الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

تقليص
X
  •  
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    كاتب مسجل
    • Jun 2006
    • 1123

    #16
    رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

    (16)
    *مكاشفــة*
    ....................

    تقف على شاطئ البحر . تنظر إلى البلانسات والقوارب ، وشباك الصيادين ، وطيور البحر تحوم فوق الأمواج الساكنة ..
    خلا الشاطئ وقت الصباح الباكر ، إلا من قوارب متباعدة ، وصياد يجذب طراحته فى المسافة بين البحر والأرض الرملية ..
    طال الأخذ والرد بينك وبين نفسك ، قبل أن تخترق الشوارع الضيقة . تعبر طريق الكورنيش . تقف أمام البحر ، تتعثر فى رماله . تلامس الأمواج الهادئة قدميك . تبدو الفرصة مواتية تماماً ، لكى تقذف فى البحر بما تعانيه . قال أبوك : البحر واسع ، يبتلع حتى الجيف . قالت أمك : البحر طاهر ، يغسل ما يلقى فيه من أوساخ . قال الشيخ عبد الله الصمدى إمام جامع البوصيرى : إذا أردت أن تتخلص من متاعبك ، الق بها فى البحر . وهز إصبعه منبهاً : لكى يتحقق ما تريد ، يجب أن يكون البحر حصيرة ..
    تختلط ـ فى ذاكرتك ، وتهيؤك للفعل ـ رؤى ، وتصورات ، وملامح واضحة وشاحبة . تبدأ فى الحكى ، البوح بما فى النفس من الأسئلة والملاحظات القاسية .
    قلت :
    ـ أنت تتكلمين بما يفوق قدرتى على الإنصات ..
    قالت :
    ـ ربما لأنى لست من تريد الكلام معها .
    يلح الشعر الأسود المنسدل على الكتفين ، والبشرة البيضاء المشربة بالحمرة ، والعينان الخضراوان الواسعتان ، والأنف الصغير . تملأ البسمة الهادئة صفحة الموج الساكن . يذوى ـ بلا توقع ـ توالى الصور .
    تنفض رأسك ، وتغمض عينيك . تتنهد فى حيرة ..
    تلح صورة مكتبك فى العمل ، فتستعيدها . أوراق وملفات وأرقام وبيانات وأسئلة وأجوبة ومناقشات . تتهيأ لاختيار ما تعد لإلقائه فى البحر . تتحدث به ، فيغيب فى ذاكرة الأمواج ، وتنساه . عينا نجاتى زميلك فى المكتب ، ترنوان إليك بنظرة ود :
    ـ إذا ضايقتك الحياة ، فما ذنبى ؟
    حاولت أن تظل وحيداً ، لا تختلط إلا لظروف العمل ، أو قضاء ما تحتاجه . تحرص فلا يدخل حياتك إنسان ما ، الضرورة تأتى به ، ثم يبتعد ، أو تبتعد . لا تميل إلى الأخذ والرد ، وما تجد فيه ثرثرة لا معنى لها .
    تستعيد ـ ثانية ـ نزولك من البيت . اختراقك شوارع السيالة فى اتجاه البحر . اكتفاءك بإيماءة التحية . لا تلتفت إلى الجالسين على أبواب البيوت والدكاكين ، ولا داخل المقاهى . أمضيت الليل بطوله فى تذكر ما جرى ، وتوقع الآتى . توالى ضوء الفنار ، والأذان ، وصيد الجرافة والطراحة والسنارة ، والحرب ، والمظاهرات ، والصلاة ، وحلقة الذكر ، وأهازيج السحر ، والموالد ، ومواكب الصوفية . كتبت كل واقعة فى ورقة ، ما تعانيه ، وتشكو منه . تطلب الغوث والنصفة والمدد .
    تفتش فى جيوبك ، تبحث عن الأوراق . تفاجئك بتمزقها ، أو عدم وضوحها ، أو أنها تعبر عن معان لم تكن كتبتها .
    تذكر ما كتبته جيداً . تأملت ما حدث ، راجعته ، رصدت الأفعال الشريرة ، ليسهل عليك قراءة ما تشكو منه . تتركه للبحر ، تطويه أمواجه ، تغيّبه ، وإن كان توقعك أنه لن يغيب . يقضى فيه البحر بالصواب . يصارحك ـ فى الصحو أو المنام ـ بما يجب أن تفعله . للبحر عالمه وأسراره ، ومخلوقاته التى تحفظ الأسرار ، تبقيه على حال الطهر والصفاء .
    تلجأ إلى الذاكرة . أحاديث ركوب البحر وعمليات الصيد والنوات وغرقى الرياح والعواصف . حوادث بعيدة وقريبة ، اختطفت فيها مخلوقات البحر من كانوا فوق الأمواج .
    تشير إلى الجزيرة الصخرية فى أفق الأنفوشى :
    ـ تحطمت قوارب كثيرة فى أثناء النوات ..
    تفاجئك الكلمات :
    ـ الحياة فى البحر تستحق المخاطرة !
    يلح السؤال : مادمت تحيا ، لماذا يشغلك الموت ؟
    الصيادون يركبون البلانسات ، يتجهون إلى أعالى البحار ، الأسماك الصغيرة تتقافز فوق المياه ، ورش المراكب تظل فى عملها من نجمة الصباح إلى شحوب النهار ، العجائز ينشغلون برفو ثقوب الغزل ، وتعليقه ـ حتى يجف ـ على المناشر ، أو فوق ظهور القوارب ، صفافير البواخر يترامى من الميناء الغربية ، الطيور تحلق فى السماء ، وتمضى إلى نهاية الأفق ، الأولاد يطلقون الطائرات الورقية ، يتابعون تحليقها ، ويحاولون اجتذاب الطائرات الورقية الأخرى ..
    هذه هى الصورة فى تجسيدات الذاكرة . لا شأن لها بالموت ، ولا بخواطر من أى نوع .
    تستعيد ما حدث بلا أوراق تعينك على التذكر . تختلط المرئيات والأحداث والوجوه والملامح ، تغيب الصورة الواضحة . تتصاعد فى الذهن ، كأطياف ، أو أشباح ، أو تكوينات هلامية .
    تلتفت ـ بعفوية ـ إلى الوراء . بنايات السيالة كساها النشع والأعشاب والطحالب الخضراء . الشبابيك محطمة . الأبواب الخشبية ، القديمة ، تعلو درجات حجرية متآكلة . مياه الغسيل ، وبقايا الطبيخ ، وأحشاء السمك ، والمحارات الميتة .
    لا تجد فى نفسك ميلاً لشىء ما ، ولا رفضاً لما غابت ملامحه .
    تطوح بالأوراق ، تختلط بالرمال والحصى . تطايرت أوراق تحت هياكل البلانسات ، وقطع الحجارة ..
    تخلف البحر وراءك ..
    تمضى إلى داخل السيالة .

