الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    كاتب مسجل
    • Jun 2006
    • 1123

    #16
    رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)

    كتاب ومفكرون مصريون وأجانب
    ينتقدون تجاهل يحيى حقي وإبداعاته

    بقلم: حمدي عابدين

    انتقد كتاب ومفكرون مصريون وأجانب حالة التجاهل التي تعرض لها الكاتب المصري يحيى حقي أثناء حياته وبعد مماته، وأشاروا الى ان حقي رغم ما قدم من إبداعات قصصية وروائية بالإضافة الى إسهاماته المتنوعة الأخرى في مجالات الترجمة والموسيقى والنقد، لم يحظ بالاهتمام الجدير به.
    وأشار الدكتور جابر عصفور أمين المجلس الأعلى للثقافة، في مؤتمر «وجوه يحيى حقي»، الذي عقده المجلس في الفترة من 10 إلى 12 يناير (كانون الثاني) الجاري بالقاهرة، بالتعاون مع منظمة اليونسكو، إلى أن وجود يحيى حقي في الثقافة المصرية كان له أثر كبير في تكوين اكثر من جيل إبداعي بما قدمه من إسهامات ثقافية وإبداعية متنوعة، وأشاد بدوره في رعاية عدد كبير من المبدعين الذين قدم أعمالهم الأولى الى القراء. وذكر عصفور أن حقي كان واحدا من جيل الليبراليين العظام، وكان يفصله عن مولد طه حسين والعقاد والمازني 16 عاما، وعن مولد توفيق الحكيم 7 سنوات، وقد تأثر بليبرالية هؤلاء الرواد والمبدعين الذين كان ينتمي لهم وجدانيا وفكريا.
    * المثقف الشمولي
    * وتحدث المحاضر عن تأثر حقي بمبادئ ثورة 1919 التي بشر بها هؤلاء الرواد، مشيرا الى انه كان يشبههم حتى في موسوعيته، وذلك بما أبدع من نقد ورواية وقصة وسيرة ذاتية، بالإضافة إلى كتابته في الموسيقى والسينما والفنون التشكيلية.
    وكان اكثر وجوه حقي تميزا، كما يرى عصفور، وجه المبدع، وهذا يتجلى واضحا في رواياته ومجموعاته القصصية التي تجلت فيها عناصر إنسانية تجاوزت بها اقليميتها إلى آفاق العالمية.
    وتحدث عصفور عن ملامح سياسية في أدب يحيى حقي، استطاع ان يمررها من دون ان يتعرض له النظام في ذلك الوقت. ولعل رواية «صح النوم» ابلغ مثل على ذلك في تعبيرها عن ديكتاتورية الأخ الأكبر وتسلطه على باقي أعضاء أسرته. وما دفع حقي الى استخدام الرمز في التعبير عن آرائه ووجهات نظره السياسية، الممارسات القمعية ضد المبدعين والكتاب بعد قيام الثورة.
    * القيم الإنسانية في أعماله
    * وقالت الكاتبة الأميركية مريام كوك، ان يحيى حقي كان علما من أعلام الثقافة والإبداع في مصر والعالم العربي والغربي، وقد تجاوز بإبداعاته حدود اللغة وعوائقها الى العالمية بسبب القيم الإنسانية التي عكسها في أعماله. وذكرت كوك ان حقي بما قدم من إبداعات دحض مقولة «الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا»، وعاش يتحدى هذه المقولة في كل ما قدم من أعمال إبداعية.
    * رعايته للمبدعين الشباب
    * وتحدث الكاتب العراقي فؤاد التكرلي، عن رعاية يحيى حقي له ولإبداعاته من دون أن يلتقي به، وذكر ان حقي نشر له قصته في عام 1970 بعنوان «الغراب» في مجلة «المجلة» المصرية التي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت، وقدم لها بمقدمة شرح فيها الكثير من الألفاظ المحلية التي استخدمها التكرلي، واتبع ذلك بنصيحة إلى الكتاب الشباب بعدم استخدام الألفاظ ذات الصبغة المحلية في الأعمال الإبداعية التي يقدمونها للقراء.
    وذكر الروائي المصري خيري شلبي، ان يحيى حقي اكثر رواد الأدب المصري حضورا في الواقع الثقافي الحديث، لأنه كان رمزا لمقاومة الرفض والابتذال، ولأنه أسس للحداثة العربية في القصة العربية والمصرية، بما قدم من إبداعات أدبية حقيقية.
    وقال شلبي إن دور يحيى حقي وحضوره في الأدب الحديث توازى مع دخوله في جدل وحوارات مع الكثير من المبدعين الشباب في أيام إشرافه على مصلحة الفنون والكثير من المجلات المصرية. وقد أثمر ذلك عن تقديم عدد كبير من المبدعين اللامعين إلى الحياة الأدبية المصرية.
    وأشار المحاضر إلى ان حقي كان نموذجا للفنان المبدع المتكامل، فقد اهتم بالموسيقى الكلاسيكية السيمفونية وبالفنون الشعبية، وقد دفعه ذلك الى إبداع أوبرا «نهر العروسة» ليعبر بها عن مصرية خالصة كان ينشدها لتمصير فن الأوبرا.
    تميزت فعاليات المؤتمر الى جانب الدراسات النقدية التي وصل عددها الى اكثر من 41 دراسة غطت جوانب الإبداع المختلفة عند يحيى حقي بمشاركة عدد من النقاد والمبدعين بشهادات ركزت على تاريخهم مع يحيى حقي وعلاقتهم به، والكثير من الأحداث التي كان لها آثار بالغة في حياتهم وحياة غيرهم من الكتاب والمبدعين الشباب، ومنها شهادة للأديب صبري موسى الذي كتب السيناريو لفيلم «البوسطجي» الذي اخذ عن رواية له بهذا الاسم، كتبها حقي أثناء عمله في فترة الستينيات في أسيوط. كما شارك في الشهادات الدكتور عبد الغفار مكاوي وسامي فريد إحسان كمال.
    * المعاني والألفاظ
    * وتحدث الأديب ادوار الخراط في دراسة «العقيدة اللغوية عند يحيى حقي»، وما أسماه هو نفسه الحتمية في الأسلوب أو الأسلوب العلمي. وقال ان جوهر هذه العقيدة عند حقي، ان هناك كلمة واحدة فقط تؤدي معنى بذاته، وهناك لفظ أو تركيب لغوي واحد فقط يفي بمقتضيات إحساس أو موضوع ما.
    وقال الخراط ان هذه العقيدة اللغوية تقوم على أساس متضمن ومفترض، وليس موضوعا للمناقشة عند صاحبها، يتمثل في ان هناك معنى أو إحساسا أو موضوعا موجودا وقائما هناك، وان هناك في الوقت ذاته كلمة أو لفظا أو تركيبا لغويا على الكاتب ان يبحث عنه ويجده للتعبير عن المعنى أو الإحساس أو الموضوع الذي يتصدى له.
    ويعتقد المحاضر ان ليس هناك فصل حاسم بين عالم المعاني وعالم الألفاظ، وان الكلمة عنده تسهم إسهاما جوهريا في إيجاد المعنى وتكوينه، وفي خلق الحس أو الانفعال الذي لا يوجد حقا أو فعلا إلا بها، كما ان الصياغة بذاتها مقوم جوهري من مقومات المعنى ليست تابعة له.
    * الشخصية والمكان
    * وتحدثت الناقدة جيهان كيرة عن ارتباط المكان بالعناصر الطبيعية في بعض قصص يحيى حقي، مشيرة الى انه اهتم بتحليل النفس البشرية المعقدة، وتحدث عن الشعور واللاشعور، وبرع في تقديم قصص بأسلوب شيق للغاية عكس براعته في تناول شخصيات أعماله. وقد ظهر هذا واضحا في رواياته القصيرة، مثل «دماء وطين» و«البوسطجي» و«قنديل أم هاشم»، كما ظهر واضحا أيضا في قصصه القصيرة التي استطاع فيها ان يضع تأثير المكان على شخصياته، ودوره في تحديد سماتهم.
    وقد استطاع يحيى حقي ان يبرز صور التربة والماء، وما يرتبط بها من أحاسيس العمق أو الرخاوة التي تشكل الجو العام الذي تتحرك فيه الشخصيات في القصص.
    * السرد في «قنديل أم هاشم»
    * وعلى خصوصية الرؤية السردية في قصة «قنديل أم هاشم»، ارتكزت ورقة الناقد حميد محمداني التي حاول خلالها تحديد زاوية النظر المستخدمة في الرواية، وأشار إلى أنها تمزج بين التصوير الذاتي والموضوعي. لكن الرؤية الذاتية للسارد تبقى الغالبة في مجموع النص مع ما يرتبط بها من وسائل تعبيرية أخرى أهمها استخدام اللغة الشعرية بما فيها من إشعارات تمثيلية استخدمها حقي بهدف جذب انتباه القارئ.
    وقال ان حقي بروايته وضع لبنات الرواية العربية واستطاع تطويع اللغة العربية للتعبير القصصي بعيدا عن دائرة المقامات، وقد عالج بها موضوعا حساسا في تلك الفترة من تاريخ المجتمع العربي وقدم رواية ذات نزعة وطنية تنتقد تخلف المجتمع المصري وتحاول تغييره بعلم الغرب.
    وقال محمداني ان النظر الى الرواية يجعلنا نخرج بمقاصد إجمالية أخرى كثيرة تختلف باختلاف زاوية النظر إليها، وهو ما يجعل منها عملا أدبيا حقيقيا قادرا على عبور الأفق المحلي للبيئة التي دارت أحداثها فيها.
    وانتقد الناقد شريف شمس الدين، عدم اهتمام كثير من النقاد بأدب يحيى حقي. وخصص شريف دراسته لبحث صورة المرأة في قصص يحيى حقي، التي حظيت بمكانه بارزة في إبداعاته القصصية.
    * حقي والمرأة
    * وقال شريف، ان يحيى حقي ربط بين نماذج المرأة في قصصه وبين المجتمع، وما طرأ عليه من تحولات حضارية أثرت في المرأة تأثيرا واضحا. وذكر ان حقي صور المرأة في بيئات متنوعة شعبية وغير شعبية، وربط ذلك بالمكان والزمان في كل بيئة تحدث عنها، وكان الحوار معبرا عن كل شخصية والخصوصية التي تتميز بها، وكان مرآة صادقة لنفسية كل منها.
    وركز الناقد المغربي عبد الفتاح الحجمري دراسته على قراءة الأبنية الفنية، ومضامين يحيى حقي الحكائية في قصصه، مشيرا الى ان التخييل القصصي عنده شكل أفقا للمبادرة والابتكار، وتجاوز الرتابة الاجتماعية والواقعية الفجة. وقال ان الشخصية القصصية ذات الملمح التخييلي تتوارى في حكاياته لصالح الإنسان، حيث يستخدم في التعبير عنها سردا تعبيريا وتصويريا، راسما الحدث والمشهد معا. وقد جعل ذلك الكتابة القصصية عنده كتابة واقعية انتقادية تمزج العام بالخاص عبر السخرية والاحتفال بالموقف النبيل.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
    *المصدر: صحيفة "الشرق الأوسط" ـ في 17/1/2005م

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      كاتب مسجل
      • Jun 2006
      • 1123

      #17
      رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)

      مئوية يحيى حقي:
      عاش حرا

      بقلم: سمير عطا الله

      ......................


      ما الفارق بين يحيى حقي وتوفيق الحكيم والعقاد ويوسف ادريس وسواهم؟ يحيى حقي كان انسانا. الآخرون كانوا افرادا. حقي عاش مع الناس وحاول ان يدرب اجيالا من الكتاب وان يساعد كل من طرق بابه في الحصول على فرصة. وحوّل «المجلة» التي عاشت نحو ثماني سنين الى كلية للمواهب القادمة. ولم يعزل نفسه إلا في حكم العمر وعتي الكبر. ولم يساوم في قناعاته ورؤيته الانسانية. وظل أبطاله واشخاصه وهمومه من الطبقات الفقيرة ورفاق السيدة زينب وحي الميضة والمدرسة الخديوية. وفي هذا المعنى، او في هذا الاطار، لم يخرج يحيى حقي على اصول المدرسة الكبرى التي انتمى اليها الرواد. وهذه المدرسة اسمها تكرارا مصر.
      اختلف يحيى حقي عن بقية رفاقه من جيل الرواد بالتجربة الطويلة التي عاشها في الخارج، كديبلوماسي عامل، وليس كطالب علم مثل طه حسين وتوفيق الحكيم، اللذين طبعت التجربة الخارجية بعض اعمالهما ايضا. وقد بدأ عمله الديبلوماسي في جدة اواخر العشرينات، المدينة التي تلتقي فيها الشعوب والأمم في الطريق الى مكة، ثم عمل في اسطنبول، عندما كانت حملة كمال اتاتورك لعلمنة تركيا في ذروتها. وقد ضايقته القسوة الاتاتوركية في الاكراه والفرض. وأثارته محاولة اتاتورك استرضاء الغرب. وكتب يقول انه مهما فعل اتاتورك فلن يرضي احدا. وسوف يظل الشرق شرقا والغرب غربا كما قال روديارد كيبلنغ. وشدد حقي في تلك الأيام على ان تركيا ليست جزءا من اوروبا ولن تكون. وليته كان حياً لكي يشهد ما يجري حاليا في هذا الشأن.
      كان واسع الثقافة كثير الشفافية ومأخوذا بحركة التطوير والتنوير. وكان غيورا على اللغة التي احبها. وفي سنواته الأخيرة رأى ان ما يكتب في الصحافة الحديثة جريمة لغوية «فوضى ومسطحات بلا معنى». واعتبر ان مسؤولية الانهيار تبدأ في المدارس: «وفي حين رفع الفقراء مستواهم وصار في امكانهم ان يقرأوا، تدنى مستوى النخبة ومقاييسها».
      تتولى وزارة الثقافة المصرية الآن الاحتفالات بمئوية يحيى حقي. لكن المثقف المصري الكبير كان يدعو الى حصر دور الوزارة والحكومة في العمل الثقافي: « لست أرى أي دور للدولة سوى في رعاية المشاريع التي هي في طبيعتها وطنية وغير خاضعة لقانون الربحية. الدولة يجب ان تحصر عملها في المشاريع الضخمة التي لا يقوى عليها احد آخر، كالموسوعات وكتب التراث وما شابه».
      اعتبر يحيى حقي ان ثورة 23 يوليو حققت الكثير من اجل الفقراء. لكنه قال قبل وفاته في حديث «للأهرام ويكلي»: «لا استطيع ان اسامح عبد الناصر على بدء مرحلة ما بعد الثورة بإعدام العمال في كفر الدوار. ولا استطيع ان اسامحه على اعدام سيد قطب. ولا على معسكرات الاعتقال التي دب فيها النظام اهل اليسار. هذه هي مشكلة جميع الديكتاتوريات العسكرية. وهي قضية عالجتها في روايتي «صح النوم». انها احب اعمالي اليّ لأنها تحذير ضد الديكتاتورية».
      قال تي.اس. ايليوت عن عزرا باوند انه «الحِرَفي الأفضل». هكذا كان يحيى حقي، الذي اخفق في شيء واحد، وهو ان يعلم تلامذته كيف يقتدون اسلوبه المتفرد ولغته المغردة فوق الغصون. واعظم ما في يحيى حقي كان موضوعيته الشجاعة، وقدرته الانسانية على الانصاف. والا من هو الذي يستنكر في وقت واحد اعدام العمال في كفر الدوار واعدام سيد قطب وزج اليساريين في السجون. كان حرا.
      ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
      *المصدر: صحيفة "الشرق الأوسط" ـ في 16/1/2005م

