الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب

تقليص
X
  •  
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    كاتب مسجل
    • Jun 2006
    • 1123

    #16
    رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

    ـ 15 ـ

    احتدم النقاش بين الصاحبيْن، حين أخبرهما حمزة باختفاء الشيخ محمود. لم يلتقياه، إنما سمعا عنه. لا يعرفانه حق المعرفة. لكنهما أثارا قضية زوار الفجر الذين يقبضون على أشخاص دون تهمة أو محاكمة, تعرض أمين إلى قضيته الأثيرة، فتحدث مع صاحبه عن الديكتاتورية التي تتحكم في أقدار الرجال. بلد بلا ديمقراطية، لا وزن لها ولا قيمة. لابد من الرأي الآخر.. لابد..
    طفق يحدثه محتدا، وهو يهوي بقبضة يده، من حين لآخر، على السطح الصدئ للمنضدة، فترتج رجا، كأنما تتوجع من المناقشة الساخنة. دافع فتحي عن الزعيم الذي يحبه، عن جمال عبد الناصر. أيده حمزة. قال إنه بطل العروبة، والانتصارات. سكتا عن النقاش ليستمعا إلى خطبة حمزة الحماسية. حدثهما عن اشتراكه في المقاومة الشعبية الباسلة في بور سعيد. استنفرته خطب الزعيم، فقيّد اسمه ضمن المتطوعين. ذهب إلى هناك بإرادته واختياره. لم يجبره أحد. أعاد على مسامعهما ما سبق أن قاله لهما ولجميع الناس عن إصابته برصاصة. رفع جلبابه ليكشف فخذه، يريهما أثر الندبة التي أحدثها الجرح. وكيف استخرجوا الرصاصة من لحمه. تحدث مزهوا.. قال:
    ـ لا أنسى خطبته في الجامع الأزهر، وصرخته المدوية : "سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. ولن نستسلم أبدا..".
    برغم كل شيء تمسك أمين بموقفه.. تشدد.. حتى يبدو لمن يرى الصاحبيْن، أنهما سيفترقان ولن يلتقيا بعد اليوم.. افترقا وكل متمسك بموقفه.. اكتسى وجهاهما بسحب قاتمة. حتى إنهما نسيا أن يحددا موعدا للقاء آخر، كما اعتادا في كل مرة..
    التمس أمين طريق العودة إلى بيته، مكفهر الوجه. أحس أنه يعزف عزفا منفردا للحن لا يطرب أحدا. أما فتحي، فقد كره تعصب صاحبه ضد الزعيم الذي أحبه.. أحبه لمواقفه الصلبة، لمحاربته الاستعمار، لاعتزازه بالكرامة، لرغبته الأكيدة في تحرير شعبه من قوى البغي والعدوان. كما أن صاحبه انتقده لتصرفه غير اللائق مع ليلى. هو جامد الإحساس لا يدري لغة القلوب !
    عاد فتحي إلى بيته متبرما من صاحبه. لكنه ـ أيضا ـ يلوم نفسه على تصرفه غير الأخلاقي، ومع مَنْ، مع أعز وأغلى البنات. إلا أن الندم لا يفيد بعد ما وقعت الفأس في الرأس.. كما أن ليلى ليست ملكه، إنها في أحضان رجل آخر، وفي بلد بعيد.. ما كان قد كان. عليه أن يتصالح مع واقعه ويدع أحلام اليقظة والانزواء والانطواء. عليه أن يواجه ذاته. هو يلوم نفسه لأنه أحب سعاد حين رآها أول مرة. صادفت هوى في نفسه، قبل أن تنطق بكلمة واحدة ! هل يتخاصم مع نفسه، أم يراجع تصرفاته ؟ التطهر مطلوب. مكاشفة النفس من الفضائل. أمين لا يستغني عنه. ما أكثر ما احتدما وتخاصما لكنهما يرجعان صاحبين، إلفين متلازمين. حدث نفسه عن خيوط الوهم التي ربطته بليلى، أو هذا الحب من طرف واحد ! إنه كتوم مع الآخرين، ثرثار مع أمين، كأن صاحبه مرآة يرى فيها نفسه، يراجع فيها هندامه، يهذب فيها مشاعره.. عيب أمين أنه لا يحب عبد الناصر.. لو أنه أحبه لأصبح خلا وفيا.. هذا عيبه. ليته يتخلص منه.. ليتك يا أمين تتخلص منه ! حدثه في هذا كثيرا فما ازداد إلا تشبثا واعتزازا بموقفه، واعتبرها قضيته التي لا يتنازل عنها، حتى لو انطبقت السماء على الأرض ! وفي المقابل يرى أن حبه لعبد الناصر لا يعادله حب، لنفرض أن هناك بعض الأخطاء لكنها تغتفر لوجه الزعيم الذي أحبه.. يعجب به لمبادئه ودعوته لوحدة الأمة العربية، وتصديه للعجرفة الاستعمارية، أليس هو صاحب المقولة : "على الاستعمار أن يحمل عصاه على كاهله ويرحل"..؟ أليس هو نصير الفقراء والبسطاء؟.. إنه من أسرة موظف بسيط، رفع جمال رأسه عاليا وجعل التميز بالعمل.. كان أجدى بأمين وأبوه معدم أن يؤيد الزعيم، وحاله الاجتماعي أصعب من حاله، أو كما يقول المثل " حاله يصعب على الكافر " !
    تمضي الأيام، وفتحي يتعذب لما فعل. إنه لا ينسى. وتأتي الأيام بخبر ساءه، فقد ارتحلت أسرة ليلى من المنزل الذي يؤويهم، واستأجروا شقة في العجوزة. أجّرا المنزل بسبعة جنيهات كل شهر. أخيرا، أسدل الستار على الأسرة بكاملها. ودّعتها أمه خير ما يكون الوداع، وتبادلا الدعوات بالتزاور. أما أبوه فلم تسمح له ظروف عمله أن يشارك في مراسم التوديع. انطوى لائذا بغرفته، خجلا من نفسه. أحس أنه سيرتبك إذا صافح أم أحمد وأولادها، أو أنه سيتلعثم و تنكشف المكيدة..
    لماذا لا ينوع في علاقاته بالأصدقاء ؟.. لماذا قدر عليه أن يلازم أمين ؟ لماذا لا يلتقي ثروت ومصطفى مثلما يلتقي أمين ؟ عرفت قدماه الطريق إلى مصطفى.. المكلوم في أخته..
    أشياء كثيرة تغيرت في حياته. لم يعد هذا الشاب المستهتر الذي تسنح له الظروف بالتعرف على البنات، حتى نرجس حبه الأخير، حبه الصادق.. زهد في السؤال عنها.. ترى من يسأله بعد أخته، التي كانت حمامة السلام بينهما ؟ كانت تقول، تؤكد :
    ـ اخترت لك نرجس أعز الصديقات لتكون زوجة، لا نزوة.
    عاهدها بأن تكون محطته الأخيرة. لم تسترح لقوله "محطته الأخيرة".. فاعتذر لها وقال "حبي الأخير".. بدأ حبه لنرجس يغزو قلبه، ليس لأن أخته أملت عليه ذلك، إنما استشعر فيها البنت الطيبة الوفية.. لكن.. من يحمل رسائله إليها ؟ من غير سعاد يستأمنها على أسراره ؟
    فوجئ بفتحي يأتيه من غير موعد. رحب به. قال وهو يهم بالجلوس:
    ـ لماذا أطلقت لحيتك ؟
    ـ أهملت حلاقتها لما ماتت أختي، وها أنا أهمل حلاقتها بعد ما فجعت في شيخنا.. الهم لما يكثر...
    ـ لابد أن وراء الشيخ سرا خطيرا..
    ـ لا خطير ولا حاجة.. كل ما هنالك أنه يفسر كلام الله، وهو خير الكلام.. فوجدوا فيما قال دعوة لعصيان الحاكم.. ونسوا أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. سمعت...
    وأكمل بصوت مهموس حتى لا تسمعه الحيطان..!
    ـ والعهدة على الراوي.. سمعت أنه سب عبد الناصر..
    قال مصطفى متضايقا:
    ـ دسيسة من حاقد.. أو ربما تكون إشاعة.. كثرت الأقاويل المتضاربة عن الشيخ.. قد سمعت أنه حددت إقامته في داره، لا يخرج منها ولا يزوره أحد. وفهم أهل البيت هذا التوجه فالتزموا بالحيطة حتى لا يتعرضوا للانتقام من السلطة..
    قال فتحي:
    ـ لعل المقصود منعه من إلقاء خطبة الجمعة..
    وافقه مصطفى:
    ـ كثرت الشائعات، ولم نعد نعرف أين الحقيقة ؟
    عقب فتحي:
    ـ على رأيك.. كثرت الشائعات..
    فرك يديه كأنه يغتسل بالماء وهو حائر حزين.. ودعا الله أن يقيل الشيخ من عثرته.

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      كاتب مسجل
      • Jun 2006
      • 1123

      #17
      رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

      ـ 16 ـ

      نهض من نومه فزعا، إثر حلمه المتكرر. انهار النفق. تهاوت أحجاره. لم ينبئه الحلم عن تشققات تنذر بكارثة محتملة، إنما أفزعه بالانهيار الكامل. التراب المنبعث دخانا حجب عنه رؤية المشهد. قام يرتجف. نطق بالشهادتين، ثم أوقد شمعة. جلس في ضوئها الشاحب، متدثرا ببطانية، ما بين اليقظة والمنام.. لم يكمل نومه.. أعمل الفكر في الكابوس الذي يأتيه بصورة متكررة. تنصت والليل ينتصف إلى كلمات هامسة بين اثنين. نهض مرتابا. هل يحلم من جديد ؟ ارتدى الطاقية والكوفية وخرج، فرأى عن بعد شبحين يسيران تحت النفق. تسمّر مكانه مستغربا، فما عهد رِجْلا تسير في مثل هذا الوقت إلا عسكري الدورية، كل ساعة أو ساعتين. نادرا ما كان يقطع النفق بخطواته الرتيبة. عند انتصاف الليل يلجأ إلى ركن يلوذ به اتقاء لسعات البرد. تتبعت عيناه الخطوات. غريب أمر الاثنين، يسيران في الليل الدامس، والشوارع خالية تماما من المارة. رجع إلى غرفته يحتمي فيها من برد الليل. لم يشأ إضاءة المصباح، حيث اعتاد أن ينام في الظلام، مكتفيا بشمعة يوقدها وهو راقد على السرير. نادرا ما كان يضئ المصباح الكهربائي. يستعمله أول الليل حتى ينام. وإذا قلق بعد ذلك يضئ الشمعة. ما هي إلا دقائق معدودات، ثم طاوعته قدماه ليخرج، كي يتحسس النفق. ربما حدث ما لا تحمد عقباه. لم يجد شيئا. النفق قائم في مكانه كالجبل الأشم. سار في اتجاه المنتصف. ما هي إلا خطوات قليلة حتى لمح الشبحين يقفان في منتصفه، وقد اتخذا الليل ستارا. احتضن الشاب فتاة متحسسا مفاتنها. كانا في وضع مشين.. لك الله يا نفق المنيرة. هل صرت موطئا لكل من هب ودب ؟ هل أصبحت مكانا للدعارة ؟ نكص على عقبيه مسرعا، دون أن يسمع له صوت، وأحضر العصا الطويلة. كتم أنفاسه وهو سائر عائدا إليهما، مفاجئا الاثنين بضربات متتالية موجعة، صارخا بقوة:
      ـ هي البلد ناقصة ؟
      صعقا من هول المفاجأة. أحسا بشبح يهبط من السماء. ظنت البنت أنه عفريت. صرخت وجرت هلعا. جرى الشاب في أثرها، هاربا من لسعات العصا. وقف الرجل وقفة صلبة خوفا من أن يرجعا لممارسة الرذيلة. وإذا بصوت الشرطي يقبل نحوه حين سمع الصراخ. سمع صوت حذائه الميري يدب على الأرض، وصوته ينادي:
      ـ من هناك ؟
      ـ أنا حمزة يا شاويش..
      اقترب منه.. استطرد:
      ـ قلة أدب.. بنت وولد يمارسان الرذيلة في نص الليل. ماذا لو أضاءت الحكومة لمبة أو فانوسا؟
      رجع مع الشرطي الذي استأنس به فأكمل معه وردية الليل. دعاه لشرب الشاي، فلبى الدعوة. جلس في الغرزة يحتمي فيها من البرد، ويأنس برفقته. انتهز الفرصة وحكى له الحلم المزعج المتكرر، عن انهيار النفق. قال:
      ـ يمكنك يا شاويش إبلاغ المسئولين للكشف على النفق.. يمكن الحلم نبوءة لمأساة جديدة محتملة..
      ـ مجرد حلم.. مستحيل أن ينهار النفق.. لن يصدقني أحد..
      قال حمزة:
      ـ ومن كان يصدق أن التروللي سيقع في النيل ؟ قلبي لا يطاوعني يا شاويش..
      ـ خليها على الله
      ـ ونعم بالله
      استمتع الشرطي بصحبته. امتد بينهما الحديث في أمور شتى، حتى سمعا صوت المؤذن يأتي من مسجد زيدان والمساجد القريبة. استأذن قائلا:
      ـ ليتك تلقي نظرة إلى النفق، ربما رجع الملعونان..
      ـ خلاص.. الفجر طلع والدنيا أمان..
      ودع رفيق الليل، وتوضأ لصلاة الصبح، ثم خرج يتبين النفق، ويتحسس جداره. رآه ليلا في صورة ضبابية لا تكشف عن شيء. عندما يتنفس الصبح، ينحسر ضباب الليل، وتنقشع غيومه. الصورة الآن أوضح. تأكد له أن النفق نظيف، خال من الأرجل الفاسقة، وأنه سليم !.. تنهد في راحة من قلق مستبد !..