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      كاتب مسجل
      • Jun 2006
      • 1123

      #17
      رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

      (17)
      *فى حضرة الديوان*
      ..............................

      رأيت أنى وقفت على باب الديوان ، أنتظر المثول فى حضرة السيدة الرئيسة والأولياء الأربعة أعضاء المجلس : سيدى إبراهيم الدسوقى ، وسيدى أحمد الشافعى ، وسيدى الرفاعى ، وسيدى أحمد البدوى ..
      بدا المكان فى عزلة عن العالم . غابت حتى أصداء الأصوات ، فلا أدرى موقعه . التف بضبابية شفيفة . اتسمت التفصيلات بالعمومية ، وإن أطلت تأمل الباب الخشبى الهائل الارتفاع ، القاعة الفسيحة ، يتوسطها حوض من الرخام ، تنبثق منه المياه ، الفانوس النحاس الهائل يريق ضوءه على الردهة المستطيلة ، الواسعة ، الأسقف والزوايا مجفتة بالنقوش المذهبة . المروحة المتدلية من السقف تصدر طنيناً خافتاً ، رتيباً ، السجاد الأحمر يمتص وقع الأقدام . علقت على الحائط لوحة نحاسية مستديرة هائلة ، مزينة برسوم منمنمة ، وساعة مستديرة ، بيضاء ، التقى عقربا الساعات والدقائق ، فلا يتحركان . على إفريز النافذة الحديدية الصغيرة ، المطلة على المنور ، صينية مستديرة فوقها قلل فخارية ..
      كنت إذا ضاقت بى الأمور ، لجأت إلى الحلم .
      ما أفشل أن أحياه فى الواقع ، أترك خيالى يفعله فى الأحلام التى أحاول صنعها ، أو اجتذابها . أخضعها لما أريد . أحاول ـ بالتركيز الشديد ـ أن أنقل إلى الأحلام ما ألاقيه فى الواقع . ما يستدعيه الحلم لابد أن يكون موصولاً بالصحو ، بالواقع ، على نحو ما . الشر ، الأماكن ، النبات ، الطير ، الحيوان . حتى الجان والعفاريت تتشكل لها فى نفوسنا صور مما نقرأه ، أو ترويه لنا الحكايات والحواديت ..
      قبل أن أروح فى النوم ، أركز فى ما أريد أن أعيشه داخل الحلم : اسم ، مكان ، أمنية . أضعه فى تكوينات وتشكيلات حتى يمتلئ به الذهن تماماً .
      الحلم عزلة خاصة ، جزيرة أحيا فيها بمفردى . أستقبل من يهمنى رؤيته ، من لى معه صداقة وصلة . أعيش فى الحلم علامات وإشارات ، حكايات كاملة ومبتورة ، واضحة أو يغلفها الضباب . أتوق لتحقيق ما لا أدرك ملامحه جيداً .
      الحلم مرآة لما عشته فى النوم . يصدر من داخلى . أحاول تفسيره لفهم ما يحدث فى أثناء النوم ، وانعكاسات الأيام القاسية . يختلف عن فتح المندل وقراءة الفنجان والغيب ووشوشة الودع والتنبؤ وضرب الرمل وغيرها مما لا أعرفه ، ولا شغلنى . أطيل فى الصحو . لا أنام قبل أن تبدو الأبواب مفتوحة . أطمئن إلى خطواتى ، وما أتوقع رؤيته . أركز على ما حدث ، وتوقعات تشغلنى . هى آخر ما أفكر فيه قبل أن أذهب للنوم . أعد لها مخيلتى ، فتطالعنى .
      صرت أحيا مع الأحلام ، وما تهب من رؤى تظل معى فى اليقظة . أحلم ، وأحلم . ربما تكرر جو الحلم ، لا الحلم نفسه ، أكثر من مرة . سرت فى شوارع أثق أنى رأيتها ، وشوارع لم يسبق لى رؤيتها . اختلطت الميادين والأسواق والحجرات ومحطات السكك الحديدية والمطارات والموانى والحدائق والقطارات وعربات الترام والسيارات والحنطور والأبواب والنوافذ والجدران والردهات المعتمة والمقابر والأضواء والظلال والأطياف والأماكن المغلقة والأصوات العالية والهامسة ، ما تقول كلمات محددة ، وما يغيب عنها المعنى . حلمت بالقدرة على الطيران ، السير فوق الماء ، التقاط الثمار من أشجار خرافية ، مخاطبة الحيوان والطير والنبات .
      لم يعد ما أعيشه مقصوراً على أحلامى . تظل فى داخلى وأنا أمشى ، وأجلس ، وأصيخ السمع ، وأتكلم . جعلت نفسى حالماً جيداً . الأحلام خلاص مما أعانيه فى الواقع . حتى ما يبدو متعباً ، أو مخالفاً لتوقعى ، أتجاوزه بالانغماس فى الحلم مرة ثانية ، وثالثة .
      إذا صحوت على ما أخشى تصوره ، أو حدوثه ، تلوت آية الكرسى ، والمعوذتين ، وتمتمت بالأدعية . اعتبر ما رأيته فى الحلم كأنه لم يكن . ربما لجأت إلى الشيخ عبده المغازى إمام مسجد سيدى نصر الدين . يجيد تعبير الأحلام وتفسيرها . أستعيد ما ظل فى الذاكرة من أحلام الليلة السابقة . كما جرت . لا أضيف إليها ، ولا أحذف منها . أعطيه إنصاتى . يتحدث عن تفسيره لما يطالعنى من أحلام . يكرر اسم ابن سيرين بما يدل على صحة التفسير . يعيد لى أحلامى بالمعانى التى لم أفطن إليها . يفسر ما أقصه من رؤيا بما أتوقع حدوثه فى الأيام التالية ، أو يتحدث عما لا أستطيع فهمه ، ولا أدرك كنه معانيه . يضفى الأضواء والظلال ، ويجسد ما التف بالشحوب .
      لجأت ـ فى البداية ـ إلى ما يفعله كل ولى بمفرده ، بلا حاجة إلى المحكمة الباطنية ، ترأسها رئيسة الديوان ـ رضوان الله عليها ـ يساعدها فى ما تقضى به أولياء الله الأربعة .