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        كاتب مسجل
        • Jun 2006
        • 1123

        #18
        رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)

        يحيى حقي..
        انحاز للمهمشين المصريين رغم أصوله التركية

        بقلم: حمدي عابدين

        احتفلت لجنة القصة بالمجلس الاعلى للثقافة حديثا بذكرى الكاتب المصري الراحل يحيى حقي، وعلى مدى يومين، تحت عنوان «يحيى حقي ظاهرة ثقافية»، وشارك في الندوة أكثر من 20 مبدعا وناقدا ناقشوا آثار يحيى حقي الابداعية، التي لم تتوقف عند حدود الكتابة القصصية بل تجاوزتها الى مجالات الكتابة النقدية والمقالات والخاطرة الأدبية والنقد السينمائي والموسيقى. وتحدث د. جابر عصفور عن الاهمية الأدبية والثقافية لما خلفه حقي من اعمال قصصية، وعشقه للحارة الشعبية والمهمشين من ابناء المجتمع المصري رغم اصول حقي التركية. وذكر عصفور انه يضع الاديب يحيى حقي في مصاف الكتاب المصريين الكبار اصحاب الانجازات الكبيرة والدور البارز في حياتنا الثقافية والابداعية.
        وفي محور الندوة الخاصة بعلاقة السينما بأدب حقي تحدث الكاتب صبري موسى عن تجربته في تحويل رواية «قنديل أم هاشم» و«البوسطجي» الى فيلمين يعتبران علامتين بارزتين في تاريخ السينما المصرية. وذكر موسى انه التزم باحداث الروايتين وكان مخلصا لهما اخلاصا تاما وذلك انطلاقا من احترامه لابداع حقي وإعتبر موسى ان كاتب السيناريو يجب ان يلتزم بالعمل الروائي حتى يخرج الفيلم السينمائي معبرا عن العمل المكتوب بشكل حقيقي. واشار الكاتب محمد جبريل في دراسة ضخمة حملت عنوان الندوة «يحيى حقي ظاهرة ثقافية» الى اجتهاد حقي الابداعي واسهامه بقسط في كل مجال من مجالات الفن، وذلك لم يأت ببساطة» لأن حقي اعد نفسه اعدادا شاقا لكي يكون قادرا على الدخول في غمار اكثر من فن والابداع فيه تفوق في اكثر من مجال منها مجال القصة القصيرة التي يعتبر احد روادها حيث نشر اول قصة له في عام 1925، وكان ابرز اساتذة المدرسة المصرية الحديثة في القصة القصيرة والتي ضمت محمود طاهر لاشين ومحمد تيمور وابراهيم المصري وغيرهم، وقد كتب حقي عن معظم افراد هذه المدرسة وما قدموه من ابداعات قصصية.
        وذكر جبريل ان اشهر اعماله «قنديل أم هاشم» يصعب تصنيفها كرواية ويمكن الحديث عنها بوصفها قصة قصيرة مطولة، ونفس الحكم يمكن ان ينطبق على رواية حقي «صح النوم» لأنها اقرب الى مجموعة قصص قصيرة منها الى الرواية، وتبدو كما لو كانت لوحات لا رابط بينها سوى الزمان والمكان. وتحدث جبريل عن رؤى يحيى حقي الابداعية، ورؤيته لفني الرواية والقصة ، مشيرا الى ان حقي كان يعنى بالشخصية اكثر من عنايته بالحدث، فكان ينشغل بابراز ملامح ابطاله ومشكلاتهم ونوازعهم النفسية وتأثيرات البيئة عليهم.
        كانت القصة القصيرة لدى يحيى حقي، كما يضيف، تعني التحديد والحتمية اما الرواية فتعتمد حسب رأي حقي نفسه على الصدفة والتجريد المصطنع. وذكر ان القصة القصيرة عند حقي تحاول ان تكشف بعضا من جوانب النفس الانسانية حيث تنقل قارئها من الصورة الجزئية المباشرة الى المعنى الكلي خلفها وقد اخذ حقي موقف الراوي في معظم قصصه مستفيدا من تكنيك القصص الشعبية والملاحم وهو ما جعل روايته «رائقة الصوت»، متعاطفة مع ابطال القصص، وأدى في النهاية الى خروجها بحميمية أكثر الى القارئ، وكان حقي مغرما بالمكان من اجل تكملة اللوحة التي يتحرك فيها الابطال، وهذا ظهر واضحا في وصف ميدان السيدة اكثر من مرة في لوحات «قنديل أم هاشم» كما اجاد وصف الاجواء الصعيدية بسبب اقامته لفترة طويلة هناك، وهذا ما تجلى في قصص مجموعته «دماء وطين» وسيرته الذاتية «خليها على الله».
        واشار محمد جبريل الى مساهمات يحيى حقي في أدب السيرة الذاتية، وقدرته على التعبير، من خلال كتابه «خليها على الله» عن التطور النفسي والفني له ولابداعاته فضلا عن تصويرها الجيد للبيئات المختلفة التي عاش فيها حقي، ولم يغفل جبريل خلال حديثه كتابات حقي النقدية وما قدمه في مجال ادب الرحلات بالاضافة الى مقالاته وخواطره الادبية وترجماته التي قدمها للمكتبة العربية عبر أعمال مهمة مثل «دكتور كنوك» لجول رومان، و«العصفور الازرق» لمكوريس ميترلنك و«الاب الضليل» دايث سوندرز.
        وتحدث الكاتب يوسف الشاروني مقرر لجنة القصة منظمة الاحتفال بحقي عن سيرته الذاتية وروافدها القصصية مشيرا الى انه وفر على نقاده مهمة البحث وراء سيرته، فقدم كتابه «خليها على الله» عام 1956 ثم «كناسة الدكان» في اوائل التسعينيات، وفيهما احتفل حقي بالصورة واللوحة القصصية والاستطراد وفن البورتريه، كما اهتم حقي بتصوير الشخصيات التي يتحدث عنها وابرازها داخليا وخارجيا.
        وأسهب الشاروني، عبر دراسته الطويلة، في الحديث عن شخصيات يحيى حقي في اعماله القصصية المختلفة مقارنة بغيرها من الشخصيات في أعمال أدباء مثل توفيق الحكيم وحسين مؤنس وفتحي غانم، وذلك عبر دراسة السيرة الذاتية لكل منهم.
        وقد ضمت فعاليات ندوة يحيى حقي شهادات أخرى لكتاب تحدثوا عن اعماله ودوره في تشكيل وعيهم الأدبي والجمالي، كما عرض في اطار الفعاليات فيلمان الاول عن حياة حقي وهو من اخراج احمد راشد والثاني فيلم «البوسطجي» الذي كتب السيناريو له صبري موسى.
        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
        *المصدر: صحيفة "الشرق الأوسط" ـ في 17/3/2005م

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          كاتب مسجل
          • Jun 2006
          • 1123

          #19
          رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)