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        كاتب مسجل
        • Jun 2006
        • 1123

        #18
        رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

        ـ 17 ـ

        توجه إلى مسجد زيدان ليصلي الجمعة. لن يعتلي الشيخ محمود المنبر، لن يؤم المصلين. أنصت للخطيب الجديد، الموفد من وزارة الأوقاف. كان حذرا في كلامه الموجز. ركز في خطبته على طاعة ولاة أمورنا، فطاعتهم واجبة. وأنهى الخطبة القصيرة بالدعاء للمسلمين، ولزعيم البلاد أن يحفظه ويعينه في تحمل أعباء الحكم. كأن الشيخ الجديد يقرأ من ورقة مكتوبة، يتعجل النزول من على المنبر. لكَ الله يا شيخنا العزيز.. أين أنت الآن ؟ تُرى، هل تلزم دارك كما يقول البعض ؟
        أمّ الشيخ أهل الدار، زوجته وأمه وأولاده الثلاثة لصلاة المغرب، بعد أن فرغوا من الصلاة، انصرفت الزوجة لإعداد العشاء، وانصرف الأولاد يستذكرون دروسهم، بينا جلست الأم على الكنبة البلدي تدعو الله أن يزيل الكربة ويكشف الغمة. انزعجت لصوت طَرْق على الباب. قلقت الزوجة. خرجت من المطبخ إلى الصالة. الشيخ يتجه ناحية الباب، إلا أن زوجته نبهته ألا يترك غرفته حتى تنجلي الأمور. لم تتردد الأم المسنة في الاتجاه إلى الباب، وإن سيطر الخوف عليها. سألت:
        ـ من بالباب ؟
        ـ أريد الشيخ..
        ـ اترك اسمك في ورقة وسنبلغه حين يعود..
        ـ أنا واثق أنه موجود.. لا داعي للإنكار يا حاجة.. أنا لست مخبرا.. أنا من مريدي الشيخ.. هل تحرمينني لقاءه ؟
        ثم تناهى إليه صوته الحبيب:
        ـ أدخليه.. إنه مصطفى..
        قالت الأم الرؤوم همسا، وهي تفسح له الطريق:
        ـ ألا تخشَى أن تكون مراقبا ؟
        ـ لا يهمني..
        قال الشيخ:
        ـ أخاف عليك..
        ـ وأنا قلق عليك..
        ـ الحمد لله.. أستغل وقتي في الاستزادة من معاني القرآن، وإعادة قراءته المرة بعد المرة. كلما قرأت أحسست في الآيات عذوبة وحلاوة، كأني أقرؤها لأول مرة.. كما شغلتني السيرة النبوية العطرة، صلى الله على صاحبها وسلم.
        ـ بودي أن أسألك، إذا سمحت لي..
        ـ تفضل..
        ـ مم تعيش ؟
        ـ أولاد الخير كثيرون..
        قال مصطفى مطيبا خاطره:
        ـ شدة وتزول.. المؤمن مصاب سيدنا الشيخ..
        ـ من أكون أنا ؟ هل نسيت ما فعلوه بالشيخ الباقوري ؟ فرضوا عليه عزلة نتيجة وشاية أو وشايات، وانصرف عنه الصحاب وأصحاب الحاجات. أشاعوا عنه أنه منحرف السلوك. أعوذ بالله مما يرجفون. ألزموه داره وجردوه من مناصبه. أبعدوه عن الوزارة وأتوا بآخر. كان ذلك منذ سنوات عديدة..
        ـ يخيل إليّ يا شيخنا أن الأخيار ينكل بهم، وحفظة القرآن والدعاة ترصدهم العيون..
        ـ إنهم يدّعون أن السياسة لا صلة لها بالدين، لكن.. تطرفوا في سوء ظنهم بالناس..
        إلا أن الشيخ الباقوري لم يعدم الخل الوفي الذي لم يأبه بالحاكم، فزار صديقه مخففا عنه مصابه. وفي هذا قال لمعي المطيعي في الجزء الثاني من كتابه " هؤلاء الرجال من مصر " : " إن المهندس أحمد الشرباصي أصر في وفاء نادر على أن يزور صديقه وبصفة متصلة، وأبلغ ذلك للسلطان الذي تظاهر بالموافقة وأثنى على وفاء الشرباصي ".
        حين همّ بالاستئذان، نصحه الشيخ قائلا:
        ـ لا تحاول أن تكرر الزيارة، حتى لا يضعون اسمك في القائمة السوداء.
        احتضن الشيخ والدموع تترقرق في عينيه.. سأله إن كان في حاجة إلى شيء.. ثم أعطاه أمانة، أرسلها له أحباؤه ومريدوه.. مبلغا من المال يكفي لإعاشته شهرا أو أكثر.. تردد في أخذه، لولا إلحاح مصطفى الذي قال:
        ـ من خيرك وعطائك.. الكل يذكرك بالخير، ويحبك..

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          كاتب مسجل
          • Jun 2006
          • 1123

          #19
          رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

          ـ 18 ـ

          ما أكثر تردد الأسطى سيد على بيت حسين النجار، يطلب منه التدخل كي يواظب مصطفى على عمله. لم يكن لدي الأب حيلة. ما أكثر نصائحه بأن الحزن لن يعيد إلينا أحباءنا. قال مصطفى :
          ـ بصراحة.. مللت العمل مع "الجزمجية".
          ـ مضى عامان على شغلك مع الأسطى سيد. أنت الذي ارتضيت هذه المهنة ولم ترض العمل معي في النجارة. أنت الذي أحببت هذه المهنة..
          ـ كنت أحبها...
          تدخلت الأم قائلة لزوجها:
          ـ عندي حل.. يتعلم النجارة في ورشتك وتبقى الورشة ـ بعد عمر طويل ـ ورشته..
          بادر مصطفى بالموافقة.. تنهد الأب حاسما الأمر مع ابنه:
          ـ على بركة الله.. من بكرة تنزل معي..
          ـ لك عندي أكون في الورشة في الثامنة صباحا..
          التفت الأب إلى زوجته:
          ـ أما الأسطى سيد.. فهو "يشتري خاطري".. الأفضل أعتذر له، وأقول له الحقيقة..
          زارهم سيد دون موعد، بعد يومين من زيارته الأولى. رحب به حسين. أجلسه بجانبه، ربت على ظهره، شاكرا تفضله بالزيارة..
          ـ كنت على وشك زيارتك.. سبقتني بالفضل..
          رتب كلمات اعتذار، لكن سيد لم يمهله..
          ـ يهمني مصلحته..
          فاجأهم مصطفى الذي عاد لتوه من الخارج محترق الأعصاب، ملتهب الأحاسيس. علا صراخه:
          ـ ظلم.. ظلم.. ظلم..
          وجم الاثنان. عملا على تهدئته كي يفهما الموضوع.. قال بصوت مخنوق:
          ـ علمت أن الشيخ محمود اعتقل..
          حين عاد إليه هدوءه، نقل ما سمعه من زوجته...
          بعد أن صلى الفجر في بيته، سمع طرقا على الباب. فتحت الزوجة فدخل ضابط واثنان من العسكر. قال الضابط : "لديّ أمر بالقبض على محمود عبد الرازق ..". همت بالصراخ فنهرها الضابط برفق.. أشار بكفه على رقبته، أي أن جزاء الصوات هو القتل بلا رحمة. كتمت الزوجة صوتها وهي تنتفض..
          خرج الشيخ بعباءته واقتادوه في عربة جيب إلى حيث لا يدري أحد مكانه، وخلّف زوجة تبكيه وأولادا صغارا يصرخون ويبكون..
          نكس حسين وسيد رأسيهما. ران على مجلسهما صمت قاتل. طفقا يطيبان خاطر مصطفى، يخففان عنه همومه..

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            كاتب مسجل
            • Jun 2006
            • 1123

            #20
            رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

            ـ 19 ـ

            عند انصرافه من المدرسة، قرر العودة بمفرده، لتغيب أمين اليوم. لم تكن لديه رغبة في اصطحاب ثروت ـ كالمعتاد ـ حتى منتصف الطريق، إلا أنه فرض نفسه حين التقاه. لديه شحنة هائلة من الخواطر والأحاسيس لا يأتمن عليها أحدا سوى أمين، برغم خصومتهما الفكرية، التي ظهرت بوضوح عند لقائهما مع حمزة. بدأ ثروت حديثه بشكواه من أنه لم يفتح كتابا. قال فتحي متضاحكا:
            ـ اطلع منها..
            استرسل يحكي مغامراته العاطفية مع البنات، والكتب الصفراء التي أدمن قراءتها. ذكر فتحي ما قاله حمزة عن شاب وفتاة، والعلقة الساخنة التي تلقياها منه في منتصف الليل. صمت صاحبه للمفاجأة. ظن أنه يكشفه، فقال مندفعا:
            ـ أنا المقصود..
            ـ أنت ؟
            قال مهونا:
            ـ بعقله خلل. أنا غيّرت المكان.
            ـ أين ؟
            ـ الأماكن كثيرة.. تحت السلم، أو عند سور مستشفى الحميات، أو الأرض الخلاء المجاورة للنفق..
            أوقفه عند ركن، ليريه صورا فاضحة.. علق فتحي:
            ـ لو شافها عم حمزة، كان خنقك..
            دس الصور في جيبه، مبديا استياءه:
            ـ هل يرى نفسه مصلحا اجتماعيا ؟ حمزة شبع من الدنيا.. نحن شباب صغير، نريد أن نتمتع ونأخذ حظنا..
            ـ هل تواجهه ؟
            ـ لا يا عم.. أستأذن.. وأكمِلْ سكتك لوحدك..
            مر على حمزة الجالس على كرسي فألقى عليه التحية، وعرج على المنيرة، قاصدا أمين يسأل عن سبب تغيبه. أفرغ ما في جعبته من حكايات تخصه. لم ينس أن يحكي حكاية ثروت الذي شبع ضربا هو وعشيقته ! مر أمين بفترة تراخ وتكاسل عن الذهاب إلى المدرسة. شكا لصاحبه من المذاكرة. كثيرا ما تتوه منه السطور ويشرد في الدنيا..
            اتفقا على زيارة مصطفى الذي اختفى عنهما. رحب بهما وروى لهما عن اعتقال شيخه. تطرق الثلاثة إلى الظلم الذي حاق به. ولما استيقظ حسين من نوم الظهيرة، أحب أن يجالسهم، ناصحا إياهم بعدم الخوض فيما جرى للشيخ مع أحد.
            رجع عصرا ونام وهو يمني نفسه بالمذاكرة في المساء، فالنصف الأول من العام قارب على الانتهاء. من المهم أن يذاكر، ويحصل على مجموع كبير، تعويضا عن السنة التي أعادها. صادف عثمان قرب عتبة البيت، فنكس رأسه متحاشيا النظر إليه.
            أقلق نومه صوت حديث متبادل بين أبويه، يتأرجح بين الهمس غير المسموع، والحدة التي تقترب من الزعيق. تنصّت قدر جهده. أبوه يعرض بيع البيت ويستأجر شقة، حتى ينهي الضائقة المالية التي تنغص عليه حياته.. ويدفع أقساط البيت المتأخرة سنة كاملة، ويسدد الديون المتراكمة. الأم تحذره من بيعه، فالبيت " يؤوينا جميعا " ـ على حد قولها ـ والأولاد السبعة لن تسعهم شقة مؤجرة. عرضت الذهاب إلى أخيها تطلب منه مبلغا من المال. اكتفى بما سمع، وأجفل عينيه. شرد به الخاطر إلى ما يعانيه أبوه. فلماذا يهمل في دراسته ؟ لم يشعره أبوه بقسوة المعيشة بدخل متواضع. إنهما يعانيان في صمت مذهل ! لماذا يضيع الوقت ؟ أمه الحانية تحدب عليه، كلما رأته منكبا على دروسه تسأله إن كان يريد شايا، وتظل ساهرة ترعاه. هو الابن البكر الذي انعقدت عيه الآمال.
            أمين مكافح مثله. لكن الحظ العاثر لازمه فرسب في الثانوية العامة. وثروت لاهٍ مستهتر. أما مصطفى فقد صدم مرتين.. الأولى في غرق أخته، والثانية في اعتقال مريده الشيخ.. أفاق لواقعه الجديد.. وبعد أن كان يعوض عدم استكمال تعليمه بالتعرف إلى البنات اللاتي يتقاطرن على محل إصلاح الأحذية والصنادل، اكتفى بنرجس أملا يراوده في الزواج منها. لكن فتحي غير متأكد من مشاعر مصطفى تجاه حبيبته. لم تأت مناسبة للحديث معه في هذا. حتى نرجس نفسها قدّرت أحزانه ولاذت بالصمت. هي الأخرى فجعت في صديقتها وزميلتها. المصاب مصابها أيضا.
            أما أنت يا فتحي.. إنك تحب من طرف واحد. كأنك تجري وراء سراب. لم تشأ أن تصارح من تحب بمكنونات فؤادك. ليلى أحببتها من طرف واحد. يبدو أن الجيرة دافعك للتعلق بها. وإذا كانت جارتك ليلى أخرى، لهمت بها شوقا، وتبتلت بحبها. وسعاد، حين وقع بصرك عليها أول مرة، وقعت في حبها، ولم تبرأ بعد من حبك لليلى ! تعلقت بسعاد، ونسيت حبك لليلى ! إن ينسَ فلا ينسى تعليق أمين اللاذع على غرامياته:
            ـ كلما رأيت بنتا أو عرفتها، أعجبت بها وأحببتها..
            تعبير ساخر أفاقه من حالة الحب التي يعيشها في الخيال ! ليلى تزوجت وسافرت مع زوجها إلى بلده، فماذا جرى للدنيا ؟ لا شيء. الدنيا تسير في فلكها المرسوم. وماذا عن حياته ؟ هل مات من قسوة البعاد ؟ هل احتج لبعادها وأضرب عن الطعام ؟ هل سهرت عيونه لم تنم ؟ لم يحدث شئ من هذا، وسارت الحياة. دع عنك كل هذا. انظر إلى حال أبويك. ما سمعته عن ضائقتهما المالية يجعلك تفكر في تغيير المسار. هل تستطيع ؟

