولاً ودقة نظراً لإقامة المؤلف الطويلة في المملكة وقربه المستمر من الملك عبد العزيز مما أتاح له فرصاً ووقتاً أفضل من غيره للبحث والاطلاع وتسجيل نتيجة ذلك كله في كتبه الكثيرة يضاف إلى ذلك مايملكه فيلبي نفسه من خلفية جغرافية كبيرة عن القياسات وخلفية علمية عن كيفية وصف وقراءة ونقل النقوش والنصوص الأثرية.
                  *كاتب سعودي

                  د. أبو شامة المغربي

                  تعليق

                  • أبو شامة المغربي
                    السندباد
                    • Feb 2006
                    • 16639


                    #99
                    رد : أدب الرحـــــــلة ...





                    الذهب والعاصفة
                    رحلة إلياس الموصلي إلى أميركا
                    قراءة ونقد الدكتور
                    سعدي المالح

                    بداية لا بد من الإشادة بهذه السلسلة من كتب الرحلات العربية إلى العالم التي بدأت دار السويدي للنشر والتوزيع في أبوظبي بالإشتراك مع المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت بإصدارها مؤخرا تحت عنوان "ارتياد الآفاق"، والتي "من شأنها أن تؤسس، وللمرة الأولى، لمكتبة عربية مستقلة مؤلفة من نصوص ثرية تكشف عن همّة العربي في ارتياد الآفاق " و في الوقت نفسه " بعث واحد من أعرق ألوان الكتابة في ثقافتنا العربية من خلال تقديم كلاسيكيات أدب الرحلة، إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة لكتاب ورحالة عرب ومسلمين" كما جاء في كلمة الأستاذ محمد أحمد خليفة السويدي الاستهلالية التي تتصدر كل كتاب من هذه السلسلة الهامة بالفعل.
                    على أن الاختيار الموفق لـ "رحلة الياس الموصلي إلى أميركا" في النصف الثاني من القرن السابع عشر(1668-1683م)، والتي تعتبر أول رحلة شرقية قام بها كلداني/ آشوري عراقي إلى العالم الجديد، كفاتحة لهذه السلسلة، جاء ليعيد الاعتبار لكاتبها على رغم ركاكة أسلوبه وضعف ملكته الفنية، ويبعث الحياة لجهده المتميز بطرافته وقيمته الجغرافية والتاريخية والدينية باعتباره وثيقة فريدة من نوعها.
                    حرر الكتاب وقدم له الأستاذ نوري الجراح، فقسمه إلى أربعة أقسام: الرحلة الأوربية، والرحلة الأمريكية، والرحلة المكسيكية، والعودة إلى أوروبا.
                    وأضاف اليه ملحقين الأول نص لأغناطيوس كراتشكوفسكي عن الموصلي من كتابه "تاريخ الأدب الجغرافي العربي". والثاني مقدمة الأب أنطون رباط اليسوعي للرحلة عند نشرها للمرة الأولى في مجلة المشرق عام 1905م.
                    سبع سنوات في أوروبا
                    تبدأ رحلته في ربيع عام 1668م من بغداد باتجاه الشام، ليواجه مع رفاقه اللصوص في منتصف الطريق وينجو منهم ويصل دمشق، ومن هناك قصد الموصلي القدس وحج إلى الأماكن المقدسة .

                    في طريق عودته من الأراضي المقدسة زار مدينة حلب، وبعد أيام انحدر إلى ميناء اسكندرونة، ومن ثم استقل مركبا انجليزيا قاصدا أوروبا. في الطريق إلى البندقية الذي استمر سبعين يوما من الابحار مر بقبرص وكريت.
                    وفي البندقية، بعد الحجر الصحي أربعين يوما، تمتع بعشرين يوما من التنزه وزيارة الكنائس، ثم غادر إلى روما وسكنها ستة أشهر قابل فيها البابا وزار الأماكن المسيحية المقدسة، ثم غادرها عبر فلورنسا وليغورنا وجنوا إلى فرنسا.
                    ويبدأ رحلته الفرنسية من مرسيليا إلى أوينيون فليون التي التقى فيها القنصل الفرنسي السابق في حلب وبغداد، بعد أيام دخل باريس وزار فيها الملك لويس وأخاه أمير أوليانس وأميرا آخر "سانت إينيان" وحظي منهم بالعز والإكرام كما يقول. وبطلب من السفير العثماني يبقى في باريس ثمانية أشهر.
                    بعد ذلك قصد اسبانيا مارا بمدن وقرى لا تحصى على حد قوله، إلى أن وصل مدريد وقدم رسائل من البابا اكليمندوس التاسع إلى ملكة اسبانيا فيليبه الرابع، ثم زار أخ الملك المتوفي، وساح في مدن سيراكوزا وبرشلونة وميناء كاتاكيس وسيسيليا وباليرمو (من حيث أرسل ابن اخيه يونان الذي أنهى دراسته في ايطاليا إلى حلب).

                    وبعد أن أخفق في الحصول على أموال من بعض هذه المدن عاد إلى مدريد ومنها توجه إلى البرتغال وزار في لشبونة الأمير حاكم البلاد.
                    عاد مرة أخرى إلى أسبانيا، وهناك حدث أن توفرت أمامه فرصة أن يطلب شيئا تهبه له ملكة أسبانيا بعد أن قدس لها قداسه السرياني الشرقي. استشار رسول البابا في مدريد الكاردينال ماريكوتي فنصحه بطلب رخصة تخوله الذهاب إلى "بلاد هند الغرب" كما كانت تسمى القارة الأميريكية في ذلك الوقت. فحصل على تلك الرخصة التي كانت مقتصرة على الأسبان من الإداريين والمبشرين الكاثوليك.
                    وثماني سنوات في العالم الجديد
                    من هنا تبدأ الرحلة إلى أمريكا الجنوبية والوسطى. في عام 1675م غادر قادش "رفقة مراكب تسافر كل ثلاث سنوات مرة واحدة إلى بلاد الهند الغربية( أميركا الجنوبية) التي تسمى البيروه والتي تبعد إلف وخمسمائة فرسخ داخل بلاد ينكي دنيا( المكسيك) لكي يحضروا من هناك خزنة الملك" فتمر المراكب بجزر الكناري لتصل في آخر المطاف إلى أول مدينة في العالم الجديد: كراكاس (عاصمة فنزويلا) ومنها بعد حوالي شهرين الى كرتاخينا (في كولومبيا) وبعد زيارة لبنما عبر بورتوبلو يعود إلى كولومبيا من جديد ليتجه جنوبا على الساحل الغربي من أمريكا الجنوبية باتجاه الأكوادور حيث زار غواكويا وأقام لعدة أشهر في كيتو بعد ذلك ليستقر أكثر من سنة ونصف في ليما عاصمة البيرو، ثم يقوم بزيارات قصيرة إلى كل من بوليفيا والأرجنتين وشيلي ومن هناك يعود إلى ليما ليبحر إلى بنما مرة أخرى لكن بقصد زيارة ينكي دنيا( المكسيك).

