الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

تقليص
X
  •  
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    كاتب مسجل
    • Jun 2006
    • 1123

    #31
    رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

    * السراى *

    ..............



    كنا دائمى التردد على سراى رأس التين . نكتفى بالتطلع ـ من أمام الأبواب التى تفتح وتغلق ـ إلى البنايات والحدائق والجنود ، فى المساحة الممتدة إلى البحر . كانت الحديقة الهائلة المواجهة للسراى هى المكان الذى نقضى فيه أوقاتنا . نذاكر ، ونتبادل الأحاديث ، ونلعب ، ونغنى ..
    كانت ليلى مراد مطربتى المفضلة ، وكنت أقلدها ، وبالذات فى أغنيات فيلم " شاطئ الغرام " ..
    أعدت النظر إلى ما بدا لى مفاجئاً ، وغريباً ، وقاسياً . كان جنود الحرس الملكى يتدربون على إطلاق النار . مجرد أخذ أوضاع التصويب دون إطلاق الرصاص ..
    يبدو أن أحد الجنود تصرف بالطريقة نفسها التى جرّت على إسماعيل يس غضب الشاويش عطية ، فانهال المدرب ـ بكعب حذائه ـ على ظهر الجندى الذى تمدد على الأرض ، واحتضن البندقية . ضربات متوالية ، قاسية ، انتفض لها جسد الجندى دون أن يغادر موضعه ..
    رنوت إلى زملائى أتعرف إلى مشاعرهم . انعكست رؤيتهم لما رأيت ، حزناً يقطر من الوجوه الصامتة ..
    حاولنا أن نستعيد اللحظة التى كنا فيها . أن نذاكر ، نتكلم ، نلعب ، نغنى . لكن الخرس أسكت أفواهنا ..
    لملمنا الكتب والكراريس ، ومضينا ـ صامتين ـ خارج الحديقة ..
    (يتبع)

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      كاتب مسجل
      • Jun 2006
      • 1123

      #32
      رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

      * دمعة *

      ............



      أتابع أبى وهو يعيد وضع كنكة البن على السبرتاية . لم يعد لتناول القهوة موعد محدد ، إنما هى سلسلة متصلة الحلقات . يعيد كوب القهوة إلى الطاولة بجواره ليبدأ فى إعداد كوب جديد . يطيل وقفته فى الشرفة المطلة على المينا الشرقية . يمضى إلى المطبخ بخطوات متباطئة . يلقى نظرة دون أن يفعل شيئاً ، ويعود . يضيع وقتاً فى إدارة مؤشر الراديو ، ثم يغلقه . يتنقل بيننا حيث نجلس أو ننام ..
      أعرف أنه يعانى ما صرنا إليه . كانت شقتنا أشبه بفندق للكثيرين من عائلتى أبى وأمى ، هم دائمو التردد عليها ، وقضاء الأيام الطويلة معنا ، كأن أفراد الأسرة الخمسة قد أصبحوا عشرة أو أكثر . وكانوا يملأون البيت بالونس والحياة ، ويدخلون مع أبى فى مناقشات ، ويظهرون له عظيم الاحترام ..
      فقد أبى ـ بتأثير المرض ـ وظائفه فى الشركات الثلاث التى كان يعمل فيها . لم يعد يترك البيت إلا لزيارة الأطباء ، وتقلصت موارده المادية إلى حد الندرة . إنما هى رسائل قليلة يترجمها من لغة إلى أخرى ، أنقلها من الشركات إليه ، ومنه إلى الشركات ، وأعود بقيمة المكافأة فى أظرف مغلقة ..
      تبدّل الحال تماماً . مشاركاتنا مع الأقارب فى صنع الحياة داخل الشقة شحبت تماماً ، كأن إيقاع الحياة لا يعلو إلا بوجودهم . انطوى كل منا على نفسه ، يذاكر ، أو يقرأ ، أو يتشاغل بما يجده بين يديه ، وخلا أبى ـ مضطراً ـ إلى نفسه لا يجد ما يفعله . يطالع قواميس اللغة للاستزادة ـ كما كان ينصحنا ـ من المفردات ، ويهب وقتاً أطول فى قراءة الصحيفة الوحيدة التى استبدلها بالصحف الخمس ، ما بين عربية وأجنبية . يعاوده الخوف من تصور الأذى على أيدى من لا نعرفهم ، أو لا نصدق أنهم يفعلون ذلك . يعروه الملل ، فيفعل ما يدفعنا إلى متابعته بقلق . إذا عرضنا عليه مشكلة تتصل بأحدنا ، أو بالبيت ، اكتفى بالقول : اتصرفوا . وكان يظهر التململ ، ويثور بلا مناسبة ، فنتركه فى حاله ـ والتعبير له ـ ونخلو إلى ما ننشغل به . حتى الأغنيات التى كان يتذوقها فى الأيام الخوالى ، كنا نستمع إليه وهو يدندن بها بصوت متعب ..
      مسحت شقيقتى دمعة من عينها وهى تنصت ـ فى إشفاق ـ إلى استعادته أغنية صالح عبد الحى :
      ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين
      لماذا هذه الأغنية ؟

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        كاتب مسجل
        • Jun 2006
        • 1123

        #33
        رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

        * غريب الدار *

        ..................