          في قنديل أم هاشم ليحيي حقي:
          أزمة المثقّف العائد من الغرب

          بقلم: رشاد أبوشاور

          لفتت هذه الرواية القصيرة، المركزّة، المشحونة، انتباه النقّاد والقرّاء منذ صدورها ـ وزادها شهرة نقلها إلي السينما وتقديمها في فيلم حقق نجاحاً جماهيرياً ـ حتي باتت كما يقال موضع التركيز عند الحديث عن الكاتب الكبير يحيي حقي، وهو ما كان يضايقه، فهذا المبدع الكبير، القاص، الناقد، كاتب السيرة، صاحب المقال الأنيق المعطّر الجذّاب، المترجم، متعدد المواهب، رأي أنه يتّم الغّض من قيمة منجزاته بالتركيز علي قنديل أم هاشم.
          وأم هاشم هي السيّدة زينب، ابنة الإمام علي، شقيقة سيدنا الحسين، ولها مسجد وميدان في القاهرة يعرفه كل من زارها، حيث تري هناك حركة الحياة اليومية الشعبية، ومدي انجذاب البسطاء من عامة الشعب المصري، قاهريين وريفيين، الوافدين لزيارة السيدة والتبرك بمقامها، والصلاة في مسجدها.
          ما هي هذه الرواية الصغيرة التي تركت كل هذا الأثر، وتمتعت بكل هذا الحضور الطاغي؟
          يروي (أم هاشم) حفيد للجد رجب عبد الله، التقي المؤمن البسيط، الذي يحضر من الريف لزيارة السيدة صحبة والده، يدفعه والده في المقام ليبوس العتبة التي يدوس عليها زوار المقام، وسط دهشة نظرات القاهريين الذين يرون في الأمر مبالغة عاطفية من فلاّحي الصعيد الطيبين.
          ينتقل الجد رجب بأسرته إلي القاهرة، ويقيم علي مقربة من مقام (أم هاشم) بحيث تكون (الميضئة) قبالة البيت. يفتتح له دكّاناً يسترزق منه.
          هذا مفتتح الرواية، والمدخل إلي عالمها البسيط، فالأحداث فيها محدودة، والشخصية المركزية هو اسماعيل الذي تدور (الحكاية ) حوله، بحيث تتضاءل بقيّة الشخصيات التي يؤدي حضورها لخدمة تطوّر الشخصية الرئيسة والأحداث، كالجد الذي هو والد بطل القصّة ـ هو جد الراوي، والد اسماعيل ـ والأم، والفتاة فاطمة النبوية ابـنــــة العم التي تعاني من رمد العيون وهي مقطوعة ليس لها أحد ســــــــوي عائلة عمها الذي كفلها، والراوي الذي نقـــــرأ كلماته ولا نعرف عنه شيئاً سوي أنه حفيد الجد رجب، وابن شقـــــــيق إسماعيل. شقيقا إسماعيل اللذان يرد ذكرهما بشـــــــكل عابر لا نعود نعلم عنهما شيئاً، فالحــــــــكاية (مسددة) كالطلـــــقة لتذهب إلي هدفها، تخرج من القلب ـ كما قال الكاتب الكبير يحيي حقي في معرض تفسيره للاهتمام الذي حظيت به أم هاشم ـ لتصل إلي القلب، من قلب الكاتب إلي قلب القارئ مباشرة.
          إسماعيل هو الوحيد الذي أفلح في الدراسة، ولذا أراد والده له أن يتعلم وأن يكون طبيباً، ولكن علامات إسماعيل عند نجاحه في (الثانوية) كانت ضعيفة مّما يعني عدم قبوله في الجامعة المصرية كدارس للطب.
          أحد أصدقاء الشيخ رجب ينصحه بإرسال ابنه إلي بلاد برّه، إلي أوربة، فهناك في بريطانيا سيتمكن من دراسة الطب . الفكرة تدور في رأس الرجل، يقلبها وتقلب علي نارها فيقرر ،مع معرفته بمدي التضحية المطلوبة من الأسرة، أن يرسل إسماعيل إلي بلاد برّه لدراسة الطب.
          سيحتاج إسماعيل إلي خمسة عشر جنيهاً في الشهر تكاليف دراسة ومعيشة، وهذا يعني أن تعيش الأسرة علي الخبز الحاف، أو الخبز والفجل، وهو ما تحملته الأسرة عن طيب خاطر.
          يسافر إسماعيل إلي بريطانيا، وهناك يدخل الجامعة، وبعد سبعة أعوام يتخرج طبيباً مختصاً في علاج العيون، يلمع إسماعيل، وتعرض عليه الجامعة العمل ولكنه يقرر العودة إلي الوطن.
          كان أستاذه يمازحه وقد أعجب بنباهته وتفوّقه:
          ـ أراهن أن روح طبيب كاهن من الفراعنة قد تقمصّت فيك يا مستر إسماعيل. إن بلادك في حاجة إليك، فهي بلد العميان.
          ولأن بلاده بحاجة إليه فقد عاد، ولكن العودة لم تكن بسهولة السفر، فالبداية هي بداية شاب (خام) بريء، سليل أسرة صعيدية قاهرية متدينة، والعائد هو طبيب عاش لسبع سنوات في بريطانيا.
          ماذا جري لإسمــــاعيل هناك، ما مدي تغيّره؟ هل بقي كما سافـــــر، هل حفــظ وصيّة والده وســــارت حياته علي هدي بساطتها وسذاجتها؟ هل كان بمقدور وصيّة والده له بالعفّة والحيطة من بنات أوربة، والحفاظ علي دينه، أن تشكّل سوراً يقي روحه من المؤثرات الحضارية الغربية؟!
          هناك، كما يعلمنا (الراوي) حفيــــد الحاج رجب، وابن أخ الدكتـــــور إسماعيل، عـــــرف اسماعيل النــــساء، وقع في قصّة حب مع (ماري) زميلــــــته في الجامعة، التي علّمته فنون الجســــد، وهزّت مفاهيمه عن الشرف، وسخرت من عواطفه المبالغ بها . ماري التي أعادت صقله تتمرّد علي العادة والروتين، ولذا تتركه وتنشئ علاقة مع واحد من بني جنسها، كأنما أنهت مهمتها في تبديله وتغييره.
          عندما حان موعد سفر إسماعيل حنّ اليها، طلبها فاستجابت، ومنحته من جديد جسدها للمرة الأخيرة، هو الراحل نهائياً علي شرقه القديم!
          لم يكن الانفتاح الجنسي وسهولة العلاقة بين الرجل والمرأة هو ما أحدث التغيّر الذي سنراه، فأساليب التفكير العلمي ـ ولا ننسي أنه طبيب ـ ونمط الحياة، ومدي الحريّة الفردية، كلها أحدث ما سيتسبب له بالأزمة الرهيبة التي ستنفجّر بينه وبين بيئته مباشرة ـ كما سنري ـ مع أول لحظة لالتقائه بها.
          عاد إسماعيل إلي مصر، إلي القاهرة، إلي بيته في السيدة زينب حيث والده ووالدته وفاطمة النبوية، فهاله ما يري من فقر هو الغائب في أوربة والذي قضي سبعة أعوام (سمان) أنسته واقع الحال، سبع سنوات مكتنزات بالعلم والمعرفة، والمتعة، وراحة البال، وتلقن عادات وثقافة مجتمع آخر قطع شوطاً بعيداً علي درب الحضارة والعلم، مجتمع مختلف تماماً، يمنح الفرد حريّته، ويصون حقوقه، ويجعل من العلم دينه الجديد.
          لم نر إسماعيل وهو في لندن، رأينا لندن فيه بعد عودته، لأن الكاتب أراد أن يضع (إسماعيل) العربي المسلم، ابن السيدة زينب، بعد غيبة سبعة أعوام، وجهاً لوجه مع مجتمعه كما هو، ولكن كيف ؟
          ابنة العم المنتظرة، الخطيبة التي عقد له الأب عليها قبل سفره لتكون زوجته عند عودته، هاله ليلة وصوله رؤيته لأمه وهي تقطر في عينيها زيت قنديل أم هاشم، هو طبيب العيون المتفوّق القادم من لندن، الذي يؤمن بما يقدمه العلم لا الهبل والسذاجة والجهالة .
          يخطف الزجاجة من يد أمه ويلقي بها بعيداً وهو في ثورة كاسحة تدفعه للخروج إلي مقام السيدة القريب من البيت ، ليقتحم المقام، ويمسك بالزيت المبارك فيرميه، وإلي الشموع المنذورة فيطفئها، صارخاً بكلمة واحدة لم يكملها : أنا.. أنا.. أنا... أنا ماذا؟ لم يقل...
          طبعاً يهجم الناس عليه ويطرحونه أرضاً، ولولا اندفاع الشيخ (الدرديري) خادم المقام الذي يتعرف عليه ـ وقد كان يعرفه منذ أقام وأسرته في حمي (أم هاشم) ـ وينقذه من بين أيدي العّامة قبل أن يهلكوه دوساً بالأقدام.
          يصدم والده ووالدته من سلوكه ويتمنون لو أنه لم يعد، أو لم يسافر لطلب هكذا علم أفقده دينه وعقله، وتلوذ الخطيبة فاطمة بحزنها هي المتعلّقة به، ويبدأ في معالجتها بالأدوية والقطرات والأساليب التي تعلمها وأبدع في تطبيقها هناك في لندن، ولكن حالة فاطمة تتفاقم وهو ما يدفعه لليأس ومغادرة البيت والإقامة في (بانسيون) قريب تملكه سيدة يونانية جشعة تستل من إسماعيل كل قرش ممكن سرقته ـ ليست صدفة المرور بهذه الشخصية، لأن الروائي ينبهنا إلي أنه ليس كل أوروبي إنسانا متحضرا، نظيف النفس، حسن السلوك، فالإنسان هو الإنسان، والناس معادن ـ يعتزل فيه وهو علي حافة الجنون.
          لقد تعلّم في لندن كيف يعالج العيون المريضة بالأدوية الحديثة، وعرض ما فعل لفاطمة علي زملائه الأطباء المصريين فأيدوا طريقته في العلاج، وأوصوه أن يواصل، ولكنه فشل فعينا فاطمة يكاد نورهما أن ينطفئ.
          البانسيون قريب من ساحة أم هاشم، وهو يدور يومياً حول المقام، وفي ليلة (القدر) وكل شيء مشعشع بالأنوار، تطمئن نفس إسماعيل فيدخل المقام ويلتقي بالشيخ الدرديري، ويطلب منه زيتاً مباركاً.
          يستقبله الشيخ (الدرديري) ببشاشة وترحاب :
          ـ والله أنت بختك كويس... دي ليلة القدر ؟ وليلة الحضرة كمان .
          ويخرج إسماعيل وبيده الزجاجة وهو يقول في نفسه للميدان وأهله :
          ـ تعالوا جميعاً إلي ! فيكم من آذاني، ومن كذب علي، ومن غشّني، ولكني رغم هذا لا يزال في قلبي مكان لقذارتكم وجهلكم وانحطاطك، فأنتم منّي وأنا منكم. أنا ابن هذا الحي، أنا ابن هذا الميدان، لقد جار عليكم الزمان، وكلّما جار واستبّد، كان إعزازي لكم أقوي وأشّد.(ص55)
          يأخــــذ الزيت ويتوجه إلي بيت العائلة، ينادي علي فاطمة :
          ـ تعالي يا فاطمة ! لا تيأسي من الشفاء . لقد جئتك ببركة أم هاشم، ستجلي عنك الداء، وتزيح الأذي، وترّد إليك بصرك فإذا هو جديد ...
          ويشّد ضفيرتها وهو يقول لها :
          ـ وفوق ذلك سأعلّمك كيف تأكلين وتشربين، وكيف تجلسين وتلبسين، سأجعلك من بني آدم. (ص 56)
          يبدأ الدكتور اسماعيل ابن حارة السيدة زينب (أم هاشم) رحلة علاج فاطمة التي تحبّه وثق به، والتي انتظرته . عاد من جديد إلي علمه وطبّه يسنده بالإيمان ...
          عالج فاطمة بالزيت المبارك وبالأدوية الحديثة معاً، فتشفيت، وتزوج منها، وأنجب.
          افتتح عيادة في حارة (البغّالة ) الشعبية، وأخذ يعالج فيها الفقراء بقرش واحد بالأدوية الحديثة وزيت أم هاشم.
          الدكتور إسماعيل فهم السر، فمناطحة المعتقدات، ومحاولة تغيير المجتمع بضربة ساحر، تؤدي إلي الفشل، إلي الانفصام والانفصال والفراق بين المتعلّم المستنير ومجتمعه.
          بالعلم والإيمان، بالفهم والحب، بالتواضع والصبر وطول النفس يمكن أن يؤدي (المتعلم المثقف) دوره في إعادة البصر لمرضاه ليروا، لبصيرتهم لتتقد، ليصيروا من بعد(من بني آدم).
          مثقفون كثيرون سقطوا في الامتحان، عادوا متفوقين من (الغرب) ولكنهم اندفعوا دون ترو في الاصطدام مع يرونه جهلاً وتخلّفاً، وإلي الغرب عادوا وهناك اندمجوا وانتهي أمرهم !
          في بلادنا أحزاب فشلت بعد أن فقدت دورها نتيجة لجهلها بالواقع، ونهجها أساليب قطعت العلاقة بينها وبين (الجماهير)، واندثرت ولم يتعلم غيرها من درس فشلها .
          ثمّة قوي حزبية اصطدمت أول ما اصطدمت بالدين، فأضاعت أي إمكانية للتواصل مع الناس، لأنها اعتدت علي مقدسهم، ولذا تاهت الشعارات علي أهميتها، وتبددت الطاقات في جدل فارغ ومناطحة بدلاً من تقديم النموذج الذي بخطاه الواعية العارفة يرسم ملامح الطريق و(يجعل الناس الجهلة بني آدمين)، يخلّصهم من جهلهم بحكمة وصبر وأناة ودون تحقير .
          إسماعيل في ختام (أم هاشم) هو المثقف المتصالح وليس المناطح، وهو بالتأكيد ليس المهادن، ولكنه صاحب الرسالة الذي لا يبحث عن المال، ولذا فهو يعالج ويعيش في حي فقير متواضع، ويقبل بالقروش القليلة، ويسعد بشفاء زواره الذين بلغتهم شهرته وصيته فصاروا يفدون غليه من خارج القاهرة.
          الراوي، ابن شقيق الدكتور إسماعيل ينهي الرواية بنبأ موت اسماعيل الذي تكرّش وما عاد يأبه بلباسه والذي كان يشفي الفقراء، وما عليه من مأخذ، اللهم سوي غمز ودود مّمن يترحمون عليه أن من يترحمون عليه بتسامح لـ.. حبّه للنساء!.. يرحمه الله.
          هذه الرواية القصيرة، المتقنة، التي كتبت بدون زوائد، بلغة مقتصدة فصيحة سلسبيل، بقليل من المفردات الشعبية التي يتقنها يحيي حقي، تضع المثقف أمام الخيار : يا إسماعيل أمامك أن تقفل عائداً إلي الغرب وتعيش (حياتك) الشخصية، وتحقق خلاصك الفردي هناك.. أو أن تتعامل مع مجتمعك بمعرفتك وعلمك و..دون أن تصطدم بمعتقدات الناس وتحقّرها، بل تحوّلها إلي عامل مساعد في شفائهم بحيث تري عيونهم وتبصر، أي تختار لنفسك أن تكون صاحب رسالة و(دور)!
          (أم هاشم) برأيي ليست عن صراع الشرق والغرب، ولكنها رواية المثقف المتعلّم في لحظة الاختيار، ولهذا قفز يحيي حقي عن تصوير الحياة في لندن، وجعل بعض جوانبها عناصر مؤججة للصراع الداخلي في نفس إسماعيل.
          إسماعيل مرّ في (التجربة) ونجا منها . كاد يفقد حياته، وأوشك أن يفقـــــــد عقله، وانعـــزل، وتأسف الذين ضحّوا وأكلــوا الفجل والخبز الحاف ليعود من غربته بعلم ينفعهم.
          في (قنديل أم هاشم ) وفي (البوسطجي ) لم يبتعد يحيي حقي كثيراً عن فن القصة القصيرة، فهو يعرف إلي أين يذهب، موظّفاً كل كلمة، ولفتة، وشخصية مهما ضؤل دورها، ليصل إلي غرضه.
          وهو كاتب لا يغيب عن باله أنه يكتب أدباً، وأنه قاص وحكّاء، وأن ما يكتبه يجب أن يمتع، وأن يكون عميقاً وإن بدا سهلاً قريباً.
          يحتفي بيحيي حقي هذه الأيام ـ ولد عام 1905، وتوفي عام 1992 ـ بمرور مئة عام علي ولادته، وهو واحد برأيي من أكبر الكتّاب العرب الجديرين بالحفاوة عربياً لا إقليمياً مصرياً.
          صدرت (قنديل أم هاشم) في عدّة طبعات، وقد عدت وقرأتها في طبعة تضمها مع عدّة قصص قصيرة أصدرتها (دار المعارف) في القاهرة عام 89.
          ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
          المصدر: منتدى القصة العربية.

          الرابط: http://www.arabicstory.net/forum/index.php?act=ST&f=4&t=1758&hl=يحيى+حقي&

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            كاتب مسجل
            • Jun 2006
            • 1123

            #20
            رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)

            جولة الفكر
            إيمان يحيي حقي بقيادة "المستبد العادل".. لم يمنع فصله في بداية الثورة

            بقلم : أحمد عباس صالح
            .............................