                    وفي طريقه إلى المكسيك يمر بكوستاريكا ونيكاراغوا والسلفادور وغواتيمالا، وفي المكسيك أيضا يرتبط بشبكة من الأصدقاء والمعارف ويقضي في العاصمة مكسيكو ستة أشهر، وفيها يفكر في العودة إلى وطنه (العراق) عبر الفيليبين بعد أن يسمع الكثير من القصص عنها، لكن عارضا صده عن ذلك، وهو أن الرجل الذي قرر أن يأخذه معه في المركب كان ذاهبا ليحكم في الفيليبين، فطلب منه أن يدينه عشرة آلاف غرش، ولما شاورصاحبنا وزيرا مكسيكيا بشأنه تبين انه مدين للآخرين بمئتي ألف غرش فامتنع عن مرافقته، وأبحر من المكسيك إلى هافانا( كوبا)، ومنها استقل سفينة إلى اسبانيا، فروما، حاملا معه هدايا ثمينة للبابا اينوسنيوس الحادي عشر.
                    ومع أن الموصلي يركز معظم اهتمامه على رجال الدين الكاثوليكيين، ورؤساء محاكم التفتيش الأسبان، وحكام المدن والبلدان الذين عادة كان يحمل إليهم توصيات من أصدقائه، وكذلك على الخدمات الدينية كإقامة القداديس والتبشير وذكر عجائب القديسين التي سمعها، إلا أنه لا ينسى أن يصف في رحلته المدن التي زارها والطرق والقصور والجبال والأنهار والبحار والمناجم والمزارع والأحداث التي صادفته والناس الذين التقاهم وطرق معيشتهم وطبائعهم وأمراضهم وغرائب أخبارهم سواء كانوا من البيض أو من السكان الأصليين، ويهتم في رحلته بوصف بعض الحيوانات والطيور والنباتات التي شاهدها وبعض الهدايا التي حملها معه.
                    بيد أن نوري الجراح ، وفي سياق الحديث عن مضمون الكتاب يتساءل " كيف أن الموصلي لم يعقد خلال رحلته أي مقارنات بين الخبرات والظواهر التي عاشها ورآها في أميركا وبين نظيرها في مسقط رأسه في الموصل، حتى وكأن شرقيته لم تشكل له، إلا في ما ندر، مرجعا يعتد به"؟ وهو تساول وجيه، وباعتقادي، أن الهمّ الرئيسي للموصلي كان الهم الديني الكاثوليكي المحض، في حين أن ماضيه كله كان ينتمي إلى النسطورية (نسبة إلى نسطوريوس الذي أعتبر مريم العذراء أم المسيح الإنسان وليس المسيح الإله) التي تخلى عنها حديثا.

                    والكنيسة الكاثوليكية في ذلك الوقت كانت تعتبر النساطرة كفرة وهراطقة، فلم يكن له من هذه الناحية بالفعل مرجعا يعتد به، وكان هدفه أن يبين"توسع الكنيسة وامتدادها إلى أربعة أطراف المسكونة وبين طوائف مختلفة ولغات متفرقة" كما يقول في مقدمة كتابه ثم ينتقد بشدة "بعض طوائف الناس الذين أنكروا الطاعة للكنيسة الرومانية ومدبرها الذي هو الحبر الأعظم"، ويضيف:" فسبيلنا أن نبرهن ونبين رجوع هذه الطوائف إلى الإيمان الحقيقي واحتضانهم للكنيسة المقدسة" ص28 والتي يقصد بها طائفته النسطورية التي كان ينتمي إليها.
                    مصدر تاريخي جغرافي قيّم
                    يشيد المستشرق الروسي المعروف أغناطيوس كراتشكوفسكي بهذه الرحلة التي تحتل برأيه مكانة هامة في الأدب العربي ويقول:"وهي لا تقل أهمية وطرافة من حيث مضمونها . ويجب الأعتراف بأن قراءتها قد لا تخلو أحيانا من تأثير مؤلم على نفس القاريء فهي أثر من الآثار التي تصور عهد الاستعمار الذي أناخ بكلكله على أهل البلاد الأصليين واستغلهم استغلالا مشينا "ويضيف" والمؤلف يعرض لنا وقائعه بالكثير من الهدوء دون أن يعكس أية انفعالات عاطفية إزاء ما يسرده، وبهذا بالذات تكمن أهميته كمصدر تاريخي جغرافي ذي قيمة بالنسبة لذلك العصر بأجمعه"، وفي معرض تقييمه لمؤلف الرحلة يقول كراتشكوفسكي:" إنه ولا شك يتمتع باطلاع واسع لكنه يجمع إلى ذلك سذاجة مذهلة" وعلى العكس منه يقول نوري الجراح في مقدمته: إنه "لم يكن أبدا شخصية تنطوي على شيء من السذاجة ، بل على العكس من ذلك كان شخصية ذكية مقتدرة ومتأكدة من قدراتها" .

                    ويعتبر كتابه هذا" وثيقة فريدة من نوعها على أوضاع القارة الأميركية في النصف الثاني من القرن السابع عشر فضلا عن قيمته كأثر أدبي لا يخلو من طرافة".
                    إلا أن نوري الجراح في تحريره للكتاب قد فاته تحرير أو تصويب بعض من الأسماء والكلمات سواء في متن الكتاب أو في الحواشي التي وضعها أنطون رباط. مثلا، يقول رباط في حاشيته عن موسيو بيكيت ص37 "سُمّي أسقفا على بابل"، فلا بد أن نضع إلى جانبها بين قوسين (بغداد) لأن المقصود ببابل هنا هو بغداد فالغربيون كانوا في ذلك الوقت يسمون بغداد باسم بابل خطأ لعدم معرفتهم موقع الأخيرة بالضبط، وبابل في القرن السابع عشر كانت قرية مهجورة، أو المقصود بها أسقفية أو بطريركية الكلدان التي ما تزال تسمى باسم بابل.

                    وفي ص 66 "وقلت له ابرك على ركبتيك" تقول الحاشية: أي اجلس ، وهي كلمة حلبية، والصحيح أن"ابرك" كلمة سريانية تعني "اركع"، والكاتب يقصد بها الركوع، فيحدد له "على ركبتيك" إذ أن المؤمن يركع في الكنيسة.
                    وأصل الفعل "برك" و"بُركا" هي الركبة بالسريانية. والسريان من أهل الحسكة والقامشلي والجزيرة وليس الحلبية يستعملون في لهجتهم العربية "ابرك" بمعنى اجلس، علما أن الفعل" برك" بالعربية يأتي بمعنى الإقامة بالمكان، واستناخة البعير. وفي صفحة 66 وردت كلمة "برنج" و"البرانج" وتقول الحاشية: إنها كلمة فارسية معناها النحاس، ونظنها بمعنى الخابية والبرنية. وأعتقد إن الكلمة نقلت من الأصل بخطأ طباعي في طبعة أنطون رباط. وحسب المعنى يجب أن تكون "بربخ" وجمعها "برابخ" وهو مجرى من الخزف للماء وما شاكله، وأصل الكلمة سريانية أيضا ولا تزال تستعمل في القرى الكلدانية/الآشورية العراقية. وقد استعملتها شخصيا في أحد فصول كتابي " الينابيع الأولى" المنشور في جريدة " الزمان" عام 1999 نقلا عن والدتي. وورد في ص131 من مقال كراتشكوفسكي "هذا كله لم يمنعه من القيام بالخدمات الدينية ....ولكن بلغته السورية!" كذلك يذكر المحرر أن صاحب الرحلة " قام بأعمال القداس باللغة السورية السريانية!" والمعروف أنه ليس ثمة من لغة تسمى اللغة السورية، لكن يترجم البعض Syrian Language أو Syrian Church اللغة السورية أو الكنيسة السورية، وهذا خطأ، وأعتقد أن مترجم كراتشكوفسكي وقع بالخطأ نفسه عند ترجمته الكتاب عن الروسية فترجم" سيرييسكي يازيك" اللغة السورية، والصحيح هو اللغة السريانية والكنيسة السريانية نسبة إلى السريان وليس إلى سوريا، وأصل كلمة Syrian التي تعني السريان، وفقا لمعظم المؤرخين والباحثين في اللغات القديمة مصحفة من Assyrian وتعني الأشوريين، وقد وصلتنا بشكلها المصحف عبر التراجم من اليونانية، فقلبت الشين سينا وسقطت الألف، حسب اللفظ اليوناني لها. ولكي لا يقع الباحثون في مثل هذا الخطأ بدأوا يسمون اللغة السريانية Syriac Language بالأنكليزية، و Langue Syriague بالفرنسية.
                    ولا أدري ماذا يقصد الأستاذ نوري الجراح باللغة السورية السريانية، فإذا كان يقصد السريانية هي السورية فهو غير محق، أما إذا كان يقصد اللهجة السريانية السورية باعتبار أن للسريانية المعاصرة لهجتين سورية (غربية) وعراقية (شرقية)، فهو أيضا لا يصيب الحقيقة لأن صاحب الرحلة إبراهيم الموصلي هو كلداني عراقي يتحدث اللهجة السريانية العراقية ويحددها في كتابه غير مرة فيذكر إنه كان يقدس بالسريانية الشرقية وهي اللهجة التي يؤدي بها أبناء الكنيستين الكلدانية والآشورية في العراق( الكنيسة النسطورية سابقا) طقوسهم الدينية حتى اليوم.
                    جهد كبير لكنه ناقص
                    وقد كتب نوري الجراح مقدمة مطولة للكتاب ( نحو 15 صفحة) مستعينا بمقدمة الأب رباط ومقال كراتشكوفسكي ونص الرحلة. ويبدو من هذه المقدمة انه بذل جهدا كبيرا في جمع المعلومات والبحث عن أصل الرحلة على رغم صعوبة الحصول على المصادر المطلوبة، لكنه يعترف "أن جهده هذا ناقص بالضرورة، وكان يمكن أن يكون أكثر استجابة إلى شروط البحث العلمي"، و"تعجل في اخراجه إلى النور لكي يتمكن من تحقيقه في طبعة لاحقة"، وهذا ما شجعني فعلا في الخوض في كثير من التفصيلات التي تساهم في القاء الضوء على هذا الأثر القيم وشخصية كاتبه وملابسات العصر الذي عاش فيه، وليس انقاصا من أهمية الجهد الذي بذله الجراح في إخراج الكتاب إلى النور.
                    في الحقيقة ليست هذه أول طبعة عربية للكتاب بعد نشره في مجلة "المشرق"،
                    فقد نشر الأب أنطون رباط هذه الرحلة مع كراس آخر عن تاريخ البيرو للمؤلف نفسه في كتاب مستقل عام 1906 في بيروت، وصدر عن المطبعة الكاثوليكية (انظر "المشرق" السنة12 عام 1909 ص798)، ومنذ ذلك الحين كتِبتْ العديد من المقالات عن الرحلة وصاحبها في عدد من المجلات في العراق" لغة العرب" ولبنان" المشرق" ومصر"المقتطف" تلقي المزيد من الضوء على التاريخ الحقيقي لهذا العمل والنسخ المتوفرة منه في ذلك الوقت، وتكشف أكثر فأكثر شخصية صاحبه، كان يمكن الوصول إلى بعضها علىالأقل، سيما وأن كراتشكوفسكي يذكر بعض هذه المصادر بكل وضوح، وبالذات ما يخص وجود نسخ أخرى من مخطوطة الرحلة التي لم ينتبه اليها الجراح، وقال في حاشية مقدمته "إن المستشرق الروسي لم يذكر أيا من المكتبتين اللتين تحويان على النسخ المذكورة" بينما ذيل المستشرق الروسي تلك المصادر في هوامش ذلك الفصل من كتاب" تاريخ الأدب الجغرافي العربي"(ص743-744) وحذفها الجراح من ملحقه المنشور في آخر الكتاب. وهذه النسخ المخطوطة من الرحلة والمكتشفة بعد عام 1905هي:
                    1- في عام 1909 أراد سلامة موسى أن يستعرض في المقتطف( العدد35 ص860) نسخة من هذه الرحلة موجودة في " خزانة ديوان الهند في لندن" (فهرست 2 ص207عدد719) وطلب من مشتركيه في بغداد أن يعلموه بما يعرفونه عن صاحب الرحلة، إلا أنه تخلى عن الفكرة بعدما عرف أن "المشرق" قد نشرتها متسلسلة.