        كان صوت عبده السروجى يعلو فى جهاز الراديو بالأغنية الجميلة : غريب الدار عليه جار .. جفانى القاسى وهجرنى ..
        أعطيتها وجدانى ، بحيث أنى نسيت المشكلة ، المأساة ، التى كنا نعانيها . الإذاعة ـ كما تعلم ـ لا تنسق برامجها وفق أوضاع الناس ، أو ما يعانون من ظروف ، ولا حتى متطلباتهم الملحة . وبالتأكيد فإنه لا يشغل الإذاعة إلا أن تنوّع فى برامجها ، فى امتداد اليوم ، بما يرضى كل الاهتمامات والأذواق ..
        كنا نعانى ظروفاً قاسية ، امتدت منذ ما قبل وفاة أبى إلى ما بعد رحيله بعامين . لم نعد نملك مجرد دفع إيجار الشقة . تراكم الإيجار ، فأبلغنا عم أحمد البواب ـ ذات صباح ـ أن الابن الأكبر للطبيب محمود عبد اللطيف موسى ـ مالك البيت ـ سيزورنا لمناقشة ما يمكن فعله ..
        أيقظنا صوت الجرس من جمال الأغنية ، ومن أنفسنا ، ومن كل شئ ..
        أومأ كل منا إلى الآخر ليفتح الباب . كان أخى على أجرأنا ..
        ألقى الرجل تحية هادئة ، ودخل . بدا فى حوالى الأربعين [ عرفت ـ فيما بعد ـ أنه كان قائمقاماً ـ عقيداً يعنى ـ ويعمل مأموراً لمركز كفر الدوار ] يرتدى جاكت كحلى له صفان من الأزرار ، ويبين فى الجيب العلوى منديل أبيض ، ووضع فى إصبعه خاتماً ، وتدلت من ساعده ساعة ذهبية , ويستند إلى عصا أبنوسية ، ربما من قبيل الوجاهة ، أو اصطناع الوقار !
        أشار إلى الراديو ، فأغلقناه ..
        جلس ، ووقفنا صامتين ..
        لمحت فى عينيه ما يشبه الإشفاق أو التعاطف ، وهو ينظر إلى وقفتنا المتناثرة ، الصامتة ، الخائفة ..
        ـ ما بتدفعوش الإيجار ليه ؟
        قال على :
        ـ إن شاء الله الفلوس تيجى قريب ..
        وهو ينقل الإشفاق إلى تعبيرات وجهه :
        ـ فين يا ابنى .. المسألة طالت ..
        وأردف :
        ـ المهم .. عندى اقتراح .. ممكن أنقلكم لشقة تانية من غير إيجار ..
        صرخت بعفوية :
        ـ لا ..
        دلق الرجل اقتراحه ببساطة ، دون أن يعى التأثير القاسى الذى سيحدثه فى نفوسنا . الشقة ليست مجرد جدران . إنها البيت ، الموطن . الطفولة ، والنشأة ، وأيام العز ، والمواكب الرسمية من سراى رأس التين وإليها ، وحواديت جدى ، وليالى رمضان ، والعيدين ، ومواكب الجلوة ، والجلوس تحت جهاز الراديو لسماع تلاوة محمد رفعت ـ تأثراً بأبى ـ وأحاديث بابا شارو ، وتمثيليات على بابا وقسم وعوف الأصيل ، والمذاكرة ، ومرض أمى وأبى ، وموتهما , واللعب فى الشارع الخلفى ، ونداءات عم أحمد الفكهانى على بضاعته ، وتناهى الأذان من سيدى على تمراز ، وطرقات مغاورى بائع الخبز ، وتأمل صيد المياس فى المينا الشرقية وقت العصارى ، ولعبة السلم والثعبان مع عادل الصبروتى على بسطة السلم ، وقراءاتى فى مكتبة أبى ، وفى الشقة المقابلة ، وخطب الشيخ عبد الحفيظ فى صلاة الجمعة . أعى كلماتها ، وأتساءل : ألا يخشى الملك والحكومة ؟..
        تنقلت نظرة الرجل بين إخوتى . أظن أنه وجد فى الملامح استجابة لصرختى الرافضة . قال وهو يطوح عصاه الأبنوسية :
        ـ ربنا يعمل اللى فيه الخير ..
        وسكت الرجل ـ فى الأشهر التالية ـ عن المطالبة بالإيجار المتأخر ، المتراكم ، حتى ظهر لأبى نقود ، شغله المرض عن تسلمها من شركة الجراية لتصنيع الورق ..
        أتذكر الإيجار ، فيفزعنى الوضع المأساوى الذى كنا نحياه . كانت قيمة الإيجار ـ كل شهر ـ مائتين واثنين وأربعين قرشاً !

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          كاتب مسجل
          • Jun 2006
          • 1123

          #34
          رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

          * والله تستاهل *

          .....................