            تابعت يحيي حقي في عدة انتقالات فقد رأيته وهو يترك الخارجية المصرية ليعمل في دار الكتب وهي الفترة التي أنجز فيها كتابه عن تاريخ القصة القصيرة المصرية وفيه كشف لأول مرة عن الطلائع الأولي للكتاب المصريين الذين أبدعوا في هذا الجنس الأدبي منذ بواكير القرن العشرين. وكانت هذه فترة غامضة في تاريخ الأدب الحديث ولم يطرقها أحد قبله.. وشاهدته عندما عينته حكومة الثورة الجديدة مديراً لمصلحة الفنون وفيها كان اهتمامه بالفن الشعبي والموسيقي واستطاع ان يفتح الطريق أمام نوع من العرض المسرحي الموسيقي وعلي الرغم من نجاح التجربة إلا أنها لم تستمر طويلاً بعد ذلك.
            كانت هناك رغبة في تطوير الفنون وتنظيمها وكانت هذه اتجاهات وزير الارشاد القومي "انظر إلي كلمة ارشاد وما فيها من استاذية علي الناس" وهو الاستاذ فتحي رضوان الذي كان سياسياً مقرباً من ضباط الجيش وكان سياسياً راديكالياً اشترك في تشكيل حزب مصر الفتاة مع الزعيم أحمد حسين ثم انشق عليه وأنشأ الحزب الوطني الجديد وهي تركيبة معقدة أجد لها شبها في شخصية يحيي حقي. ولعل أبرز ما فيها هو الايمان بالثورة علي الأنظمة القائمة وتشكيل نظام جديد يقوده في الغالب مصلح "مستبد عادل" وفي هذا التصور تكمن فكرة النظام الابوي الذي يظهر فيه القائد السياسي في صورة الأب المحب ولكن البصير بحقيقة الأمور والتي ينبغي ان يطاع حتي لو لم يستطع الأبناء ان يروا الحكمة الخافية وراء تصرفاته وكانت هذه الفكرة بعيدة- كما تري- عن المفهوم الديمقراطي الذي يتساوي فيه الناس ويشتركون معا في اتخاذ القرارات والي جانب ذلك كان هناك ادراك قوي للهوية الوطنية والاسلامية وبالتالي تمسك بالتراث مع محاولة تنقيته وتصحيحه. ولعل أبرز ما في هذا الاتجاه هو منحاه القومي والذي كان مختلطا بالتراث الديني الاسلامي كمحور أساسي في تشكيل الكيان القومي.
            كان فتحي رضوان ويحيي حقي أميل إلي الاتجاه الاول الذي يعتد بالرابطة الدينية باعتبارها المعلم الأساسي للهوية القومية. كما كان مؤمنا بالزعامة الأبوية وامكانية ظهور الشخصية القيادية الكبري بمفهوم "المستبد العادل" وفي هذه الفترة كتب يحيي حقي رواية "صح النوم" والتي كان محورها بطلا فردا رائعا سماه بالاستاذ. ولم يكن خافيا ان هذا الاستاذ ليس إلا تجسيدا لجمال عبدالناصر كما يتمناه يحيي حقي.
            علي أن يحيي حقي تعرض بعد ذلك إلي الفصل من وظيفته بسبب سكوته علي النقد الشديد الذي جري ضد جمال عبدالناصر في بيت الاستاذ محمود شاكر بحضور الشيخ الباقوري الذي كان وزيرا للاوقاف في هذا الوقت علي ما أذكر وكانت السلطات تتوقع ان ينبري يحيي حقي بالدفاع عن الاستاذ ضد هذا الهجوم.
            لست أذكر كيف انتقل هذا الحديث الخاص إلي السلطات والذي أسفر عن اقالة وزير الاوقاف وفصل يحيي حقي من وظيفته واعتقال الشيخ شاكر الذي كان أكثر رفاقه هجوما علي الأستاذ.
            طوال هذه الفترة كنت التقي بيحيي حقي في جلسات لجنة القصة في المجلس الأعلي للثقافة والفنون في هذا الوقت وقليلاً ما كنت القاه في مناسبات أخري.. علي ان قصة فصله من وظيفته ظلت طي الكتمان ولا يعرفها الا القليلون في الوسط الأدبي علي أنه في نفس الفترة عين رئيساً لتحرير مجلة "المجلة" التي صدرت عن وزارة الثقافة في هذا الحين ونجحت هذه المجلة نجاحا ملحوظا من حيث عمق الدراسات والابداعات التي تقدم فيها ويبدو ان مصالحة ماقد قامت بين جماعة يحيي حقي ان صحت العبارة والسلطة اذ كان في استطاعته ان يستكتب الاستاذ محمود شاكر في المجلة بعد الافراج عنه والآن حين أتذكر المجلة- وكنت أتابعها عدداً بعدد- أري أنها كانت تبتعد عن السياسة علي الرغم من اختراق السياسة لكل شيء في حياتنا في هذا الوقت وكانت أدبية خالصة بمعني الكلمة وأعتقد ان افتتاحيات يحيي حقي في هذه المجلة كانت قطعة رائعة من الفكر الثاقب الذي ينطوي علي تلك الروح الناقدة والمتطلعة إلي التغيير في اطار الثقافة بشكل عام.
            كنت أزوره في المجلة أحيانا وكان قد أحاط نفسه بمجموعة من الشباب وربما كان مسئولا عن تقديم الكثير من كتاب القصة الذين اشتهروا بعد ذلك عندما كانوا يبدأون الكتابة.
            كان حياد المجلة السياسي غريباً اذ كنا جميعا نندفع في كل شيء نحو السياسة في الأدب والفن والفكر وفي جوانب الثقافة وكنا نشعر أننا في معركة ضد قوي كبري خارجية وقوي أخري داخلية وكانت مرحلة بالغة التعقيد من الصعب تصورها من قبل الشباب الآن وكنا ندفع إلي الاصلاح السياسي في حدود سلطات مطلقة للقيادة السياسية وكان من الصعب ان يتخلي الانسان عن الأمل في التغيير وكانت الظروف الدولية والداخلية تساعد علي ذلك. وبالفعل حدثت بعض التحولات في اتجاه تحسين الأوضاع ولكن يحيي حقي ظل علي حياده وفي هذه الفترة كتب يحيي حقي أجمل مقالاته النقدية وشيئاً من سيرته الذاتية وقد لجأ بعد ذلك إلي مجلة هامشية يكتب فيها مقالاته الرائعة هذه.
            وعلي الرغم من ميله إلي الانزواء ونفوره من التقحم والدعاية لنفسه الا ان المجتمع المصري لأسباب لا أكاد أعرفها إلي اليوم كان دائماً يعرف مقداره ويعرف كيف ينتخب كتابه وفنانيه ومفكريه وحتي اليوم مازلت اندهش حين أري ان كاتبا أو فنانا لم يتصدر أي مجال من مجالات الذيوع ينتشل فجأة من وسط ركام الاهمال والتنكر ويوضع في الصدارة التي يستحقها. وكذلك يحيي حقي الذي مازال موجودا بيننا علي الرغم من كل ظروف الاحباط التي نعيشها وسحابات الخرافة واللاعقلانية السوداء التي تظلل حياتنا.
            وحين أتذكر الآن كيف سارت علاقتي به طوال هذه السنين فأري أنني علي الرغم من مخالفتي لاتجاهاته الفكرية ظللت مفتونا بكتاباته وبشخصيته الانسانية البالغة النضوج. وأذكر أنني في حرب سنة 1956 وفي احدي الغارات وبسبب الاظلام التام صدمتني أنا وصديقاً اخر كنا نمشي معا في احد الميادين بالدقي سيارة وأسقطتنا علي الارض لكن دون أن نصاب اصابات خطيرة وخرجت من هذه الحادثة بعرج خفيف في احدي ساقي ولسبب لا أذكره ذهبت لزيارة يحيي حقي في شقته التي انتقل إليها في مصر الجديدة وحين رآني أعرج بعد ان عرف قصتي استوقفني وقادني إلي مكان في شقته جمع فيه مجموعة من العصيان واستخرج عصا جميلة من بينها وأهداني اياها. وحين أردت ارجاعها بعد أن شفيت ساقي طلب مني أن احتفظ بها.
            في الايام الأخيرة كان يحيي حقي مغرما بالعصي وكنت أراه دائماً ممسكاً بعصا طويلة ملفتة للنظر وهو يسير بها وكأنه يتحسس الطريق.
            وهكذا عندما نتحدث عن هذا الكاتب الرائع نتحدث في الواقع عن مصر ليس في حياته فقط بل اليوم أيضاً فهو جزء راسخ من ثقافتنا وجهازنا العصبي ولعله أحد الذين يكسبوننا شيئاً من المناعة ضد عناصر التدهور التي تهاجم حياتنا الآن.
            .....................
            *المصدر: الجمهورية ـ في 2/2/2006م.

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              كاتب مسجل
              • Jun 2006
              • 1123

              #21
              رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)

              النص الكامل لروايته القصيرة « قنديل أم هاشم » :

              1
              كان جدي الشيخ رجب عبد الله إذا قدم القاهرة وهو صبي مع رجال الأسرة ونسائها للتبرك بزيارة أهل البيت, دفعه أبوه إذا أشرفوا على مدخل مسجد السيدة زينب - وغريزة التقليد تغني عن الدفع - فيهوي معهم على عتبته الرخامية يرشقها بقبلاته, وأقدام الداخلين والخارجين تكاد تصدم رأسه. وإذا شاهد فعلتهم أحد رجال الدين المتعالمين أشاح بوجهه ناقمًا على الزمن, مستعيذًا بالله من البدع والشرك والجهالة, أما أغلبية الشعب فتبسم لسذاجة هؤلاء القرويين - ورائحة اللبن والطين والحلبة تفوح من ثيابهم - وتفهم ما في قلوبهم من حرارة الشوق والتبجيل, لا يجدون وسيلة للتعبير عن عواطفهم إلاّ ما يفعلونه: والأعمال بالنيات. هاجر جدّي - وهو شاب - إلى القاهرة سعيًا للرزق; فلا عجب أن اختار لإقامته أقرب المساكن لجامعه المحبب. وهكذا استقر بمنزل للأوقاف قديم, يواجه ميضأة المسجد الخلفية, في الحارة التي كانت تسمى "حارة الميضة". [كانت] لأن معول مصلحة التنظيم الهدام أتى عليها فيما أتى عليه من معالم القاهرة. طاش المعول وسلمت للميدان روحه, إنما يوفق في المحو والإفناء حين تكون ضحاياه من حجارة وطوب! ثم فتح جدّي متجرًا للغلال في الميدان أيضًا. وهكذا عاشت الأسرة في ركاب "الستّ" وفي حماها: أعياد "الستّ" أعيادنا, ومواسمها مواسمنا, ومؤذن المسجد ساعتنا.
              اتسع المتجر وبورك لجدّي فيه - وهذا من كرامات أم هاشم - فما كاد يرى ابنه الأكبر يتم دراسته في الكتّاب حتى جذبه إلى تجارته ليستعين به. وأما ابنه الثاني فقد دخل الأزهر, واضطرب فيه سنوات وأخفق, ثم عاد لبلدتنا ليكون فقيهها ومأذونها. بقي الابن الأصغر - عمي إسماعيل آخر العنقود- يهيئه القدر واتساع رزق أبيه لمستقبل أبهى وأعطر. لعله خشي في مبدإ الأمر, عندما أجبره أبوه على حفظ القرآن أن يدفع به إلى الأزهر, لأنه يرى صبية الميدان تلاحق الفتية المعممين بهذا الهتاف البذيء:
              - شدّ العمة شدّ, تحت العمة قرد.....
              ولكن الشيخ رجب سلمه, بقلب مفعم بالآمال, إلى المدارس الأميرية, وعندئذ أعانته تربيته الدينية وأصله القروي, فسرعان ما امتاز بالأدب والاتزان وتوقير معلميه, مع حشمة وكبير صبر. إن حُرِم التأنق لم تفته النظافة. وهو فوق ذلك أكثر رجولة, وأقوم لسانًا, وأفصح نطقًا من زملائه "المدلعين" أولاد الأفندية المبتلين بالعجمة وعجز البيان, فما لبث أن بذّ الأقران وتلألأت على سيمائه نجابة لا تخطئُها العين, فتعلقت به آمال أسرته.
              أصبح, وهو لم يزل صبيًّا, لا ينادى إلاّ بـ"سي إسماعيل" أو إسماعيل أفندي, ولا يعامل إلاّ معاملة الرجال. له أطيب ما في الطعام والفاكهة.
              إذا جلس للمذاكرة خفت صوت الأب, وهو يتلو أوراده إلى همس يكاد يكون ذوب حنان مرتعش, ومشت الأم على أطراف أصابعها. حتى فاطمة النبوية - بنت عمه, اليتيمة أبًا وأمًّا - تعلمت كيف تكف عن ثرثرتها وتسكن أمامه في جلستها صامتة كأنها أمَة وهو سيدها. تعودت أن تسهر معه كأن الدرس درسها, تتطلع إليه بعينيها المريضتين المحمرتي الأجفان, وأصابعها تعمل في حركة متصلة لا تنقطع في بعض أشغال "التريكو". من ذا الذي يقول لإسماعيل: تنبه إلى هاتين اليدين كيف دبت فيهما خلسة حياة غريبة وحساسية يقظة, ولمس متعرّف? ألا تفهم ألا تفطن إلى أن دليل اقتراب عاهة العمى في السليم هو أن تبدأ يده في الإبصار?
              - قومي نامي يا فاطمة.
              - لسه بدري ما جاليش نوم.
              بين حين وآخر تحيل دمعة مترقرقة شخصه إلى شبح مبهم فتمسحها بطرف كمها وتعود إلى تطلعها. الحكمة عندها تتمثل في كلامه إذا نطق.
              يالله! كيف تحوي الكتب كل هذه الأسرار والألغاز? وكيف يقوى اللسان على الرطانة بلغة الأعاجم? وكلما كبر في نظرها انكمشت أمامه وتضاءلت. قد يعلق بصره بضفيرتيها فيتريث ويبتسم. هؤلاء الفتيات! لو يعلمن كم هي فارغة رؤوسهن!
              إذا أوى إلى فراشه فعندئذ, وعندئذ فحسب, تشعر الأسرة أن يومها قد انقضى, وتبدأ تفكر فيما يلزمه في الغد. كل حياتها وحركاتها وقف على توفير راحته. جيل يفني نفسه لينشأ فرد واحد من ذريته. محبة وصلت من قوتها إلى عنفوان الغريزة الحيوانية. الدجاجة القلقة ذات النظرة المتجسسة الحذرة ترقد على بيضها مشلولة الحركة ذليلة العين, كأنها راهبة تصلي. هل هي هبات من فيض كرم? أم جزية جبار مستبد, إرادته حديد, له في كل عنق طوق, وفي كل ساق قيد? تعلق هذه الأسرة بولدها تعلق مسلوب الحرية والإرادة! فأين بربك جماله? جواب هذا السؤال عند قلبي. فما من مرة تمثلت فيها هذه الأيام البعيدة إلاّ وجدته يخفق بذكراها, ويبدو لي وجه جدي الشيخ رجب وحواليه هالة من وضاءة ونور. أما جدتي - الست عديلة- بسذاجتها وطيبتها, فمن السخف أن يقال إنها من البشر, وإلاّ فكيف إذن تكون الملائكة?! ما أبشع الدنيا وأبغضها لو خلت من مثل تسليمها وإيمانها!
              (يتبع)

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                كاتب مسجل
                • Jun 2006
                • 1123

                #22
                رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)


