رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل
ـ 15 ـ
احتدم النقاش بين الصاحبيْن، حين أخبرهما حمزة باختفاء الشيخ محمود. لم يلتقياه، إنما سمعا عنه. لا يعرفانه حق المعرفة. لكنهما أثارا قضية زوار الفجر الذين يقبضون على أشخاص دون تهمة أو محاكمة, تعرض أمين إلى قضيته الأثيرة، فتحدث مع صاحبه عن الديكتاتورية التي تتحكم في أقدار الرجال. بلد بلا ديمقراطية، لا وزن لها ولا قيمة. لابد من الرأي الآخر.. لابد..
طفق يحدثه محتدا، وهو يهوي بقبضة يده، من حين لآخر، على السطح الصدئ للمنضدة، فترتج رجا، كأنما تتوجع من المناقشة الساخنة. دافع فتحي عن الزعيم الذي يحبه، عن جمال عبد الناصر. أيده حمزة. قال إنه بطل العروبة، والانتصارات. سكتا عن النقاش ليستمعا إلى خطبة حمزة الحماسية. حدثهما عن اشتراكه في المقاومة الشعبية الباسلة في بور سعيد. استنفرته خطب الزعيم، فقيّد اسمه ضمن المتطوعين. ذهب إلى هناك بإرادته واختياره. لم يجبره أحد. أعاد على مسامعهما ما سبق أن قاله لهما ولجميع الناس عن إصابته برصاصة. رفع جلبابه ليكشف فخذه، يريهما أثر الندبة التي أحدثها الجرح. وكيف استخرجوا الرصاصة من لحمه. تحدث مزهوا.. قال:
ـ لا أنسى خطبته في الجامع الأزهر، وصرخته المدوية : "سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. ولن نستسلم أبدا..".
برغم كل شيء تمسك أمين بموقفه.. تشدد.. حتى يبدو لمن يرى الصاحبيْن، أنهما سيفترقان ولن يلتقيا بعد اليوم.. افترقا وكل متمسك بموقفه.. اكتسى وجهاهما بسحب قاتمة. حتى إنهما نسيا أن يحددا موعدا للقاء آخر، كما اعتادا في كل مرة..
التمس أمين طريق العودة إلى بيته، مكفهر الوجه. أحس أنه يعزف عزفا منفردا للحن لا يطرب أحدا. أما فتحي، فقد كره تعصب صاحبه ضد الزعيم الذي أحبه.. أحبه لمواقفه الصلبة، لمحاربته الاستعمار، لاعتزازه بالكرامة، لرغبته الأكيدة في تحرير شعبه من قوى البغي والعدوان. كما أن صاحبه انتقده لتصرفه غير اللائق مع ليلى. هو جامد الإحساس لا يدري لغة القلوب !
عاد فتحي إلى بيته متبرما من صاحبه. لكنه ـ أيضا ـ يلوم نفسه على تصرفه غير الأخلاقي، ومع مَنْ، مع أعز وأغلى البنات. إلا أن الندم لا يفيد بعد ما وقعت الفأس في الرأس.. كما أن ليلى ليست ملكه، إنها في أحضان رجل آخر، وفي بلد بعيد.. ما كان قد كان. عليه أن يتصالح مع واقعه ويدع أحلام اليقظة والانزواء والانطواء. عليه أن يواجه ذاته. هو يلوم نفسه لأنه أحب سعاد حين رآها أول مرة. صادفت هوى في نفسه، قبل أن تنطق بكلمة واحدة ! هل يتخاصم مع نفسه، أم يراجع تصرفاته ؟ التطهر مطلوب. مكاشفة النفس من الفضائل. أمين لا يستغني عنه. ما أكثر ما احتدما وتخاصما لكنهما يرجعان صاحبين، إلفين متلازمين. حدث نفسه عن خيوط الوهم التي ربطته بليلى، أو هذا الحب من طرف واحد ! إنه كتوم مع الآخرين، ثرثار مع أمين، كأن صاحبه مرآة يرى فيها نفسه، يراجع فيها هندامه، يهذب فيها مشاعره.. عيب أمين أنه لا يحب عبد الناصر.. لو أنه أحبه لأصبح خلا وفيا.. هذا عيبه. ليته يتخلص منه.. ليتك يا أمين تتخلص منه ! حدثه في هذا كثيرا فما ازداد إلا تشبثا واعتزازا بموقفه، واعتبرها قضيته التي لا يتنازل عنها، حتى لو انطبقت السماء على الأرض ! وفي المقابل يرى أن حبه لعبد الناصر لا يعادله حب، لنفرض أن هناك بعض الأخطاء لكنها تغتفر لوجه الزعيم الذي أحبه.. يعجب به لمبادئه ودعوته لوحدة الأمة العربية، وتصديه للعجرفة الاستعمارية، أليس هو صاحب المقولة : "على الاستعمار أن يحمل عصاه على كاهله ويرحل"..؟ أليس هو نصير الفقراء والبسطاء؟.. إنه من أسرة موظف بسيط، رفع جمال رأسه عاليا وجعل التميز بالعمل.. كان أجدى بأمين وأبوه معدم أن يؤيد الزعيم، وحاله الاجتماعي أصعب من حاله، أو كما يقول المثل " حاله يصعب على الكافر " !