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              كاتب مسجل
              • Jun 2006
              • 1123

              #21
              رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

              ـ 20 ـ

              تشبث بالفرصة المواتية، حين قال أبوه كلمة عارضة:
              ـ أتمنى أفرح بك..
              وقالت أمه في لهفة:
              ـ نفسي ومنى عيني..
              بادرهما:
              ـ أنا فعلا أفكر في الزواج.
              نظر بطرف عينه إلى زوجته الثكلى، قائلا:
              ـ اختاري له يا ست الكل..
              ـ ربنا يجبر بخاطرك.. مصطفى يستأهل أحلى البنات..
              سألها وهو يتحسس شاربه:
              ـ من ؟
              ـ ليس هناك سواها.. فاطمة بنت عمه..
              ـ أتمنى..
              وجم. اكفهر وجهه. قال في حسم:
              ـ أنا اخترت واحدة ثانية..
              ـ أهناك بنت أحلى من بنت عمك ؟
              نكس رأسه، مثبتا عينيه في الأرض:
              ساد صمت مشوب بالذهول، قطعه الأب قائلا:
              ـ يعني بنت عمك وحشة..
              ـ يا بخت من يتزوجها. لكن الموقف عندي مختلف. أنا...
              بعد تردد طويل:
              ـ أنا أعامل فاطمة كأختي..
              بعد صمت محير، قال بلهجة قاطعة:
              ـ أنا اخترت نرجس..
              قبل أن يدافع عن اختياره، بادرت الأم:
              ـ فكرتني بالمرحومة.. كانت صاحبتها الروح بالروح..
              وانبجست دمعتان جائرتان، خيم بعدها صمت حزين !
              رفع رأسه متشجعا وقال:
              ـ لا تنسوا أن أختي اختارتها لي..
              جلست بجانبه واحتضنته، متنازلة عن رغبتها. وجم الأب وقد أخرسه تبدل الحال. استسلم، وقد شاب تفكيره بعض التردد. قال:
              ـ أنا لا أعرف أسرتها، ومستواها الاجتماعي بالنسبة لنا...
              ـ هي تحبني وأنا أحبها..
              أشرق وجه الأم بابتسامة الرضا. قال الأب:
              ـ على بركة الله.. ويفعل الله ما يشاء..
              أحس بسعادة غامرة. اختلى بنفسه، مستلقيا على السرير، يستدني طيف أخته، حين تمنت أن يتزوج نرجس، واثقة أنها ستغير من طباعه وتحوله إلى إنسان آخر. نعم، صدقت سعاد فيما قالت. إنه يتشبث بها، يراها عالمه الأثير. انصرف عن اللهو التافه، وارتضى بها حبيبة. أسعده أكثر فرح أبويه. اقتنعا بسهولة، وباركا الزواج. يكفي أنها كانت صديقة سعاد. يكفي أنها اختارتها له. هي وصية غالية يجدر به العمل بها. الله يرحمك يا سعاد. الفاتحة على روحك..
              نهض عن الفراش رافعا يديه في اتجاه القبلة، وقرأ الفاتحة.. عمّ الارتياح الثلاثة. تملكتهم بهجة آسرة زغردت في قلوبهم، وإن كان الأب لم ير نرجس ! ود لو يطير بالفرحة إليها.
              اختلى بابنه في المساء. انشغل أكثر منه.. كأن الأب هو الذي سيتزوج. سأله عن تفاصيل كثيرة. طمأنه بأنه سيساعده بالمال. بدأت الأم الثكلى تفرح وإن لم تخلع ثوبها الأسود، وما خلعت طرحتها السوداء. أقلقت زوجها في الصباح الباكر، في السادسة والنصف. نهض ونظر إلى المنبه، ثم أكمل نومه قائلا:
              ـ أنا أصحو، كما تعلمين في السابعة..
              هزت كتفه:
              ـ أريد أن أتكلم معك يا حسين قبل ما تروح الورشة..
              ـ فيم ؟
              نهض وهو يفرك عينيه، منصتا لها:
              ـ نطلب من مصطفى يحدد موعد الزيارة..
              ـ متى ؟
              ـ اليوم..
              ـ بهذه السرعة ؟
              ـ خير البر عاجله..
              ـ البنت تلميذة..
              ـ نشبكها لغاية ما تأخذ الشهادة..
              همس في حيرة:
              ـ في أي سنة ؟
              ـ ثالثة ثانوي تجاري..
              أطرق واجما.. تريثت لعله ينطق حرفا واحدا. سألت:
              ـ فيم تفكر ؟
              ـ ولا حاجة. لكن.. مصطفى لم يأخذ أي شهادة..
              ـ وما له.. صنايعي.. والصنعة مستقبله..
              تحاشى التعليق. قالت تحسم الأمر:
              ـ سأطلب من مصطفى تحديد موعد مع أبيها..
              استسلم دون ارتياح.. عاد يكمل نومه، لكن القلق ساوره وطيّر النوم من عينيه. نهض يتناول شايه وإفطاره، ثم ارتدى المعطف الأصفر، وذهب إلى الورشة، ولسان حاله يردد : "ليفعل الله ما يريد".
              طار بجناحي الشوق إلى فتحي، الذي انزوى هذه الأيام، قاطعا عهدا بأن يعوض ما فاته من دروس بالسهر المتواصل، وهجر الأصحاب. إلا أن الزيارة المفاجئة فرضت نفسها. جلس واضعا ساقا على ساق، وقد اتسع صدره، بفعل إحساس جديد ساوره بأنه على أعتاب الزواج ! صارحه بعزمه التقدم لخطبة نرجس. زهرة العمر المتفتحة المشرقة.. منية النفس.. قال فتحي ناصحا:
              ـ لم يمض الأربعون يوما على وفاة أختك..
              كيف فاته هذا، وفات أمه وأباه ؟ أخذ يحسب كم مضى على الفاجعة.. ثلاثون يوما بالتمام والكمال.. إذن، ليس ثمة مشكلة.. لينتظر عشرة أيام أخرى.. لينتظر أسبوعين، ثم يتقدم لوالدها. سأل فتحي:
              ـ كيف حال الشيخ محمود ؟
              ـ انقطعت أخباره. اقتصرت الزيارة على زوجته وأولاده على فترات متباعدة.
              ـ كان الله في عونه..
              لحظات صمت انقطع فيها الكلام، يندفع بعدها قائلا:
              ـ جئتك لأمر يقلقني..
              ـ خيرا إن شاء الله..
              ـ أنت تعلم أنني لم أكمل تعليمي…
              ـ لكنك تشتغل.. كنت أتمنى أن أشتغل مثلك، لأخفف العبء عن والدي، وأتزوج ليلى.. فتقدم غيري وتزوجها..
              شرد فتحي في بحر الحياة المتلاطمة أمواجه..
              ـ أحدثك عن شيء آخر.. هل تقبلني زوجا...؟!
              قاطعه قبل أن يكمل سؤاله:
              ـ الحب يصنع المعجزات.. لا شيء يمنعك من الارتباط بها.. ما دمت تحبها وهي تحبك.. الحب يصنع المعجزات.. الحب يصنع المعجزات..
              قال كلماته في حماس منقطع النظير، كأنه يهتف في مظاهرة حاشدة !

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                كاتب مسجل
                • Jun 2006
                • 1123

                #22
                رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                ـ 21 ـ