          المعهد الدينى بالمسافرخانة . الباب الحديدى الضخم ، والردهة الواسعة فى الطابق الأول ، والإضاءة الداخلية التى تغنى عن إغلاق النوافذ فى وجه النهار ، والسلالم المفضية إلى الطوابق العليا ، والطرقة الدائرية الممتدة ، على جانبها الحجرات المغلقة ، والمواربة ، والمفتوحة ، يتناهى من داخلها ـ فى الأغلب ـ صخب متلاغط لا أستطيع تبينه ..
          بدأت فى التردد عليه ، بعد أن تعرفت إلى أحد طلبته فى سينما الأنفوشى . انشغلنا عن متابعة الفيلم بمناقشة لا رابط بين مفرداتها . تبين كل منا فى صاحبه أنه يحاول الكتابة الإبداعية ..
          زرته فى المعهد ..
          تعرفت ـ بواسطته ـ إلى أصدقاء آخرين ، تعددت اهتماماتهم ، لكنهم شكلوا عالماً لم يسبق لى الحياة فى داخله . الجبب ، والقفاطين ، والعمائم ، وقراءة الألفية وكتب الفقه والتراث ، ومناقشة قصائد المتنبى والبحترى وشوقى وحافظ وأحمد محرم ، وكتابات طه حسين والعقاد والزيات ، واختلاف الآراء فى الأحوال السياسية ، ورواية الحكايات ، وارتفاع الضحكات للنكات البذيئة ، وأدوار الشاى ، وأحاديث النميمة ، والنداءات ، والصيحات ، والشتائم ..
          مع تقدم الليل أتهيأ للانصراف ، لكن الدعوات الملحة تدفعنى إلى السهرة الترفيهية التى يحرصون عليها . طالب ـ أذكر من اسمه عيد ـ له وجه دهنى ، دائم التفصد بالعرق ، وشفتان غليظتان ، وصوت جميل . لديه قدرة على اكتساب الصداقات . يغيب التكلف عن تصرفاته . يتحدث فى ألفة ، وبوقائع من حياته الشخصية . يكتفى ـ بعد انتهاء الدروس ـ بنزع الكاكولا ، والاقتصار على القفطان .
          يدور علينا بنظرة متسائلة :
          ـ ماذا تريدون ؟
          تتعدد الرغبات . ثمة من يطلب تواشيح دينية ، ومن يستعذب صوت أم كلثوم ، ومن يصر على عبد الوهاب أو السنباطى أو الأطرش ..
          يعلو صوت عيد بمقاطع من الأغنيات تلبى ما يريده الجميع . تبدو الألحان ـ فى هدأة الليل ـ كأنها علوية ، أو كأنها السحر ..
          تفاوتت أصداء أغنيات عيد فى ذاكرتى بين الوضوح والخفوت . أغنية وحيدة أستعيدها ـ حتى الآن ـ أحياناً ـ وأدندن بها ، ربما لأنى أحببتها ، أو لأن عيد كان يهب أداءها ذوب وجدانه ، أو لأنه كان يحرص على أن تكون ـ دوماً ـ ضمن اختياراته اليومية من الأغنيات ..
          كان يسند وجهه إلى راحة يده ، ويغمض عينيه ، ويمد رقبته ، كأنه يتهيأ لأذان ، أو لتلاوة قرآنية ، ثم يعلو صوته بأغنية سيد درويش :
          والله تستاهـل يا قلبى .:. ليه تميل ما كنت خالى
          انت أسباب كل كربى .:. انت أسباب ما جرى لى

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            كاتب مسجل
            • Jun 2006
            • 1123

            #35
            رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

            * عشق البحر *

            .................



            محمد خاطر السيد ..
            أستمع إلى أغنية " على بلد المحبوب " ، فأتذكره ..
            كان صديقاً مشتركا لمحمد حافظ رجب ولى . مضت عشرات الأعوام على آخر لقاءاتنا القصيرة ، المتباعدة . يبدو كل شىء مغلفاً برمادية شاحبة : الملامح الظاهرة ، وبداية الصداقة ، وأماكن اللقاءات .
            كنت فى حوالى السادسة عشرة . وجدت فيه اكتشافاً جميلاً للمناقشة فيما أقرأه ، ومحاولات الكتابة الأولى ، وفى حكاياته عن الحياة فوق أسطح البواخر ، وداخل المطابخ والغلايات ، والموانى والمدن التى يشاهدها بتمازج الفضول والدهشة . البنايات والشوارع والساحات والعادات والتقاليد والعلاقات العابرة والصفقات الهامسة فى الأركان الملتفة بالشحوب والحوادث الطريفة والمآزق . يستعيد أغنية أم كلثوم : يا مسافر على بحر النيل .. أنا ليه فى مصر خليل ..
            يضغط على كلماته :
            ـ مع ذلك ، فأنا أعشق البحر بلا حدود .. أعشق رحلاته ، والحياة المتجددة على أمواجه ..
            سافر فى إحدى رحلاته . بعث برسالتين أو ثلاث ، تحدث عن المدن التى يتنقل بينها ، فلا يتاح له العودة إلى الإسكندرية . ثم انقطعت رسائله ، ولم نعد نلتقى ..
            أستمع إلى أغنية أم كلثوم . أستعيد لقاءاتى بمحمد خاطر السيد : أحاديثه ، وكتاباته ، وعشقه المطلق للبحر ، والسؤال الذى تحركه الصور والرؤى والأخيلة : متى يتاح لى ركوب البحر ؟!

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              كاتب مسجل
              • Jun 2006
              • 1123

              #36
              رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

              * الجيران *

              .........

              بدأ السائق والعتال ـ يساعدهما عم أحمد البواب ـ فى إنزال الأثاث من عربة النقل إلى الرصيف ، أمام البيت . عرفنا أن سكان الطابق الثانى الجدد وصلوا ..
              أطلت الوجوه ـ بالفضول ـ من النوافذ والشرفات وأبواب الدكاكين . لم ألحظ ـ فى الأيام الأولى ـ هوية السكان الجدد : هل هى أسرة صغيرة العدد أو كبيرة ؟ وهل لها أولاد فى مثل سنى ، فيتاح لى صداقتهم ، واللعب معهم فى الشارع الخلفى ؟
              فى اليوم الرابع ، لمحت من الشرفة المطلة على شارع إسماعيل صبرى فتاة فى مثل سنى ، فى الرابعة عشرة أو أقل بشهور ، تتابع حركة الطريق بنظرة متأملة .
              أهملت النظرات من دكاكين الشارع ، ترصد الإشارات والهمسات بين الشرفات والنوافذ المتقابلة . حدقت النظر . اجتذبنى الشعر المنسدل إلى كتفيها ، والرموش الطويلة تظلل عينين واسعتين ، والأنف الدقيق ، وسمرة الوجه الرائقة .
              رأيتها ـ بعد أيام ـ تسبقنى فى النزول إلى الطريق . مضت ناحية شارع فرنسا . أبطأت من خطواتى ، فلا يبدو أنى أحاول ملاحقتها . الشارع نفسه هو طريقى إلى مدرستى فى محرم بك ..
              تعددت ـ فيما بعد ـ لقاءاتى الصامتة بها ، على السلم ، أو فى شوارع الحى . ورأيتها فى النوافذ والشرفات التى تطل من البناية المتفردة على أربعة شوارع . شغلنى أمرها بما لم أكن أعرفه من قبل . أحاول ضبط موعد ذهابها إلى المدرسة أو عودتها منها ، وقفتها المتأملة فى النافذة قبل أن تنسحب الشمس من واجهات البيوت ، نزولها إلى شارع الميدان ، تشترى لوازم أسرتها ، فهى أصغر الأخوة لوالدين أدركهما الكبر : رجل فى حوالى الثلاثين عرف طريقه منذ اليوم الأول إلى مقهى المهدى اللبان أسفل البيت ، وصبى وفتاتان فوق رءوس بعض ، حسب التعبير الشعبى ..
              كانت مشاوير الولد إلى فرن التمرازية ، والطنطاوى بائع الفول فى شارع التتويج . أما البنت فكانت تشترى الخضر واللحم والبقالة من شارع الميدان ..
              مديحة !..
              لا أذكر من نطق الاسم أمامى .. لكن مجرد معرفتى الاسم أضاف إلى انشغالى بها ..
              ترامى صوت عبد الحليم حافظ بالأغنية من نافذة لم أتبينها فى البناية المقابلة :
              يا صحابى ، يا أهلى ، يا جيرانى .. أنا عايز اخدكوا ف أحضانى
              تدبرت الكلمات . استوقفنى حضن الجيران الذى تمناه عبد الحليم ، وتمنيته ، وإن لم يداخلنى ـ كم طالت أعوام عذريتى ! ـ أية مشاعر حسية ..
              عرفت السهر والمتابعة والشرود والنظر ـ بلا مناسبة ـ إلى شرفات ونوافذ الطابق الثانى ، وملامح البنت فى كتاب المذاكرة ..
              أدركت أنى أحب .