      أعرف أن الديوان يدير حياتنا . جعل لنفسه مسئولية رعايتنا ، وحل مشكلاتنا . حاولت أن أسير إلى حيث يكون . ألجأ إلى المحكمة الباطنية . هدنى اليأس من محاكم الدنيا . لم أظفر بالعدل ولا الإنصاف ، ولا من يهبنى إنصاته . أقف بين يدى الحضرة ، أو أضع مظلمتى فى أيدى المريدين والحجاب والأولياء . ما أتمناه أن يحكم سادة الديوان بينى وبين أعدائى بالعدل ، رفع الظلم الذى أعانيه . لا أريد ما ليس من حقى ، ولا ما هو حق لغيرى . تنقلت بين العديد من الجوامع والمساجد والزوايا . حتى الأضرحة والمقامات المتناثرة فى الخلاء سعيت إليها . قرأت فى السير والكرامات والمكاشفات والحقائق التى تغيب عن البشر العاديين . حدست أن الديوان يعقد جلساته أسفل مقام السيدة زينب ، فهى رئيسة الديوان . انتقل توقعى إلى مقامات الشافعى والرفاعى والدسوقى والبدوى . زرتها . تركت نفسى بين المتزاحمين ، همى أن أبوح بما أعانيه . رنوت إلى المقام ذى الجوخ الأخضر ، طرزت عليه خيوط مذهبة من الآيات القرآنية . لامست يداى القضبان المعدنية ، علقت عليها قطع من الثياب الداخلية لطالبات الشفاء والبرء من العقم . تهدج صوتى بطلب النصفة والمدد . قصرت ما أطلبه على قراءة الفاتحة ، ونصرتى على أعدائى .
      لما طالت جولاتى ، وأدركنى التعب ، خامرنى ما يشبه اليقين أن الديوان موضعه السماء ، حيث لا سبيل للوصول إليه بغير الدعوات والابتهالات ، والحلم ..
      الرجل أمام الباب وضع على رأسه عمامة ، وارتدى جبة من الجوخ الأخضر ، تحتها قفطان من الحرير ، به خطوط زرقاء . فى يده اليمنى مسبحة لا تفارقها دون أن يجرى بإصبعيه على حباتها ، وفى اليد اليسرى عصا من خشب الجميز . عيناه تبرقان من تحت حاجبين كثيفين ، وأخفى تضخم شفتيه بشارب كث .
      قلت :
      ـ أريد أن أعرض مظلمتى .
      قال :
      ـ أكتب ما تشكو منه ، وضعه على مقام أحد الأولياء ..
      وجرى بأصابعه المضمومة على الهواء :
      ـ أولياء الديوان يدرسون التظلمات المكتوبة ..
      أهملت صدوده . رفعت صوتى ، حيث أقف ، أنادى على الأولياء وراء الباب المغلق : أغيثينى يا رئيسة الديوان .. ياأم العواجز .. يا أمنا الرؤوم .. يا كريمة الدارين .. يا صاحبة الشورى .. أغثنى يا سيدى أحمد البدوى .. يا أبا اللسانين ، يا باب القبول ، يا أبا فراج . حررت الأسرى ففك قيدى .. يا قاضى الشريعة سيدى محمد بن إدريس الشافعى .. عرف عنك الاستجابة لمطالب النصفة والمدد .. يا أبا العينين يا دسوقى .. كراماتك ومكاشفاتك بلا حصر .. المدد يا أبا العلمين يا رفاعى ..
      عدت إلى مقامات الأولياء . أسلم نفسى لأمواج اللائذين بالمقام ، أو أقف أمام المقام وحيداً . ألصق خدى بالمقصورة النحاسية . أرفع يدى فى الهواء . أغترف ما يحيط به من بركات لا ترى ، أدسها فى جيبى . يعبرنى الواقفون حول المقصورة ، والساعون بالقرب منها . أهمس بالكلمات لحضرة الولى ، أناجيه ، أرفع إليه ما يرهقنى وأشكو منه . أدفع برسائلى من قضبان المقصورة النحاسية ، تختلط برسائل أخرى كثيرة ، متناثرة فى الأرضية .
      تملكنى قلق لعدم تحقق شىء مما منيت به نفسى . تعددت رسائلى ، وترقبت النصفة ، لكن الأيام توالت دون أن يبين الأفق عن منفذ .
      أدركت أنى ربما لا أحسن صياغة الرسائل . لجأت إلى شيخ يقترب من الستين ، ظللته مظلة من القماش الملون ، أقصى الرصيف المواجه لمبنى المحكمة الوطنية .
      أمليت على العرضحالجى العجوز مرامى ، وما أريد التعبير عنه . يكتبه بلغة تحسن المخاطبة . أرفعه إلى مقام حضرة الديوان . رجوت ـ يحدونى الأمل ـ أن يحضر الجلسة الشريفة أهل البيت ، أخص سيدى الحسن وسيدى الحسين ..
      ***
      أعرف أن صفاء النفس مدخل لكل ما أسعى إليه من خطوات ، للتخلص مما يشغلنى ، وأعانيه ..
      قال الشيخ المغازى :
      ـ لا صفاء للنفس ما لم تراقب السياسة الشرعية والسنة النبوية .
      حدثنى عن إهمالى وتقصيرى . طالبنى بمعالجة قصورى وزلاتى ، حتى ينفتح لى طريق الباطن . تعلق قلبى بالصفاء والنقاء ، وتطلع إلى الأمنيات السامية .
      نصحنى الشيخ أن أنشغل بالذكر الإلهى ، وأن أظهر ـ حتى بينى وبين نفسى ـ الرضا والقبول والإذعان . قال :
      ـ التضرع يفتح الطريق .
      نصحنى بالتضرع والتوسل والتماس النصفة والمدد ..
      روضت النفس على التعبد والمجاهدات والرياضات الروحية . أخلصت فى التضرع . انشغلت بذكر الله والتسبيح والتهليل والدعاء وتلاوة القرآن ، وختمه . أتلو سور ياسين والمزمل والأعلى والانشراح والقدر وقريش .
      شاركت فى موالد الأحمدية والرفاعية والبراهمة والقادرية والسعدية وغيرهم من أرباب الأشاير . أخترق الزحام والمواكب وخيام الصوفية وأكشاك الختان وحلقات الذكر وسرادقات السيرك ورواة السيرة والأدعية والابتهالات وغناء المنشدين وقرع الطبول والدفوف ..