                    والنسخة هذه كما ورد في خاتمتها نقلها مقدسي الشماس حنا مقابل عشرين بغدادية(البغدادية درهم مضروب في العراق) لصالح الشماس كوركيس ابن الشماس عيسى غنيمة من نسخة كتبت أصلا في سانتا ماريا مقابل ميناء قادش بخط يد اندراوس ابن مقدسي عبد الله الكلداني في الأول من آذار(مارس) عام1699م. 2- وظهرت نسخة ثالثة من رحلة الموصلي لدى الدكتور داود الجلبي ( وكان أديبا ولغويا معروفا) تحدث عنها في كتابه " مخطوطات الموصل" ص269 الصادر في العشرينات من القرن العشرين، وهي منقولة على الأغلب من نسخة سانتا ماريا الأصلية في 26 تموز(يوليو) سنة 1748.
                    3- هذا ونشر يعقوب نعوم سركيس مقالا عن صاحب الرحلة في مجلة "لغة العرب" للأب أنستاس ماري الكرملي(الجزء السادس السنة التاسعة) يقول فيه إن بحوزته نسخة أخرى من الرحلة أهداها له نرسيس صائغيان كان عمرها يتجاوز في ذلك الوقت( العشرينات من القرن العشرين) قرنا ونصف قرن على الأرجح.
                    4- والنسخة الخامسة من الرحلة يذكرها القس بطرس نصري في الجزء الثاني من كتابه" ذخيرة الأذهان"( الموصل 1913 ص359) فيقول إنها شوهدت عند نعمان الحلبي ، لكن يبدو أن هذه النسخة ضاعت من مكتبة الحلبي، كما يؤكد يوسف ابن نعمان الحلبي ليعقوب نعوم سركيس.

                    أصل صاحب الرحلة
                    لا يتوصل نوري الجراح إلى أية معلومات جديدة عن صاحب الرحلة لعدم توفرها في مصادره، لكنه يستعين بما كتبه كراتشوفسكي عن الموصلي من "أنه من بيت عمون وإنه ينتسب إلى عائلة قدمت للحياة الروحية عددا من البطاركة النساطرة ، وأن هذا البيت ارتبط، بصورة وثيقة منذ عام 1553 مع الفاتيكان ، وكان لهؤلاء البطاركة انطلاقا من روما صلاتهم القوية مع مختلف الطوائف المسيحية شرقا وغربا"، ويميل الجراح إلى "الأخذ بهذا الاعتقاد لإعتبارين، أولهما: الدقة التي عهدت عن كراتشكوفسكي، والتي كشفت عنها رصانة أبحاثه.

                    وثانيهما المكانة التي سيتبين لقاريء الرحلة أن الموصلي تمتع بها على أعلى المستويات السياسية والدينية في العواصم الأوربية الأربع: روما، باريس، مدريد، لشبونة".
                    وقبل الدخول في مناقشة الرأي غير الدقيق لكراتشكوفسكي حول ارتباط عائلة المؤلف بالفاتيكان أود أن أشير إلى أن صاحب الرحلة الخوري الياس ابن القسيس حنا الكلداني الموصلي وينتمي إلى قرية " ألقوش " التي تبعد نحو 50 كيلومترا إلى الشمال من الموصل، من نسل البطاركة النساطرة والعشيرة الأبوية "بيت أبونا" كما يقول الأب بطرس نصري في كتابه ذخيرة الأذهان" (الجزء الثاني الموصل1913 ص 359) ويقدم لنا الأب جوزيه دي سانتا ماريا الذي زار بغداد وسافر مع صاحب الرحلة إلى روما في رحلته الأولى معلومات جديدة عنه في كتابه الرحلة الثانية إلى الهند الشرقية(روما 1672 ص22-32 نقلا عن يعقوب نعوم سركيس)، ونعرف إضافة إلى والده القسيس حنا، كان أخوه الأكبر عبد المسيح قسيسا لكنيسة بغداد، وأخوه الأصغر عبد الله قسيسا في الموصل، وعمه إيليا الثامن بطريركا على النساطرة في ذلك الوقت (من عام 1627 وحتى وفاته في 1660م)، وأبن عمه يوحنا مروكي الذي سمي إيليا التاسع مروكي بطريركا على النساطرة أيضا خلفا لإيليا الثامن(من عام 1660 وحتى وفاته في عام 1700م)، حسب قانون الوراثة في الرئاسة الكنسية من أخ لأخيه أو لابن أخيه، والذي سنه البطريرك شمعون الرابع الباصيدي(1437-1476) وساد حتى منتصف القرن العشرين.