                2
                سنة بعد سنة وإسماعيل يفوز بالأولوية, فإذا أعلنت النتيجة دارت أكواب الشربات على الجيران, بل ربما شاركتهم المارة أيضًا, وزغردت "ما شاالله" بائعة الطعمية والبصارة, وفاز الأسطى حسن - الحلاق ودكتور الحي - بحُلوانه المعلوم, وأطلقت الست عديلة بخورها وقامت بوفاء نذرها لأم هاشم. فهذه الأرغفة تُعَدُّ وتملأ بالفول النابت وتخرج بها أم محمد تحملها في مَقْطَف على رأسها: ما تهل في الميدان حتى تختطف الأرغفة, ويختفي المقطف, وتطير ملاءتها, وترجع خجلة تتعثر في أذيالها غاضبة ضاحكة من جشع شحاذي السيدة, وتصير حادثتها فكاهة الأسرة بضعة أيام يتندرون بها.
                وكذلك نشأ إسماعيل في حراسة الله ثم أم هاشم. حياته لا تخرج عن الحي والميدان, أقصى نزهته أن يخرج إلى المنيل ليسير بجانب النهر أو يقف على الكوبري. إذا أقبل المساء, وزالت حدة الشمس, وانقلبت الخطوط والانعكاسات إلى انحناءات وأوهام, أفَاقَ الميدان إلى نفسه وتخلص من الزوار والغرباء. إذا أصختَ السمعَ وكنتَ نقي الضمير فطنت إلى تنفس خفي عميق يجوب الميدان لعله سيدي العتريس بواب الست - أليس اسمه من أسماء الخدم? - لعله في مقصورته ينفض يديه وثيابه من عمل النهار, ويجلس يتنفس الصعداء. فلو قُيِّضَ لك أن تسمع هذا الشهيق والزفير فانظُر عندئذ إلى القُبّة. لألاء من نور يطوف بها, يضعف ويقوي كومضات مصباح يلاعبه الهواء. هذا هو قنديل أم هاشم المعلق فوق المقام. هيهات للجدران أن تحجب أضواءه. يمتلئ الميدان من جديد شيئًا فشيئًا. أشباح صفر الوجوه منهوكة القوى, ذابلة الأعين, يلبس كل منهم ما قدر عليه, أو إن شئت: فما وقعت عليه يده من شيء فهو لابسه. نداءات الباعة كلها نغم حزين.
                - حراتي يا فول.
                - حلّي وع النبي صلّي.
                - لوبية يا فجل لوبية.
                - المسواك سُنّة عن رسول الله.
                ما هذا الظلم الخفي الذي يشكون منه? وما هذا العبء الذي يجثم على الصدور جميعها? ومع ذلك فعلى الوجوه كلها نوع من الرضا والقناعة. ما أسهل ما ينسون! تتناول أيد كثيرة قروشًا وملاليم قليلة. ليس هنا قانون ومعيار وسعر, بل عرف وخاطر وفصالٍ وزيادة في الكيل أو طبّة في الميزان. وقد يكون الكيل مدلسًا والميزان مغشوشًا, كله بالبركة. صفوف تستند إلى جدار الجامع جالسة على الأرض, وبعضهم يتوسد الرصيف. خليط من رجال ونساء وأطفال, لا تدري من أين جاءوا ولا كيف سيختفون, ثمار سقطت من شجرة الحياة فتعفنت في كنفها. هنا مدرسة الشحاذين. حامل كيس اللقم يثقل الحمل ظهره ينادي:
                - لقمة واحدة لله يا فاعلين الثواب, "جاعان".
                والشابة التي تنبت فجأة وسط الحارة عارية أو شبه عارية:
                - ياللي تكسي الولية يا مسلم, ربنا ما يفضح لك ولية!
                صوتها الصارخ يجذب الوجوه للنوافذ, وعيناها الساحرتان تستهويان المطلات, فتمطر عليها أكوام من الخرق ورث الثياب. في لحظة واحدة تذوب وتختفي, فلا تدري أطارت, أم ابتلعتها الأرض فغارت.
                وهذا بائع الدقة الأعمى الذي لا يبيعك إلاّ إذا بدأته السلام وأقرأك وراءه الصيغة الشرعية للبيع والشراء.
                ينقضي النهار فيودّع "كرش" الطرشجي بقية براميله, وتترك أقدام الخراط عملها اليومي وأدواتها, لتعود بصاحبها إلى الدار. لا يزال الترام هنا وحشًا مفترسًا له في كل يوم ضحية غريرة. يتقدم المساء ينعشه نسيم ذو دلال. تسمع من القهاوي ضحكات غضة وأخرى غليظة "حشّاشي". وإذا دلفت من الميدان إلى مدخل شارع مراسينا سمعت ضجيج السكارى في خمارة أنسطاسي التي يلقبها أهل الحي بفكاهتهم خمارة "آنسْت". يخرج منها سكير هائج يتطوح ويتعرض للمارة:
                - ورّوني أجعص فتوة .
                - جتك لهوة يا بعيد.
                - سيبوه في حاله دا غلبان.
                - ربنا يتوب عليه.
                أشباح الميدان الحزينة المتعبة يحركها الآن نوع من البهجة والمرح, ليس في الدنيا همّ. والمستقبل بيد الله, تتقارب الوجوه بود, وينسى الوجيع شكايته. ويبذر الرجل آخر نقوده في الجوزة أو الكتشينة وليكن ما يكون: تقل أصوات اصطدام كِفَف الموازين, وتختفي عربات اليد, وتطفأ الشموع داخل المشنّات, عندئذ تنتهي جولة إسماعيل في الميدان. هو خبير بكل ركن وشبر وحَجر, لا يفاجئه نداء بائع, ولا ينبهم عليه مكانه. تلفه الجموع فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط. صور متكررة متشابهة اعتادها, فلا تجد في روحه أقل مجاوبة, لا يتطلع ولا يمل. لا يعرف الرضا ولا الغضب. إنه ليس منفصلاً عن الجمع حتى تتبينه عينه. من يقول له إن كل ما يسمعه ولا يفطن له من الأصوات, وكل ما تقع عليه عينه ولا يراه من الأشباح, لها كلها مقدرة عجيبة على التسلل إلى القلب, والنفوذ إليه خفية, والاستقرار فيه, والرسوب في أعماقه, فتصبح في كل يوم قوامه. أما الآن فلا تمتاز نظرته بأي حياة. نظرة سليمة, كل عملها أن تبصر.
                (يتبع)

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  كاتب مسجل
                  • Jun 2006
                  • 1123

                  #23
                  رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)

                  (3)
                  اقتربت المراهقة وأخذ جسده يفور, وكأنه مرغم, فهو فريسة ممزقة بين قوي دافعة وأخرى جاذبة. يهرب من الناس ويكاد يجن لوحدته. بدأ يشعر بلذة غريبة في أن يندس بين المترددات على المسجد, ولا سيما يوم الزيارة. في هذا الزحام كان معنى اللباس عنده أنه فواصل بين الأجسام العارية, يحس بها من صدمة هينة أو احتكاك وامض. في وسط هذه الأجسام كان يشعر بلذة المستحم في تيارٍ جار لا يبالى نقاء الماء. روائح العرق والعطر لا تكربه, بل يتشممها بخيشوم الكلاب. لا يخلو يوم الزيارة من بعض المومسات - فسيدي العتريس مأمور أن لا يصدّ أحدًا عن الساحة - يفدن لتقديم شمعة للمقام أو للوفاء بنذر, عسى الله أن يتوب عليهن, ويمحو ما على الجبين من مقدر مسطور. كان يراهن من قبل فلا يفطن إليهن, أما الآن فهو يتبعهن وتعلق نظرته بهن وتتريث. واختص بانتباهه فتاة تأتي كل يوم زيارة. سمراء جعدة الشعر, رقيقة الشفتين. هذه هي نعيمة. تمتاز عن زميلاتها بصمتها وقوامها الأهيف. الكلُّ يمشي مشية المتخاذل المنحل غير مكترث. أما هي, فكأنما تسير إلى غرض, مالكة كيانها وروحها. ذراعاها ممدودتان إلى جانبها, يواجهك باطن كوعها ولو دققت النظر لما وجدت من مومس إلاّ ذراعين مكسورتين من أثر السقوط, وإن كانت الثنية عندها سر الخلاعة!
                  يبتسم إسماعيل عندما يرى الشيخ درديري - خادم المقام - وسطهن كالديك بين الدجاج. يعرفهن واحدة واحدة ويسأل عن الغائبات, يأخذ من هذه شمعتها, ويوسع لأخرى طريق صندوق النذور. يتبدل رضاه فجأة, فيزجرهن ويدفعهن دفعًا إلى الخارج. تأتي إليه أيضًا نسوة ورجال يسألونه شيئًا من زيت قنديل أم هاشم, لعلاج عيونهم أو عيون أعزائهم. يشفى بالزيت المبارك من كانت بصيرته وضاءة بالإيمان. فلا بصر مع فقد البصيرة. ومن لم يشْف فليس لهوان الزيت, بل لأن أم هاشم لم يسعها بعد أن تشمله برضاها. لعله عقاب آثامه, ولعله هو لم يتطهر بعد من الرجس والنجاسة, فيصبر وينتظر ويتردد على المقام. فإن كان الصبر أساس مجاهدة الدنيا, فإنه أيضًا الوسيلة الوحيدة للآخرة.
                  في هذا الزيت مورد رزق متسع للشيخ درديري, ومع ذلك لا تظهر عليه آثار النعمة; فجلبابه القذر هو هو, وعمامته الغبراء هي هي. وماذا يفعل بنقوده?! هل يكنزها تحت بلاطة? يتهمه زملاؤه أنه يحرقها في الحشيش, بدليل سعاله الذي لا ينقطع وبدليل ما في طبعه من ميل "للقفش" والتنكيت. والحقيقة أنه مزواج لا يمر العام إلاّ ويبني ببكر جديدة. عرفه إسماعيل من تردده على المقام, واعتاد أن يمر عليه في أغلب الليالي بعد صلاة العشاء ليتندر بحديثه. ومال الرجل للفتى واختصه بحنانه, هذا الحنان هو الذي حمله ذات ليلة على الإفضاء إليه بسر لم يفض به إلى أحد غيره:
                  - تعرف يا سي إسماعيل ليلة الحضرة يجيء سيدنا الحسين, والإمام الشافعي, والإمام الليث. يحفون بالسيدة فاطمة النبوية والسيدة عائشة والسيدة سكينة. وفي كوكبة من الخيل, ترفرف عليهم أعلام خضر, ويفوح من أردانهم المسك والورد, يأخذون أمكنتهم عن يمين الست وعن يسارها. وتنعقد محكمتهم وينظرون في ظلامات الناس. لو شاءوا لرفعوا المظالم جميعها ولكن الأوان لم يَئِنْ بعد. فما من مظلوم إلاّ وهو ظالم أيضًا, فكيف الاقتصاص له? في تلك الليلة, هذا القنديل الصغير الذي تراه فوق المقام, لا يكاد يشع له ضوء, ينبعث منه عندئذ لألاء يخطف الأبصار. إني ساعتها لا أطيق أن أرفع عيني إليه. زيته في تلك الليلة فيه سر الشفاء - فمن أجل ذلك لا أعطيه إلاّ لمن أعلم أنه يستحقه من المنكسرين.
                  كان إسماعيل غائب الذهن, يفكر في الفتاة السمراء التي تزم شفتيها. وانتبه إلى الشيخ درديري وهو يشير بإصبعه إلى القنديل: وسنان كالعين المطمئنة رأت, وأدركت, واستقرت. يضفو ضوءُه الخافت على المقام, كإشعاع وجه وسيم من أم تلقم رضيعها ثديها فينام في أحضانها. ومضات الذبالة خفقات قلبها حنانًا, أو وقفات تسبيحها همسًا. يطفو فوق المقام كالحارس مبتعدًا تبجيلاً. أما السلسلة فوهم وتعلة. كل نور يفيد اصطدامًا بين ظلام يجثم وضوء يدافع, إلاّ هذا القنديل. فإنه يضيء بغير صراع! لا شرق هنا ولا غرب. ما النهار هنا ولا الليل, لا أمس ولا غد.
                  وانتفض إسماعيل, لا يدري ما هذا الذي مس قلبه!
                  (يتبع)

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    كاتب مسجل
                    • Jun 2006
                    • 1123

                    #24
                    رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)