                لا يدري كيف طاوع سيد سبرتو ووافقه. بدأت الحكاية بما يرويه حمزة لكل الناس عن الكابوس الذي يجثم على صدره، وأن نفق المنيرة ينهار، أو به تشققات تنذر بالخطر. رغم أن الكل يطمئنه بأن الخطر المحتمل مجرد مخاوف لا أساس لها من الصحة.
                استمع سيد سبرتو لهذه الحكاية مرات كثيرة..
                ـ هي تهيؤات..
                ثم جال في الغرفة الضيقة بنظرة خبير متمعن لقوالب الطوب المبنية بها جدران الحجرة، والأسمنت غير المحكم الموضوع بينها. بدت الفراغات تجاويف غير منتظمة، وثمة نتوءات أسمنتية. وفي الحمام والطرقة رشح مياه بدا أثره على الجدران. قال في حسم:
                ـ شقتك آيلة للسقوط، وليس النفق..
                ـ كانت عشا بناه مزارع بالتبن والطين، دون أن يأخذ أجرا.. ثم أعدت بناءها على حسابي بالطوب..
                تطلع إلى سقف تنتظم فيه قوالب خشبية تبدو فيها آثار شقوق متفاوتة الطول..
                اقترح عليه أن يغطي الطوب بمحارة أسمنتية، ويكسو الأرضية بالبلاط.. استوقفه في الكلام:
                ـ على مهلك..
                بادره:
                ـ لو عملت المحارة والبلاط، لن يزورك الكابوس. الخلل في الحجرة الفطيس التي حبست نفسك فيها.. وليس لها منفذ هواء..
                أشار حمزة إلى الكوة الصغيرة المغلقة بشيش خشبي..
                عارضه:
                ـ وأنت الصادق، هي أشبه بزنزانة المساجين..!
                صعد على كرسي خشبي، وفتح دلفة الشيش..
                ـ يا سلام لو الحيطان بالمحارة.. لو توافقني.. الحجرة تنوّر، وتنزاح الكوابيس التي تخنقك كل يوم. أما البلاط...
                قاطعه :
                ـ لا.. تكفي المحارة..
                بسط يده ليأخذ العربون، في إشارة إلى أنه سيقوم بدور المقاول.. نقده ثلاثة جنيهات، وادخر الجنيه الرابع يدبر به حاله. بدأ سبرتو في نقل الأثاث المتواضع في الشارع.. سرير وكنبة وكرسيين.. والمرتبة والمخدات.. في حركة سريعة.. عاونه حمزة.. وعده أن يحضر المونة والأنفار.. أوفى بوعده بعامل واحد، أحضر معه الأسمنت والرمل، وأدوات الصنعة المتواضعة. واعدا حمزة ببدء العمل صباحا..
                يبدو أن حمزة تورط. لم يعجب حميدة وضع أبيها الذي أذعن لسيد سبرتو، وأعطاه فرصة التعامل معه. ليس وراءه إلا المشاكل والمصائب. طلبت منه أن يقيم في شقتها مؤقتا، فاعتذر وقال إنه لابد أن يباشر عمل الصنايعية. اختفى سيد سبرتو، تاركا عويس يعجن المونة ويطرطش الأسمنت قبل طبقة المحارة السميكة.
                عويس يأكل ويشرب مع حمزة، ويطلب منه السجائر "عيني عينك".. وفي آخر النهار، ينصرف بعد أن يأخذ البقشيش.. يبدو أنه يدفع أجرة عويس بأسلوب آخر. ولما سأله إن كان سبرتو أعطاه أجرا، قال في مودة ووضوح :
                ـ البركة فيك يا عم حمزة..
                رضخ للوضع الجديد، محدثا نفسه : "أيام وتعدّي".. فليس هناك حل آخر، "يلمّ به الدور".. حتى يتسلم بيته بالمحارة. كما أنه يتحاشى مواجهة الفتوة. رأى أن الحل في مهادنة عويس والرضا بما قسمه الله. شرح لعويس الوضع المأساوي الذي هو فيه، في عز الشتاء.. إلا أنه بدا شخصا غريب الأطوار، فهو يعمل بتؤدة، وتطوع أن يبيت معه ليؤنسه، ويكمل شغله ! فهم حمزة أن رفيقه لا مأوى له، ولا عمل.. ولا مصدر دخل يعيش به. رق لحاله. أحس أنه أيسر حالا منه، بفضل مكسبه من الغرزة. معيشته مستورة بحمد الله، إذا قارن حاله بحال هذا العامل البائس. وأكبر في الفتوة شهامته في تدبير عمل لمثل هؤلاء المساكين ! إزاء هذا الإحساس لا يملك إلا استضافته والإكثار من الحفاوة به. ما إن يحل الغروب، حتى يتناوب أقداح الشاي معه.. ووجدها فرصة ليحكي تفصيلا حياته وخاصة اشتراكه في أعمال المقاومة الشعبية ببور سعيد. وأنه أطلق رصاص بندقيته على جندي مظلات هبط فجأة. أراه أثر الرصاصة التي صوبت نحوه وأصابت فخذه. وفي ليلة أخرى حدثه عن كوابيس الليل التي تؤرقه. أحضر عويس ملابسه في صرة صغيرة. بدأ حمزة يتعاون معه، فيناوله قصعة المونة، وهو واقف على السلم، واكتسب خبرة في خلط الأسمنت بالرمل، وكيف يخمّر المونة..
                زارهما سبرتو، فأعجب بالتعاون المثمر بينهما، ولهف جنيهين آخرين، وتغدى معهما من حلة المسقّعة التي أعدتها حميدة، فأتى الثلاثة على الحلة عن آخرها، إلا من بقايا دمعة بدت آثارا تدل على الوجبة الشهية التي امتلأت بها بطونهم. أمسك عويس بآخر رغيف عيش، ليغمس به هذه البقايا. ثم نهض يعدّ الشاي..
                أصبح من واجبات عمله التي لم يكلفه بها أحد، إعداد الشاي له ولحمزة، وتعدى ذلك إلى زبائن الغرزة أيضا. مساعدة منه، في الأوقات التي لا يعمل فيها.
                اقترح عليه أن يأتي له بجهاز ترانزستور يسليه، جهاز مستعمل لن يكلفه أكثر من جنيهين. بادر بالرفض لضيق ذات اليد. أغراه بالدفع عندما يفرجها الله. إلا أنه تشبث بموقفه قائلا:
                ـ لا أحب أن أكون مديونا لأحد..
                ـ طيب.. تقسيط..
                ـ ولا تقسيط..
                ـ طيب أحضر ترانزستور من عند واحد صاحبي..
                ـ وتأخذه بعد ذلك..
                أومأ بالإيجاب، وإن كان لا يعرف متى سيترك عويس بيته، ويعفيه من هذه الضيافة الثقيلة المكلفة ؟ إنه أشبه بـ "اللصقة الأمريكاني"، أو أنه "احتلال مقنّع".. لكنه كتم في قلبه وصبر، إلى أن يحلها الذي لا يغفل ولا ينام.
                قارب العمل على الانتهاء، وإن كان سيره بطيئا جدا، أبطأ من مشية السلحفاة. استنزف عويس نقوده جنيها فآخر. والوجبة التي كانت تكفيه وحده، بدأ يعدّها لاثنين. زادت المصاريف وأثقلت كاهله. شرد قليلا، وأخذ يحسب لو أحضر بنفسه أمهر صانع في البلد، فسوف ينجز عمله في يومين فقط، وينهي عمله بطريقة ممتازة، ويكلفه ربع ما يتكلفه الآن. راجع نفسه بأن عويس معدم ويعتبر العطف عليه ثوابا يجزيه الله عليه.
                مضى أسبوعان حتى انتهى عويس من عمل المحارة. قال حمزة في أدب:
                ـ ستكون لك وحشة..
                ـ أبدا.. أنا ممكن أعاونك في الغرزة، ونبقى شركاء !
                قال مصدوما:
                ـ شركاء ؟
                ـ أجل..
                ـ لما أشوف المعلم سبرتو..
                أول ما رآه مقبلا عليه قال متضايقا:
                ـ هلل عويس عامل محارة، أم احتلال بريطاني ؟
                حكى له الحكاية من طأطأ لسلام عليكم. بينما تشاغل عويس في سماع أغنية لأم كلثوم من الترانزستور، متظاهرا بأنه لا يسمع الحديث الجانبي، إلا أن آذانه منصتة لما يقولان..
                قال سيد:
                ـ أنا أخذت فيه مقلبا. على كل حال، سأراضيه بخمسة جنيهات..
                ـ هذا كثير يا معلم.. أنا دفعت الكثير..
                ـ طيب أعطني جنيهين وأكمل الباقي من جيبي، حتى أطرده بكرامة..
                ـ كرامة ؟
                رضخ حمزة، وأعطاه الجنيهين، آملا أن يكونا آخر ما يدفع دون وجه حق. همس في أذن حمزة وهو يجمع حاجياته في صرة من القماش:
                ـ أترك الترانزستور أمانة عندك، يسليك في وحدتك، ويبقى في الحفظ والصون..

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  كاتب مسجل
                  • Jun 2006
                  • 1123

                  #23
                  رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                  ـ 22 ـ

                  فارق حمزة هذا الشاب الذي دخل حياته منذ أيام قليلة، وقلب بيته رأسا على عقب.. فقد غطى الطوب الأحمر بمحارة أشاعت في نفسه الراحة النفسية، كما ترك عويس ترانزستور يؤنسه في وحدته. ثمة بهجة بعد وحشة، أو هي البهجة التي لم يعهدها. لم يتوقع أن تبتسم له الحياة يوما ما. ورغم ثقل الضيف وإقامته الجبرية دون رغبة من صاحب البيت، إلا أنه لا ينكر التغيير الذي طرأ على حياته. وفي الوقت نفسه، تنفس الصعداء عند مغادرته البيت. وشبه رحيله برحيل الاحتلال الإنجليزي عن البلد.. رحلوا مرتين، الأولى عام 1954، والثانية بعد انتهاء العدوان الثلاثي عام 1956.. ورنت من جديد عبارة الزعيم جمال عبد الناصر : سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. وسنبني تاريخا ومستقبلا..
                  قد يكون لعويس عيوب، منها تدخله السافر في حياته، ورغبته في إقامة مستديمة معه، حيث لا بيت له، ولا مأوى، على حد قوله.. إلا أنه ترك بصماته بحلوها ومرها.
                  زارته حميدة بعد أن خلا بيت أبيها من " الرجْل الغريبة " كما قالت.. أعجبت بالمحارة والونس الذي أحدثه الترانزستور.. قال لها :
                  ـ لأول مرة لم يزرني الكابوس..
                  ـ فأل الله ولا فألك.. نشكر عويس الذي أرسله الله ليبدل حياتك..
                  ـ لكنه ترك الترانزستور، كمسمار جحا، عساه يحضر في أي وقت ليأخذه..
                  ـ كل وقت وله أذان..
                  بدأت حميدة ترتب فرش السرير والكنبة، وتكنس وتمسح البلاط، وتضيف لمسات المرأة فيما لم تفلح فيه لمسات عويس..
                  ـ البيت بقى جنة.. يشرح القلب..
                  ابتسم حمزة منشرح الصدر، سألها عن صحتها، ففهمت ما يعنيه :
                  ـ لم يأذن الله بعد..
                  ـ فرج الله قريب..
                  ـ ونعم بالله..
                  ـ وكيف حال جابر ؟
                  ـ إنه لا يشير من قريب أو بعيد، لكني أحس في عينيه وفي نبرات صوته رغبة في الإنجاب.. صبر طويلا..
                  لم تستطع أن تمنع دموعها من الهطول..
                  ـ اصبري يا حميدة..
                  ـ أنا صابرة يا أبي، وراضية بحكم الله.. إنما جابر..
                  بعد لحظات شرود، قالت والألم يعتصر قلبها :
                  ـ تعرف يا به إذا أحب جابر أن يتزوج بأخرى، لن أمانع.. لن أمانع في أن أعيش مع ضرة.. المهم ربنا يعطيه ولدا.. لست أمانع في شيء، حتى لو طلقني ليتزوج غيري..
                  أجهشت ببكاء حاد ونشيج متواصل..
                  ـ لا حول ولا قوة إلا بالله
                  نكس رأسه متألما. أحست حميدة بالألم الدفين. أحبت تغيير الحديث. تركت أباها يتمدد على الكنبة، وتمددت هي على السرير..
                  ـ ماذا عن حلمك المفزع عن النفق المهدود ؟
                  ـ الولد عويس الله يجازيه، عمل لي غسيل مخ، لدرجة خلتني أنسى الكابوس إياه..
                  ـ أنا حاسة إن الحلم فسر. الحلم بشرى بأنك تجدد البيت.. لعل النفق المقصود منه البيت الذي جددته..
                  لم يشغل نفسه كثيرا، قال بلا اهتمام :
                  ـ ربما..
                  ـ ينقص البيت البلاط للأرضية، بدل ردم التراب..
                  ـ أنتِ تتكلمين على طريقة المعلم وعويس.. عويس أعلن استعداده أن يبلط الأرضية..
                  ـ أيفهم في هذا ؟
                  ـ إنه يقول عن نفسه إنه صاحب سبع صنائع، لكن البخت ضائع..!
                  فوجئ بقدوم مصطفى في زيارة غير متوقعة.. تململت حميدة مستأذنة..
                  ـ اِجلسي.. معنا.. مصطفى ليس غريبا..
                  ـ ما غريب إلا الشيطان.. كيف حالك يا مصطفى ؟
                  ـ الحمد لله..
                  عرض مصطفى ما يحيره ويشغله. ليس لديه موضوع سواه، أن يتقدم للزواج من نرجس، مهجة القلب.. وما في ذلك يا مصطفى ؟ أبدا، لا شيء.. إنه يخشى أن يرفض طلبه. ولماذا تتوقع الرفض ؟ قال فيما قال :
                  ـ الحمد لله إن الست حميدة معنا، فنستنير برأيها..
                  قالت تشد أزره :
                  ـ لا يعيب الرجل إلا جيبه..
                  ـ الحمد لله.. انتظمت في العمل بورشة أبي. بدأ يعتمد عليّ في شغل الورشة. وأعمل على اكتساب خبرة في شغل النجارة. أستطيع الاعتماد على نفسي.
                  قال حمزة :
                  ـ توكل على الله..
                  كرر ما قاله لفتحي، إنها في الثانوية التجارية، وهو بدون مؤهل. قال حمزة :
                  ـ بلغني أنك كنت تتماشى معها، وأنها تحبك..
                  ـ رأيت أن التقدم لخطبتها تصحيح لمسار حياتي..
                  ـ وفقك الله..
                  يمر مصطفى بأزمة نفسية حادة، ذلك أنه يعلق آمالا كبارا في أن يتزوجها. طلب من أبيه تأجيل الزيارة حتى يرتب الأمور. هو مبلبل الخاطر، يسأل كل من يلتقيه حلا للمشكلة التي تؤرقه. إنه يحبها ويتمنى أن يتزوجها. هذه وصية أخته، وما قاله الشيخ قبل اعتقاله..
                  ـ زواجك منها إعلاء لحبك لها وحبها لك..
                  رتب مع جارها رأفت صديقه، ليتفق على موعد للزيارة. جاءه الرد بأنهم يفكرون.. مضت عدة أيام كأنها الدهر، حتى جاءه رأفت باش الوجه :
                  ـ قالوا لي يتفضل هو وأسرته..
                  ـ متى ؟
                  ـ في الوقت الذي تريد..
                  ـ اليوم..
                  ضحك رأفت قائلا :
                  ـ اترك لهم فرصة اليوم..
                  ـ غدا..
                  ـ ليكن بعد غد.. الاثنين..
                  احتضنه في فرح، وطار بالخبر إلى أبويه. بدا راغبا في معانقة كل من يلتقيه..