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                كاتب مسجل
                • Jun 2006
                • 1123

                #37
                رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

                * هيلا ليصة *

                .......................

                أنزل من الأوتوبيس فى محطة ستانى بالورديان . الصباح ضبابى ، خريفى ، ينذر ببرودة ، وأنفاس البحر : رائحة اليود والملح والطحالب والأعشاب ، تترامى من وراء الشون والمخازن . تساقطت أوراق الشجر المصفرة ، الجافة ، على الأرض . وإلى جانب الرصيف حصان مد خطمه فى مخلاة التبن الملقاة أمامه ، تناثرت بقاياها فى دائرة واسعة حولها ..
                أميل إلى الشارع المسفلت ، فى نهايته سور حجرى يطل على الميناء ، ويصل بين شون الغلال على جانبى الشارع . العصافير تشكل غيمة صوتية وهى تتسلل ـ لالتقاط القمح ـ من الأسقف المفتوحة ..
                تطول وقفتى أمام كشك الشاى المستند على السور الحجرى . تتزايد أعداد العمال فيشكلون ما يشبه نصف الدائرة حول الكشك ، وفى أيديهم أكواب الشاى ..
                فى السابعة تماماً ، يبدو خليل أفندى قادماً من أول الشارع . يولج المفتاح فى القفل الضخم ، ويتشارك العمال فى دفع الجرار الحديدى ، ويسبقنا خليل أفندى فى الدخول ..
                أدركت منذ أول أيام عملى فى الشونة أن القصد مجاملة ابن عم أبى محمد على جبريل رئيس قلم القضايا فى بنك التسليف . لم أكن أمارس عملاً ما ، ولم تصدر لى توجيهات لأنفذها . طلب خليل أفندى أن أراقب العمال وهم ينقلون أجولة الغلال من السيارات إلى داخل الشونة ، يرصونها فى بلوطات أشبه بالمربعات الهائلة ..
                بعد عشرة أيام ، صحبنى خليل أفندى إلى تقاطع ، وقال :
                ـ أنت معنا فى إجازة الصيف ..
                أومأت برأسى دلالة الموافقة ..
                قال :
                ـ أخشى أنك لا تراقب العمال كما يجب !
                وأنا أغالب الحيرة : كيف أراقبهم ؟
                وهو يهز إصبعه :
                ـ أبلغنى بكل ما تراه من تقصير ..
                عدت إلى وقفتى وسط العمال . أراقب حركتهم بين السيارات والشونة ، وأستمع إلى أغنياتهم التى تبدأ بالهتاف : هيلا ليصة ، ويغيب عنى الكثير من مفرداتها ، وإن اتسمت بأنغام محملة بالحزن والحنين . تجتذبنى اللحظة بكل شجوها . أنسى ملاحظة خليل أفندى ، فلا يشغلنى من يلتمس الراحة داخل أزقة البلوطات المتقاطعة ، أو يفرد طعامه ، أو تتلكأ خطواته ..
                شاركت العمال أداء أغنياتهم .

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  كاتب مسجل
                  • Jun 2006
                  • 1123

                  #38
                  رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

                  * النيل *
                  ..........

                  القصيدة مودعة فى ذكريات الصبا الباكر . لا أذكر ـ بالطبع ـ متى استمعت إليها للمرة الأولى ، لكن الذى أذكره جيداً ، أنى كنت أحفظ أبياتها ، حين وجدتها ضمن أبيات القصيدة كاملة فى " المحفوظات " المقررة ضمن مواد المرحلة الثانوية ..
                  لامست موضعاً رهيفاً داخلى ، فأحببتها . أمرنا المدرس بكتابة موضوع إنشاء نحدد موضوعه بأنفسنا . اخترت ـ بلا تردد ـ قصيدة شوقى . تحدثت عن أم كلثوم ـ لم أكن أعرف معنى الأداء بعد ـ وتحدثت عن اللحن . لولاه ما تغلفت الأغنية بنورانيتها ، وإن كنت تأخرت كثيراً قبل أن أعرف اسم الملحن : رياض السنباطى . تحدثت كذلك عن تأثير الأبيات فى نفسى ، ما وهبته لى من صور هطول الأمطار على رءوس الجبال فى الحبشة ، الفيضان ، احتفالات عروس النيل ، الوادى ، الخضرة . منابع النيل تبعد عن مصر آلاف الكيلو مترات ، لكن النيل ظاهرة مصرية . حتى مقولة هيرودوت " مصر هبة النيل " ـ رغم قسوتها ـ تضغط على هذه الظاهرة ، وتؤكدها . يأتى الحديث سريعاً عن بلاد ومدن وقرى يقطعها النيل فى رحلة المنبع والمصب .. لكن الحديث يتباطأ حين يشرف على المدن المصرية ، بدءاً بالشلالات وانتهاء بعناق البحر المتوسط ..
                  أعجب المدرس ـ اسمه فيما أذكر الأستاذ عبد العليم ـ بما كتبت ، ومنحنى الدرجة النهائية . أزمعت أن أكتب ـ فى قادم الأيام عن النيل من خلال هذه الأغنية ، شعر شوقى ولحن السنباطى وأداء أم كلثوم . كانت حرفة الأدب تناوشنى ، وإن لم تدركنى تماماً . وكانت تنويعات القراءة تتجاذبنى ، فلم أستقر على اللون الأدبى الذى أخوض مغامرته ..
                  فى حياتى الكثير من المشروعات المؤجلة .