                    (4)
                    ووافقت المراهقة سنة البكالوريا . وخرج إسماعيل من الامتحان وقلبه واجف مفعم بالشكوك. وأعلنت النتيجة فإذا به يفوز ولكن في ذيل الناجحين.
                    لقد كان أمله ورجاء الأسرة كلها أن يدخل مدرسة الطب, فإذا بها تصده عن أبوابها. واقترب العام الجديد ولم يستقر على قرار. ليس أمامه إلاّ أن يدخل مدرسة المعلمين إن شاء, أو أن يدرس للبكالوريا من جديد, ويضيع سنة من عمره, وكلا الأمرين بغيض إلى نفسه. لم يكن الشيخ رجب بأقل من ابنه قلقًا وحيرة, ولكم توقع بعض معارفه أن يكتفي بتعليم ابنه إلى الحد الذي بلغه ويوظفه بالبكالوريا, إن لم يكن للمساعدة, فللتخفيف عنه. آه لو علموا كيف عقد الشيخ رجب نيته على أن يدفع بابنه إلى الصفوف الأولى!! يذهب هنا وهناك يسأل عن حل. لا أدري من الذي قال له:
                    - لماذا لا ترسل ابنك إلى أوربا?
                    بات الشيخ رجب ليلته يتقلب على جنبيه.
                    علم أن هذا الحل سيكلفه من عشرة إلى خمسة عشر جنيهًا في الشهر, غير ما يلزم لابنه في أول الأمر من نفقات الطريق وثياب تقيه برد الشمال? أيفارق ابنه? وهل ترضى أمه? أم سيقف حنانها في سبيل مستقبل إسماعيل? وهل يقوي على دفع هذا المبلغ بانتظام كل شهر? إنه لو فعل لما بقي للأسرة كلها إلاّ ما تعيش به على الكفاف والشظف. وإلى متى? ست سنوات أو سبعًا, والزمان قاس يدور دورة عكس. كما سمع أذان العشاء سمع أذان الفجر, ثم أخذته غفوة هتف به خلالها صوت رقيق:
                    - توكل على الله ...
                    استيقظ من نومه وقد عقد عزمه. وفهمت الأم أن لا مهرب من الفراق, فرضيت صامتة وإن لم ينقطع بكاؤها. إلى أين? بلاد برة! كلمة لها رنين وسحر, تتسلل كروح مبهمة لا يطمئن لها, إلى المنزل الذي لا تنقطع فيه تلاوة القرآن, وحيث الشرع هو الحق والعلم جميعًا. وثوت هذه الروح في ركن صغير من الدار وغطت رأسها وتمطت. ونامت منتصرة قريرة العين. "بلاد بَرّه!" ينطق بها الأب كأنها إحسان من كافر لا مفر من قبوله لا عن ذلة, بل للتزود بنفس السلاح. أما الأم, فمنذ الآن تركبها رعدة المحيط وتأخذها رجفة البرد. تتصور (بلاد بره) في نهاية سلم عالٍ ينتهي إلى أرض تغطيها الثلوج, ويسكنها أقوام لهم حيل الجن وألاعيبهم. أما فاطمة النبوية فقلبها واجف تسمع أن نساء أوربا يسرن شبه عاريات وكلهن بارعات في الفتنة والإغراء. فإذا سافر إسماعيل, فلا تدري كيف يعود إن عاد!
                    وجمع الأب كل ما استطاع جمعه من مال, وباعت الأم حليها, واشتريت تذاكر السفر والملابس الثقيلة التي تقي من برد أوربا, واقترب موعد السفر وحل الوداع.
                    واجتمعت الأسرة صامتة حزينة. قلوب خافقة, وعيون دامعة. وأنشأ الأب يقول لابنه:
                    - وصيتي إليك أن تعيش في "بلاد برّه" كما عشت هنا, حريصًا على دينك وفرائضه, وإن تساهلت مرة فلن تدري إلى أين يقودك تساهلك, ونحن يا بني نريدك أن ترجع إلينا مفلحًا لتبيض وجوههنا أمام الناس. أنا رجل قد أوشكت على الكبر, وقد وضعت كل آمالنا فيك وإياك أن تغرك نساء أوربا, فهُنَّ لسنَ لكَ وأنتَ لستَ لهنَّ.
                    ثم صمت الأبُ قليلاً وعاد يقول:
                    - واعلم أن أمك وأنا قد اتفقنا على أن تنتظرك فاطمة النبوية, فأنت أَحقُّ بها وهي أحق بك. هي بنت عمك وليس لها غيرك. وإن شئت قرأنا الفاتحة معًا يومنا هذا, عسى أن يصحب سفرك البركة واليمن.
                    لم يسعه إلاّ القبول. فوضع يده في يد أبيه, وقرأ الفاتحة, بينهما أم تبكي, وفتاة حيرى بين الأسى والفرح.
                    كان إسماعيل يعلم أن هذه الفاتحة ستأتي في يوم, ولكنه لم يتوقعها في تلك الليلة. فلقد نشأ مع فاطمة النبوية أخوين, وقلما نظر إليها كما نظر إلى فتاته السمراء.
                    قرأ الفاتحة وهو شارد اللب. إرضاء لأبيه, وقلبه يقول له: "احفظ عهدك!" فيجيبه: "لماذا? لماذا?!" كل هذه أشياء غامضة, لأنه حتى اليوم ما يزال طاهرًا عفيفًا, لم يقترب من امرأة. وإنه لكاذب - وإسماعيل لا يكذب - إذا أنكر أنه جوعان إلى فتاته السمراء, إلى النساء جميعًا, ولا سيما أخيرًا: إلى نساء أوربا.

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      كاتب مسجل
                      • Jun 2006
                      • 1123

                      #25
                      رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)

                      (5)
                      وخرج إسماعيل يودع بعض أصدقائه, ثم انتهى إلى الميدان وقد اقترب الغروب. تتلقف آذانه ما أمكنها من نداءات الباعة التي ألفها, وخيل إليه أن في الميدان حركة غير التي عهد. كأن القوم أصبحوا أسرع مشية. ما لهم لا يلوون على شيء? أفليست الحياة إلاّ سباقًا? كم ودّ لو وقف واحد من المندفعين وبادله الحديث. لم يلتفت إليه أحد. في الميدان حركة النمل تتعارض وتتحاذي وتضرب في كل اتجاه. قادته قدماه إلى المقام, فوجده ساكنًا على غير عادته. الشيخ درديري واقف مطأطئ الرأس, كأنما هو متعب أو تسلط عليه خوف ورهبة. دار إسماعيل حول المقام, حتى إذا جاء للسور الذي يفصل مكان النساء عن الرجال, انتبه إلى شبح واقف وراءه. هي فتاته السمراء ألصقت جبينها على السور. سمِّر إسماعيل في مكانه وسمعها تقول هامسة:
                      - يا أم هاشم: يا ستارة على الولايا, لا تغضي عينيك ولا تشيحي بوجهك. تمد إليك يد مسترحمة فخذيها. إن الله طهرك وصانك وأنزلك الروضة. وإن قلبك لرؤوف. إذا لم يقصدك المرضى والمهزومون والمحطمون, فمن غيرك يقصدون? إذا نسينا فاذكري أنت! متى يُمحى المقدر علي? أيرضيك أن جسدي ليس مني, فما أشعر بالألم وهو ينهشه نهشًا, ها هي روحي على عتباتك تتلوى وتتمرغ مصروعة. تريد أن تفيق, منذ غادرني رضا الله وأنا كالنائم يركبه الكابوس, يقبض في يد واحدة على الموت والحياة! رضيت لحكمه وأسلمت نفسي, ولن أضيع وأنت هنا معنا. أفيطول الأمد, أم رحمة الله قريب? نذرت لك يوم يتوب المولى عليّ أن أزين مقامك الطاهر بالشموع. خمسين شمعة, يا أم هاشم يا أخت الحسين!
                      ووضعت الفتاة شفتيها على سور المقام. ليست هذه القبلة من تجارتها, بل من قلبها. ومن ذا الذي يجزم بأن أم هاشم لم تسع إلى السور وقد هيأت شفتيها من ورائه لتبادلها قبلة بقبلة?
                      هم إسماعيل أن يخرج من المسجد ليلحقها ويكلمها, فلم تتحرك قدماه. أراد أن يفضي لها بكل ما في نفسه, إن لحظة الانتزاع من الأسرة والوطن, لمواجهة الغربة والوحدة والمجهول تضني أعصابه وتهصر قلبه, لماذا يهتز لمرآها دون سائر النساء? أَواهم هو? إلاّ أن صوتًا خفيًّا يريد أن ينطق في قلبه ويتكلم ويرشده إلى السر, ولكن هناك ألف غطاء وغطاء تكتم هذا الصوت وتخفته, ولعل الفتاة لم تره ولم تشعر به. وهرب إسماعيل من حيرته إلى الشيخ درديري وحديثه الثرثار ينزل بلسمًا على فؤاده. وقفته في صمت أمام المقام وتحت ضوء القنديل, ويده معلقة بالسور تارة, ماسحة على وجهه تارة أخرى, هي آخر ما يذكره عن رحيله من القاهرة. فكل ما حدث له بعد خروجه من المقام شمله من أخمص قدميه إلى رأسه, كالتيار المندفع العنيف, يتأرجح فيه ملقى القياد, مقلوب الوضع, فقد خلاله الزمن ترتيبه, والمرئيات اعتدالها, والأصوات صدقها وفروقها. وداع الأسرة, وما أمره! في الدار وسط النحيب والبكاء, والمحطة, والقطار ثم الميناء وحركته والباخرة المجهولة وصفيرها. إني أتخيله صاعدًا سلم الباخرة شابًّا عليه وقار الشيوخ, بطيء الحركة, غرير النظرة, أكرش, ساذجًا, كل ما فيه ينبئ أنه قروي مستوحش في المدينة. أقسم لي عمي إسماعيل فيما بعد أنه كان يحمل في أمتعته قبقابًا, فقد سمع الشيخ رجب أن الوضوء في أوربا متعذر لاعتياد الناس لبس الأحذية في البيوت. كما وصف لي وهو يبتسم سراويله وطولها وعرضها وتكتها المحلاوي . وكان معه أيضًا سلة ملأى بالكعك و"المنين" من عمل أمه وفاطمة النبوية.
                      وسافرت الباخرة.
                      (يتبع)

                      تعليق

                      • د. حسين علي محمد
                        كاتب مسجل
                        • Jun 2006
                        • 1123

                        #26
                        رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)

                        (6)
                        ومرّت سبع سنوات, وعادت الباخرة.
                        من هذا الشاب الأنيق السمهري القامة, المرفوع الرأس, المتألق الوجه, الذي يهبط سلم الباخرة قفزًا? هو والله إسماعيل بعينه. أستغفر الله! هو الدكتور إسماعيل, المتخصص في طب العيون, والذي شهدت له جامعات إنجلترا بالتفوق النادر, والبراعة الفذة. كان أستاذه يمزح معه ويقول له:
                        - أراهن أن روح طبيب كاهن من الفراعنة قد تقمصت فيك يا مستر إسماعيل. إن بلادك في حاجة إليك, فهي بلد العميان.
                        رأى فيه دراية كأنها ملهمة, وصفاء هو سليل نضج أجيال طويلة, ورشاقة أصابع هي وريثة الأيدي التي نحتت من الحجر الصلد دمًى تكاد تحيا.
                        أقبل يا إسماعيل, فإنّا إليك مشتاقون. لم نرك منذ سبع سنوات مرت كأنها دهور. كانت رسائلك المتوالية, ثم المتراخية, لا تنفع في إرواء غلتنا. أقبل إلينا قدوم العافية والغيث, وخذ مكانك في الأسرة, فستراها كالآلة وقفت بل صدئت لأن محركها قد انتزع منها. آه! كم بذلت هذه الأسرة لك! فهل تدري?
                        لم يَنم إسماعيل ليلة الوصول إلاّ غرارًا. قفز إلى ظهر الباخرة مع الفجر يريد ألاّ يفوته أول ما يبدو من شاطئ الإسكندرية لا يرى شيئًا على الأفق, ولكن خياشيمه تتشمم في النسيم رائحة لم يألفها من قبل, أول من لقيه من وطنه, مخلوقٌ الكون كله وطنه, طائر أبيض منفرد يحوم حول السفينة, طليق متعال نظيف, وحيد. لماذا تتعمد البواخر كل هذا التلكؤ عند الوصول, وما كان أسرعها عند الفراق? إنها تتهادى بدلال العودة, فما لها وللركاب وما يشعرون! كتم إسماعيل عن أهله موعد الباخرة حتى لا يكلف أباه الشيخ مشقة السفر للإسكندرية. في عزمه أن يبرق إليهم بموعد وصول قطاره للقاهرة, هذا هو الفنار المتمنطق, وهذا هو الشاطئ الأصفر يكاد يكون في مستوى الماء. أنت يا مصر راحة ممدودة إلى البحر لا تفخر إلاّ بانبساطها. ليس أمامك حواجز من شعاب خائنة, ولا على شاطئك جبال تصد, أنت دار كل ما فيها يوحي بالأمان.. ها هو أول قارب يظهر, فيه شيخ قد وخط الشيب لحيته, مقوس الظهر, أَقْعَى كالقرد في مقدم قاربه يصطاد, جلبابه الأزرق, أو الذي كان أزرق, ممزق مرقع. وقعت نظرة إسماعيل على سيدة مصرية وقفت بجواره, فرآها مطلة على الصياد مغرورقة عيناها بالدموع وسمعها تتمتم:
                        - مصر! مصر!
                        كيف ينتبه لها الصياد, وهو لم ينتبه للباخرة كلها?! مثلها كثيرات داخلات خارجات تكاد تصدم قاربه, ولكن هيهات لها أن تصدم عالمه المقفل. عالم يجري على وتيرة واحدة متكررة يومًا بعد يوم. هم إسماعيل أن ينادي هذا الشيخ ويلقي عليه السلام أو يلوح له بمنديل. كيف تسقط المقاييس وينهزم المنطق في مثل تلك اللحظات التي تتأجج فيها العواطف وتصفو القلوب! ورنّ جرس إيذانًا بموت الباخرة, فأصبحت جثتها فريسة لجيش من النمل البشري يهاجمها. جنود وضباط, وإخواننا المحتلون ولو أنهم أخلاط مطربشون, وحمالون وصيارفة وزوار. ثم اندلق الزحام والتدافع, وتعالت النداءات, وكثر العناق والتقبيل. وإسماعيل وسط التيار غير مغمور يلتقط بنهم كل ما يصل إليه. وعلى شفتيه ابتسامة حلوة مطمئنة. له أذن فارزة واعية, ونظرة حية يقظة تريد أن ترى كل شيء, وتفهم كل شيء. إذا دققت النظر إليه وجدت تكورات وجهه قد زالت, وشُدّ شدقاه في أخدودين, كانت شفتاه مرتخيتين, قلما تنطبقان, أما الآن فقد ضمهما عزم ووثوق. يجتاز الجمارك. وفي العربة يستمع لوقع عجلاتها بين الأسفلت والبلاط, فيذكره تنافر النغم وتناوبه بيوم السفر. كم يبدو له هذا اليوم مترديًا في هوة من ماض بعيد. بعيد كالحلم.... كيف تقوى ذكرى هذا اليوم على البقاء بعد سبع سنوات قضاها في إنجلترا قلبت حياته رأسًا على عقب? كان عفًّا فغوى, صاحيًا فسكر, راقص الفتيات وفسق. هذا الهبوط يكافئه صعود لا يقل عنه جدة وطرافة. تعلم كيف يتذوق جمال الطبيعة ويتمتع بغروب الشمس - كأن لم يكن في وطنه غروب لا يقل عنه جمالاً - ويلتذ بلسعة برد الشمال.
                        إن لم يكن له في هذه الفترة سوى "ماري" زميلته في الدراسة لكفى بها في نسيان ماضيه. لقد أخذ هذا الفتى الشرقي الأسمر بلبها فآثرته واحتضنته. عندما وهبته نفسها, كانت هي التي فضّت براءته العذراء, أخرجته من الوخم والخمول إلى النشاط والوثوق, فتحت له آفاقًا يجهلها من الجمال: في الفن, في الموسيقى, في الطبيعة, بل في الروح الإنسانية أيضًا.
                        قال لها يومًا:
                        - سأستريح عندما أضع لحياتي برنامجًا أسير عليه.
                        فضحكت وأجابت:
                        - يا عزيزي إسماعيل, الحياة ليست برنامجًا ثابتًا, بل مجادلة متجددة.
                        يقول لها: "تعالي نجلس", فتقول له: "قم نسِر". يكلمها عن الزواج, فتكلمه عن الحب. يحدثها عن المستقبل, فتحدثه عن حاضر اللحظة. كان من قبل يبحث دائمًا خارج نفسه عن شيء يتمسك به ويستند إليه: دينه وعبادته, وتربيته وأصولها, هي منه مشجب يعلق عليه معطفه الثمين. أما هي, فكانت تقول له: "إن من يلجأ إلى المشجب, يظل طول عمره أسيرًا بجانبه يحرس معطفه. يجب أن يكون مشجبك في نفسك". إن أخشى ما تخشاه هي: القيود. وأخشى ما يخشاه هو: الحرية. كانت هبتها له في مبدإ الأمر محل حيرته, فكانت حيرته محل سخريتها. كان يتجافى الناس ويقدر احتمالات وُدِّهم, ويهتم كيف يكون حكمهم عليه, وإذا لقي من تريحه المجاملة لا يجد بأسًا في مجاملته, وقلبه غير مشارك. التعارف عنده اصطدام بين الشخصيات يخرج منه ظافرًا أو خاسرًا. أما هي, فتهيم بالناس جميعًا, ولا تهتم بهم جميعًا. التعارف عندها لقاء, والودّ متروك للمستقبل, ومع تساوي وُدِّها للناس جميعًا, كانت بتارة في إقصاء الضعيف, والسخيف, والمتعالم, والرذل, والحزين, والمنافق. فلما تخلصت من هذه الأوشاب, أصبحت لا ينجذب إليها إلاّ من تطمئن لصحبتهم.
                        رأته يطيل جلسته بجانب الضعفاء من مرضاه, ويخصّ بعطفه من يلحظ فيه آثار تخريب الزمن للأعصاب والعقول - وما أكثرهم في أوربا, يجلس صامتًا ينصت لشكواهم. وكان أكبر كرم منه أن يماشي منطقه منطقهم المريض. لحظته "ماري" وحلقة المرضى والمهزومين تطبق عليه يتشبثون به. كل يطلبه لنفسه. فأقدمت وأيقظته بعنف:
                        - أنت لست المسيح بن مريم! "من طلب أخلاق الملائكة غلبته أخلاق البهائم!" و"الإحسان أن تبدأ بنفسك". هؤلاء الناس غرقى يبحثون عن يد تمد إليهم, فإذا وجدوها أغرقوها معهم! إن هذه العواطف الشرقية مرذولة مكروهة; لأنها غير عملية وغير منتجة, وإذا جردت من النفع, لم يبق إلاّ اتصافها بالضعف والهوان, إنما هذه العواطف قوتها في الكتمان لا في البوح!
                        كانت روحه تتأوه وتتلوى تحت ضربات معولها. كان يشعر بكلامها كالسكين يقطع من روابط حية يتغذي منها, إذ توصله بمن حوله. واستيقظ في يوم, فإذا روحه خراب لم يبق فيها حجر على حجر. بدا له الدين خرافة لم تخترع إلاّ لحكم الجماهير, والنفس البشرية لا تجد قوتها, ومن ثم سعادتها, إلاّ إذا انفصلت عن الجموع وواجهتها. أما الاندماج فضعف ونقمة.
                        لم تقْو أعصابه على تحمل هذا التيه الذي وجد نفسه غريقًا وحيدًا في خلائه, فمرض وانقطع عن الدراسة, وافترسه نوع من القلق والحيرة, بل بدت في نظرته أحيانًا لمحات من الخوف والذعر.
                        وكانت "ماري" هي التي أنقذته, أخذته في رحلة إلى الريف بإسكتلندة, يجولان بالنهار مشيًا أو على الدراجة بين الحقول أو يصطادان السمك, وبالليل تذيقه من متعة الحب أشكالاً وألوانًا. من حسن حظه أنه استطاع أن يجتاز هذه المحنة التي يتردى فيها الكثيرون من مواطنيه الشباب في أوربا وخلص منها بنفس جديدة مستقرة ثابتة واثقة. إن اطرحت الاعتقاد في الدين فإنها استبدلت إيمانًا أشد وأقوى بالعلم. لا يفكر في جمال الجنة ونعيمها, بل في بهاء الطبيعة وأسرارها. ولعل أكبر دليل على شفائه أنه بدأ يتخلص من سيطرة "ماري" عليه. أصبح لا يجلس بين يديها جلسة المريد أمام القطب, بل جلسة الزميل إلى زميله. لم يدهش, ولم يتألم كثيرًا, عندما رآها تبتعد عنه وتنصرف إلى زميل من جنسها ولونها. إنها ككل فنان يمل عمله حين يتم. شفي إسماعيل ففقد كل سحره, وأصبح كغيره ممن تعرفهم, فلتجرب إذًا صديقها الجديد. على أن إسماعيل لم يقْو على مغادرة إنجلترا دون أن يسعى إلى لقائها لآخر مرة. دعاها فلم ترفض وجاءته. ولم يسأل نفسه: أعلى عِلمٍ من صديقها الجديد, أم على غفلة منه? ووهبت له نفسها مرةً أخرى, فهذه العلاقة ليست عندها بذات بال ولا خطر. كانت ضمّتها له نوعًا من المصافحة وسلام الوداع,
                        وهتفت به وهي تنصرف على دراجتها:
                        - آمل أن أراك في مصر يومًا من الأيام, ومن يدري? فإلى اللقاء إذًا, ولا أقول وداعًا.
                        نساء العصر الحديث! كم ذا يواجهن الاحتمالات بقلوب ثابتة. شجرة الحياة أمامهن مثقلة بالثمر منوّعته. لهن شهية مفتوحة فلم التأسي والبكاء على ثمرة, والشجرة مفعمة?
                        (يتبع)