                    وكان جميع بطاركة كنيسة المشرق النسطورية منذ بداية القرن الرابع عشر عرضا من هذه العشيرة "بيت أبونا" أيضا. لكن واعتمادا على الأب جوزيه دي سانتا ماريا أن إلياس الموصلي جحد مذهبه النسطوري وانتمى إلى الكثلكة، وهذا ما دعاه لأن يقصد روما تبركا في رحلته الأولى برفقة الأبوين الدومنكيين سانتا ماريا وفنشنسو دي سانتا كاترينا في عام 1659م.
                    أما ما يذكره كراتشكوفسكي من أن بيت عمون (بيت أبونا) ارتبط بصلات وثيقة مع الفاتيكان عقب الاتحاد في عام 1553، ويأخذ الجراح برأيه ، فلنا عليه مآخذ كثيرة، وهو بعيد عن الدقة تماما، لأن هذا البيت لم يرتبط بروما ارتباطا وثيقا أبدا لا قبل الاتحاد في عام 1553 ولا بعده. وبقيت هذه العائلة مناوئة للفاتيكان، ملتزمة بعقيدتها النسطورية، رافضة الاتحاد مع الكنيسة الكاثوليكية، وإن كان بعض بطاركتها تأرجحوا في أوقات معينة بين التقارب مع الكرسي البابوي والإختلاف معه، ومع ذلك حتى أن البطريرك يوحنا هرمز(1760-1838) آخر بطريرك وراثي من هذه العائلة والذي اندفع بشدة نحو الإتحاد مع روما كان على خلافات شديدة مع الفاتيكان ومرسليها من المبشرين والقناصل. وأما الاتحاد مع روما الذي يشير اليه كراتشكوفسكي فلم يكن مع هذه العائلة أبدا، بل قام بالضد من التقاليد الوراثية لهذه العائلة وقاده رئيس دير الربان هرمز الراهب هرمز سولاقا(1513-1555) الذي كان ينتمي لعائلة بلو من مدينة عقرة، وقد قتل انتقاما لإنشقاقه برشوة من شمعون السادس برماما سليل العائلة الأبوية الذي كان على السدة البطريركية آنذاك.
                    لذلك أرى أن سفره إلى روما للمرة الثانية في عام 1668م كان في سبيل جمع المال للكنيسة الكلدانية المنشقة عن النسطورية، تلك الكنيسة الضعيفة والناشئة في ذلك الوقت، لذا تراه يمتدح بشكل واضح وصريح كل من أكرمه وأنفق عليه ويذم من امتنع عن ذلك، وربما أيضا تخلصا من مضايقات ابن عمه البطريك ايليا التاسع مروكي الذي كان يسعى لإملاء شروطه على روما للتقارب معها. وعندما لم يوفق ناصب العداء لروما ولجميع أبناء جلدته الذين اعتنقوا الكثلكة.

                    وعلى العموم لكي نتوقف جيدا على أسباب سفر الخوري إلياس الموصلي إلى أوربا لا بد من دراسة الأوضاع الدينية والاجتماعية للمسيحيين العراقيين في تلك الحقبة، والصراعات التي كانت يخلقها ويديرها المبشرون والمرسلون الكاثوليك من فرنسا وايطاليا في بغداد والموصل وحلب وسائر المنطقة.
                    أما سفره المفاجيء من أوربا إلى أمريكا فباعتقادي كان بسبب اخفاقه في الحصول على الأموال اللازمة في أوربا، وتوفر فرصة سهلة لهذه الرحلة، وارتباط ذلك بالأخبار التي كانت تروج لسهولة الحصول على الذهب والمال، ودخول الناس بالجملة إلى الكثلكة في العالم الجديد .
                    وليس بعيدا أن يكون الموصلي قد سعى للحصول على الأموال لتثبيت كيان كنيسة كاثوليكية عراقية لتواجه بنجاح عائلته الإقطاعية المتنفذة والمسيطرة على السدة البطريركية للكنيسة النسطورية التي جحد عقيدتها من جهة، ونفوذ المبشرين الأجانب الذين كانوا يسخرون التبرعات المرسلة إلى كاثوليكيي الشرق إما كرشاوي لكسب مؤمنين جدد أو لمصالحهم الخاصة من جهة ثانية. تلك الكنيسة التي لم تنجح لأن تصبح مؤسسة جماهيرية بين المسيحيين العراقيين إلا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر وبفضل المبشرين الغربيين وأموالهم.
                    المصدر


                    د. أبو شامة المغربي

                    kalimates@maktoob.com

                    تعليق

                    • أبو شامة المغربي
                      السندباد
                      • Feb 2006
                      • 16639


                      رد : أدب الرحـــــــلة ...



                      رحالة صيني مسلم يبحر في التاريخ
                      رحالة صيني مسلم يبحر في التاريخ فيكتشف أمريكا قبل كرستوفر كولومبوس
                      اجتاز الإسلام منذ دقه باب الصين في منتصف القرن السابع مراحل تاريخية متعددة بزغ خلالها العديد من المسلمين الصينيين بين علماء وأطباء ورحالة، ممن ساهموا في نقل حضارة بلادهم للعالم أجمع.. في هذا العدد نقدم لكم رحالة مسلم ساهم في انتشار الإسلام في مناطق متفرقة من العالم واكتشف دولاً لم تعرف من قبل..
                      من هو زهنج هي؟
                      "زهنج هي" هو رحالة صيني مسلم ولد في العام (1371م) من عائلة صينية مسلمة تعيش في جنوب الصين.. كان والده يعمل في التجارة فيسافر كثيراً ويجوب بلدان عديدة مما جعله يتعلق بالسفر والترحال منذ نعومة أظفاره..
                      وعندما بلغ (11 عاماً) اصطحبه والده في أول رحلة إلى مكة المكرمة.. فتعلم اللغة العربية وتحدثها بطلاقة، وتعرف على مدن الشرق وجغرافيتها وعادات شعوبها.
                      رحلات استكشافية
                      برز " زهنج هي" واشتهر برحلاته المتعددة وعلا صيته بين الرحالة والبحارة فوصل إلى جنوب أفريقيا والخليج العربي والمحيط الهندي، وفي كل رحلة ينقل معه الذهب والفضة والحرير الصيني والحديد والمنسوجات القطنية يرافقه الرسامون والفنانون والعلماء والبحارة والجيولوجيون.
                      وفي عام 1405م قام بأكبر رحلة استكشافية في ذلك الوقت بـ 7 أساطيل بحرية زار فيها 37 دولة امتدت من جنوب شرق آسيا إلى أفريقيا وصولاً إلى العالم العربي حيث كانت الصين تمتلك أقوى الأساطيل البحرية التي كانت تنافس بها الأساطيل الأوروبية في ذلك الوقت.
                      أما في العام 1413م شد "زهنج هي" رحالة إلى العالم العربي لأول مرة مصطحباً 30000 رجل عبر أسطول ضخم وصل به إلى مضيق هرمز، مسقط وعُمان ثم الهند، ودار حول بحر العرب وصولاً إلى عدن ثم إلى البحر الأحمر..
                      وفي هذه الرحلة الطويلة توقف "زهنج هي" في كل ميناء عربي يصل إليه ليلقي الترحيب وكرم الضيافة العربي، حيث بعثت أكثر من 19 دولة عربية بمندوبين وممثلين عنها يحملون الهدايا إلى امبراطور الصين في ذلك الوقت " يونغ لي" لتوثيق العلاقات الودية بين الصينيين والعرب.
                      نقل الحضارة
                      ساهم الرحالة الصيني المسلم " زهنج هي" في نقل حضارة شعب الصين إلى الدول العربية فضلاً عن نقل البضائع الصينية المميزة كالحرير الصيني واللؤلؤ المصطنع والمطرزات الحريرية والقطنية والذهب والفضة، كما ساهم في التعرف على عادات الشعب الصيني وانتشار الإسلام بشكل موسع.
                      الأسطول البحري
                      أما عن أسطوله البحري فكان يتكون من عدد كبير من السفن الكبيرة والصغيرة تتصدرها سفينته التي كانت تعرف بـ" سفينة الكنز" والتي يبلغ طولها (400قدم) حيث اعتبرت أطول سفينة في ذلك الوقت مقارنة بسفينة (كرستوفر كولومبوس) والتي كانت بطول (85) قدماً فقط.
                      ثم يأتي بعدها تباعاً السفن المحملة بالبراميل العملاقة التي كانت تستخدم لتخزين المياه والخيول الخاصة بالتنقل براً ثم السفن الصغيرة المحملة بالحرير الطبيعي والبورسلان والعديد من المنتوجات الصينية.
                      أما طاقم الملاحة فكان يحتوي على 27000 بحار وجندي موزعين على السفن كل حسب مهامه المنوطة به.
                      رحلته الأخيرة
                      أنهى الرحالة المسلم "زهنج هي" حياته بين موجات البحر أثناء رحلة عودته من الهند في العام 1433م عن عمر يناهز 60عاماً، وقد قام بـ 7رحلات على مدى (28عاماً) قطع فيها أكثر من (50000كم)، وزار أكثر من 37 دولة.
                      مفاجأة قوبلت بالتشكيك، وهي: أن كريستوفر كولومبوس لم يكن أول من اكتشف أمريكا والمكتشف الحقيقي للقارة الأمريكية كان من الصين، وهو "زهنج هي"، وقد نزل على السواحل الأمريكية قبل سبعين عاماً من وصول المستكشف الأوروبي الشهير في العام 1492م.
                      هذا هو الاكتشاف المدهش الذي خلص له الباحث البحري "جيفن منزيس" الذي أمضى 15 عاماً في تتبع آثار أسطور صيني ضخم طوى ذكراه النسيان.
                      وقد نشر منزيس نتائج بحوثه في كتاب بعنوان: "1421: العام الذي اكتشفت فيه الصين أمريكا".
                      ولكن كيف تمكن إيطالي من معرفة شيء عن الجزر الكاريبية قبل حتى أن يولد المستكشف كولومبوس؟ هذا هو السؤال الذي دار في خلد منزيس والذي وصل أخيراً إلى قناعة بأن أسطولاً صينياً ضخماً مؤلفاً من ثمانمئة سفينة أبحر من الصين في 8 مارس 1421م ودار حول العالم وأسس مستعمرات في شمال وجنوب أميركا واستراليا ونيوزلندا وفي المحيط الهادئ والمحيط الهندي.
                      بحث منزيس في السجلات الصينية التي وجد بها إثباتات لرحلات (زهنج هي).
                      وعثر كذلك على سجلات في أسبانيا والبرتغال تثبت أن أوائل المستكشفين الأوروبيين في العالم الجديد التقوا بمستكشفين صينيين وجلبوا معهم أحجار اليشم إضافة إلى قطع فنية أخرى صينية.
                      إذن كيف نسي العالم (زهنج هي) وسفنه الثمانمئة؟ لسوء الحظ أنه أثناء خروج الأسطول الصيني في رحلات استكشافية ضربت عواصف مصحوبة بالبرق العاصمة الصينية ودمرت مبانيها.
                      وفي رحلة سفره الأخيرة إلى مكة وفي طريقه وجدت خريطته البحرية المفصلة للعالم طريقها إلى أوروبا مما منح المستكشفين البرتغال فكرة جيدة عما سيكتشفونه في أفريقيا وأميركا قبل شروعهم في ذلك.
                      ويعترف منزيس بأن اكتشافه هذا قوبل بتشكيك من المؤرخين المعاصرين، لكنه يقول إن الجميع متفق على أمر واحد على الأقل وهو أن الصينيين استوطنوا سواحل المحيطين الهادي والأطلسي في الجزء الشمالي والجنوبي من أميركا قبل زمن طويل من إبحار كولومبوس إليها .