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    كاتب مسجل
                    • Jun 2006
                    • 1123

                    #39
                    رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

                    * على قد الشوق *

                    ......................



                    حين دخلت سينما الأهلى بالسيدة زينب ، لمشاهدة فيلم " لحن الوفاء " ، كان بينى وبين عبد الحليم حافظ تاريخ مشترك . استمعت إلى اسم عبد الحليم ـ للمرة الأولى ـ فى مسرح الأزاريطة بالإسكندرية . صديق لأبى دعاه إلى حفل من بين فقراته المطرب الجديد عبد الحليم حافظ . كان أبى مشغولاً بقراءاته وترجماته ، فرشحنى بدلاً منه ..
                    صحبت صديق أبى إلى المسرح . تابعت الفقرات . أذكر منها راقصة اسمها هيرمين ، رافق أداءها صراخ من جمهور الصفوف الأمامية وتأوهات وقذف بالورود وتصرفات أخرى أذهلتنى . عرفت ـ من حوار بين أبى وصديقه ـ أن متعهد الحفلات الحاج صديق ، أعاد عبد الحليم إلى القاهرة ، لأنه ـ على حد تعبيره ـ لا يريد أغنيات من نوع " أيها الراقدون تحت التراب" . يقصد أغنية " ظالم " التى أعتبرها من أجمل أغنيات عبد الحليم . استجاب الرجل لاستياء الجمهور وزياطه ، فمنع عبد الحليم من مواصلة الغناء . غنى ـ بدلاً منه ـ كارم محمود بصوته الحلال ـ الصفة للشيخ زكريا أحمد ـ ورقصت هيرمين على أغنيات : سمرة يا سمرة .. وعينى بترف .. وأمانة عليك يا ليل طوّل .. وغيرها ..
                    لم يذهب عبد الحليم من بالى . استمعت إلى أغنياته : على قد الشوق ، صافينى مرّة ، بتقولى بكرة ، ظالم ، يا مواعدنى بكرة . اعتبرته مطربى المفضل ، وأثمرت متابعتى لمشواره الحياتى والفنى ، دراسة مطولة نشرتها فى " الخليج " الإماراتية عن شاب مصرى ، شكلت حياته ـ منذ الميلاد إلى الممات ـ مأساة كاملة ..
                    المهم ، دخلت السينما ، يدفعنى الإعجاب بعبد الحليم حافظ . وجدت فى تصفيق رواد السينما لمقدمة على قد الشوق ، كأنه موجه لى . هذا هو المطرب الذى أشفقت عليه لما طرده متعهد الحفلات من الأزاريطة ، ثم أحببت صوته فى الأغنيات التى أداها من كلمات سمير محبوب وألحان الموجى والطويل ..
                    ظللت متابعاً لعبد الحليم ، فناً وسيرة حياة . حتى قرأت نبأ وفاته على وكالات الأنباء ..
                    كنت ـ أيامها ـ أحرر جريدة " الوطن " العمانية . وكانت أغنيات عبد الحليم ممنوعة من الإذاعة والتليفزيون . عرفت أن المسئولين فى السلطنة عرضوا عليه أن يغنى فى عيد ميلاد السلطان ، فاعتذر . عاقبوه بمنع أغنياته !..
                    اتصلت بمكتب وزير الإعلام . من السخف أن أهمل نبأ وفاة مطرب فى قامة عبد الحليم . تلقيت الموافقة قبل أن أرسل مواد الجريدة إلى المطبعة بدقائق : فلتكن المرة الأولى والأخيرة ..
                    لكن التحقيق الذى أفردت له الصفحة الأخيرة كان انفراجة الباب . ثم أصبح عبد الحليم حافظ مادة ثابتة فى وسائل الإعلام العمانية .

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      كاتب مسجل
                      • Jun 2006
                      • 1123