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    كاتب مسجل
                    • Jun 2006
                    • 1123

                    #24
                    رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                    ـ 23 ـ

                    سبقته الفرحة إلى بيتها. اصطحب والديه في مسيرة قصيرة عبر شوارع المنيرة الضيقة، مرورا بمسجد زيدان، حاملا معه " زيارة " من الحلوى والملبس والشيكولاتة والشربات. راجع أمه، ربما نسي نوعا آخر. استقبلهم أبوها وعمها. جلسوا في غرفة الاستقبال، يزينها صالون إبيسون فرنسي الطراز، مذهب الحواف والأرجل. تجمّل الأرضية سجادة حمراء منقوشة بزخارف ومنمنمات دقيقة. تبودلت التحايا وعبارات المجاملة. كان عمها أكثرهم حديثا، معرفا بنفسه، شارحا سكنه في بيت العائلة القديم بالقلعة. متحدثا عن عمله في المقاولات منذ شبابه.
                    قدم مصطفى نفسه ببساطة وتواضع :
                    ـ نجار في ورشة أبي..
                    قال أبوه :
                    ـ إنها ورشته..
                    قالت أم نرجس :
                    ـ ربنا يطيل عمرك..
                    أعرب عن استعداده لكل ما يطلب منه. سأل الأسطى حسين عن طلباتهم وشروطهم. أجاب الأستاذ فريد :
                    ـ لما تحضر بنتي وأمها..
                    بادره الأسطى حسين :
                    ـ نرجس بنتنا، نعرفها عز المعرفة..
                    تنهد للجرح الذي لم يندمل :
                    ـ كانت صاحبة سعاد..
                    ـ الله يرحمها يا أبو مصطفى..
                    دخلت نرجس الشقراء، تسبقها ابتسامتها ورقتها، مخلفة وراء ظهرها شلالا من أسلاك الذهب، مشطته وأسدلته على شكل ذيل حصان. سلمت على الوالدين يدا بيد، ثم مدت يدها إليه، ضغط عليها بحرارة، رانيا إلى عينيها الزرقاوين، كأنه يقول لها : " ها أنذا أفي بوعدي، وآتي خاطبا ".. اتسعت ابتسامتها دون أن تنبس بكلمة.
                    جلست إلى جواره. ثم تبعتها أمها التي أخذت تحييهم.. وساد صمت قطعه أبو مصطفى :
                    ـ أهلا عروستنا..
                    ـ أهلا يا عمي..
                    ضحك عمها قائلا :
                    ـ من اليوم، أصبح لك عَمّان..
                    توجه أبو مصطفى إلى والدها طالبا الموافقة على خطوبة نرجس لابنه. قال كلماته بلهجة رسمية، كأنه يخطب في حشد من الناس. رحب فريد، وعلت الابتسامات على الوجوه. بعدها ساد صمت قصير.، ثم قال حسين :
                    ـ طلباتكم واجبة..
                    قال فريد وهو يضبط النظارة في مكانها :
                    ـ ليست لنا طلبات..
                    قالت أمها :
                    ـ البنت بنتكم..
                    أضاف الأب :
                    ـ نوصل نرجس لغاية البيت بكل ما تحتاجه وزيادة.
                    حاولوا الخروج من حصار المجاملات للاتفاق على التفاصيل. انحصرت طلبات فريد في المهر ومؤخر الصداق وقائمة الأثاث..
                    حين طلب حسين تحديد موعد الخطوبة، قال فريد :
                    ـ جارنا الشيخ محمود، كما تعلمون، متغيب عن بيته منذ فترة.. لذا نحن مضطرون إلى إرجاء الفرح لحين رجوعه بالسلامة..
                    قال مصطفى بحماس :
                    ـ إن شاء الله يرجع، ويعم الفرح..
                    قال حسين :
                    ـ طيب نقرأ الفاتحة..
                    انطلقت بعدها زغاريد أم نرجس، وامتنعت أم مصطفى قائلة :
                    ـ لولا القلب مجروح، كنت...
                    انهمرت رغما عنها دمعة حزن، أخفتها سريعا، ثم تغلبت عليها بإطلاق زغرودة قصيرة، ثم قالت :
                    ـ العمر لكِ يا نرجس.. العمر لكَ يا مصطفى..
                    قالت أم نرجس :
                    ـ ربنا يصبّرك..
                    همست في أذن أمها بكلمة، فأخفت ضحكة مباغتة. قالت لها :
                    ـ قولي له ما تريدين..
                    نكست رأسها في الأرض، لائذة بالصمت. تحللت أمها من رفضها وقالت لمصطفى :
                    ـ نرجس تريد أن تكلمك في موضوع...
                    ـ تفضلي...
                    ـ لا.. تريدك على انفراد..
                    قال الأستاذ فريد :
                    ـ تفضل يا مصطفى معها في غرفتها.. ربما تريد أن تطلعك على غرفتها..
                    ـ طبعا...
                    نهض، ونهضت في أثره. شيعتها أمها بضحكة من القلب :
                    ـ بنات آخر زمن..
                    قال الأستاذ فريد :
                    ـ خليها براحتها..
                    دخلت سنية الشغالة بصينية الشربات تطوف بها على الجالسين، ثم قدمت طبق الفواكه، وآخر به بيتي فور وكعك وغريبة..
                    انخلع قلب مصطفى لهذا الاستدعاء غير المألوف. هل تتراجع نرجس وترفض الزيجة ؟ كان بإمكانها إلغاء الزيارة وتصارح أهلها بذلك.. أما وقد قرأ الجميع الفاتحة، فلا يحق لها أن... لكن... لابد أن يسمع ما لا تريد قوله أمام الآخرين، حتى لو آلمه. خفف وطأة الألم الذي يعانيه. طفق يجول في غرفتها النظيفة المرتبة، متفحصا محتوياتها. لم ير غرفة بهذا الجمال. الشقة كلها تشي بغنى الأسرة وبحبوحة العيش. أسرتها متوسطة ميسورة الحال. سرير نرجس مغطى بمفرش مطرز بورود ذات ألوان زاهية. في الحائط المقابل للسرير دولاب الملابس، ومكتب للمذاكرة. ثمة منضدة تتوسط الغرفة عليها زهرية، وحولها ثلاثة كراسي. تتدلى من السقف نجفة تتدلى منها حبات كريستال متلألئة. أصغر من نجفة الصالون قليلا، لكنها تشبهها في الأناقة والجمال. جلسا حول المنضدة، وتبادلا نظرات صامتة قبل أن يتكلما. لاحظ إطارا مذهبا يتصدر الكومودينو، وضعت داخله صورة لأعز الصديقات.. تناول الصورة واحتضنها، ثم قبلها. قال في ارتياح وحنان :
                    ـ نرجس.. أنا تحت أمرك..
                    ابتسمت قائلة :
                    ـ هل تحبني مثلما تحبها ؟
                    ـ كل الحب..
                    ـ والماضي ؟
                    ـ أي ماض ؟
                    ـ أعرف أن لكَ مغامرات عاطفية..
                    ـ طيش شباب وانتهى حين التقيتك..
                    ـ طيب إياك تنظر لواحدة غيري..
                    ـ حاضر يا أحلى البنات..
                    نظرت في عينيه تستكشف صدقه، ارتأتهما مرآتين صافيتين..
                    أضاف :
                    ـ تقدري تقولي إنه كان لعب عيال..
                    ـ نِفْسي أصدقك..
                    ـ وحياتك عندي..
                    تناولت مصحفا من على المكتب، وقالت :
                    ـ طيب احلف على المصحف..
                    ـ على أي شيء أحلف ؟
                    ـ احلف وخلاص..
                    تضاحكا.. ثم قال والضحكة تغمر وجهه كله :
                    ـ طيب وحياة كتاب الله...
                    تداركت فأكملت :
                    ـ احلف إن ما قلناه في هذه الغرفة لا يقال لأحد..
                    أقسم لها كما طلبت وعجز عن كتم الضحكات، أتت أمها على صوتها.. مستأذنة :
                    ـ أَدخل يا أولاد ؟
                    ـ ادخلي يا نينة..
                    ـ علام تضحكان ؟
                    ـ لا شيء..
                    ـ يعني.. سر ؟
                    أكملت نرجس، مصممة :
                    ـ والسر في بير..
                    دخلت أمه هي الأخرى تستطلع الخبر، فبادرتها أم نرجس :
                    ـ خير يا أم مصطفى.. شيء من الدلع، لا أكثر ولا أقل..
                    ـ ربنا يفرحكم العمر كله..
                    وكانت ليلة من أحلى ليالي العمر..

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      كاتب مسجل
                      • Jun 2006
                      • 1123

                      #25
                      رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                      ـ 24 ـ

                      نقرات خفيفة على الباب. نادت الأم على ابنها القابع في غرفته بالطابق العلوي. لم يتوقع أن يزوره أحد. ارتضى العزلة عن الأهل والصحاب والتفرغ للمذاكرة. نزل مهرولا يستقبل مصطفى في زيارته المفاجئة. جلس قبالته مبتسما. قال:
                      ـ قارب العام على الانتصاف.. المفروض أن أعوض ما فاتني، وهو كثير..
                      ـ لن أعطلك. جئت أخبرك بأني قرأت الفاتحة أمس..
                      ـ نرجس ؟
                      فرح ونقل فرحته إلى أمه، فجاءت تبارك الخطوبة..
                      استأذن بعد دقائق، وقصد بيت أسرة الشيخ محمود. يسأل عن أحواله وظروفه. قالت زوجته :
                      ـ لا نعرف متى يخلون سبيله ؟
                      قدمت ابنته الشاي. تملكته الحيرة. ماذا يقول ليطمئنهم ؟ هو لا يعرف كيف يطمئن نفسه. كما قيل له : لا تسأل عن رجل غيبته زنازين الحكومة.
                      أردفت بعد صمت حائر :
                      ـ هناك أمل في الإفراج عن شخصية قيادية، مما يبشر بالإفراج عن مجموعة من المقبوض عليهم، كانوا يعتقدون أنهم تابعون له.
                      تنهدت وأكملت في حيرة :
                      ـ مجرد كلام نسمعه همسا، وقائلوه يوصون بعدم نقله لأحد.
                      قال مصطفى :
                      ـ فرج الله قريب.. قد أجلت الفرح لحين خروجه بالسلامة..
                      ـ كان الشيخ يقدرك ويحبك..
                      ـ إنه أستاذي، وأدين له بالفضل..
                      استأذن قاصدا حمزة. يريد أن يطير بخبر خطوبته في كل الأجواء، ويحدث عنه كل الناس. حبذا لو قام بإعلان الخطوبة في مكبر صوت، يسمع من يعرفهم ومن لا يعرفهم، بأنه خطب جميلة الجميلات، بأنه استجاب لخفقان قلبه..
                      ما إن حط قدمه عنده، وشرب الشاي معه، حتى قدم عويس.. فاتحا ذراعيه يحتضن حمزة، في عاصفة من السلامات والتحايا لم يفرغ منها بسهولة. فرح بقدومه وناوله الترانزستور الأمانة. قال عويس :
                      ـ يا رجل.. خليه معك..
                      ـ هذه أمانة..
                      ـ هل طارت الدنيا ؟
                      لم يسترح لتصرفه. أفاق على صوت مصطفى :
                      ـ أنا اتفقت على خطوبة نرجس.. قرأنا الفاتحة أمس..
                      ـ مبروك..
                      ما إن شرب شايه، حتى نهض مستأذنا، وقدماه تتنقلان من بيت لبيت، يشيع الخبر السعيد بين أهله وأصحابه، في فرح طفولي، وما أحس بتعب..
                      أتاه عويس كالقضاء المستعجل. لا بد أنه ينوي المبيت عدة ليال. وجريا على عادته، أعد بنفسه براد الشاي، وطفق يحدثه فيما جرت به المقادير. إذ لا مأوى له. بدا نخلة تطاول السماء وسط صحراء قاحلة...
                      قطع عليهما الحديث اثنان لم يرهما حمزة من قبل. نفى عويس معرفته بهما، أو أن يكونا من بلده. سأل أحدهما :
                      ـ من منكما صاحب الغرزة ؟
                      خبط حمزة على صدره. سأل الثاني :
                      ـ أين الرخصة ؟
                      سأله عويس :
                      ـ من أنتما ؟
                      ـ مباحث شرطة..
                      ولكمه لكمة قوية أطاحت به في ركن الحجرة. قال حمزة :
                      ـ لا توجد رخصة..
                      توجه إلى عويس :
                      ـ وأنت.. أين بطاقتك ؟
                      قال وهو ينكمش أكثر فأكثر :
                      ـ ليست معي بطاقة..
                      حملا أدوات الغرزة على عربة نصف نقل.. المنضدة والكراسي وأدوات إعداد الشاي والقهوة والأكواب، والسكر والشاي والبن.. لم يتركوا له شيئا.. حاول حمزة استمالتهما..
                      ـ ولا كلمة.. وإلا سأحمل الفرش الذي تنامان عليه. كيف تبني غرفة في ملك الحكومة ؟ من سمح لك بهذا ؟ مدخل النفق أرض ملك للحكومة..
                      اقشعر بدنه لسماع كلمة " النفق ".. قال بصوت جهير :
                      ـ النفق.. أنا حارس النفق. أنا مهموم به ليلا ونهارا..
                      قال الثاني متهكما :
                      ـ حارس ؟ من أذن لك بحراسته ؟
                      قال بصوت مرتعش :
                      ـ أنا خائف عليه.. من الأقدام التي تدنسه، من انهيار قد يحدث له في أي لحظة...
                      اقترب أحدهما من عويس، ممسكا بياقة جلبابه :
                      ـ ليست معك بطاقة ؟
                      قال حمزة مصححا :
                      ـ عويس ضيفي.. أقيم هنا من زمن..
                      وبكى...
                      ـ أنا على باب الله يا سعادة البيه.. ثم إني من أبطال المقاومة في بور سعيد..
                      قال عويس في مسكنة :
                      ـ سماح والنبي.. نحن على باب الله..
                      انهال الاثنان عليهما ضربا ولكما وشتما، فتكوما على الأرض مقطوعيْ الأنفاس.. لم يشفع لحمزة كبر سنه أو بطولاته أو مروءاته، ولا حراسته للنفق وقلقه عليه ليل نهار..
                      نظر حمزة إلى صاحبه نظرات شك. تفرس في وجهه وقال :
                      ـ منذ حللت، أتيت بالنكبات.. أشك أنهما من أتباعك..
                      ولكي يبرئ نفسه اقترح عليه أن يلجأ إلى الفتوة..
                      ـ لن يستطيع الفتوة الوقوف أمام الحكومة..
                      ـ سأحاول..
                      وعد الفتوة بشهامة يحسد عليها أن يحضر ما سلبوه قبل طلوع نهار يوم جديد.. ما هي إلا ساعات قليلة، إذا بالعربة نفسها تعود بما حملت، وردّ الرجلان ما كانا استوليا عليه. فحمد الله وشكر سيد سبرتو، الذي انتفخت أوداجه. كما شتم الرجلين، وطلب منهما الإسراع في إرجاع كل شيء إلى مكانه. قال أحدهما :
                      ـ أي خدمة يا معلم..
                      تسربت نظرات الشك في أن يكون الرجلان من رجال الشرطة.. المهم.. رجع كل شيء إلى مكانه، وإن شبع ضربا هو وصاحبه..
                      وفي شماتة، التقى ثروت فتحي في المدرسة. قال إن أخاه الكبير أوعز للفتوة بضرب حمزة نظير مبلغ سال له لعابه. انتقاما من لسع العصا التي انهال بها عليهما، هو والبنت التي ضبطها معه في وضع مشين !
                      هرع فتحي إليه يطمئن على حاله. رأى من واجبه أن يخبره بأنها فعلة ثروت، حتى يتقي شره. لكنه فوجئ به يحكي عن شهامة المعلم الذي أنقذه من رجال مجرمين.. احتدم جدل حول هوية الرجلين. أكد فتحي :
                      ـ أعتقد أنهما من أتباعه..
                      ثم نصح حمزة ألا يؤذي ثروت، حتى لا يتعرض لمثل هذه المواقف. ثار بشدة. أيترك النفق مكانا مستباحا لأعمال المسخرة والأفعال المشينة ؟ لم يجد مفرا من شرح ما حدث، طبقا لما قاله ثروت.. بدأ الاثنان يقتنعان بالدافع. لكنهما الآن أمام مشكلة أخلاقية، يتصدى لها الرجل مدافعا عن الفضيلة. قال حمزة :
                      ـ أأترك النفق مرتعا للسفلة عديمي الأخلاق ؟
                      استطرد بعد صمت قصير :
                      ـ أغرى المال الفتوة. لكني أشك في علمه سبب الانتقام. إنه مجرد أداة جندها ثروت وأخوه، لكنه لا يعرف أصل الحكاية. لم أعهده يتدخل في موضوع يمس العرض والشرف. لم يقل له أحد ما فعله ثروت. الأفضل أن نقول له، حتى لا يتورط في مثل هذه المسائل.
                      أطرق حمزة حزينا، ثم قال :
                      ـ أنا صعبان عليّ منه.. إنه دفع رجاله لإيذائي..
                      قال عويس :
                      ـ قد يكون رجاله قاموا بالضرب دون علمه..
                      وخيمت سحابة قاتمة من الصمت الثقيل..