تمضي الأيام، وفتحي يتعذب لما فعل. إنه لا ينسى. وتأتي الأيام بخبر ساءه، فقد ارتحلت أسرة ليلى من المنزل الذي يؤويهم، واستأجروا شقة في العجوزة. أجّرا المنزل بسبعة جنيهات كل شهر. أخيرا، أسدل الستار على الأسرة بكاملها. ودّعتها أمه خير ما يكون الوداع، وتبادلا الدعوات بالتزاور. أما أبوه فلم تسمح له ظروف عمله أن يشارك في مراسم التوديع. انطوى لائذا بغرفته، خجلا من نفسه. أحس أنه سيرتبك إذا صافح أم أحمد وأولادها، أو أنه سيتلعثم و تنكشف المكيدة..
لماذا لا ينوع في علاقاته بالأصدقاء ؟.. لماذا قدر عليه أن يلازم أمين ؟ لماذا لا يلتقي ثروت ومصطفى مثلما يلتقي أمين ؟ عرفت قدماه الطريق إلى مصطفى.. المكلوم في أخته..
أشياء كثيرة تغيرت في حياته. لم يعد هذا الشاب المستهتر الذي تسنح له الظروف بالتعرف على البنات، حتى نرجس حبه الأخير، حبه الصادق.. زهد في السؤال عنها.. ترى من يسأله بعد أخته، التي كانت حمامة السلام بينهما ؟ كانت تقول، تؤكد :
ـ اخترت لك نرجس أعز الصديقات لتكون زوجة، لا نزوة.
عاهدها بأن تكون محطته الأخيرة. لم تسترح لقوله "محطته الأخيرة".. فاعتذر لها وقال "حبي الأخير".. بدأ حبه لنرجس يغزو قلبه، ليس لأن أخته أملت عليه ذلك، إنما استشعر فيها البنت الطيبة الوفية.. لكن.. من يحمل رسائله إليها ؟ من غير سعاد يستأمنها على أسراره ؟
فوجئ بفتحي يأتيه من غير موعد. رحب به. قال وهو يهم بالجلوس:
ـ لماذا أطلقت لحيتك ؟
ـ أهملت حلاقتها لما ماتت أختي، وها أنا أهمل حلاقتها بعد ما فجعت في شيخنا.. الهم لما يكثر...
ـ لابد أن وراء الشيخ سرا خطيرا..
ـ لا خطير ولا حاجة.. كل ما هنالك أنه يفسر كلام الله، وهو خير الكلام.. فوجدوا فيما قال دعوة لعصيان الحاكم.. ونسوا أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. سمعت...
وأكمل بصوت مهموس حتى لا تسمعه الحيطان..!
ـ والعهدة على الراوي.. سمعت أنه سب عبد الناصر..
قال مصطفى متضايقا:
ـ دسيسة من حاقد.. أو ربما تكون إشاعة.. كثرت الأقاويل المتضاربة عن الشيخ.. قد سمعت أنه حددت إقامته في داره، لا يخرج منها ولا يزوره أحد. وفهم أهل البيت هذا التوجه فالتزموا بالحيطة حتى لا يتعرضوا للانتقام من السلطة..
قال فتحي:
ـ لعل المقصود منعه من إلقاء خطبة الجمعة..
وافقه مصطفى:
ـ كثرت الشائعات، ولم نعد نعرف أين الحقيقة ؟
عقب فتحي:
ـ على رأيك.. كثرت الشائعات..
فرك يديه كأنه يغتسل بالماء وهو حائر حزين.. ودعا الله أن يقيل الشيخ من عثرته.