                      #40
                      رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

                      * النيل نجاشى *

                      حدثتك عن أغنية " النيل " التى تمنيت ـ فى صباى ـ أن أكتب عنها ، أعبر عن حبى لها على مستوى الكلمات واللحن والأداء . كانت الفكرة تشغلنى ـ أحياناً ـ فتجاوز مجرد نيل شوقى والسنباطى وأم كلثوم ، إلى نيل ثان ، وثالث ، إلى آخر الأغنيات التى تتحدث عن النيل . وكنت أحبها جميعاً . حتى أغنية " يا تبر سايل بين شطين " الساذجة الكلمات ، الجميلة اللحن والأداء ، أحببتها ، وكنت أرددها بينى وبين نفسى ..
                      الأغنية التى صعب على فهمها ـ لا أتقبل أغنية ما إلا إذا فهمت كلماتها ، وتقبلتها ـ هى أغنية شوقى ، لحن وأداء عبد الوهاب " النيل نجاشى .. حليوة أسمر " . وصلتنى الكلمات بمعنى مغاير . تصورت أنها تتحدث عن الفيضان . النيل ما جاشى .. فهل الإطراء ، وأنه حليوة أسمر ، حتى يأتى بالماء والطمى والحياة للأرض المصرية ؟
                      لم أفهم المعنى تماماً ، وأهملت الأغنية . لم أقرر حتى إن كانت ستدخل ضمن مشروعى للكتابة عن النيل من خلال أغنية أم كلثوم الشهيرة ، وما يتصل بها من أغنيات تتحدث عن النيل ..
                      ويوماً ، تحدث أبى عن الحب الذى كان يضمره ـ ويعلنه ـ شوقى لعبد الوهاب ، والذى أملى عليه أن يتخلى عن تخوفه من عامية بيرم التونسى ، فيكتب لعبد الوهاب أغنيات بالعامية ، منها هذه الأغنية التى أسقطتها ..
                      ماذا ؟..
                      النيل نجاشى !..
                      الكلمات إذن عن النجاشى ، الملك ، السلطان .. وليست عن الغائب الذى نسر فى تدليله حتى يعود !
                      أعدت تأمل الأغنية : الكلمات .. اللحن .. الأداء . بدا لى إهمالها أشبه بحكاية الثعلب الذى تطلع إلى التقاط العنب . فلما أعياه العجز ادعى إنه حصرم ..
                      أحببت النيل نجاشياً !

                      تعليق

                      • د. حسين علي محمد
                        كاتب مسجل
                        • Jun 2006
                        • 1123

                        #41
                        رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

                        * صافينى مرة *

                        ................



                        تعرفت إليه فى ناصية شارعى رأس التين وفرنسا . شاب فى حوالى الثلاثين . بيضاوى الوجه ، أبيض البشرة ، له عينان زرقاوان ، دائمتا التلفت . ينسدل شعره الذهبى على قفاه ، تتطاير خصلات منه ، فيزيحها براحته إلى الوراء ..
                        سألنى عن عنوان شركة قريبة . اتصل الحديث ، فصرنا أصدقاء .اسمه ديمترى ـ هو نفسه أحد شخصيات روايتى الشاطئ الآخر ـ تعرفت منه إلى ناظم حكمت وكفافيس وغيرهما من الشعراء الذين لم أكن قرأت لهم من قبل . ولم يكن فى قراءاتى ما أقدمه له سوى ما حفظته من كتب التراث ..
                        فاجأنى ديمترى بلغة عربية تداخلت بألفاظ أجنبية ، بأنه يحفظ أغنية عبد الحليم حافظ " صافينى مرة " . أدى الأغنية ، وحاكى موسيقاها بالدندنة ..
                        صحبنى ديمترى إلى عوالم جميلة من السرد والتشكيل والغناء ، فأحببت صداقته ، وتصورته صديقاً أبدياً . فلما فاجأنى بالزقاق المظلم فى حياته [ أذكرك بالشاطئ الآخر ] قررت أن أمضى ـ بعيداً عنه ـ فى الشوارع الفسيحة ، المنيرة ..

                        تعليق

                        • د. حسين علي محمد
                          كاتب مسجل
                          • Jun 2006
                          • 1123

                          #42
                          رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

                          * عشق الروح *

                          .................



                          واربت الباب ، فدخلت ..
                          فى حوالى الخامسة والعشرين . ترتدى فستاناً ضيقاً ، عليه نقوش مستديرة ، ملونة . أهملت إغلاق الزرار العلوى ، فظهر من صدرها ما أغرانى بالتحديق . سمراء البشرة . عيناها سوداوان ، مكحولتان . عقصت شعرها فى جديلة ألقتها خلف ظهرها . لردفيها الممتلئين استدارة واضحة ، تختلف مع الضمور النسبى للخصر وأعلى الصدر ..
                          تعرفت إليها فى أشهر إقامتى بالسيالة . التقينا ـ للمرة الأولى ـ عند عم عبد المعطى مكوجى الرجل على ناصية شارعى العوامرى والسيالة . اجتذبتنى الحياة فى الحى الشعبى بناسه وتجاره وحرفييه وسلوكيات حياته . أمضى الساعات متأملاً انحناءة عم عبد المعطى على مكواة الرجل ، فصاله مع الزبائن ، تبادله النكات مع أصحاب الدكاكين المجاورة ، تعليقاته المرحة على ذوات الملاءات اللف والبسمات المحرضة ..
                          طلب شهادتى فى قيمة كى الملاءة . ذكرت ما اعتدت سماعه منه ، وهو يعد أنواع الملابس . اتجهت ناحيتى بسؤالها . أجبت بما أعرفه ..
                          التقينا بعيداً عن بحرى .
                          سرنا فى منطقة السلسلة ، والشوارع المتفرعة من محطة الرمل ، وحدائق الشلالات [ قبلتها تحت ظل شجرة ] والشوارع المحيطة باستاد البلدية ..
                          كنت ـ آنذاك ـ مفتوناً بروايات محمد عبد الحليم عبد الله . وجدتها امتداداً جميلاً لروايات المنفلوطى التى قرأتها فى مكتبة أبى . كلمتها عن التسامى فى الحب ، وعن يتمى الباكر فأنا أريد فى حبيبتى عاطفة أمومة . وكلمتنى عن زوجها البحار . حياته كلها فى البحر . حتى فى أيام إجازاته ينشغل بأصدقائه وقعدات قهوة الزردونى ..
                          أستعيد الآن ملامحها وهى تغالب التوتر :
                          ـ أنا فى حاجة إلى رجل !
                          شردت فى المعانى الجميلة ، وقلت :
                          ـ أنا أيضاً فى حاجة إلى حبيبة لها قلب الأم ..
                          ودندنت برومانسية ساذجة ـ كأنى أغنى لنفسى ـ :
                          وعشق الروح مالوش آخر لكن ده عشق الجسد فانى
                          كان ذلك آخر لقاءاتى بالمرأة . لم تعد تتردد على دكان عم عبد المعطى ، ولا رأيتها فى شوارع بحرى ..
                          غابت عن حياتى تماماً .