                      تعليق

                      • د. حسين علي محمد
                        كاتب مسجل
                        • Jun 2006
                        • 1123

                        #26
                        رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                        ـ 25 ـ

                        تباعدت لقاءاتهما، رغم الحنين الجارف. فرض فتحي على نفسه قيودا صارمة. لا مضيعة للوقت. الوقت للجد والمذاكرة. أول المتضررين أمين، الذي لم يكن يعبأ بقيمة الوقت، أو أنه متكاسل. إلا أن فتحي فاجأه بزيارة، خارقا كل المواثيق التي قطعها على نفسه. للاستثناء دوافع. أوضح لصاحبه أن الفتوة أوعز لاثنين من البلطجية بضرب حمزة وإهانته، هو وصاحبه عويس. لم يرتكب ذنبا يستحق العقاب. أحب تلقين ثروت وفتاته درسا لا ينسونه، مما حدا بثروت أن يوعز لأخيه الأكبر بالتصرف. قال فتحي كلاما كثيرا، عن الفتوة الذي لا يهمه شيء سوى الحصول على المال بأي ثمن، من كل عملية بلطجة، سرقة كانت، أم ضربا.. جالا في شوارع إمبابة حتى منتصف الليل. أخذ فكرهما يصول ويجول في أمر البلطجي.. رأيا أن يقصدا المجني عليه، يؤنسان وحدته. جلسا يشربان الشاي. قال فتحي ملطفا :
                        ـ سأقاطع ثروت..
                        قال عويس :
                        ـ المعلم طرد البلطجية من إمبابة كلها. اتضح أنهما اشتغلا لحسابهما في عملية مشبوهة !
                        قال فتحي :
                        ـ هل سيد سبرتو من الضعف الذي يجعل أحد رجاله يخونه ؟
                        أجاب حمزة :
                        ـ على العموم، وعد المعلم ألا تتكرر المهزلة..
                        أكد عويس على ما قال :
                        ـ لك مكانة عند المعلم..
                        ضحك فتحي وهو يقول :
                        ـ لِمَ ضُربت يا عويس ؟
                        قال في مسكنة :
                        ـ أنا.. رحت في الرجِْلين..
                        بدأ يشرح ما حدث في منتصف الليل، من تطهير قام به للمنطقة من الأوباش الذين يأخذون من الليل ستارا لأفعالهم الدنيئة. اعتبر ما أداه واجبا أملاه عليه ضميره، كما أنه امتداد لبطولاته في المقاومة الشعبية ببور سعيد.
                        قال فتحي :
                        ـ لا تنس ما قمت به من عمليات إنقاذ ومساعدة المصابين، في كارثة التروللي..
                        ـ كلنا ندين لك بالفضل.
                        قال أمين في حماس :
                        ـ أنت تستحق وساما..
                        شمله الهدوء إزاء ما يسمع من مديح. همس لعويس بأريحية :
                        ـ جهز دور شاي، على حسابي..
                        وأدار الترانزستور يستمعان إلى أغنية أم كلثوم " أنت عمري ".. في الليل المتأخر، التف الثلاثة حوله، وهو يروي قصة بناء نفق المنيرة والسكة الحديدية تمتد قضبانها فوقه، كما رواها أبوه وجده. كيف شارك رمضان ـ كبير العائلة ـ في أعمال الحفر، وإن كان لا يذكر السنة التي تم فيها الحفر، مكتفيا بقوله إن هذا ما سمعه من أبيه محمد وجده صابر نقلا عن الجد الأكبر رمضان.. قال عويس :
                        ـ لم تذكر لنا قصة الرصاصة التي أصابت فخذك..
                        قال وهو يبتسم :
                        ـ تعرفونها جيدا..
                        ـ نريد أن نسمعها من جديد.. نحن لا نمل سماعها..
                        وطفق يتحدث إليهم، ولا يمل الحديث أبدا...
                        أما مصطفى، فما إن تناهى إليه ما حدث، باتفاق جبان بين صبري وسيد سبرتو. هرع إلى صبري، الذي يعرفه زبونا بورشة والده. استماله بالقول الحسن، ثم قصّ عليه ما حدث من أخيه، مما اضطر حمزة إلى ردعه.. أي أنه قاوم شرا لا نرضاه. أنكر صبري معرفة الدافع. يبدو أن أخاه لم يقل الحقيقة كاملة. خفّ لنجدة أخيه حين اعتدى عليه، دون معرفة التفاصيل. قال إنه مستعد للاعتذار. أجابه مصطفى :
                        ـ يحق لثروت أن يعتذر.. هو المخطئ..
                        أبى ثروت الاعتذار لأحد، وإن كان توبيخ أخيه منعه من التمادي في غيه. وعد أخاه ألا يقترب من نفق المنيرة، وألا يدوس لحمزة على طرف. لكنه لم يعده بعدم الاقتراب من الحرام. قال صبري إنه لن يدافع عن أخطاء أخيه. هرع مصطفى إلى المعلم سبرتو، يلومه فيما حدث لعم حمزة، فأنكر أنه شارك.. وأن اثنين من رجاله خرجا عن طاعته، ونفذا عملية قذرة لا يرضاها. أحس فايز أنه يكذب، كي يتجمل! يكفيه أنه لجأ إلى الإنكار. قال في حسم:
                        ـ أنا طردتهما من إمبابة كلها، وليسا من رجالي.. بل إني سأضربهما بيد من حديد، إن أقلقا راحة أهل بلدي وناسي..
                        توجه معه إلى حمزة، لكز عويس قائلا :
                        ـ قم اعمل لنا شاي. أما أعزم نفسي عندك يا حمزة..
                        ـ بيتك ومطرحك..
                        ـ إننا جميعا نعتذر لك. إمبابة كلها تقدم الاعتذار.
                        قال حمزة :
                        ـ مجيء المعلم شرف أعتز به..
                        الكل يعتذر، لكن لا أحد يتألم من الجرح الغائر في قلبه. هل يمكن للكلمات مداواة جراح القلب ؟
                        قال عويس وقد بدا عليه التأثر :
                        ـ الكل يعتذر لعم حمزة، ولا أحد يطيب خاطري بكلمة، مع أنني ضُربت أكثر، ولا كان لي في الدور ولا في الطحين..
                        شده الفتوة من ياقة جلبابه، ليتغدوا جميعا على حسابه..
                        الاعتذار كلف حمزة الكثير. فقد أصر سبرتو على أن يتغدوا جميعا عنده. كان لابد أن تمتد المائدة لتكفي الأربعة. أحضر لهم وجبة دسمة من الكفتة والطرْب والسلَطة. أعلن المعلم عن استعداده لتحمل مصاريف الغداء، إلا أنها عزومة مراكبية، كما يقول المثل الشائع. فقد أخرج المحفظة من جيب الصديري، قائلا في شهامة :
                        ـ عنك يا حمزة.. رقبتي سدادة..!
                        أمسك بيده كي يرد محفظته مكانها :
                        ـ عيب يا معلم..
                        لم يكذب خبرا، فأرجعها سريعا كما أخرجها.
                        عند الانصراف، انتحى بالمعلم جانبا، وحدثه في أمر عويس الذي لا يريد أن يرحل، رغم مضي نحو أسبوع على زيارته الأخيرة. قال له :
                        ـ ولد مسكين.. الظرروف تعانده. سوف تنال الثواب الكبير، لحين صلاح أحواله..
                        ولم يزد. قبل الضيف الذي فرض نفسه وأقلق باله. إنه كالاحتلال الذي كان جاثما على صدر الوطن. ما باليد حيلة.

                        تعليق

                        • د. حسين علي محمد
                          كاتب مسجل
                          • Jun 2006
                          • 1123

                          #27
                          رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                          ـ 26 ـ