ـ 15 ـ
احتدم النقاش بين الصاحبيْن، حين أخبرهما حمزة باختفاء الشيخ محمود. لم يلتقياه، إنما سمعا عنه. لا يعرفانه حق المعرفة. لكنهما أثارا قضية زوار الفجر الذين يقبضون على أشخاص دون تهمة أو محاكمة, تعرض أمين إلى قضيته الأثيرة، فتحدث مع صاحبه عن الديكتاتورية التي تتحكم في أقدار الرجال. بلد بلا ديمقراطية، لا وزن لها ولا قيمة. لابد من الرأي الآخر.. لابد..
طفق يحدثه محتدا، وهو يهوي بقبضة يده، من حين لآخر، على السطح الصدئ للمنضدة، فترتج رجا، كأنما تتوجع من المناقشة الساخنة. دافع فتحي عن الزعيم الذي يحبه، عن جمال عبد الناصر. أيده حمزة. قال إنه بطل العروبة، والانتصارات. سكتا عن النقاش ليستمعا إلى خطبة حمزة الحماسية. حدثهما عن اشتراكه في المقاومة الشعبية الباسلة في بور سعيد. استنفرته خطب الزعيم، فقيّد اسمه ضمن المتطوعين. ذهب إلى هناك بإرادته واختياره. لم يجبره أحد. أعاد على مسامعهما ما سبق أن قاله لهما ولجميع الناس عن إصابته برصاصة. رفع جلبابه ليكشف فخذه، يريهما أثر الندبة التي أحدثها الجرح. وكيف استخرجوا الرصاصة من لحمه. تحدث مزهوا.. قال:
ـ لا أنسى خطبته في الجامع الأزهر، وصرخته المدوية : "سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. ولن نستسلم أبدا..".
برغم كل شيء تمسك أمين بموقفه.. تشدد.. حتى يبدو لمن يرى الصاحبيْن، أنهما سيفترقان ولن يلتقيا بعد اليوم.. افترقا وكل متمسك بموقفه.. اكتسى وجهاهما بسحب قاتمة. حتى إنهما نسيا أن يحددا موعدا للقاء آخر، كما اعتادا في كل مرة..
التمس أمين طريق العودة إلى بيته، مكفهر الوجه. أحس أنه يعزف عزفا منفردا للحن لا يطرب أحدا. أما فتحي، فقد كره تعصب صاحبه ضد الزعيم الذي أحبه.. أحبه لمواقفه الصلبة، لمحاربته الاستعمار، لاعتزازه بالكرامة، لرغبته الأكيدة في تحرير شعبه من قوى البغي والعدوان. كما أن صاحبه انتقده لتصرفه غير اللائق مع ليلى. هو جامد الإحساس لا يدري لغة القلوب !
عاد فتحي إلى بيته متبرما من صاحبه. لكنه ـ أيضا ـ يلوم نفسه على تصرفه غير الأخلاقي، ومع مَنْ، مع أعز وأغلى البنات. إلا أن الندم لا يفيد بعد ما وقعت الفأس في الرأس.. كما أن ليلى ليست ملكه، إنها في أحضان رجل آخر، وفي بلد بعيد.. ما كان قد كان. عليه أن يتصالح مع واقعه ويدع أحلام اليقظة والانزواء والانطواء. عليه أن يواجه ذاته. هو يلوم نفسه لأنه أحب سعاد حين رآها أول مرة. صادفت هوى في نفسه، قبل أن تنطق بكلمة واحدة ! هل يتخاصم مع نفسه، أم يراجع تصرفاته ؟ التطهر مطلوب. مكاشفة النفس من الفضائل. أمين لا يستغني عنه. ما أكثر ما احتدما وتخاصما لكنهما يرجعان صاحبين، إلفين متلازمين. حدث نفسه عن خيوط الوهم التي ربطته بليلى، أو هذا الحب من طرف واحد ! إنه كتوم مع الآخرين، ثرثار مع أمين، كأن صاحبه مرآة يرى فيها نفسه، يراجع فيها هندامه، يهذب فيها مشاعره.. عيب أمين أنه لا يحب عبد الناصر.. لو أنه أحبه لأصبح خلا وفيا.. هذا عيبه. ليته يتخلص منه.. ليتك يا أمين تتخلص منه ! حدثه في هذا كثيرا فما ازداد إلا تشبثا واعتزازا بموقفه، واعتبرها قضيته التي لا يتنازل عنها، حتى لو انطبقت السماء على الأرض ! وفي المقابل يرى أن حبه لعبد الناصر لا يعادله حب، لنفرض أن هناك بعض الأخطاء لكنها تغتفر لوجه الزعيم الذي أحبه.. يعجب به لمبادئه ودعوته لوحدة الأمة العربية، وتصديه للعجرفة الاستعمارية، أليس هو صاحب المقولة : "على الاستعمار أن يحمل عصاه على كاهله ويرحل"..؟ أليس هو نصير الفقراء والبسطاء؟.. إنه من أسرة موظف بسيط، رفع جمال رأسه عاليا وجعل التميز بالعمل.. كان أجدى بأمين وأبوه معدم أن يؤيد الزعيم، وحاله الاجتماعي أصعب من حاله، أو كما يقول المثل " حاله يصعب على الكافر " !