                      تعليق

                      • السندباد
                        كاتب مسجل
                        • Mar 2006
                        • 48
                        • ---
                          سافرْ تَجِدْ عِوَضاً عَمَّنْ تُفَارِقُهُ
                          وَانْصَبْ، فإنَّ لَذِيذَ العيشِ في النَّصَــــبِ
                          إنِّي رأيتُ وُقُوفَ الماءِ يُفْسِدُهُ
                          إنْ سَالَ طَابَ، وإنْ لم يَجْرِ لم يَطِــــــــبِ
                          والشمسُ لَوْ وَقَفَتْ في الْفُلْكِ دائمةً
                          لَمَلَّهَا الناسُ مِنْ عَجَمٍ ومِن عُرْبِ

                        رد : أدب الرحـــــــلة ...









                        احتفاء مميز بجامعة كاليفورنيا بالرحالة المغربي الكبير ابن بطوطة
                        لوس أنجلس 06/12/2004
                        احتفت جامعة كاليفورنيا يوم الجمعة الماضي في حفل مميز أقيم بحرمها الجامعي بلوس أنجلس، ومن خلال شهادات لكبار الخبراء في مجال البحث التاريخي، بالذكرى700 لميلاد الرحالة الشهير والعالم المغربي الجليل ابن بطوطة.
                        وأمام حضور، جمع ثلة من الاكاديميين والباحثين المبرزين، أعربت السيدة نزهة الشقروني الوزيرة المنتدبة لدى وزير الشؤون الخارجية والتعاون المكلفة بالجالية المغربية المقيمة بالخارج، عن ابتهاجها بانعقاد هذه الندوة المخصصة لرجل يجسد بالنسبة لكل المغاربة، الصورة المثلى للارتباط العميق والأصيل بقيم السلام والحوار واحترام الآخر.
                        ولاحظت السيدة الشقروني أن احتفاء كهذا في زمن العولمة، لا يمكن إلا أن يكون موعدا ملائما حل في أوانه، مشيرة الى أن ابن بطوطة المغربي والمغاربي والعربي والمواطن الذي ينتمي الى العالم في شساعته، جاب مختلف أنحاء المعمور في سفر امتد على مدى29 سنة وحمله الى أكثر من أربعين بلدا بمختلف القارات.
                        وأضافت أن ابن بطوطة ظل مدفوعا بوحي من عقيدته الدينية الراسخة، مسافرا جريئا في جميع رحلاته و"مسلما لم يكن يهاب شيئا ولم يكن يخيف أحدا" مستحضرة في هذا السياق ما ذكره في نص رحلته من أوصاف لمختلف الأمصار التي زارها بإحاطة كبيرة وباحترام أكبر " دون استخفاف أو ازدراء بثقافات الاخرين".
                        وخلال هذا اللقاء الذي نظمه مركز الدراسات الافريقية وشعبة مبحث الموسيقى العرقية بجامعة كاليفورنيا بمساعدة من سفارة المملكة المغربية وبمساهمة من الخطوط الملكية المغربية، اجتهد الخبراء المشاركون في الاحاطة بالدوافع التي حملت هذا الرحالة المغربي في القرن الرابع عشر الميلادي على القيام برحلة تم تتويجها بنص وصفي كتبه الوزير الشاعر محمد بن جزي الكلبي، وأصبح مصدرا ثريا بالمعارف والمعلومات لا يستغني عنه مؤرخ أو باحث في أي ركن من أنحاء العالم، وشهادة أيضا ثمينة عن مختلف المجتمعات والثقافات بإفريقيا والشرق الأوسط وآسيا وأوربا في تلك المرحلة.
                        ومن جهته رأى روس دان أستاذ التاريخ في جامعة سان دييغو ومؤلف كتاب عن ابن بطوطة، في هذا الرحالة المغربي "رجلا متعطشا للمعرفة وفقيها تكون على أصول المدرسة المالكية وأصول الفقه الاسلامي، ومن ثمة لم يعتبر نفسه فقط مواطنا مغربيا ولكن فردا من هذا العالم الشاسع الذي كان يطلق عليه أنذاك (دار الاسلام)، ويضم بين جوانبه أمصارا مسلمة مختلفة حيث تعيش مجموعات تنتمي الى ديانات وثقافات أخرى".ولهذا السبب - برأي الباحث - أنهى ابن بطوطة رحلته بزيارة لمكة كما أصر على زيارة عدد من معاقل الصوفية خلال رحلته الطويلة.
                        ومن جهتها منحت الباحثة جيزلين ليدون من جامعة كاليفورينا لرحلة ابن بطوطة بعدا دينيا، موضحة أن الرحالة الكبير أراد دون شك أن يطفيء عطشه الكبير للمعرفة وفقا لتعاليم الاسلام الذي يوصي بالبحث عن المعرفة أينما كانت ولو في الصين، وهكذا مكن هذا الرحالة الكبير المؤرخين - برأي الباحثة - من أكثر المصادر غنى، خصوصا ما تعلق منها بتاريخ إفريقيا الغربية في القرن الرابع عشر.
                        وفي مقارنة ما بين ابن بطوطة وماركو بولو لاحظ الباحث الجامعي جوفري سيمكوكس أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا، أنه خلافا للرحالة الإيطالي الذي قام برحلته بحثا عن ربح مادي خصوصا وانه كان وليد البندقية وابنا لأحد التجار، فإن الرحالة المغربي لم يكن يهمه من رحلته سوى التزود الروحي والهم المعرفي.
                        وهذا ما أكده المكلف بالأعمال لدى سفارة المملكة السيد محمد أرياض حين أشار إلى أن الرحالة المغربي كانت تحركه دوافع روحية عقدية ملاحظا أن ابن بطوطة جسد من خلال رحلته معنى الاية القرآنية " إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ".
                        وبالنسبة للاساتذة ميكاييل موروني وميكاييل كوبرسون وعلي جهاد راسي كان لابن بطوطة بكل بساطة "ولع لا حدود له بتحصيل المعرفة"، فيما اعتبر الاستاذ كمال أودريري خريج جامعة كاليفورنيا وصاحب فكرة تنظيم هذا اللقاء، أن الورع والتفقه في مجموعة من العلوم ساهمت في جعل ابن بطوطة الداعية الانساني والرجل الذي لم يكن يتردد في ركوب الأهوال والمخاطر وغياهب البحار للقاء الآخر.
                        ومن جهة أخرى، اغتنى اللقاء أيضا بمداخلة قيمة مصحوبة بعرض للصور الثابتة عن المغرب، ألقاها الصحفي توماس أبركرومبي الذي سبق له أن دبج مجموعة من المقالات التي نشرت حول ابن بطوطة بمجلة "ناشيونال جيوغرافيك" .وتواصل هذا اللقاء برحلة موسيقية حملت الحضور، على جناح الموسيقى من طنجة الى الصين مرورا بمصر وغانا والشرق الاوسط وأسيا الوسطى ومنطقة البلقان والاندلس مجسدة بذلك مختلف الامصار التي مر منها الرحالة ابن بطوطة، وانطلقت بأمداح نبوية من أداء فرقة من الموسيقيين والراقصين من شعبة مبحث الموسيقى العرقية بجامعة كاليفورنيا.
                        ******
                        السندباد