      اخترت لأداء الذكر مسجد تربانة بشارع فرنسا . استندت إلى الدرابزين الخشبى ، وصعدت الدرجات المتآكلة . ملت إلى اليمين . الصالة المستطيلة فرشت أرضيتها بالحصير ، وتماوج ضوء الشارع من النوافذ ذات الزجاج المعشق ، الملون ، باللمبات الثلاث المتدلية من السقف ، وعلقت على الجدران آيات قرآنية ، ودعوات . أغلقنا النوافذ ، وأضأنا الشموع الموضوعة على الأرفف ، وفوق المكتبة لصق الجدار ، والطاولات ، والكراسى . بدأنا ـ ونحن قعود ـ بتلاوة الورد ، ثم قمنا إلى الذكر . انتظم صفا المنشدين ، من ورائهم صفوف الذاكرين . علا صوت الشيخ ـ فى المنتصف ـ ببدء الحضرة . رددت الأفواه لفظ الجلالة وعبارات الذكر والإنشاد ، على إيقاع التصفيق ، وتطويحات الأجساد والرءوس بالوجد والشوق ، حتى انطفأت الشموع تدريجياً ، وسادت الظلمة ..
      جلسنا فى مواضعنا ، نسلم النفس للدعة والسكون والتأمل ، نستعيد المنمنمات والتأثيرات ، نستغرق فى النشوة ، نمتص حلاوة الذكر ..
      ***
      تنهد الخادم ، وأظهر ما يشبه نفاد الصبر :
      ـ ماذا تطلب من هيئة المحكمة ؟
      قلت :
      ـ لا أستطيع حتى أن أكلمهم عما يعرفونه جيداً . إنهم يعرفون ما بكل رسالة قبل أن تتصفحها أعينهم ..
      ثم فى لهجة تأكيد :
      ـ إنهم أولياء الله !
      ـ هل تعرف أن وعد النذر يجب أن يسبق طلب النصفة ..
      وأشاح بيده :
      ـ عد بنذر تلتزم بتنفيذه .
      أعاد طرح العباءة على كتفيه . ضمها إلى صدره بأصابع متوترة . طوح بالعصا فى عصبية ، ومضى داخل الديوان ..
      ***
      داهمتنى الكوابيس فى أثناء النوم . دوامات قاسية من اللكمات والركلات ، لا أعرف كيف أتقيها ، وأصرخ من تأثيرها . يظل صراخى حتى يوقظنى من فى البيت . عرفت أن الوفاء بالنذر ينبغى أن يسبق ما أرجوه . ما حدث هو تنبيه ، قرصة أذن ، من الأولياء ..
      وفيت بما نذرته على نفسى من خدمة الأضرحة . كنست الأرضية بما لا أحصره من المناديل ، بما لا أذكره من السنوات ، خدمت الزوار بما وسعنى ، وزعت الفول النابت والفتة واللحم والماء البارد ، أديت ـ دون أن يطلب منى ـ دور المبلغ فى صلاة الجمعة ..
      طلب الخادم أن أبدل ما أقدمه من نذور إلى أولياء الله : الشموع وكسوة المقام والسجاجيد والحصر وأدوات النظافة . إذا قدمت الذبائح والطعام والنقود ، فهو ما يسعد الأولياء أن يوزع على فقراء المريدين والمحاسيب ..
      ***
      تكررت مطالب الخادم بما لا أقوى على تلبيته . شرطه لإتاحة الدخول على سادة الديوان ..
      رأيت أنى فى سوق أشبه بسوق راتب ، أو شارع الميدان : الزحام والأصوات المتلاغطة والمياه الآسنة ، ورائحة الزفارة والعطن . فتشت ، وانتقيت ، وساومت ، واشتريت . عشرات الأنواع من الخضر والفاكهة والسمك والطير ، والمخلوقات التى ذكرت أسماءها دون أن أعرف ما هى . زرت الصاغة وزنقة الستات وسوق الترك وصحراء المتراس وحلقة السمك والمذبح والمدابغ . ترددت على أسواق لا أعرفها . أبحث عما يسهل شراؤه ، وما يبدو كالمستحيل . عانيت فى التفرقة بين ذكر الحمامة وأنثاها ، البحث عن قط من سلالة فرعونية ، الحرص على دقة الخلط بين بخور المستكة والصندل والجاوى . حتى سوق الكانتو حاولت أن أجد فيها ما لم أجده فى سواها من الأماكن . عرفت متى توضع البضاعة فى صندوق أو قفص أو جوال ، أو فى داخل علبة أنيقة ، أو تلف فى كيس ورقى ..
      ***
      ظللت فى حيرتى . سرت فى مفازة العتمة دون مرشد أو قليل . تكرر سؤالى إن كان سادة الديوان قد ناقشوا مظلمتى . اكتفى الخادم بكلمات مدغمة ، لا تؤدى معنى محدداً ..
      لم أحاول التردد على أقسام الشرطة ، ولا الوقوف أمام أبواب المحاكم . يقينى أن الأمل فى سادة الديوان ، فى عدلهم غناء عن كل ما هو خارج المحكمة الباطنية . إنهم كالشمس للدنيا ، وكالعافية للبدن ..
      قال :
      ـ ادفع ما فيه القسمة ..
      ـ لم أتأخر فى تقديم كل ما طلبته منى ..
      ـ ما أطلبه ليس لى .. إنها طلبات أولياء الله ..
      قلت فى نفاد صبر :
      ـ الأولياء يغيثون الناس ولا يبتزونهم ..
      وهو يهز قبضته فى وجهى :
      ـ لا تخطئ فيسخطونك قرداً !
      لاحظت المسبحة التى أخذها ليهديها إلى الأولياء . مددت يدى أستعيدها . عاد بظهره إلى الوراء . قال : حصلت على ما فيه القسمة . هو البداية ، المدخل ، المفتاح ، للوفاء بالنذر . الماء لا يفوت على العطشان . لن يرضى أولياء الله أن تقدم لهم النذور دون أن ترضينى ..
      ركبنى العناد ..
      طوقت عنقه بيدى لأنتزع المسبحة . قاوم ، وزاد عنادى . ضغطت بآخر قوتى . لم تشغلنى حشرجاته المتألمة حتى سقط ، ساكتاً ، تحت قدمى ..
      أذهلنى ما حدث . لم أكن أعددت له نفسى ، ولا تصورته . ما فعلته من الكبائر ، فلن يقبل سادة الديوان مظلمتى . أدركت أنه من المستحيل أن تنصت المحكمة الموقرة لى ، أن تجد فى كلماتى ما يستحق الالتفات . قتلى للرجل بدل المعنى . صرت ظالماً لا مظلوماً ، فلا أستطيع أن أرفع إلى مقام الحضرة ما يقنعها من دفوع وتبريرات ..
      لكن البسمة الواسعة ، المشفقة ، احتوتنى ..
      أومأت العينان الباسمتان ، تأذنان لى بالدخول .

