الديمقراطيّة الموشومة!
بقلم: أ.د.عبدالله بن أحمد الفَيفي
كتبتُ وجهة النظر هذه قبل أن أشاهد الأستاذ الدكتور عبدالله الغذّامي في محاضرته القيّمة حول "الليبراليّة الموشومة"، التي قدّم فيها عرضًا معرفيًّا و"مسرحيًّا" رائعًا حقًّا في جامعة الملك سعود(1). وممّا قاله ردًّا على بعض المداخلات: "إننا جاهزون للانتخابات والديمقراطيّة منذ ألف عام". واستكمالاً للفكرة، وتفاعلاً مع رأي الغذّامي ذاك، فإنّي أتّفق معه في ما ذهب إليه، غير أنّي أرى أن الجدل الذي احتدم في قاعة المحاضرة- كما هو في خارجها- هو بسبب أن كلّ طرفٍ ينظر إلى المسألة من زاويته؛ فالغذّامي ينظر إلى الموضوع من زاوية الأفراد والعقول والاستعداد، والمعارضون ينظرون إليه من حيث عدم جهوزيّة مؤسّسات المجتمع المدنيّ بقوانينها وترتيباتها. وكلا الطرفين مُحِقّ. إن لدينا تجربة تاريخيّة شاهدة على مدى صلاحية الانتخابات وممارسة ضربٍ من الديمقراطيّة دون الوفاء باشتراطاتها، وذلك منذ صدر الإسلام، حينما تخطّى المسلمون مبدأ التوريث العائليّ للسُّلطة، وانتخبوا أبا بكر الصدّيق، ثم عمر، فعثمان، فعليّ.. فماذا حدث؟ وحينما جاء ما سُمِّي "المُلك العضوض" ماذا حدث؟ في الحالة الأولى نشبت الفتن، واغتيل عمر، وعثمان، وعليّ، ولم تستقرّ الدولة، بل لم تعش إلاّ عقودًا ثلاثة من القلاقل والانقلابات والقتل والقتل والقتل! في حين لمّا جاء المُلك العضوض- بكلّ ما عليه من مآخذ وما أفرزه من مظالم- استقرّت الدولة، وسارت التنمية والنهضة، وازدهرت الحياة الاجتماعيّة، والعِلميّة، والحضاريّة، وتأسّست الثقافة العربيّة والإسلاميّة، وناهز عمر الدولة الأُمويّة قرابة قرن. إذن، مبدأ الانتخابات- التي يَعدّها الغذّامي قيمة إنسانيّة وثقافيّة، وهو مُحِقٌّ في ذلك- ليس بنظريّة طوباويّة، معلَّقة في السماء، قابلة للتطبيق كيفما اتّفق وحيثما اتّفق، بل لها اشتراطاتها القانونيّة الدقيقة، ما لم تؤسّس وترسّخ، كانت المفاسد منها أكبر من المصالح. أمّا من الناحية النظريّة والذِّهنيّة، وعلى مستوى الأفراد، فنعم، نحن جاهزون للانتخابات والديمقراطيّات لا منذ ألف عام، بل منذ آدم عليه السلام!
ولعلّ من الطريف هنا- والشاهد أيضًا على هذا القول- ما جرى في قاعة المحاضرة نفسها؛ حينما ارتفعت الأصواتُ، وتوتّرت الأعصابُ، وزاغت الأبصارُ، وغلب الهياجُ العاطفيُّ أحيانًا على موضوعيّة الطرح والتنظيم، فكادت تتحول المحاضرةُ إلى محاصرة، والمناقشةُ إلى مناكشة، ودارت معركة عنيفة من الكرّ والفرّ اللفظيّ بين الجمهور والمحاضر من جهة، وبين قاعة الرجال و"عليشة" النساء من جهة! فظهرت مبادئ الحُريّة هناك، ورأينا قبول الرأي والنقد، والعدالة، والمساواة، وتكافؤ الفُرَص، جليّةً علنيّة إذ ذاك. فإذا أُخذت المحاضرة ذاتها، بوصفها نموذجًا للممارسة الديمقراطيّة- أثبتت أن القِيَم الديمقراطيّة تتطلّب قوانين صارمة وآليّات حضاريّة، تتحوّل مع الممارسة إلى تربيةٍ شخصيّةٍ واجتماعيّةٍ تلقائيّة، وإلاّ انقلبت إلى عنفٍ وعنفٍ مضادّ، وانتهت إلى فوضى عارمة، قوليّة وفعليّة، ومصادرات وإقصاءات، ودخلنا عبرها في دوّامة من هدر الطاقات في سبيل فكرةٍ راقيةٍ وبرّاقة نظريًّا، بيد أن لها متطلّباتها واقعيًّا. ولأن ذلك كذلك كانت الليبراليّة موشومة؛ لأنها تقوم على أفكار فلسفيّة غير متمثَّلة ثقافيًّا، فضلاً عن أنها تتصادم مع معوّقات ثقافيّة وواقعيّة، ما زالت شفاهيّة وعاطفيّة ومنفلتة من عقالها وعقلها. ولهذا يبدو تناقضٌ بين القول بـ"الليبراليّة الموشومة" والتسليم بالديمقراطية الصافية، "غير الموشومة"؛ فلماذا الليبراليّة موشومة والديمقراطية غير موشومة؟! إن الليبراليّة والديمقراطيّة صنوان، بل هما مبدآن متداخلان إلى درجة التماهي في فرضيّة مسعاهما إلى تحقيق الحريّة والعدالة والمساواة، والانتصار للعقل. غير أن معضلات التطبيق المشار إليها هي سبب الوشوم في كلّ الحالات هنا وهناك. وأوّل وشمٍ في الديمقراطيّة هو عدم قيام الأُطُر القانونيّة الكافية لتنزيل النظريّة على أرض الواقع. هذا لا يعني- بطبيعة الحال- أن تلك الأُطُر ضرب من المستحيل، بل إن من الواجب إرساءها، بما أنها شرطٌ أوّل، يجب توافره، وإلاّ كنّا ما ننفكّ ندور في فلك التنظير، بعيدًا عن فِقه الواقع.
ــــــــــــــــــــ
(1) الاثنين 13/ 12/ 2010م.
أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
7- 1- 2011