فلسفة الإسلام في التعايش مع الآخر الديني والثقافي
يؤسس القرآن الكريم لفلسفة إسلامية متميزة في رؤية الكون والحياة والعلاقات بين الأحياء. وفي هذه الفلسفة الإسلامية المتميزة معالم رئيسية، يمكن أن نشير إلى عدد منها:أ- أن الواحدية والأحدية هي فقط للذات الإلهية.
بـ- وأن التنوع والتمايز والتعدد والاختلاف هو

وهذا التنوع والاختلاف والتمايز يتجاوز كونه "حقّا" من حقوق الإنسان، إلى حيث هو "سنة" من سنن الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾(النساء:1).. ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾(هود:118-119). وكما يقول المفسرون: "فللاختلاف خلقهم".
فالواحدية والأحدية فقط للحق سبحانه.. والتنوع هو السنة والقانون في كل عوالم المخلوقات.
جـ- وأن هذا التنوع والتمايز والتعدد والاختلاف له مقاصد عديدة، منها: تحقيق حوافز التسابق على طريق الخيرات بين الفرقاء المتمايزين: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (المائدة:48). ومنها: فتح أبواب الحرية للاجتهاد والتجديد والإبداع، الذي يستحيل تحقيقه دون تفرد وتمايز واختلاف: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾(البقرة:148).
د- وأن علاقة الفرقاء المتمايزين والمختلفين والمتعددين يجب أن تظل في إطار الجوامع الموَحِّدة، وعند مستوى التوازن والعدل والوسطية: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة:143). "فالوسط" -بنص الحديث النبوي- هو "العدل" الذي يجب أن يحكم علاقات الفرقاء المختلفين،" (رواه الإمام أحمد).
هـ- فإذا اختلت موازين العدل والوسط بين الفرقاء المختلفين والمتمايزين في الطبقات الاجتماعية أو الشرائع الدينية أو الفلسفات أو الحضارات، فإن الفلسفة الإسلامية تحبذ طريق "التدافع" الذي هو حِراك يُعَدّل المواقف والمواقع والاتجاهات، فينتقل بها من مستوى الخلل والظلم والجور والعدوان إلى مستوى العدل والتوازن والوسط والتعايش والتعارف، مع المحافظة على بقاء التنوع والتمايز والتعدد والاختلاف: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(فصلت:34).
وهذا "التدافع" الذي هو وسط بين تفريط "السكون والموات" وبين إفراط "الصراع"، هو المزكي للتعددية، وللتنافس والتسابق على طريق الخيرات، بينما السكون يفضي إلى الموات للمستضعفين. كما أن الصراع يفضي إلى نفس النتيجة؛ لأن القوي يصرع الضعيف، فينفرد بالساحة، وينهي التعدد والتمايز والاختلاف. فالتدافع هو الذي يُعَدِّل المواقف الظالمة، مع الحفاظ على التعددية وعلى التنافس والتسابق على طريق الخيرات. فهو سبيل للإصلاح في ظل التنوع والتعدد، وليس على أنقاض التنوع والتعدد: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(البقرة:251).(2)
هذا هو موقع التنوع والتعدد والتمايز والاختلاف في الرؤية الإسلامية للكون والحياة والعلاقات بين عوالم المخلوقات والأفكار، ودور هذا التنوع في التقدم والإصلاح.
وذلك هو تميز الفلسفة الإسلامية بالوسطية الجامعة عن غيرها من نزعاتِ وفلسفات الدمج القسري للكل في واحد.. أو نزعات وفلسفات الصراع التي تفضى هي الأخرى إلى انفراد طرف واحد بالساحة. فطرَفا الغلو يفضى كل منهما إلى ذات النهاية.. وبينهما تتميز الوسطية الإسلامية في هذا الميدان..
بقلم: أ.د. محمد عمارة