                        تعليق

                        • د. حسين علي محمد
                          كاتب مسجل
                          • Jun 2006
                          • 1123

                          #27
                          رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)


                          ( 7 )
                          والظاهرة العجيبة التي لا أستطيع تفسيرها أن إسماعيل أفاق من حبه "لماري" فوجد نفسه فريسة حب جديد. ألأن القلب لا يعيش خاليًا? أم أن "ماري" هي التي نبهت غافلاً في قلبه فاستيقظ وانتعش? كان إسماعيل لا يشعر بمصر إلاّ شعورًا مبهمًا, هو كذرة الرمل اندمجت في الرمال واندسّت بينها, فلا تمييز منها, ولو أنها مع ذلك منفصلة عن كل ذرة أخرى. أما الآن فقد بدأ يشعر بنفسه كحلقة في سلسلة طويلة تشده وتربطه ربطًا إلى وطنه. في ذهنه مصر عروس الغابة التي لمستها ساحرة خبيثة بعصاها فنامت. عليها الحلي, و"دواق" ليلة الدخلة. لا رعى الله عينًا لم تر جمالها, ولا أنفًا لا يشم عطرها! متى تستيقظ? متى? وكلما قوي حبه لمصر, زاد ضجره من المصريين. ولكنهم أهله وعشيرته, والذنب ليس ذنبهم. هم ضحية الجهل والفقر والمرض والظلم الطويل المزمن. إنه حدق في الموت مرارًا, وجس المجذوم, واقترب فمه من فم المحموم. ترى هل ينكص الآن عن لمس هذه الكتلة البشرية التي لحمه من لحمها ودمه من دمها? قد عاهد نفسه في حبه لمصر ألاّ يرى منكرًا إلاّ دفعه. علمته "ماري" كيف يستقل بنفسه, وهيهات لهم بعد ذلك أن يجرعوه خرافاتهم وأوهامهم وعاداتهم. ليس عبثًا أن عاش في أوربا وصلّى معها للعلم ومنطقه. علم أن سيكون بينه وبين من يحتك بهم نضال طويل, ولكن شبابه هوّن عليه القتال ومتاعبه. بل كان يتشوق إلى المعركة الأولى. وسرح ذهنه فإذا هو كاتب في الصحف أو خطيب في أحد المجتمعات يشرح للجمهور آراءه ومعتقداته.
                          وتحرك القطار بإسماعيل ولم يرسل برقيته, لا يدري لماذا ضعف عن لقائهم بالمحطة وسط الضجيج والضوضاء وعلى أعين الناس, وربكة المتاع. إنه يود أن يلقى أعزاءه في دارهم, وعلى نجوة من الغرباء. ولم يقدّر وقع المفاجأة على أبيه وأمه العجوز. ذكرهما فوجف قلبه. هل يستطيع أن يؤدي لهما بعض ما هو مدين به? إنه قادم مزود بنفس السلاح الذي أراده له أبوه, وسيشق لنفسه بهذا السلاح طريقه إلى أول الصفوف. وسيعرض عن خدمة الحكومة ويفتح عيادة في أرقى أحياء القاهرة. وسيدهش القاهريين أولاً ثم المصريين جميعًا بما أتقنه من فن واكتسبه من خبرة. فإذا تدفق عليه المال أعفى أباه الشيخ من العمل, واشترى له أرضًا في بلدهم ليعيش مستريحًا. ثم وجم إسماعيل. لقد تذكر أنه لم يأت معه من أوربا بهدية لأسرته, وسُرِّي عنه إذ قال لنفسه:
                          - ماذا في أوربا كلها يصلح لأبي وأمي?
                          وفاطمة النبوية? ذكراها تثير في نفسه بعض الاضطراب لم يزل مرتبطًا بوعده, وقد عاد حرًّا, فلا عذر له إذا اعتذر. هذه مسألة معقدة فلنتركها للمستقبل.
                          وأطل من النافذة فرأى أمامه ريفًا يجري كأنما اكتسحته عاصفة من الرمل, فهو مهدم معفر متخرب. الباعة على المحطات في ثياب ممزقة, تلهث كالحيوان المطارد, وتتصبب عرقًا.
                          ولما سارت العربة من المحطة, ودخلت شارع الخليج الضيق الذي لا يتسع لمرور الترام, كان أبشع ما يتصوره أهون مما رآه: قذارة وذباب, وفقر وخراب, فانقبضت نفسه, وركبه الوجوم والأسى, وزاد لهيب الثورة في قرارة نفسه, وزاد التحفز.
                          ووقف أمام البيت, وتناول مطرقته, وتركها تسقط, فاختلطت دقتها بدقات قلبه. سمع صوتًا رقيقًا ينادي بلهجة نساء القاهرة:
                          - مين?
                          - أنا إسماعيل! افتحي يا فاطمة!
                          (يتبع)

                          تعليق

                          • د. حسين علي محمد
                            كاتب مسجل
                            • Jun 2006
                            • 1123

                            #28
                            رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)