                        تعليق

                        • السندباد
                          كاتب مسجل
                          • Mar 2006
                          • 48
                          • ---
                            سافرْ تَجِدْ عِوَضاً عَمَّنْ تُفَارِقُهُ
                            وَانْصَبْ، فإنَّ لَذِيذَ العيشِ في النَّصَــــبِ
                            إنِّي رأيتُ وُقُوفَ الماءِ يُفْسِدُهُ
                            إنْ سَالَ طَابَ، وإنْ لم يَجْرِ لم يَطِــــــــبِ
                            والشمسُ لَوْ وَقَفَتْ في الْفُلْكِ دائمةً
                            لَمَلَّهَا الناسُ مِنْ عَجَمٍ ومِن عُرْبِ

                          رد : أدب الرحـــــــلة ...

                          إكتشاف غير مســـبوق حـــول رحلة إبن بطــــوطة
                          الدكتور عبد الهــــادي التــــازي

                          ******
                          السندباد

                          تعليق

                          • أبو شامة المغربي
                            السندباد
                            • Feb 2006
                            • 16639


                            رد : أدب الرحـــــــلة ...

                            رحلة إلى ظفار لابن بطوطة
                            أصبح أدب الرحلات يحتل خانة متميزة في خارطة البحث التاريخي المعاصر، فإذا كانت الأسطوغرافيا التقليدية قد أقصت تاريخ المجتمعات من دائرة اهتماماتها وجعلته قطعة من التاريخ (المسكوت عنه)، وهو ما يجعل مهمة الباحث في استقصاء الحياة اليومية والعادات والتقاليد لمجتمع من المجتمعات مغامرة يعتورها العديد من الصعوبات، فإن كتب الرحلات تعمل على لثم هذه الثغرة التي تعتري الحوايات التاريخية، وتكشف عن أنماط حياة المجتمعات وعقلياتها المباشرة والوصف الدقيق لأحوال المجتمع الذي زاره الرحالة وخبر شؤونه، مما يساعد الباحث على فك بعض الألغاز التاريخية وادراك مضمراتها.
                            من هذا المنظور، يروم هذا البحث الحفر في أعماق مجتمع ظفار، والنبش في مخزون عاداته وتقاليده اعتماد على رحلة ابن بطوطة المغربي الذي زار ظفار خلال القرن الثامن الهجري (14م) وأمدنا من خلال ما سجله في رحلته بنصوص هامة عن هذه المدينة.

                            إن الراجح أنه لم يمكث بها طويلاً إبان العودة، بل جعلها مجرد معبر من قاليقوط الهندية نحو مسط وقريات ثم قلهات ليبحر من هناك نحو هرمز مودعاً عمان نهائياً.
                            وبمجرد انتهاء رحلاته الكبرى عاد إلى المغرب، وأملى بأمر من السلطان أبي عنان المريني الذي حكم بين سنتي 749و759هـ/ 13481358 رحلته على الكاتب المريني ابن جزي الـــــذي انتهى من تدوينها في 3 ذي الحجة سنة 756هــ فبراير 1356م، وتوفي ابن بطوطة وهو يتولى آنذاك القضاء بمدينة فاس عن عمر يناهز 67سنة.
                            أما عن الظرفية التاريخية التي زار فيها ظفار، فإن هذه الأخيرة كانت تحت حكم السلطان المغيث بن الفائز ابن عم ملك اليمن بسبب ما مانت تعرفه عمان آنذاك من ضعف نتيجة حكم آل نبهان،
                            وهو ما أسفر عن تكالب القوى الخارجية عليها حتى إن المؤرخ العماني نور الدين السالمي تمنى لو أن ابن بطوطة لم يزر عمان في فترة حكم الجبابرة – إشارة النباهنة – وزارها في عهد الأئمة العادلين.
                            من خلال رصد شخصية ابن بطوطة وظرفية رحلته إلى ظفار، يمكن أن نستنبط بعض الملاحظات التي تفيد في معرفة مدى صحة انطباعاته وأوصافه لمجتمع ظفار، ويمكن تلخيصها كما يلي:
                            1) انطلاقاً من نظرة استقرائية لظروف بيئة الرحالة المغربي ومحيطه الثقافي لا يتبين أن رحلته إلى ظفار كان وراءها هدف سياسي أو أغراض مذهبية أو دعاية لجهة معينة .

                            فالهدف الأساسي الذي تحكم في رحلته يتجلى في الحج إلى الديار المقدسة، كما يؤكد ذلك هو نفسه دون لبس أو غموض .