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        كاتب مسجل
        • Jun 2006
        • 1123

        #18
        رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

        ( 18 )
        *أطيـــــاف*
        .................

        لم أعد أدخل بالسيارة إلى الساحة الرملية . أقف على ناصية الشارع الضيق . أخترق الظلمة . أسير على قدمى . أخلف البيوت القصيرة المتلاصقة ، والساحة الرملية . أتعجل صدى الطرقات على باب بيت الريامى فى حضن الجبل .
        ينفتح الباب ، فيغمرنى الضوء . أعاود التأكد من إغلاق الباب وأنا أمضى ـ وراء سالم الريامى ـ إلى داخل الشقة . تأخذنا المناقشات ، نشرق ونغرب . يظل فى بالى ما رواه لى عن الأشباح التى تتحرك من مراقدها ، وتسير فى الظلمة ..
        كنت أحب الجلوس ، والتجول ، فى البيت ذى الحجرات الثلاث ، تذكرنى بسوق نور الظلام فى مطرح : الجدران المزينة بالسيوف والخناجر ومشغولات الفضة والسجاجيد الصغيرة والمسابح وزجاجات العطر والأوعية الخزفية الملونة وأوعية البخور والخرائط وصور القلاع والأبراج والحصون ..
        قال :
        ـ أحب التاريخ وما يتصل به .
        حين علا صوت سالم الريامى يحذرنى من العودة بالسيارة : ـ وراءك مقبرة ، تلفت ـ بتلقائية ـ من نافذة السيارة . الظلمة المتكاثفة لم تتح لى رؤية أى شىء ..
        شعرت بتململ الأرض تحت السيارة . كأن الأرض تضطرب ، كأنها تتهاوى من تحتى ، تبتلعنى . ثم سكنت . حدست أنه قد تحرك تحتها ما لم أتبينه .
        كيف لم أفطن ـ من قبل ـ إلى وجود هذه المقبرة ؟
        وجدت فى سالم الريامى ونساً وميلاً لمشاركتى كلام السياسة . نناقش ما نستمع إليه فى الراديو ، أو نقرأه فى الصحف . لا تستوقفنا قضية بالذات ، ما نلتقط خيطه نكره حتى يلتقى بخيط آخر ، أو يتشابك معه . ربما امتدت أحاديثنا ، نتكلم فى أحوال الجو ، وأسعار العملات ، ومباريات المصارعة الحرة التى يقدمها التليفزيون مساء كل جمعة .
        أتهيأ ـ بالتعب ، أو بتقدم الليل ـ للانصراف . المشوار طويل من الحمرية إلى سمائل ، حيث أقيم .
        قلت :
        ـ لماذا هنا ؟ ألا توجد مدافن ؟
        ـ كنا نحرص على أن يدفن الموتى بالقرب من أسرهم !
        كان سالم الريامى مدرساً فى المعهد الدينى بالوطية . تتناثر فى كلماته أسماء النبهانى والفراهيدى وصحار وجبرين ونزوى وبهلا وسمائل ومناطق أخرى تنتسب إلى التاريخ العمانى . يستعيد حكايات فى التاريخ ، يعرفها ، ولا أعرفها ، بالشخصيات والأحداث والتفاصيل التى ربما أهملها المؤرخون ، أو لم تستوقفهم طويلاً .
        يسحب كتباً من المكتبة الخشبية لصق الجدار ، وسط الحجرة ، ومن الكتب المكدسة فى زوايا الحجرة ، من الأرض إلى السقف . يقرأ أحداث أيام البرتغال ، ومقاومة العمانيين ، والقتلى الذين دفنوا فى مواضع موتهم . اقتحم جنود البرتغال بوابات المدينة : الباب الكبير ، الباب الصغير ، باب المثاعيب . امتد القتال إلى مطرح وروى والوادى الكبير والوالجة والحمرية ، حتى المدن البعيدة عن مسقط . دافع العمانيون من شارع إلى شارع ، ومن بيت إلى بيت . قاتلوا بالسيوف والبنادق والبلط ، بكل ما وصلت إليه أيديهم من سلاح . استعادوا ما استولى عليه البرتغاليون من أراض وحصون قلاع . ما استخدمه الجيش البرتغالى من أسلحة متقدمة ـ حينذاك ـ أتاح له أن يقتل الآلاف من العمانيين ، ويستولى ـ ثانية ـ على ما استرده المقاتلون العمانيون . توالت الأشهر والسنوات ، وهم يحاربون ، ويموتون ، دون أن يلقوا السلاح ، أو يعترفوا بالهزيمة . من يموت ، يدفن حيث هو بثيابه وسلاحه . مئات ، وربما آلاف ، القتلى ، دفنوا فى الساحة الترابية الواسعة . نقل لى رواية أبيه : قد يحزن الأسلاف ما يواجهه ـ فى دنياهم ـ الأبناء والأحفاد ، يخرجون لمناصرتهم حتى يقضوا على ما يعانون .
        ***
        هل كان ما رواه سالم الريامى دافعاً لما حدث ؟
        رأيت ـ وأنا أطل من نافذة السيارة ـ أشخاصاً يتحركون بين القبور الحجرية المتناثرة أعلى الجبل .
        أنا لا أومن بالأشباح ، ولا رؤية الأطياف والخيالات فى الليل .
        أرجعت ما رأيت لأنه حدثنى عن أطياف الموتى ، تغادر قبورها فى الليل ، تطل على الأحياء ، وتعنى بأحوالهم . يربط بين ما يراه ، وما ترويه الحكايات القديمة . تداخله سكينة ، تشوبها لحظات من التوتر . توالى الوقائع والتصرفات ، دون أن تسفر عما يؤذى .
        حيرته ـ فى البداية ـ ظواهر لا تفسير لها : اصطفاق أبواب ، تحرك أثاث من موضعه ، إضاءة الأنوار وإطفائها ، تعالى صيحات أو نداءات من مواضع لا يتبينها . لم يستتبع أية ظاهرة ضرر مادى من أى نوع . أهمل ما يراه ، أو يستمع إليه . ألف التعامل مع الأطياف . لاحظ أنها تختفى من الحجرة التى ينيرها ، أو التى يستضيف فيها من يسامره . هو ينير البيت أن احتاج إلى الراحة ، أو إذا تهيأ للنوم فى الليل . وإن صحا على الخوف من تحطم الأثاث ، الأصوات العالية ، المختلطة والمتشابكة ، تشى بحدوث شىء ما .