                          احتد مع ضيفه الجاثم على صدره. أرجع إليه سبب الغارة الهمجية. دافع عن نفسه وأقسم بأنه مجني عليه مثله. لم يأخذ منه حقا. ترك له البيت وخرج مزمجرا، قاصدا حميدة. لقيته ابتسامتها الربيعية كأجمل ما تكون الوردة المتفتحة. حدث جابر عن الولد عويس الذي يتدخل في شئونه، وكلما كلم المعلم في أمره، يوصيه بالصبر، فالولد معدم ومقطوع من شجرة. قال جابر :
                          ـ الولد بائن عليه وش خير علينا كلنا...
                          ـ خير.. كيف يأتي الخير من ورائه ؟
                          ـ اصبر عليه لما حاله يتعدل.. منذ زارك والبركة حلت..
                          ـ كيف ؟
                          قال وهو يراجع زوجته بنظرة :
                          ـ لم نكن نريد إعلان الخبر..
                          ـ خبر ؟!
                          جال بعينيه بين وجهيهما، فما رأى إلا بشرا وابتساما. قفزت الفرحة تلقائيا إلى قلبه. قال :
                          ـ تبقى حميدة حاملا..
                          قالت :
                          ـ بعد خمس سنين صبر..
                          ـ ربنا كبير يا بنتي..
                          قالت حميدة بصوت ملؤه الإيمان :
                          ـ يمكن ربنا كرمنا، لما أكرمنا عويس..
                          ـ ربنا يهيئ الأسباب..
                          قال والفرحة تسبقه :
                          ـ لما يهلّ علينا وليّ العهد بمشيئة الله، سأقيم فرحا..
                          قامت لإعداد الشاي، فأمرها جابر بالجلوس والراحة، ونهض يعدّه بنفسه..
                          اختفى جابر فجأة. أجابت على تساؤل بدا في عينيْ أبيها :
                          ـ زمانه يجئ..
                          دخل منتفخ الأوداج حاملا أكياس الموز والبرتقال. قالت تداعب أباها:
                          ـ سوف تصبح جدا..
                          ـ هذا يوم المنى..
                          سنوات طويلة من الصبر والانتظار. لم يبدِ تبرما. لم يفكر في زوجة ثانية تنجب له الولد. ما أعظم صبرك النبيل. ها أنت يا زوجي العزيز تجني ثمرة الانتظار الطويل. فرحة جابر أكبر من فرحتهما معا. فرحة باتساع الأرض كلها. عمت الفرحة العائلة. بدأت أخته تتردد على البيت تساعد في أعمال كنس ومسح البلاط، وغسيل الأواني والملابس.. لا ضير من دخول المطبخ لإعداد الغداء. كما أنه لم يتحرج في المساعدة في أعمال الطبيخ، لتجهيز أكلات بسيطة كقلي البطاطس والبيض والباذنجان. إنه يساعد فيما يقدر عليه. أصر على الذهاب إلى سوق الجملة بمفرده، طالبا منها الخلود إلى الراحة التامة.
                          أطرق حمزة. لكنه حرره من صمته بتقشير إصبع موز له، واستحلفه بالغالي في بطن حميدة أن يتناول الموزة. سأل وهو يلوكها في فمه :
                          ـ تفتكر الولد عويس مسكين بصحيح ؟
                          ـ أجل..
                          ـ طيب.. أستأذن..
                          ـ إلى أين ؟
                          ـ أروح أطيب خاطره بكلمتين..
                          قالت حميدة :
                          ـ ونحن نجيء معك..
                          التقوا عويس بفرحة صبيانية لا توصف ! فجأة أصبح ابن حلال مصفّي. تغير مزاج صاحب الغرزة من كاره له، إلى صفيّه وخليله. وليس مدهشا قوله :
                          ـ نفسي آخذك في أحضاني.
                          رغم أنه لا يدرِي سرّ التحول المفاجئ. تُرى، هل ندم على كل ما بدر منه، فأحب أن يبدأ صفحة جديدة ؟ إذن، ما الداعي لهذه الزفة، فيأتي بربطة المعلم هو وابنته وزوجها اللذين يلتقيهما لأول مرة ؟ إزاء هذا التحول غير المبرر، بدأ ابن البارحة يعزز نفسه، ويقول لمضيفه إنه يبحث عن عمل، ومما سيكسبه يدبر به سكنا رخيصا في حجرة صغيرة، ويرجوه أن يتحمله أياما أخرى. أجابه في تطييب خاطر :
                          ـ أتحمل ؟ إذا لم تحفظك الأرض، حفظتك رموش عيني..
                          قال :
                          ـ أصيل يا عم حمزة.. وما تأمر به سأنفذه. أساعدك في كل شيء.
                          تبادل الأربعة أحاديث شتى في جو يسوده الود والصفاء. انتهزها فرصة ليدير مذياعه الذي بحجم راحة اليد، على محطة تذيع أغنية لأم كلثوم. ونهض يعدّ براد الشاي دون أن يأذن له صاحب الدار. تضاحكوا وتسامروا.. كان حمْل حميدة الموضوع الخفي، باعث السعادة لكل من في البيت، وإن لم يعرف عويس بهذا الحمل، وهو ما أعجزه عن تفسير مظاهرة الحب التي زفوه بها !.. هذا الحمْل جعلها ملكة متوجة. يزهو فرح داخلي في شعاب نفسها. تستعجل الأيام كي ترى وليدها بين ذراعيها تحضنه، تقبله، تربت على ظهره، تقفز به في الهواء. متى يجئ هذا اليوم ؟ الصبر يا رب..
                          وفي الصباح، أحبت أن تزور ضريح سيدي إسماعيل الإمبابي.. تقرأ الفاتحة، وتدعو الله أن تمر شهور الحمْل المتبقية بسلام.. أخرجت من صدرها كيس النقود، ووضعت ما تجود به في صندوق النذور، وأوقدت شمعة طافت بها حول الضريح، بينما صلى جابر ركعتيْ شكر لله تعالى، على عطاياه ونعمائه.. وطفق يدعو كثيرا حتى بللت الدموع خديه.

                          تعليق

                          • د. حسين علي محمد
                            كاتب مسجل
                            • Jun 2006
                            • 1123

                            #28
                            رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                            ـ 27 ـ

                            في غمرة الترحيب المفاجئ بإقامته، أحس بالسعادة التي لم ينعم بها يوما ما. هذه ليلة خالدة سرقها من عمره الشقي. تُرى، هل تدوم أم أنها سحابة عابرة سرعان ما تنقشع ويظهر واقع البؤس الملازم لظله ؟ حمزة متمسك به، على غير العادة. قال إنه وش السعد، هكذا دفعة واحدة !.. عرف منهم أنه مع قدومه ظهرت تباشير الحَمْل لسيدة لم يرها سوى الليلة. بقدومه انقشعت كوابيس الظلام. منذ قام بمحارة الجدران، طردت الكوابيس، واسترد النفق عافيته، شامخا دون تشققات، وبقدومه زاد زبائن الغرزة ! قال حمزة :
                            ـ كسبت بمجيئك أشياء كثيرة وثمينة.. أكثر مما كسبته لو أجرت لك المكان..
                            استنفرته الكلمات. ندم على انفلات اللسان الذي قال ما يكدر صفوه ويعكر مزاجه. قال عويس :
                            ـ أنا أدفع أجرة المبيت للمعلم سبرتو..
                            اندهش. كيف ؟
                            ـ كم تدفع ؟
                            ـ ريالا في الليلة..
                            ـ أيتاجر على حسابي ؟ يا له من مستغل بشع..
                            ـ ألم يتفق معك ؟
                            وجم. تريث قليلا. كيف يواجه الفتوة ؟
                            ـ أفهم من كلامك أنه لا يعطيك شيئا ؟
                            ـ ولا مليم...
                            ضحك عويس وهو يقول :
                            ـ وأنا أبيت عندك وفي بطني بطيخة صيفي, أعتبر المبيت عندك أرخص من أي مكان.
                            تباينت مشاعر الاثنين. لاذا بصمت محير، كل له مشكلة تخصه. الفتوة يرضيه بمعسول الكلام، ويطيب خاطره، في الوقت الذي يستغله أسوأ استغلال. إنه يتقاضى أجر مبيت عويس، وهو أحق به.. كما أن عويس يكلفه أكلا وشربا.. إن صدق الفتوة في شيء ففي قوله إن الولد عويس معدم مقطوع من شجرة. واستنجد بالمعلم ظهرا وسندا يحميه.. كما أنه وفر له إقامة رخيصة، بما فيها الأكل والشرب. كيف يواجه الفتوة ؟ عملية صعبة معقدة، قد يكون ضحيتها هذا الشاب الفقير الذي احتمى بداره، وليس ذنبه تلك اللعبة القذرة التي لعبها الطاغية. سأل نفسه في حيرة : هل يمكنك الوقوف في وجهه ؟ ضحك ساخرا من نفسه. إنه كالذبابة أمام بطش فيل ضخم. ما يقدر على القدرة إلا القادر يا عم حمزة. هاجس آخر يتردد في جنبات نفسه، بأن عويس حلّ له مشاكل عديدة. قدم له خدمات لا تنكر. إنه لو طلب منه أن يكنس ويمسح الأرض لفعل.. كما أنه وش سعد حقا وصدقا.. فحميدة قرة عينه بدت عليها أعراض حمل، والكابوس الذي كان يجثم على صدره ليلا انقشع وتبدد.. لا تنس يا حمزة أن قراءتك القرآن جلبت الفائدة. بكل المقاييس لا تنكر أن لعويس أيادي بيضاء بشهادة الجميع، ولديه قناعة تامة في هذا.
                            أما عويس فقد انزوى في ركن آخر من الحجرة يفكر في همّه. ترك قريته ميت نما، ونزح إلى القاهرة بحثا عن فرصة عمل ومأوى، هربا من زوجة أبيه الظالمة.. تلك الزوجة التي بثت في نفس أبيه كراهية عمياء، فآثر أن يهرب من البلد سرا، دون أن يعرف أحد طريقه. أرض الله واسعة. لم يتعلم. ولما تعدى عمره الخامسة عشر، بدأت زوجة أبيه تطلب منه البحث عن عمل. أي عمل ووافقها أبوه. من السهل أن يعمل في الغيط مع أبيه، أو مع غيره من المزارعين. لكن المعاملة القاسية نفرته من البيت كله. آثر أن يترك الجمل بما حمل، فأرض الله واسعة، وتحقق له ما تمنى. ففي المنيرة، التقى أحد أهلها، فدله على المعلم سيد سبرتو، الذي اتفق معه على المبيت في بيت صغير مع عجوز طيب القلب، نظير دفع ريال عن اليوم الواحد. لم يكن يعرف أن حمزة لا يتقاضى منه شيئا. إذن فهو مدين لهذا الرجل الطيب. كيف يعوضه عن الخسارة ؟ نكس رأسه متألما متأذيا. فبعد أن كان يعيش بكرامته، نظير أجر يدفعه. بات مشاركا للمعلم في ظلمه. دنيا عجيبة. ما يتكسبه من بيع الخضار في السوق أقل القليل، إذ يعطيه أحد معلمي السوق بعض أقفاص الخضار يبيعها لحسابه. قد ينقده أقل من ريال، أو ريالا، أو أكثر قليلا.. فيتوسل إليه ألا ينقص نصيبه عن الريال. فبدأ المعلم ينقده ريالا ثابتا، سواء زاد مكسبه أو قل.. فكيف يعوض حمزة عن الضرر المادي ؟ هل في إمكان المعلم أن يزيده خمسة قروش أخرى يعطيها لصاحب البيت تعويضا مؤقتا ؟ أم يشتغل عند أبو سلطان صاحب محل الجزارة المواجه لمسجد زيدان ؟ وماذا عن الأجر ؟ صارح حمزة بما ينتويه..
                            ـ لا أريد منك شيئا.. ولا تكلم المعلم في شيء.. استمر في اتفاقك معه.
                            صمت طويلا، ثم استطرد :
                            ـ يكفيني أنك قدم خير، وأنني ارتحت لك. أعتبرك ابنا لي. لي بنت وحيدة متزوجة، كما تعلم، على الأقل تساعدني في عملي هذا..
                            ـ والريال الذي يأخذه المعلم دون وجه حق..
                            ـ لا حيلة لنا في هذا.. إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
                            فترة صمت أخرى، تلبدت فيها سحب الحيرة في خاطر عويس. قال :
                            ـ في هذه الأيام، بدأ المعلم يأخذ الريال من المنبع، من معلم الخضار الذي أتعامل معه..
                            ـ لا تشغل بالك..
                            ـ سأبحث عن عمل أفضل، بعيدا عن أعين الفتوة..
                            ـ سيكيد لك..
                            هربا من جحيم التفكير في مشكلة بلا حل. حين تواجه بسلطة قوية، لا بد أن تكون قويا مثلها، أو أقوى منها. هذا ما لا يستطيعانه. هربا من الحيرة المطبقة على صدريهما، بأن امتدت يد حمزة إلى براد الشاي، بينما انشغل عويس في ضبط موجة المذياع على إذاعة أم كلثوم.. وطفقا يسمعان أغنية " غلبت أصالح في روحي ".

                            تعليق

                            • د. حسين علي محمد
                              كاتب مسجل
                              • Jun 2006
                              • 1123

                              #29
                              رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                              ـ 28 ـ