                            بيد أن الرحلة إلى الحج ولدت في نفسه حب معروفة الشعوب على هذا الدافع الشخصي، يمكن القول إن معلوماته وأحكامه عن ظفار وأهلها ستتميز ببراءتها وعفويتها، وبعدها عن كل توييف انطلاقاً من صفاء نية راويها وسذاجته.
                            2) إن ما يجعل نصوص ابن بطوطة حول ظفار تتميز بصدقها يكمن في شخصية الرحالة نفسه، فهو – كما أجمع على ذلك الدارسون – صاحب ضمير نقي وسريره صافية، نهل من حميد السجايا، وصاحب الأتقياء والصلحاء، كما مارس القضاء – رمزاً العدل والموضوعية – وتعلق بأهداب الدين تعلقاً كبيراً حتى إنه كان يعزي ما تمتع به في حياته من نعمة وجاه إلى كونه حج أربع مرات بل إنه – لشدة ورعه وتقواه – ولاه الحجاج المغاربة الذين صحبهم في بداية سفره من المغرب قاضياً عليهم لينظر فيما يشجر بينهم من خلاف، مما ينفي عنه صفة التحريف وتزوير الحقائق.
                            3) لم يكن لابن بطوطة أي مصلحة في مجاملة أهل ظفار ومداهنتهم أو الكذب والافتراء عليهم، ذلك أنه كتب رحلته بعيداً عنهم زمانياً ومكانياً، ولا غرو فقد أملى انطباعاته على الكاتب ابن جزي وهو بالمغرب بعد أن كان قد غادر ظفار منذ أكثر من ربع قرن.
                            4) إذا كانت رواياته عن الأقطار والمدن التي زارها يشوبها أحياناً الطابع الخرافي – على عادة كل الرحالين والجوابين – فإن ما ذكره عن ظفار يكاد يخلوا من هذا الطابع الأسطوري، بل يلاحظ أنه برأ نفسه من بعض الروايات التي أوردها عنها حين نسبها إلى رواتها أو ذكرها في صيغة المبني للمجهول.
                            5) إذا تأملنا في النصوص الواردة حول ظفار، لا نجد كاتب الرحلة وهو ابن جزي المذكور سلفاً قد أضاف أي إضافة سواء من عنده أو نقلاً عن الرحالين آخرين، كما فعل عندما أقحم نصوص الرحالة ابن جبير، وهو يكتب عن بلدان الشام والجزيرة، لذلك بقيت ظفار في وصف ابن بطوطة سالمة من أي سطو خارجي.
                            6) تكشف قراءة نصوص ابن بطوطة حول ظفار عن قوة ذاكرته وما اختزنته من معلومات دقيقة رغم مرور ربع قرن على زيارته لها.
                            وحسبنا أنه لم ينس أسماء أعيان ظفار الذين استضافوه مثل خطيب مسجدها عيسى بن علي، ومتصوفها الشيخ الصالح أبو محمد بن أبي بكر عيسى وابنيه أبي العباس أحمد وأبي عبد الله محمد، كما احتفظت ذاكرته أيضاً باسم قاضيها أبي هاشم عبد الملك الزبيدي، بل لم تغب عنه حتى أسماء الجواري اللائي رآهن في ظفار.
                            كما لم تخنه الذاكرة في استرجاع أنواع الأطعمة التي أكلها في هذه المدينة، وأنواع اللباس الذي كان يلبسها الظفاريون، والأثاث الذي شاهده في بعض البيوتات، مما يدل على قوة ذاكرته، وبالتالي يعكس صحة المعلومات التي أوردها حول ظفار.
                            يفسر بعض الباحثين قوة ذاكرة ابن بطوطة بالنظام التعليمي الذي تلقاه، وهو نظام يقوم في أساسه على الحفظ والاستظهار للعديد من الكتب، بينما يرده البعض الآخر إلى نظام الثقافة العربية في ذلك العصر ( القرن 8هــ ) حيث كان الإعتماد على الذاكرة إحدى مقومات التعليم.
                            7) لم يجد ابن بطوطة أي صعوبة في نقل مشاهداته، وما سمعه من روايات شفوية عن أهل ظفار بفضل معرفته للغة العربية، عكس مدن أخرى في بلدان أعجمية عجز فيها عن إدراك لغة أهلها فاضطر إلى اتخاذ وسطاء من المترجمين، مما أدى إلى تشويه المعلومات أحياناً.

                            لا بل نجد الرحالة المغربي ينوه بتقارب لهجة أهل ظفار مع لهجة المغاربة، مما ساهم في تسهيل مهمته الاستقصائية عن العادات والتقاليد الظفارية.
                            8) تجدر الاشارة كذلك الى أن النصوص التي قدمها عن ظفار تتميز بارتكازها على طابع المعايشة والاطلاع المباشر دون الإقتصار على السماع والنقل كما فعل بعض البلدانيين.
                            كما ننوه بدقة أوصافة وتتبعه للجزئيات أحياناً كوصف طرق اعداد الأطعمة ووصف أثاث المنازل وغير ذلك من الأمور الدقيقة، ونعتقد أن استضافته من قبل بعض أعيان ظفار مثل خطيب مسجدها الاعظم وقاضيها كان فرصة استغلها لمساءلتهم حول بعض أمور الدولة وعلاقتها بالمجتمع.
                            9) أما أمانته وموضوعيته في عرض مشاهداته فتلك حقيقة لا يجحدها أي متفحص منصف، فإذا أخذنا الرحلة برمتها، نستطيع أن نضع الأصابع على عدة مواضع تظهر فيها أمانته بوضوح، فعلى الرغم من أنه كان سنياً، فقد وصف أهل النجف الشيعة بالشجاعة والكرم، وفي كثير من المواضع الأخرى التي كان يسوق بصددها حكاية أو وصفاً، إذا ما نسي راويها يعتذر عن نسيان اسمه، وكان بإمكانه أن يختلق اسماً لصاحب الحكاية، ومع ذلك لم تطاوعه نفسه في القفز على الحقائق، كما تتجلى موضوعيته فيما ذكره عن بعض المدن العمانية كمدينة قلهات على سبيل المثال.
                            فقبل دخوله إليها وصف ما انتابه من الخوف والحذر من اللصوص، بيد أنه حول هذا الوصف إلى عكسه عندما دخل المدينة وشعر فيها بطعم الامان، فصار يتحدث عن حسن خلق أهلها والحفاوة التي استقبله بها أميرها، وهذا يعني أن ما ذكره قبل دخوله المدينة لم يكن حباً في الذم أو الإساءة المفتعلة، بل كان يمدح من يستحق المدح، ويذم من يستحق الذم.

                            وعند سماعه خبراً مروياً أو حدثاً لم يفلح في الوقوف عليه شخصياً فإنه يذكر النص في صيغة المبني للمجهول، ويصرح بذلك بوضوح مثل حديثه عن مدينة ازكي العمانية حيث يقول: (لم أدخلها، وهي على ما ذكر لي مدينة عظيمة)، وهذا يدل على انه كان يشعر بالمسؤولية وأنه محاسب على كل ما يقول.
                            وتتفق معظم التحليلات التي قام بها الدارسون لنصوص ابن بطوطة على مصداقيته ونزاهة أحكامه، فالمستشرق الهولندي وصفه (بالرحالة الأمين)، ويقول عنه كراتشوفسكي:

                            (كلما استعرضت الأجزاء المختلفة من وصف رحلته لدراسة دقيقة مفصلة، كلما زادت الثقة في صدق روايته، وهي نفس التخريجات التي خرج بها من اهتموا برحلته من الدارسين العرب، وإن كنا لا ننزة الرحالة المغربي من بعض السقطات التي انزلق فيها بالنسبة لبعض المدن العمانية).
                            وإذا أخذنا بالمنهج المقارن، يتضح ان معلوماته عن ظفار لا تتناقص كثيراً مع ما ذكره عنها معاصره البندقي ماركوبولو الذي زارها قبله بسنين.

                            ولا يمكن أن يكون ابن بطوطة قد قرأ ما كتبه الرحالة الإيطالي عنها وهو يجهل لغته، بل إن معلوماته عن ظفار أغزر وأدق من معلومات ماركوبولو.
                            لكن إنصاف الحقيقة والواقع يدفعنا إلى عدم تجريد الرحالة المغربي من بعض الهفوات التي وقع فيها، وهي الهفوات التي شابت إنتاج معظم الرحالين عند ذكر عجائب البلدان التي زاروها مستهدفين بذلك إضفاء عنصر التشويق على رحلاتهم.