        ظلت تطالعه ـ فى الظلمة ـ كائنات غير واضحة ، وتترامى ـ من مواضع لا يتبينها ـ أصوات لم يسبق له سماعها .
        الأيدى التى لا يراها ، تنقل الأثاث من موضعه ، تأخذه إلى غير أماكنها فى حجرات البيت ، أو إلى الشرفة المطلة على الساحة الترابية ..
        لاحظ ـ ذات صباح ـ أن ضلفة دولاب الملابس مفتوحة . راجع ما بها ، فوجد كل شىء على حاله . تفقد ـ حين أتى الليل ـ داخل دولاب حجرة النوم ، وتحت السرير ، وخلف الأبواب ، وفى الطرقة المفضية إلى المطبخ والحمام .
        أغلق ـ بإحكام ـ باب حجرة النوم . ترك النور مضاء إلى الصباح . تحوط لانقطاع التيار الكهربائى ، بوضع شمعة وكبريت على الكومودينو المجاور للسرير .
        لم تعد تشغله ـ بتوالى الأيام ـ فكرة أن بشراً آخرين ـ يعرف أنهم موتى ـ أو كائنات لم يستطع تمييزها فى الظلمة ، يشاركونه الإقامة فى البيت . أدرك أنهم لا يقصدونه بالشر ..
        اعتاد اختفاء كتب من المكتبة الصغيرة ، أو من رصات الكتب ، وإعادتها إلى مواضعها . لا فوضى . يدرك اختفاء الكتب فى بحثه عنها ، فى المواضع التى يعرفها . يجول بنظره فى يوم تال . يجدها حيث كانت قد اختفت . تعلو أصوات سعال فى داخل البيت ، ومن الساحة الخلفية ، ومن ناحية المقابر . يترامى ـ كالهسيس ـ صوت الراديو . إغلاقه له فى يوم كامل ينبهه إلى أن الراديو فتح فى أثناء الليل . ثمة من حرصوا على سماع ما يشغلهم متابعته ، ثم نسوا الراديو مفتوحاً ، أو أنه صحا فانصرفوا قبل أن يغلقوه . تتقابل الكراسى ، أو تصنع دائرة ، فى الشرفة المطلة على الساحة الترابية الصغيرة فى وضع المناقشة ، كأنه قد جلس عليها من أمضوا الليل فى الحديث ، أو فى القراءة . يصحو على صوت ارتطام فى حجرة نومه ، أو فى الحجرة المجاورة . كل شىء على حاله . يثق أن الأطياف لا تقدم على فعل الأذى . ذلك ما تقدر عليه فى نومه ، هى تبحث عن شىء معين ، وتعيده . يفز لرؤية الملاءة تغطيه ، بعد أن نحاها أول نومه لحرارة الجو . بعد لحظات استعادة نفسه ، يدرك أنه لا يوجد ما يخيف .
        لم يعد يشغله صوت الأبواب وهى تفتح أو تغلق ، أو خرير الماء فى المطبخ ، أو هدير سيفون الحمام بما يعنى استخدامه .
        ربما وجد نور الحجرة المطلة على الواجهة مضاء . يطمئن إلى أنه أطفأ نور البيت . عدا لمبة صغيرة فى الطرقة الموصلة بين الحمام والمطبخ وبين بقية حجرات البيت . يثق العمانى ـ فى تصميم البيت ـ أن دورات المياه ملاذ للجان والعفاريت . يحرص أن يفصلها عن البيت . يضىء ما حولها ، فلا تتسلل المخلوقات النارية إلى بقية البيت . تحولت الأطياف إلى جزء من مألوف يومه ، يتحركون فى البيت منذ العشاء إلى ما بعد الفجر .
        ***
        هل كان ما يسمعه سالم الريامى فى الليل حقيقة ؟
        أمضيت زمناً لا أتردد على بيت الريامى . أستعيد ـ فى تكرار دعوته ـ أطياف الأسلاف ، وما رأيته بالفعل ..
        عدت بابتعاد الوقت ..
        تسلل إلى أنفى ما تصورته رائحة الموت ، ربما لأنى عرفت طبيعة الساحة التى أقف على حافتها .
        حاول أن يطمئننى بوقفته المتابعة ، داخل الشرفة المطلة على الشارع الترابى ، والساحة ، والجبل .
        عانيت الارتباك ـ ولعله الخوف ـ وأنا أعود بالسيارة إلى جانب الساحة ، حتى لا أسد الشارع الضيق . تجاهلت الخشخشة فى أسفل ، وإن حدست أنها لا تصدر عن أوراق شجر فى خلو المكان من الأشجار ..
        علت الخشخشة ، وما يشبه تساقط الأحجار فى الساحة الترابية أسفل الجبل . توالى انبثاق أطياف لا نهاية لعددها ، كأنهم قاموا فى حركة واحدة ، ملأوا الساحة ، عرايا ، أو لفوا أجسادهم بأردية عسكرية متهرئة . فى أيديهم بنادق قديمة وسيوف ودروع . لعلهم أوسدوها القبور إلى جوارهم . تكاثروا فى الساحة حتى امتلأت بهم تماماً . رءوس معلقة فى الهواء ، وأعين مسملة ، وأجساد بلا رءوس ، أو تمشى على قدم واحدة ، وأكتاف مبتورة الأذرع . يتجهون بأنظارهم إلى الأمام ، لا يلتفتون ، ويحيط بهم الصمت . كأن الأجساد المتقاربة ، والمتلاصقة ، أشجار فى مساحات لا نهاية لها .
        تملكنى الذهول لدقات طبول ـ لم أدرك مصدرها ـ ترامت من بعيد . انطلق الرصاص من بندقية طيف ، تبعها انطلاق الرصاص من بنادق الأطياف المتلاصقة .
        توالى إطلاق الرصاص ، فغطى الساحة وما حولها . علت دقات الطبول ، كأنها تريد نهايات المدى ..
        تراقص الأطياف بالبنادق والسيوف والعصى . أفسحوا وسط الساحة لطيف ، تدلى من صدره دف هائل ، توالى ارتفاع طرقاته عليه باشتداد حركات الراقصين ..
        بدا كأن الأطياف تتخذ تكوينات وتشكيلات ، ثم بدا كأنها تتحرك . تحركت إلى خارج الساحة ، غطت الشارع الضيق ، والبنايات على الجانبين ، وأسفل الجبل .
        تركت السيارة وعدوت ناحية بيت الريامى ..
        من وقفتى إلى جانبه فى النافذة المواربة ، شاهدت الأطياف تتجه ناحية الشارع الرئيس والشوارع الفرعية ، تتحرك فى خطوات بطيئة ، صامتة ، صفوف طويلة ، تمتد إلى غير نهاية .
        ظلت مساحة الأطياف تتسع ، وتتسع . ترافقها أصوات خشخشة وتكسير وهمهمات تشى بالتهيؤ لفعل ما .
        (تمت المجموعة)