تمضي الأيام، وفتحي يتعذب لما فعل. إنه لا ينسى. وتأتي الأيام بخبر ساءه، فقد ارتحلت أسرة ليلى من المنزل الذي يؤويهم، واستأجروا شقة في العجوزة. أجّرا المنزل بسبعة جنيهات كل شهر. أخيرا، أسدل الستار على الأسرة بكاملها. ودّعتها أمه خير ما يكون الوداع، وتبادلا الدعوات بالتزاور. أما أبوه فلم تسمح له ظروف عمله أن يشارك في مراسم التوديع. انطوى لائذا بغرفته، خجلا من نفسه. أحس أنه سيرتبك إذا صافح أم أحمد وأولادها، أو أنه سيتلعثم و تنكشف المكيدة..
لماذا لا ينوع في علاقاته بالأصدقاء ؟.. لماذا قدر عليه أن يلازم أمين ؟ لماذا لا يلتقي ثروت ومصطفى مثلما يلتقي أمين ؟ عرفت قدماه الطريق إلى مصطفى.. المكلوم في أخته..
أشياء كثيرة تغيرت في حياته. لم يعد هذا الشاب المستهتر الذي تسنح له الظروف بالتعرف على البنات، حتى نرجس حبه الأخير، حبه الصادق.. زهد في السؤال عنها.. ترى من يسأله بعد أخته، التي كانت حمامة السلام بينهما ؟ كانت تقول، تؤكد :
ـ اخترت لك نرجس أعز الصديقات لتكون زوجة، لا نزوة.
عاهدها بأن تكون محطته الأخيرة. لم تسترح لقوله "محطته الأخيرة".. فاعتذر لها وقال "حبي الأخير".. بدأ حبه لنرجس يغزو قلبه، ليس لأن أخته أملت عليه ذلك، إنما استشعر فيها البنت الطيبة الوفية.. لكن.. من يحمل رسائله إليها ؟ من غير سعاد يستأمنها على أسراره ؟
فوجئ بفتحي يأتيه من غير موعد. رحب به. قال وهو يهم بالجلوس:
ـ لماذا أطلقت لحيتك ؟
ـ أهملت حلاقتها لما ماتت أختي، وها أنا أهمل حلاقتها بعد ما فجعت في شيخنا.. الهم لما يكثر...
ـ لابد أن وراء الشيخ سرا خطيرا..
ـ لا خطير ولا حاجة.. كل ما هنالك أنه يفسر كلام الله، وهو خير الكلام.. فوجدوا فيما قال دعوة لعصيان الحاكم.. ونسوا أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. سمعت...
وأكمل بصوت مهموس حتى لا تسمعه الحيطان..!
ـ والعهدة على الراوي.. سمعت أنه سب عبد الناصر..
قال مصطفى متضايقا:
ـ دسيسة من حاقد.. أو ربما تكون إشاعة.. كثرت الأقاويل المتضاربة عن الشيخ.. قد سمعت أنه حددت إقامته في داره، لا يخرج منها ولا يزوره أحد. وفهم أهل البيت هذا التوجه فالتزموا بالحيطة حتى لا يتعرضوا للانتقام من السلطة..
قال فتحي:
ـ لعل المقصود منعه من إلقاء خطبة الجمعة..
وافقه مصطفى:
ـ كثرت الشائعات، ولم نعد نعرف أين الحقيقة ؟
عقب فتحي:
ـ على رأيك.. كثرت الشائعات..
فرك يديه كأنه يغتسل بالماء وهو حائر حزين.. ودعا الله أن يقيل الشيخ من عثرته.
تعليق