                            وقد تشكك العديد من الدارسين في بعض الأوصاف التي أوردها حول مناطق من المعمور، إلا ما تشكك فيه الدارسون لا ينطبق إطلاقاً على وصفه لظفار.
                            وصف ابن بطوطة المجتمع الظفاري بأنه مجتمع حضاري ومنظم تنظيم متقدم، وذلك من خلال نظمه وعاداته وعقليته وأطعمته وأزيائه.
                            وبناء على أوصاف ابن بطوطة، يمكن القول بأن المجتمع الظفاري مجتمع يصنف في عداد المجتمعات التجارية التي تشكل التجارة فيها حجر الزاوية، ومنها قوام حياة الظفاريين (فهم أهل تجارة وزراعة وصناعة) كما جاء ذلك على لسان ابن بطوطة، وتدل على ذلك مجموعة من المؤشرات التي تعكس هذه الرؤية، فالأسواق منتشرة خاصة سوق الحرجاء الموجودة في ربض المدينة أي في ضواحيها، وهي سوق مليئة بالسلع، مزدحمة بالحركة التجارية وفي الساحل يقوم ميناء وسوق معدة للتصدير والاستيراد فمنها تصدر المنتجات الظفارية، وتحمل الخيل العتاق إلى الهند وإليها تصل المراكب من الهند، ومن مختلف بقاع العالم فيستقبلها خدم الحاكم بحفاوة وكرم كبير.
                            وكان اهل ظفار يتعاملون بعملتهم وهي الدرهم المضروب من النحاس والقصدير، مما يدل على مستوى تطورهم التجاري والإقتصادي في ذلك الوقت، وكانت ظفار تنتج الكثير من المنتجات الزراعية ومن انتاج ظفار الزراعي القمح والذرة والشعير والموز والسكر والنارجيل والفواكه فضلا عن انتشار البساتين الغناء المزروعة بالفواكة المتنوعة وكذلك التانبول واشتهر الظفاريون كذلك بالصناعة كالسيوف وأدوات الحداة وادوات الري والسفن والصناعات الغذائية مثل صناعة العسل التي كان يعرف اصحابها باسم ( الفازانية )، وصناعة الحليب والزيت (زيت النارجيل) و( السمن البلدي ) وغيرها من الصناعات التي يحتاجها المجتمع الظفاري والفائض يصدر للخارج وكانت البساتين تشكل حزاما اخضر يحيط بالمدن الظفارية.
                            من خلال تتيع نصوص ابن بطوطة يمكن تكوين فكرة عامة عن مجتمع ظفار، بسلطانه ونظمه الحضارية وعاداته وعقليته وأطعمته وازيائه.
                            ولقد نجح الرحالة المغربي في الجمع بين طرافة العرض ودقة المعلومات والبراعة في التقاط الصور المعبرة عن واقع هذا المجتمع، ويمكن نلمس ذلك فيما يلي:
                            1) مجتمع ظفار مجتمع تجاري:
                            بناء على أوصاف ابن بطوطة، يمكن تصنيف مجتمع ظفار في عداد المجتمعات التجارية التي تشكل فيها التجارة حجر الزاوية، ومنها قوام حياة الظفاريين (فهم أهل تجارة لا عيش لهم إلا منها) كما جاء ذلك على لسانه.
                            وترد في نصوص الرحلة مجموعة من المؤشرات التي تعكس هذه الرؤية، فالأسواق منتشرة خاصة سوق الحرجاء الموجودة في ربض المدينة أي في ضاحيتها، وهي سوق مليئة بالسلع، موارده بالحركة التجارية.
                            وفي الساحل يقوم ميناء وسوق معدة للتصدير والاستيراد، فمنها (تحمل الخيل العتاق الى الهند)، وإليها تصل المراكب من الهند وغيرها، فيخرج عبيد السلطان لاستقبالها بحفاوة وكرم كبير، ويعبرون عن ذلك بضرب الطبول، والنفخ في الأبواق احتفالاً بمقدمها.
                            وهذه الحفاوة تعكس إحدى الأساليب التي كان يستعملها أهل ظفار لجلب التجار إليهم وكسب مودتهم، خاصة ان هؤلاء كانوا يحملون إليهم ما يحتاجون إليه من الهند من أرز وقطن، مما يدل على أن علاقة ظفار بهذا البلد كانت وطيدة، لأنها أقرب البلدان الآسيوية إليها، وحسبنا ان مدة الرحلة بين البلدين لم تكن تتجاوز 28 يوماً.
                            وتكشف رحلة ابن بطوطة عن ظاهرة سادت مجتمع ظفار في مجال التجارة، وهو ان معظم المشتغلين في عمليات البيع كانوا من العبيد والخدم، من بينهم بعض النسوة اللاتي شاركن بدورهن في المعاملات التجارية، وكان يناط بعبيد سلطان ظفار مهمة استقبال المراكب التجارية الآتية الى ظفار، فيفرغون السلع المشحونة بها أو يشحنون السلع المصدرة نحو اليمن والهند والصين مثل الثياب والعسل، ويمكن من خلال الرحلة أيضاً التعرف على العملة التي كان يتعامل بها سكان ظفار في القرن الثامن الهجري، وهي الدرهم المضروب بالنحاس والقصدير.
                            بيد أن الطابع التجاري المهيمن على مجتمع ظفار لا يعني انعدام الزراعة فيه، بل إن الباحث يستطيع أن يستشف من خلال أوصاف ابن بطوطة أن المجال الزراعي احتل مكانة محترمة في أنماطه الإنتاجية.
                            ويمكن سرد بعض المنتوجات كالقمح والذرة، التي كانت تعتمد على السقي من مياة الآبار، فضلاً عن انتشار البساتين، التي كانت تلبي احتياجات المدينة من الفواكة المتنوعة كالموز ذي الحجم الكبير، الذائع الصيت في اللذة والحلاوة، كذا التنبول والنارجيل.
                            وتعتبر زراعة النارجيل من الفواكة التي انفردت ظفار بانتاجها، وقد ارتبطت بها عدة صناعات كصناعة العسل التي كان يعرف أصحابها اسم (الفازانية)، كذا صناعة الحليب والزيت.
                            وتأسيساً على ظاهرة البستنة التي عمت ظفار، نستطيع أن نتصور أن مجموعة من البساتين كانت تشكل حزاماً اخضر يحيط بالمدينة، وهو أمر بديهي إذ علمنا أنها تتلقى أمطاراً موسمية غزيرة تساعد على نموها واخضرارها.
                            لكن رغم وجود الطابع الزراعي، فالواضح من كلام ابن بطوطة – ويؤيده في ذلك كثير من الرحالين والجغرافيين – أن مجتمع ظفار غلب عليه الطابع التجاري أكثر من الزراعي.

                            د. أبو شامة المغربي

                            تعليق

                            • أبو شامة المغربي
                              السندباد
                              • Feb 2006
                              • 16639


                              رد : أدب الرحـــــــلة ...

                              رحلة إلى ظفار لابن بطوطة



                              د. أبو شامة المغربي

                              تعليق

                              • أبو شامة المغربي
                                السندباد
                                • Feb 2006
                                • 16639


                                رد : أدب الرحـــــــلة ...

                                سبق وأن انعقدت يومي24-25/2/2004 ندوة مغاربية حول: "ابن بطوطة، إسهام مغاربي في الحضارة الإنسانية والتواصل الثقافي"، نظمتها الأكاديمية المغاربية للعلوم، وبالتعاون مع الأمانة العامة للاتحاد المغاربي، وجامعة الفاتح - قسم التاريخ، وقد حضر الندوة 37 باحثا مغاربيا من الدول الخمس باستثناء موريتانيا التي غابت مشاركتها باستثناء حضور قليل من خارجها، ومن بينهم كاتب هذه السطور.
                                وقد حرصت الدول المغاربية من خلال هذه الندوة أن تكرم أحد الأعلام المغاربين البارزين، وهو الرحالة الشهير ابن بطوطة، وذلك بمناسبة مرور 7 قرون على رحلته الشهيرة، التي جاب فيها أغلب عالمه الذي عاصره من أفريقيا إلى أوروبا وآسيا حتى الصين والهند شرقا.
                                ولذلك ليس غريبا ما قدمه للإنسانية هذا الرحالة المغربي الذي استغرق 30 عاما من عمره يجوب الصحاري والمدن ويزور مدنا وقرى، ويخالط شعوبا وقوميات متباينة الأديان والثقافات والأعراق...
                                حيث ظلت بلاد شنقيط بفقهائها وأدوارهم حاضرة في الأذهان ، وهي التي زار ابن بطوطة أغلب مدنها المعروفة حينها في عصره مثل ولاتة التي أسماها "إيولاتن"، كما زار عاصمة مملكة غانا كومبي صالح، التي توجد أطلالها اليوم جنوب مدينة تمبدغة 60 كم، وشرح بتفاصيل طبيعة سكانها ومجتمعها وحياتهم بجميع دقائقها...
                                وقد حضر الندوة جمع مغاربي مميز كان في طليعتهم العلامة المغربي الدكتور عبد الهادي التازي الذي حقق رحلة ابن بطوطة، وهو صاحب سلسلة التاريخ الدبلوماسي للبلاد المغربية.
                                أحمده ولد نافع

                                باحث موريتاني مقيم في طرابلس

                                د. أبو شامة المغربي

                                تعليق

                                يعمل...