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          كاتب مسجل
          • Jun 2006
          • 1123

          #19
          رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

          *مؤلفات محمد جبريل*
          ................................

          1 ـ تلك اللحظة ( مجموعة قصصية ) 1970 ـ نفد
          2 ـ الأسوار ( رواية ) 1972 هيئة الكتاب ـ الطبعة الثانية 1999 مكتبة مصر
          3 ـ مصر فى قصص كتابها المعاصرين ( دراسة ) الكتاب الحائز على جائزة الدولة ـ 1973 هيئة الكتاب
          4 ـ انعكاسات الأيام العصيبة ( مجموعة قصصية ) 1981 مكتبة مصر ـ ترجمت بعض قصصها إلى الفرنسية
          5 ـ إمام آخر الزمان ( رواية ) الطبعة الأولى 1984 مكتبة مصر ـ الطبعة الثانية 1999 دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية
          6 ـ مصر .. من يريدها بسوء ( مقالات ) 1986 دار الحرية
          7 ـ هل ( مجموعة قصصية ) 1987 هيئة الكتاب ـ ترجمت بعض قصصها إلى الإنجليزية والماليزية
          8 ـ من أوراق أبى الطيب المتنبى ( رواية ) الطبعة الأولى 1988 هيئة الكتاب ـ الطبعة الثانية 1995 مكتبة مصر
          9 ـ قاضى البهار ينزل البحر ( رواية ) 1989 هيئة الكتاب
          10 ـ الصهبة ( رواية ) 1990 هيئة الكتاب
          11 ـ قلعة الجبل ( رواية ) 1991 روايات الهلال
          12 ـ النظر إلى أسفل ( رواية ) 1992 ـ هيئة الكتاب
          13 ـ الخليج ( رواية ) 1993 هيئة الكتاب
          14 ـ نجيب محفوظ .. صداقة جيلين ( دراسة ) 1993 هيئة قصور الثقافة ـ الطبعة الثانية 2006 مكتبة مصر
          15 ـ اعترافات سيد القرية ( رواية ) 1994 روايات الهلال
          16 ـ السحار .. رحلة إلى السيرة النبوية ( دراسة ) 1995 مكتبة مصر
          17 ـ آباء الستينيات .. جيل لجنة النشر للجامعيين ( دراسة ) 1995 مكتبة مصر
          18 ـ قراءة فى شخصيات مصرية ( مقالات ) 1995 هيئة قصور الثقافة
          19 ـ زهرة الصباح ( رواية ) 1995 هيئة الكتاب
          20 ـ الشاطئ الآخر ( رواية ) 1996 مكتبة مصر ـ ترجمت إلى الإنجليزية ـ الطبعة الثالثة 2002 هيئة الكتاب
          21 ـ حكايات وهوامش من حياة المبتلى ( مجموعة قصصية ) 1996 هيئة قصور الثقافة
          22 ـ سوق العيد ( مجموعة قصصية ) 1997 هيئة الكتاب
          23 ـ انفراجة الباب ( مجموعة قصصية ) 1997 هيئة الكتاب ـ ترجمت بعض قصصها إلى الماليزية
          24 ـ أبو العباس ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1997 مكتبة مصر
          25 ـ ياقوت العرش ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1997 مكتبة مصر
          26 ـ البوصيرى ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1998 مكتبة مصر
          27 ـ على تمراز ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1998 مكتبة مصر
          28 ـ مصر المكان ( دراسة فى القصة والرواية ) 1998 هيئة قصور الثقافة ـ الطبعة الثانية 2000 ـ المجلس الأعلى للثقافة
          29 ـ حكايات عن جزيرة فاروس ( سيرة ذاتية ) 1998 دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية
          30 ـ حارة اليهود ( مختارات قصصية ) 1999 ـ هيئة قصور الثقافة
          31 ـ الحياة ثانية ( رواية تسجيلية ) 1999 ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية
          32 ـ بوح الأسرار ( رواية ) 1999 روايات الهلال