                              مضت إجازة نصف السنة، قضاها في المذاكرة، معتبرا إياها بياتا شتويا، أو انكماشا في البيت، شاحذا همته نحو تحقيق مجموع كبير في الثانوية، يؤهله إلى تحقيق أمنيته في دخول كلية الهندسة. انصرف عن تضييع الوقت. لا يخرج من البيت إلا للضرورة القصوى، واضعا نصب عينيه صورة أبيه المكافح، الذي لا يدخر وسعا في تلبية طلباته، حتى لو كانت على حساب راحته وصحته. شعر بتأنيب الضمير لهذا اللهو العشوائي، وهذا السراب الذي يجري وراءه دون تحقيق شيء نافع.
                              ذات مرة جمعه وأباه وأمه لقاء.. ما أندر اللقاءات بينهم.. كانوا ملتفين هو وأخواته حول الطبلية يتناولون الغداء. قالت فاطمة وهي في الإعدادية، إن فتحي يرى صعوبة في اللغة الفرنسية. نفى ذلك بشدة قائلا :
                              ـ أبدا.. هي مادة لطيفة.. لكن الصعوبة في أنني أحيانا أنطق الكلمة الفرنسية بالنطق الإنجليزي. هذا خطأ نبهني إليه مدرس الفصل.
                              لم يعلق أبوه.. مضى على تلك الملاحظة يومان، أخبره بعدها أنه اتفق مع زميل له في المصلحة لإعطائه دروسا في الفرنسية. تردد في البداية. طمأنه بأن أجرة الحصة زهيدة لن تكلفه كثيرا، فقد راعى شفيق زمالتهما.
                              لأول مرة يأخذ درسا خصوصيا، باستثناء مدرس اللغة العربية، وهو في الابتدائي، الذي أعطاه شهرا واحدا، ثم اعتذر لمرضه.. كان ذلك منذ تسع سنوات.. كان الدرس ثقيلا حيث يضطره المدرس إلى حفظ قصائد شعرية قصيرة، ومعاني الكلمات وشرح الأبيات.
                              أعطاه والده عنوان الأستاذ شفيق في حي شبرا. استقبله هاشا باشا، ذاكرا خلق أبيه وصفاء نفسه. أجلسه مع زوجته سناء، وابنتيه مارسيل ومريم. شده جمال الأختين. القامة المديدة، والشعر الأسود المسدل على الظهر، بعد إحكامه بشريط ملون أو " توكة ". العينان الواسعتان الذكيتان. البشرة البيضاء الناعمة. من ينظر إليهما يظنهما توءمين. كانا أميل إلى الصمت. جلسا معه حول المنضدة المستديرة. حين سمح شفيق بخمس دقائق راحة، تبادلوا كلمات ترحيب وتعارف. أسره الجمال القبطي. هام بالوجهين الجميلين، فأحب دروس الفرنسية وظل يترقب مواعيدها كل اثنين وخميس.
                              أعطى الفرنسية وقتا للمذاكرة، يجور على الوقت المخصص للمواد الأخرى، رغبة منه في الظهور أمام الجميلتين متفوقا. تغلب على مشكلة نطق الكلمات، وبرع في هذا، حتى صار أميل إلى التحدث بالفرنسية أكثر من الإنجليزية. نقل عن أستاذه شفيق أن الفرنسية لغة ثقافة وحضارة.
                              قال أمين لصاحبه متهكما :
                              ـ يموت الزمار وإصبعه يلعب !
                              بعد أن قص عليه حكايته مع مارسيل ومريم، وصف له جمالهما الأخاذ. إلا أنه صدم بتعليقه الساخر وفهم منه أنه هوائي النزعة، بكل بنت معجب. إنه أسير هوى مَنْ يقابل منهن، حتى قال أمين مواصلا تهكمه :
                              ـ لو كان لي أخت، لخشيت عليها من نظراتك..
                              اقترب من منطق صاحبه. قال مبررا :
                              ـ لكل بنت مسحة جمال تتميز بها. ومن طبعي البحث عن مسحة الجمال أو لمسته في كل بنت أصادفها. هكذا خلقني الله. ليس معنى هذا أنني أقع في غرامهن جميعا !
                              تضاحكا. رضخ لتبرير صاحبه، وسلم بطبعه. وفي نوبة مداعبة قال أمين :
                              ـ قلت إن الأختين كالتوءمين.. فكيف تفرق بينهما ؟
                              ـ نبرة صوت مارسيل أميل إلى قلبي.. ذلك أنها تتحدث معي أكثر، بينما تلوذ أختها بالصمت. مارسيل ترتدي عادة الجيب والبلوزة، ومريم ترتدي الفستان..
                              بعد صمت قليل، أكمل :
                              ـ ثم إن مارسيل تجلس عن يميني. لكل منا مقعد لا يغيره.
                              قال أمين في حسد :
                              ـ يا بختك.. كان نِفْسي أكون معك..
                              ـ وتعجب بمريم..
                              الحسد كلمة قالها دون أن يشرح لصاحبه أي حسد يقصد ؟ وفي داخله، يرى أنه يحسد فتحي لتعرفه على بنات كثيرات، ولأنه أكثر مذاكرة منه. هو غير راض عن نفسه، أميل إلى تضييع الوقت أكثر من صاحبه، فاقد الأمل في تحقيق تقدم. ورغم رسوبه في العام الماضي، إلا أنه لا شيء يحفزه للمذاكرة. بينما يرى فتحي قد نجح العام الماضي ويعيد السنة لتحسين مجموعه. شكواه أنه لا يجد الحافز الذي يدفعه للمذاكرة.. بدأ فتحي يحفزه، ويدعوه إلى تغيير عاداته، والالتفات إلى دروسه. إلا أنها صرخة في واد. فأمين محبط على الدوام، لديه إحساس بالدونية، بمعنى أنه أقل في الوضع الاجتماعي من قرنائه. وهو يجد لذة في قراءة جريدة أو كتاب غير مدرسي، كأنه يجد اللذة فيما هو غير ملزم أن يمتحن فيه ! وهو ـ أيضا ـ كثير الاستماع إلى أغاني نجاة الصغيرة بصوتها الدافئ، الذي يستشعر فيه أن المطربة تكاد تغني له وحده، وهذه متعة تجذبه إليها. وهو ـ علاوة على ذلك ـ كثير التحسر على حبه الضائع لعايدة. الفتاة الوحيدة التي دق لها قلبه، لكنه لم يتقدم خطوة واحدة نحوها. واكتفى بلقاءات المصادفة بحكم الجيرة، فتلتقط أذناه بعض كلمات مما تقول، ويرد عليها بكلمات مقتضبة ليس وراءها هدف ! ولا شيء غير هذا ! وهو بطبعه كتوم، لا يبوح لأحد عن مشاعره وأحاسيسه، وإن نطق بها مرة أو أكثر لصاحبه الوحيد !
                              طلب من صاحبه الخروج، تحررا من حبسة البيت. تجولا كعادتهما في شوارع المنيرة ومدينتيْ العمال والتحرير.. وعلى مقهى الربيع كانت جلستهما المفضلة، إلى منضدة في ركن داخلي، اتقاء لسعات البرد. لعبا النرد فتعادلا. ارتاحا للنتيجة فنهضا.. وجل حديث فتحي عن مارسيل ومريم، اكتشافه المذهل، وتهيؤه للقائهما غدا الخميس.. وأن عليه مذاكرة واجب الأستاذ شفيق الليلة.. إلا أن الثرثرة داؤه المزمن، يقابلها عند أمين صمت مطبق !
                              عرجا على نفق المنيرة، وتجالسا مع حمزة وصاحبه عويس، الذي أكمل لهما السهرة بأغنيات أم كلثوم من مذياعه الترانزستور، حتى انتصف الليل، ثم انصرف كل إلى بيته..


                              [align=center](يتبع)[/align]

                              تعليق

                              • د. حسين علي محمد
                                كاتب مسجل
                                • Jun 2006
                                • 1123

                                #30
                                رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                                ـ 29 ـ

                                الشهور الأولى من عام 1966 بطيئة مملة. لم تعطِ للفتية فتحي وأمين وثروت فرصة لإثبات وجودهم أو إشباع ميولهم. كل منهم له مزاج نفسي خاص به. علاقة ثروت بفتحي سطحية. نماها جرأته الوقحة في التعامل مع البنات، وترويجه لكل ما يهيج غرائز الفتى، عن طريق صور فاضحة وقصص ماجنة وأماكن الرقص التي يرتادها، ساعدته حالة أبيه المادية وغفلة عين الرقيب. يشرئب فتحي إلى هذا العالم وهو منبهر. يود أن يخوض تجربة واحدة مما يحكي عنها ثروت، بدافع الفضول، أو أن يعيش كما يعيش الآخرون ! هكذا يلتهب خياله وتستبد جموح المشاعر به. أما أمين فلم يختلط بثروت ولا يستريح له. قد يتبادل معه كلمات قليلة في أوقات متباعدة، تكشف عن بعد المسافة بينهما أكثر مما تكشف عن أي وجه للتقارب. كانا أشبه بقطبين متنافرين. في الوقت الذي توطدت فيه العلاقة بينه وبين فتحي بفعل الإطلالة على عالمه ومروياته التي تشبه من يصارع طواحين الهواء. فقد وقع في هوى بنات كثيرات، دون أن تكون هناك قصة حب متبادلة بينه وبين أي منهن ! كما أنهما يتناقشان في شتى أمور الفكر والدين والسياسة وغيرها، ويتجادلان كثيرا حولها. تشهد شوارع إمبابة الواسعة والضيقة مجلسا " متنقلا " للأمة يضم عضوين دائمين وحيدين يتناقشان في أدق الأمور ! ما أشد خلافاتهما وخصوماتهما الفكرية، لكنهما لا ينفصلان أبدا. يشتد أزرهما بارتباطهما بتلك الوشيجة التي لا يفكر أحدهما في حلها !
                                تلك الشهور من العام الجديد سماها فتحي شهورا حاسمة، ففيها يتقرر مصيره التعليمي. أدرك خطورة المرحلة، فابتعد عن صنو روحه مرغما، وإن جمعتهما لقاءات متباعدة.. أما مصطفى فقد غير اتفاق الزواج من شخصيته. حوله إلى إنسان آخر ينظر إلى الحياة بعين التفاؤل، ويحسب الأيام الثقيلة المريرة التي ابتعد فيها الشيخ محمود إلى جهة غير معلومة !..
                                الامتحانات على الأبواب. ووجد في دروس الفرنسية متنفسا ربيعيا، إذ يجالس فتاتين، يشجعانه على الاستذكار، ليس في الفرنسية فحسب، وإنما في كل المواد. مارسيل في الثانوية مثله، ومريم في الصف الثاني الثانوي، إلا أنها تصر على الجلوس معهما لتستفيد. شجعها أبوها على ذلك، لكي يشعر أن تلاميذه كثيرون، يشبع بذلك الرغبة القديمة في أن يكون مدرسا، وليس مجرد موظف في مصلحة حكومية لا يدري به أحد. مريم لديها الدافع. تلتقط قواعد الفرنسية وتعبيراتها. قالت لهما إنها تستفيد بطريقتها.. فحين تذاكر دروسها الأبسط، تبدو لها أسهل. مارسيل فتاة جذابة، ملكت على فتحي كيانه. بلوزتها ذات أزرار، تصر على أن يبقى الزرار العلوي مفتوحا فيتبدى النهر الفاصل بين نهديها المتمردين، يتدلى فوقه سلسلة ذهبية يزينها صليب صغير، يتمرد هو الآخر على صدرها.
                                ذات مرة، قال إن الكراسة التي كتب فيها الدروس نسيها في السيارة العامة. قالت مارسيل :
                                ـ أمهلني إلى الحصة القادمة، وأعطيك كراستي تنقل منها..
                                ـ أنقل عشرين درسا.. هذا صعب..
                                ـ يمكنك استعارتها عدة مرات..
                                ـ أشكرك..
                                في الحصة التالية، فاجأته بكراسة جديدة، نقلت فيها بخطها المنمنم الرقيق كل الدروس العشرين. انشرح صدره واتسعت ابتسامته. قال لها بصوت خفيض ممتن :
                                ـ أشكرك.. جدا..
                                ثم استدرك قائلا :
                                ـ كلمة الشكر لا تكفي.. عموما هي مفاجأة سارة..
                                قال شفيق منهيا حرجه :
                                ـ مارسيل أختك..
                                امتد بينهما فرح داخلي لم تكشف عنه الخلجات..
                                إلا أن الفتى المراهق سقط في أتون حمى الملاريا، أرقدته الفراش قبل بدء الامتحان بيومين. اضطر إلى حضور الامتحان وحرارته 39 درجة. وفي المساء توجه إلى الطبيب، الذي أدرك ظروفه وأعطاه جرعات دوائية مكثفة، كما أعطته الممرضة حقنة في الوريد، فأسلم لها ذراعه لتلف حول عضلة الذراع خرطوما، وشدته على آخره، حتى تتمكن من تحديد مكان الوريد. وانصرف هو عن وريده الخفي، متأملا تقاطيع الممرضة الحسناء، مكتشفا فيها ـ هي الأخرى ـ مسحة جمال تميزها عن غيرها. قالت له بعد انتهاء حقنه :
                                ـ بالشفاء..
                                عرف أن اسمها نادية. أضافها إلى قائمة البنات اللاتي صادفنه، وحفظها أمين عن ظهر قلب. في اليوم التالي، حضر الامتحان وحرارته مرتفعة. العرق يتفصد من وجهه. أحس المراقب باضطرابه. قرأ ما كتبه في موضوع التعبير، فأعجب بأسلوبه وصياغته الأدبية الرائعة واستشهاده بأبيات شعرية رقيقة.
                                انقضت أيام الامتحان بين السهر والحمى. يذاكر كيفما اتفق. يقرأ ملخصات ومراجعات ليلة الامتحان. تحرص أمه على إعطائه الجرعات في مواعيدها. تحثه على الاستعانة بالله الشافي. وبانتهاء الامتحان، شفي من المرض. ترى أمه أنها عين أصابته. أما أمين فلم يحضر امتحان الفرنسية. دهش صاحبه، الذي منعه المرض من السؤال عنه. زاره بعد الامتحان يسأل عن سبب تغيبه الثلاثة أيام الأخيرة. قال إنه فقد الأمل في النجاح.. وبذلك عرف النتيجة سلفا.. هي إعادة السنة للمرة الثالثة ! تعلق فتحي بمستقبله بين الرجاء والأمل. فوجئ بنجاحه بمجموع يؤهله لدخول كلية الهندسة. كانت فرحة أبيه لا توصف. ونجح ثروت بمجموع هزيل، إلا أنه فرح كما لو أنه حصل على المجموع النهائي، فما كان يأمل في شيء أكثر من النجاح.

                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                إدراج: مصغرة صغير متوسط كبير الحجم الكامل إزالة  
                                أو نوع الملف مسموح به: jpg, jpeg, png, gif, webp

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة
                                يعمل...