                          تعليق

                          • د. حسين علي محمد
                            كاتب مسجل
                            • Jun 2006
                            • 1123

                            #43
                            رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

                            * يمامة بيضة *

                            ....................



                            يتناهى الصوت الأنثوى الرائق بكلمات الأغنية التى لم أكن استمعت إليها من قبل :
                            يمامة بيضة ومنين أجيبها طارت يا عينى عند صاحبها
                            الباب مغلق . أكتفى بتصور الفتاة ـ أو المرأة ـ التى تنشر الغسيل فى السطح ، وتغنى ..
                            حين تسلمت مفتاح الغرفة ، أوصانى الريس بركات شيخ الصيادين ، وصاحب البيت ، أن الزم الحجرة ، فلا أغادرها إلا لضرورة . تحددت الضرورة فى عودتى إلى الغرفة ، وخروجى منها ، واستعمال دورة المياه الملاصقة لها ..
                            دفعنى الفضول للتظاهر بأنى أتجه إلى دورة المياه . طالعتنى بقامتها القصيرة ، وعينيها اللامعتين الواسعتين ، يعلوهما حاجبان أسودان ، طويلان ، والأنف الأقنى ، الصغير ، والجلابية القصيرة ، المشمرة عن ساعديها .
                            اتجهت عيناى ـ بادعاء الخجل ـ إلى الناحية المقابلة ـ وإن تأكدت ـ من النظرة السريعة ـ أن الفتاة ـ التى لا تتجاوز الثامنة عشرة ـ فائقة الجمال ..
                            تكرر خروجى ، ودخولى ، من باب الحجرة . أضفت إلى جرأتى صوت هامس :
                            ـ مساء الخير ..
                            شجعنى ردها ، فمالت عيناى عن اتجاهها الجانبى ، ونظرت إليها ..
                            ساعدتها ـ فى الأيام التالية ـ على رفع " القروانة " بالغسيل الذى جف فوق المنشر . ثم سألتنى فيما لا أذكره ..
                            انفرج باب الصداقة الموارب . تحدثنا فى أحوال السيالة والصيادين وعمال البحر ومعلمى حلقة السمك . امتدت أحاديثنا ، فلامست الحب . وبدت لى جريئة ..
                            ذات أصيل . غادرت الحجرة على تناهى الصوت . كانت الفتاة مشغولة فى لم الثياب . وكان قرص الشمس قد سقط فى أفق الأمواج بالأنفوشى ، واختفى تماماً . لم يعد إلا تداخلات الألوان وهى تذوب فى رمادية شاحبة ..
                            لا أدرى ما الذى حرضنى على تعرية أسفل جسدى ، والرنو إليها بنظرة محرضة ..
                            داريت نفسى ـ فى اللحظة التالية ـ وأنا أعانى الذهول للبكاء الذى انخرطت فيه الفتاة ، وجريها نحو باب السطح ، فلا تصعد إليه ثانية !

                            تعليق

                            • د. حسين علي محمد
                              كاتب مسجل
                              • Jun 2006
                              • 1123

                              #44
                              رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

                              * أهواك *

                              ............

                              بدت مختلفة عن كل الفتيات اللائى تصورت ـ وربما تصورن ـ أن العلاقة الخاصة فى أفق البحر . لم تكن جميلة ، ولعلها كانت أقرب إلى الدمامة ، فعيناها مشروطتان ، وشعرها مجعد ، وثمة ما يشبه الشارب الخفيف فوق شفتيها ..
                              شدنى انسحابها ـ بالخجل ـ من النافذة المطلة على عم عبد المعطى مكوجى الرجل فى ناصية شارعى السيالة والعوامرى ..
                              كنت ـ لبواعث أسرية حدثتك عنها من قبل ـ قد استأجرت غرفة فوق سطح بيت بين البيوت القديمة المتلاصقة ، داخل الحوارى الملتوية والمتعرجة والمتقاطعة . أمضى الوقت فى المذاكرة ، وأطرد إحساسى بالملل ، أو أنشد الصداقة فى بيئة لم يسبق لى الحياة اليومية فيها . تعرفت إلى دقائق المهن المتصلة بركوب البحر : الصيد وصناعة السفن ، وغزل الشباك ، وبيع السمك ، والعمل فى الحلقة ، وفى الدائرة الجمركية . أفدت من ذلك كله فى أعمالى التى تناولت الصلة بين اليابسة والبحر
                              لاحظت نظرتها المتسللة من خصاص النافذة . شدنى انسحابها بالخجل ، فنقلت ملاحظتى إلى عم عبد المعطى ..
                              قال فى هدوء وجدية :
                              ـ عفاف .. لا .. دى غير كل البنات !
                              حرصت أن ألتقط طرف خيط الكلام عن عفاف بين خيوط أحاديثنا المتشابكة . نشرق ونغرب فى مناقشات بلا ضفاف ولا آفاق . أعاود إلقاء الطراحة ، ربما تصيد ولو سمكة وحيدة تتصل بسيرتها . نفض عم عبد المعطى اليد الخشبية للمكواة بقدمه الحافية ، واعتدل فى وقفته ، وأسند ظهره إلى ساعده ، وتنهد :
                              ـ البنت دخلت مخك .. هل تريد التقدم لخطبتها ؟
                              أضاف دون أن يعبأ بالدهشة التى ملأت وجهى :
                              ـ إنها مثل ابنتى .. أستطيع أن أقنعها بلقائك ليتعرف كل منكما إلى الآخر ..
                              سبقتها حين اقتربت من أول شارع السيالة . مضيت ـ بحيث ترانى ـ فى شارع الموازينى ، إلى رأس التين ، فشارع الميدان . التفتّ نحوها ـ للمرة الأولى ـ مسلّماً فى ميدان المنشية . غلبنا الارتباك ، فلم نجد ما يتيح لنا الكلام ، والسير المتمهل ..
                              لم أكن أعرف كيف يتكلم الحبيبان ، من يسأل ، ومن يجيب ، مدى الأفق فى حديثهما ، بل إنى لم أكن أعرف الفوارق البيولوجية بين المرأة والرجل . طاقتى الجنسية أنفقها فى ممارسة العادة السرية ، ترافقها صور أتمثلها ، وأتخيلها ، وأستدعيها من الذاكرة ..
                              ترامى من المقهى المطل على الميدان صوت عبد الحليم حافظ :
                              أهواك واتمنى لو أنساك ..
                              قلت :
                              ـ أغنية جميلة ..
                              قالت :
                              ـ فعلاً ..
                              ـ تحبين عبد الحليم حافظ
                              هزت رأسها مؤمّنة ..
                              وأنا أشير إلى الكراسى المتناثرة فى حديقة المنشية :
                              ـ هل نجلس ؟
                              ـ لا .. أريد أن أعود إلى البيت ..
                              ـ لكننا لم نتكلم ..
                              فى حسم :
                              ـ بل تكلمنا ..
                              طالعنى عم عبد المعطى فى عودتى إلى السيالة بوجه يعلوه الاستياء :
                              ـ ضيّعت فرصة عمرك .. البنت للزواج لا للفسحة !
                              رنوت إلى النافذة المطلة على الدكان . فلما ظلت النافذة مغلقة ، أهملت الأمر ، وتناسيته ..