                            ( 8 )
                            يا إسماعيل. ما أقساك! وما أجهل الشباب!
                            كادت أمه يغمى عليها, وانعقد لسانها وهي تضمه وتقبل وجهه ويديه, تشهق وتبكي. يا لله! كم شاخت وتهدلت وضعف صوتها وبصرها! إن الغائب في وهم, يتوقع أن يعود لأحبابه فيجدهم كما تركهم منذ سنوات. صوت يهمس في قلبه:
                            - ليست لها من الشخصية نصيب! ليست إلاّ كتلة من طيبة سلبية.
                            وجاءه أبوه تفيض عليه ابتسامة هادئة. اشتعل شيبه وإن لم تنحن قامته, في عينيه نظرة مشوبة من إعياء وصبر, من راحة ضمير وشعور بالحمل الثقيل. سيعلم إسماعيل فيما بعد أن الأزمة كوته بنارها فانتكست أموره, ومع ذلك لم يتأخر في يوم ما عن موعد إيداع النقود بالبنك لابنه. لم يذكر لإسماعيل ما يعانيه أو يدعوه إلى الاقتصاد أو يستعجله للعودة. يلهو إسماعيل في إسكتلندة مع رفيقته, يأكل البفتيك, وأبوه قعيد داره, عشاؤه طعمية أو فجل.
                            لإسماعيل نظرة من طرف عينيه تطوف في الدار, فإذا هي أضيق وأشدّ ظلمة مما كان يذكر. أما يزال ضوءُهم من مصباح البترول? قطع الأثاث بالية متناثرة تبدو - رغم مر السنين وطول الصحبة - كأنها مهاجرة في دار غربة, ولماذا هم على البلاط? وأين البساط?
                            هذه أم محمد ترتبك كعادتها بين الأطباق والحلل وهي تزغرد فيزجرها ويقول لها:
                            - بس بلاش خوْته , يا وليه اعقلي.
                            ولكن أين فاطمة النبوية? أقبلت, فإذا أمامه فتاة في شرخ الصبا. ضفيرتاها, وأساورها الزجاجية الرخيصة, وحركاتها, وكل ما فيها وما عليها, يصرخ بأنها قروية من أعماق الريف. هل هذه هي الفتاة التي سيتزوجها? علم منذ اللحظة أنه سيخون وعده وينكث عهده, وما لها معصوبة العينين? فهي ترفع ذقنها لتستطيع أن ترى وجهه. لم يدعها الرمد منذ سافر وساء حالها يومًا بعد يوم.
                            وأُعِد العشاء وجلسوا, ولعلهم جلسوا من أجله حول مائدة لهم من الخشب الأبيض, لم يأكل عليها أحد. لم يأكلوا هم من حدة الفرح, ولم يأكل هو من صدمة اليقظة. اعترف لي إسماعيل فيما بعد بأنه - حتى في اللحظة التي كان يجب أن تشغله سعادة العودة إلى أحضان والديه عن القياس والمقارنة والنقد - لم يملك نفسه عن التساؤل! كيف يستطيع أن يعيش بينهم?! وكيف يجد راحته في هذه الدار?!
                            وأعد الفراش. وأبي الشيخ رجب إلاّ الانصراف إلى غرفته ليترك ابنه يستريح من عناء السفر. وهذه أمه تجذب نفسها جذبًا وتهم بتركه, ولكنها تشير إلى فاطمة وتقول:
                            - تعالي يا فاطمة, قبل أن تنامي, أقطر لك في عينيك.
                            ورأى إسماعيل أمه وفي يدها زجاجة صغيرة, وترقد فاطمة على الأرض وتضع رأسها على ركبة الأم, فتسكب من الزجاجة في عينيها سائلاً تتأوه منه فاطمة وتتألم.
                            سألها إسماعيل:
                            - ما هذا يا أمي?
                            - هذا زيت قنديل أم هاشم, تعودت أن أقطر لها منه كل مساء.
                            لقد جاءنا به صديقك الشيخ درديري. إنه يذكرك ويتشوق إليك. هل تذكره? أم تراك نسيته?
                            قفز إسماعيل من مكانه كالملسوع. أليس من العجيب أنه - وهو طبيب عيون - يشاهد في أول ليلة من عودته, بأية وسيلة تداوى بعض العيون الرمداء في وطنه?
                            تقدم إسماعيل إلى فاطمة فأوقفها, وحلّ رباطها, وفحص عينيها, فوجد رمدًا قد أتلف الجفنين وأضر بالمقلة, فلو وجد العلاج المهدئ المسكن لتماثلت للشفاء, ولكنها تسوء بالزيت الحار الكاوي,
                            فصرخ في أمه بصوت يكاد يمزق حلقه:
                            - حرام عليك الأذية. حرام عليك. أنت مؤمنة تصلين, فكيف تقبلين أمثال هذه الخرافات والأوهام?
                            وصمتت أمه وانعقد لسانها, تحاول أن تتمتم ولا تبين.
                            ورأى إسماعيل شبح أبيه على الباب, في جلباب أبيض قصير وعلى رأسه طاقية تحتها وجه مربد. هل يتوقع قلبه الحنون مكروهًا? ماذا? لعل في تصرفات إسماعيل وحركاته ونظراته ما أيقظ في نفسه منذ اللحظة الأولى بعض الريبة. ما هذا الصراخ? ماذا حدث?
                            ونطقت أمه أخيرًا تستعيذ بالله وتقول له:
                            - اسم الله عليك يا إسماعيل يا ابني. ربنا يكملك بعقلك هذا غير الدوا والأجزا. هذا ليس إلاّ من بركة أم هاشم.
                            وإسماعيل كثور هائج لوحت له بغلالة حمراء.
                            - أهي دي أم هاشم بتاعتكم هي اللي حتجيب للبنت العمى, سترون كيف أداويها فتنال على يديّ أنا الشفاء الذي لم تجده عند الست أم هاشم.
                            - يا ابني ده ناس كثير بيتباركوا بزيت قنديل أم العواجز جربوه وربنا شفاهم عليه. إحنا طول عمرنا جاعلين تكالنا على الله وعلى أم هاشم. ده سرها باتع.
                            - أنا لا أعرف أم هاشم ولا أم عفريت.
                            هبط على الدار صمت مقبض. في هذا البيت تعيش قراءة القرآن والأوراد, وصدى الأذان. كأنها جميعًا استيقظت وانتبهت, ثم أطرقت وانطفأت, وحل محلها ظلام ورهبة. لا عيش لها مع هذه الروح الغريبة التي جاءت لهم من وراء البحار.
                            وسمع صوت أبيه كأنما يصل إليه من مكان سحيق:
                            - ماذا تقول?! هل هذا كل ما تعلمته في "بلاد بره"? كل ما كسبناه منك أن تعود إلينا كافرًا?
                            كل ما فعله إسماعيل بعد ذلك يدل على أن المرض العصبي القديم قد عاوده فجأة, وانفجر بشدة من جديد. فقد وعيه وشعر بحلقه يجف, وبصدره يشتعل, وبرأسه يموج في عالم غير هذا العالم; شب على قدميه واقفًا. لا شك أن في نظرته ما يخيف, فقد تضاءلت الأم أمامه, وابتعد الأب عن طريقه. هجم إسماعيل على أمه يحاول أن ينتزع منها الزجاجة, فتشبثت بها لحظة ثم تركتها له. فأخذها من يدها بشدة وعنف, وبحركة سريعة طوح بها من النافذة.
                            وكان صوت تحطمها في الطريق كدوي القنبلة الأولى في المعركة.
                            ووقف إسماعيل حائرًا لحظة, له نظرة تجوب ما حوله وتنتقل من وجه أمه وفاطمة إلى وجه أبيه. وجد إشفاقًا وعطفًا ولم يجد تسامحًا وفهمًا. ربما استشف في نظرتهم بعض الرعب, فتزايد هياجًا وانطلق إلى الباب. وفي طريقه وجد عصا أبيه فأخذها ثم هرب من الدار جريًا. لن ينكص عن أن يطعن الجهل والخرافة في الصميم طعنة نجلاء - ولو فقد روحه.
                            (يتبع)

                            تعليق

                            • د. حسين علي محمد
                              كاتب مسجل
                              • Jun 2006
                              • 1123

                              #29
                              رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)

                              9)
                              أشرف على الميدان, فإذا به يموج كدأبه بخلق غفير ضربت عليهم المسكنة, وثقلت بأقدامهم قيود الذل. ليست هذه كائنات حية تعيش في عصر تحرك فيه الجماد. هذه الجموع آثار خاوية محطمة كأعقاب الأعمدة الخربة, ليس لها ما تفعله إلاّ أن تعثر بها أقدام السائر. ما هذا الصخب الحيواني? وما هذا الأكل الوضيع الذي تلتهمه الأفواه? يتطلع إلى الوجوه فلا يرى إلاّ آثار استغراق في النوم كأنهم جميعًا صرعى أفيون. لم ينطق له وجه واحد بمعنى إنساني. هؤلاء المصريون: جنس سمج ثرثار أقرع أمرد, عار حاف, بوله دم, وبرازه ديدان. يتلقى الصفعة على قفاه الطويل بابتسامة ذليلة تطفح على وجهه. ومصر? قطعة "مبرطشة" من الطين أسنت في الصحراء, تطن عليها أسراب من الذباب والبعوض, ويغوص فيها إلى قوائمه قطيع من الجاموس نحيل. يزدحم الميدان ببائعي اللب والفول, وحب العزيز , ونبوت الغفير , والهريسة والسمبوسكة , بمليم الواحدة. في جنباته مقاه كثيرة على الرصيف بجوار الجدران, قوامها موقد وإبريق وجوزة . أجساد لم تعرف الماء سنين. الصابون عندها والعنقاء سواء. تمر أمامه فتاة مزججة الحواجب, مكحلة العينين, شدت ملاءتها لتبرز عجيزتها وطرف ثوبها, وتحجبت ببرقع يكشف عن وجهها. وما معنى هذه القصبة التي تضعها على أنفها? أف! ما أبشع رياء هذا المنظر وما أقبحه! سرعان ما بدأ الناس يتحككون بها كأنهم كلاب لم يروا في حياتهم أنثى! هنا جمود يقتل كل تقدم وعدم لا معنى فيه للزمن, وخيالات المخدر, وأحلام النائم والشمس طالعة.
                              لو استطاع إسماعيل لأمسك بذراع كل واحد منهم وهزه هزة عنيفة وهو يقول:
                              - استيقظ. استيقظ من سباتك وأفِق, وافتح عينيك. ما هذا الجدل في غير طائل? والشقشقة والمهاترة في سفاسف? تعيشون في الخرافات, وتؤمنون بالأوثان, وتحجّون للقبور وتلوذون بأموات!
                              وعثرت قدمه بطفل ملقى على الرصيف, والتف حوله جموع من الشحاذين يعرضون عليه عاهات يرتزقون منها رزقًا حلالاً. كأنها من نعم الله عليهم, أو مِهَن وصناعات.
                              وشعر إسماعيل بأن هذه الجموع أشلاء ميتة تطبق على صدره وتكتم أنفاسه, وتُبهِظُ أعصابه. يصطدم به بعض المارة كأنهم عُمْي يتخبطون. هذا الرضا عجز, وهذه الطيبة بلاهة, وهذا الصبر جبن, وهذا المرح انحلال.
                              انفلت إسماعيل من الزحام, وجرى إلى الجامع ودخله واجتاز الصحن إلى الحرم. المقام يتنفس بدل الهواء أبخرة ثقيلة من عطور البرابرة. هذا هو القنديل قد علق التراب بزجاجه واسودّتْ سلسلته من "هبابه". تفوح منه رائحة احتراق خانقة. أكثر ما ينبعث منه دخان لا بصيص ضوء. هذا الشعاع إعلان قائم للخرافة والجهل. يحوم في سقف المقام خفاش اقشعر له بدنه. حول المقام أناس كالخشب المسندة وقفوا مشلولين متشبثين بالأسوار. فيهم رجل يستجدي صاحبة المقام شيئًا لم يفهمه إسماعيل وإنما وعى أنه يستعديها على خصم له, ويسألها أن تخرب بيته وتيتم أطفاله. والتفت إسماعيل إلى ركن في المقام فوجد الشيخ درديري يناول رجلاً معصوب الرأس بمنديل نسائي زجاجة صغيرة في حرص وتستر. كأنما هي بعض المهربات. لم يملك إسماعيل نفسه. فقد وعيه, وشعر بطنين أجراس عديدة, وزاغ بصره, ثم شب, وأهوى بعصاه على القنديل فحطمه وتناثر زجاجه, وهو يصرخ:
                              - أنا... أنا... أنا..
                              ثم لم يستطع أن يتم جملته. (ومن يدري ماذا كان سيقول?) هجمت عليه الجموع, وتهدمت فوقه, فخرّ على الأرض مغمى عليه. ضربوه, وداسوه بالأقدام, وجرح رأسه, وسال الدم على وجهه, ومزقت ثيابه.
                              علمنا بعد ذلك أنه أشرف على الموت تحت الأقدام لولا أن تعرف عليه الشيخ درديري, فأنقذه واستخلصه من غضب الناس وعنفهم, وهو يقول:
                              - اتركوه! إنني أعرفه. هذا سي إسماعيل ابن الشيخ رجب من حتتنا . اتركوه. ألا ترون أنه "مريوح" ?!.
                              واحتمله إلى الدار, ووضعوه على الفراش, واجتمعت الأسرة في ليلة الفرح بعودته تبكي صوابه المفقود.
                              لعن الله اليوم الذي سافرت فيه يا إسماعيل! ليتك ظللت بيننا ولم تفسدك أوربا فتفقد صوابك, وتهين أهلك ووطنك ودينك.
                              صكت الأم وجهها, وتأوه الأب وكتم ألمه وغيظه وسكبت فاطمة دموعها مدرارًا.
                              (يتبع)

                              تعليق

                              • د. حسين علي محمد
                                كاتب مسجل
                                • Jun 2006
                                • 1123

                                #30
                                رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)

                                10)
                                ومرت أيام كثيرة وإسماعيل لا يغادر الفراش. ركبه العناد فأدار وجهه للجدار لا يكلم أحدًا ولا يطلب شيئًا. ولما أفاق قليلاً بدأ يفكر: هل يعود إلى أوربا ليعيش وسط أناس يفهمون الحياة? إن الجامعة عرضت عليه منصب مساعد أستاذ فرفضه بغباوة, ولعلهم يقبلونه الآن إذا طلب. ولم لا يتزوج هناك, ويبني لنفسه أسرة جديدة بعيدًا عن هذا الوطن المنكود? لماذا ترك إنجلترا بريفها الجميل, وأمسياتها الهنية, وقسوة شتائها الجبار, وجاء لبلد يفرون فيه من بعض الرذاذ كأنما تحيق بهم نكبة أو يدهمهم طوفان? أما يدرون أن هناك وجوهًا صامتة ونظرة ثابتة, تسير تحت المطر والثلوج, تقاوم الأعاصير? وما فائدة الجهاد في بلد كمصر ومع شعب كالمصريين,
                                عاشوا في الذل قرونًا طويلة فتذاوقوه واستعذبوه?
                                ثم أخذته غفوة, واختلط عليه الأمر. إنه كالطير قد وقع في فخ, وأدخلوه القفص, فهل له من مخرج? يشعر بجسمه وقد شد إلى هذه الدار التي لا يطيقها, وربط إلى هذا الميدان الذي يكرهه, فمهما حاول فلن يستطيع فكاكا.
                                واستيقظ إسماعيل ذات صباح وهو يشعر بنشاط عجيب. في مثل هذه الأحوال يقفز الشخص من النقيض إلى النقيض فجأة وبلا سبب ظاهر. وخرج من الدار مبكرًا, وعاد يحمل حقيبة, ملأى بالزجاجات والأربطة والمراود, وبدأ علاجه لفاطمة كما يقتضيه طبه وعلمه. لقد عالج في أوربا أكثر من مائة حالة مثلها فلم يخنه التوفيق في واحدة. فلماذا لا ينجح مع فاطمة أيضًا? وسلمت الفتاة إليه نفسها مطمئنة, لا يهمها مرضها بقدر ما يهمها أن تكون بين يديه, موضع عنايته ورفقه. وتجنبه أبوه وأمه ولم يعودا يعارضانه في شيء إشفاقًا على صحته.
                                في الصباح تجلس فاطمة بين يديه وقبل النوم. ومر يوم وثان وثالث ورابع, وأسبوع وآخر, وعيون فاطمة على حالها. ثم إذا بها تسوء فجأة وتلتهب, ويختلط سوادها بالبياض.
                                ضاعف إسماعيل عنايته, وكرر أنواع الأدوية, وقلب جفونها ومسّ, وقطر ومرهم, وكشط ومسح, فما أجدى طبه نفعًا. إنه ليس بالجاهل, يرى أمامه فاطمة اقتربت من العمى ولا ينقذها في علمه حيلة.
                                أخذها إلى زملائه في كلية الطب, وعرضها على الأساتذة فوافقوه على طريقته في العلاج, ونصحوه بالاستمرار.
                                فقاوم وثابر, وأخيرًا استيقظت فاطمة على صباح وهي تفتح عينيها ولا ترى. لقد انطفأ آخر بصيص تتعزّى به.
                                (يتبع)

                                تعليق

                                يعمل...