          33 ـ رسالة السهم الذى لا يخطئ ( مجموعة قصصية ) 2000 ـ مكتبة مصر
          34 ـ المينا الشرقية ( رواية ) 2000 ـ مركز الحضارة العربية
          35 ـ مد الموج ـ تبقيعات نثرية ( رواية ) 2000 ـ مركز الحضارة العربية
          36 ـ البطل فى الوجدان الشعبى المصرى ( دراسة ) 2000ـ هيئة قصور الثقافة
          37 ـ نجم وحيد فى الأفق ( رواية ) 2001 ـ مكتبة مصر
          38 ـ زمان الوصل ( رواية ) 2002 ـ مكتبة مصر
          39 ـ موت قارع الأجراس ( مجموعة قصصية ) 2002 ـ هيئة قصور الثقافة
          40 ـ ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ( رواية ) 2003 ـ روايات الهلال
          41 ـ حكايات الفصول الأربعة ( رواية ) 2004 ـ دار البستانى
          42 ـ زوينة ( رواية ) 2004 ـ الكتاب الفضى
          43 ـ صيد العصارى ( رواية ) 2004 ـ دار البستانى
          44 ـ غواية الإسكندر ( رواية ) 2005 ـ روايات الهلال
          45 ـ الجودرية ( رواية ) 2005 ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ الطبعة الثانية 2006 : مكتبة الأسرة
          46 ـ رجال الظل ( رواية ) 2005 ـ دار البستانى

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            كاتب مسجل
            • Jun 2006
            • 1123

            #20
            رد: النص الكامل لمجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

            * كتب عن المؤلف*
            ............................

            1 ـ الفن القصصى عند محمد جبريل ـ مجموعة من الباحثين 1985ـ مكتب منيرفا بالزقازيق
            2 ـ دراسات فى أدب محمد جبريل ـ مجموعة من الباحثين 1986ـ مكتب منيرفا بالزقازيق
            3 ـ صورة البطل المطارد فى روايات محمد جبريل ـ د. حسين على محمد 1999ـ دار الوفاء بالإسكندرية
            4 ـ فسيفساء نقدية : تأملات فى العالـم الروائى لمحمد جبريل ـ د . ماهـر شفيق فريد 1999ـ دار الوفاء بالإسكندرية .
            5 ـ محمد جبريل .. موال سكندرى ـ فريد معوض وآخرين 1999ـ كتاب سمول
            6 ـ استلهام التراث فى روايات محمد جبريل ـ د . سعيد الطواب 1999 ـ دار السندباد للنشر
            7 ـ تجربة القصة القصيرة فى أدب محمد جبريل ـ د . حسين على محمد 2001 ـ كلية اللغة العربية بالمنصورة ـ الطبعة الثانية 2004 ـ أصوات معاصرة
            8 ـ فلسفة الحياة والموت فى رواية الحياة ثانية ـ نعيمة فرطاس 2001 ـ أصوات معاصرة
            9 ـ روائى من بحرى ـ حسنى سيد لبيب 2001 ـ هيئة قصور الثقافة
            10ـ محمد جبريل ـ مصر التى فى خاطره ـ حسن حامد 2002 ـ أصوات معاصرة
            11 ـ سيميائية العقد فى رواية النظر إلى أسفل ـ د . عبد الرحمن تبرماسين والعطرة بن دادة 2004 ـ أصوات معاصرة
            12 ـ المنظور الحكائى فى روايات محمد جبريل ـ د . محمد زيدان 2005 ـ أصوات معاصرة
            13 ـ التراث والبناء الفنى فى روايات محمد جبريل ـ د . سمية الشوابكة 2005 ـ هيئة قصور الثقافة

            تعليق

            المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
            حفظ-تلقائي
            إدراج: مصغرة صغير متوسط كبير الحجم الكامل إزالة  
            أو نوع الملف مسموح به: jpg, jpeg, png, gif, webp

            رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

            صورة التسجيل تحديث الصورة
            يعمل...