                              تعليق

                              • د. حسين علي محمد
                                كاتب مسجل
                                • Jun 2006
                                • 1123

                                #45
                                رد: النص الكامل لكتاب «أغنيــــــــــــات / نصوص سردية قصيرة »، للروائي محمد جبريل

                                ألوان
                                ..........



                                أبيض غار النهار منه ..
                                أتفاءل بالعبارة ، يعلو بها صوت محمد عبد الوهاب فى جهاز الكاسيت بسيارة الدكتور جمال الدين ..
                                كنت أجلس إلى جواره ، من خلفى اثنان من مؤيدى الدكتور فى حملته الانتخابية . جو الصباح الباكر يحيط بنا . معظم النوافذ مغلقة ، والمارة قليلون ، وعربات الفول على نواصى الشوارع يلتف حولها عمال وصيادون وتلاميذ ..
                                لم تكن لى بالدكتور جمال الدين ـ نسيت بقية الاسم ـ سابق معرفة . هو أستاذ بكلية العلوم . رشح نفسه لانتخابات مجلس الأمة ، ودعا مثقفى بحرى إلى تأييده . ولأنى وجدت فى نفسى مثقفاً يسعى إلى التحقق ، فقد اعتبرت مساندة المرشح المثقف وسيلة لإثبات الذات ، وأيضاً لتأكيد موقفى ، وأن لى توجهاً سياسياً ..
                                أمضيت غالبية أيام الحملة الانتخابية فى مقر الدكتور جمال الدين . شقة بالطابق الأول من بيت فى شارع حسن باشا عاصم ، خصصها لحفظ كتبه وأدواته العلمية . جعل من إحدى الغرف مخزناً للمكتب والكتب والأدوات ، بينما فرشت الصالة والغرفتان الباقيتان بالكراسى ، ليجلس عليها مؤيدو الدكتور ..
                                أقنعنا الأستاذ الجامعى ـ وكان يعانى الخجل والارتباك ـ بأن الانتخابات لها وسائلها التى يجب أن نعنى بها . خرجنا فى ثلاث مظاهرات على مدى عشرة أيام . أعداد قليلة من المتعلمين ، زادت بالأولاد والمتسكعين فى شوارع السيالة وحواريها . رددنا هتافاً واحداً : إن جيت للحق .. جمال أحق . لا أذكر أننا بدّلنا الهتاف . اكتفينا بترديده كشريط " الأنسر " الذى يخاطب الطالبين بكلمات محددة ..
                                فى صبيحة يوم الانتخاب صحبنا الدكتور جمال الدين فى سيارته إلى مراكز الانتخاب . أدار جهاز الكاسيت ، فعلا صوت عبد الوهاب بأغنيته الجميلة ..
                                مع أنى لا أومن بالسحر ، ولا التنجيم ، ولا الأعمال التى تقرّب وتبعد ، فإنى ورثت عن أبى ميلاً إلى التفاؤل والتشاؤم . إذا ظل الضوء الأخضر قبل أن أصل بسيارتى إلى الإشارة ، فهو يوم طيب . إذا علا صراخ أو صوات موضع قريب ، فذلك أدعى للتشاؤم .. وهكذا ..
                                كان عبد الوهاب يقلّب الألوان فى أغنيته . داخلنى يقين بأن اللون الذى ستقف به السيارة أمام أول مركز انتخابى هو الذى سيحدد حظ الدكتور من أصوات الناخبين . ارتحت للون الأبيض . ضايقنى اللون الأصفر . عاودتنى الراحة فى الأحمر .. ثم اختلط قلقى وتوقعى بتعليمات الدكتور لنا فيما يجب أن نفعله ..
                                فى اليوم التالى ، أعلنت نتيجة الانتخاب ..
                                تصورت أن اللون الذى أغلق عليه الدكتور جهاز الكاسيت يرفض التفاؤل ، ويرفض التشاؤم كذلك . خسر الرجل ، وفاز من يمتلكون النفوذ والأموال ، وإن استطاع ـ وهو ما اعتبره أبناء بحرى مفاجأةً ـ أن يستعيد تأمينه الانتخابى !
                                </H2>

                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                إدراج: مصغرة صغير متوسط كبير الحجم الكامل إزالة  
                                أو نوع الملف مسموح به: jpg, jpeg, png, gif, webp

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة
                                يعمل...