الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب

تقليص
X
  •  
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    كاتب مسجل
    • Jun 2006
    • 1123

    #46
    رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

    ـ 45 ـ

    أين أنتَ يا صديقي ؟
    أين أراضيك ؟
    هذا المساء، تكاثرت غيوم، واشتعل القلب حزنا. كم كان بودي أن أحدثك عن مارسيل البيضاء. نعم هي بيضاء. هكذا أحب أن أصفها. بيضاء البشرة، بيضاء الزي، بيضاء القلب. سوء الطالع هذه المرة ـ ككل مرة ـ لازمني.. فإذا حبيبة القلب الأخيرة، نجمة أخرى تنطفئ سريعا من سماء حياتي. وددت ألا أبوح بعلاقتي بها، حتى لا تقول لي عبارتك الأثيرة : " أنتَ بكل بنت معجب ". وددت أن أبرهن لك، في الوقت المناسب، أن حبي لها لا تقتلعه الرياح ولا تقوضه الأعاصير. وأنني لست هوائي النزعة، وأنني أعيش حالة حب حقيقية..
    وضع القلم على المنضدة، واسترجع ما حدث. كيف يحكي حكاية حبه من أولها ؟ هل تفي الرسالة بالمطلوب ؟ هل يستطيع التعبير عن مشاعره وأحاسيسه ؟ فليحاول..
    بدأ يسرد وقائع حبه لها. توقف عن الكتابة مرات عديدة، مترددا، حائرا، وفي آخر الرسالة طلب منه الرأي والمشورة.
    كتب رسالة لمصطفى يحييه في هذه الظروف الدقيقة التي يمر بها الوطن.
    تغيبت مارسيل عن المحاضرات. قلق عليها. استبدت به رغبة في السؤال عنها. قصد منزلها في جرأة غير معهودة. فتحت مريم الباب، ابتسمت وهي توسع له الطريق :
    ـ تفضل..
    جلس في الصالة، بجانب المنضدة التي تلقى عليها دروس الفرنسية. طال الانتظار. قدمت مريم عصير المانجو. سأل عنها، فأتاه صوت الأم مقبلة نحوه :
    ـ مارسيل عند خالتها..
    ـ تغيبت عن المحاضرات، فأتيت أسأل...
    صمت مطبق أحاط بالثلاثة..
    قال بصوت خفيض :
    ـ قالت لي مارسيل إن طبيبا خطبها..
    ـ لم يتقدم بعد..
    ـ أعتذر عن أي خطأ بدر مني..
    ـ عبرت عن مشاعرك.. ليس في هذا خطأ.. نحن بشر..
    فرحت مريم بالهدوء الذي شمل الأم، بعد العاصفة التي هبت أمس بينها وبين أبيها. ابتسمت وقالت لفتحي :
    ـ أعمل شايا ؟
    لم يتوقع هذه المقابلة الودية، فشجعته على القول :
    ـ هل يحق لي اعتبار مارسيل أختا لي ؟
    ـ أختك وزميلتك..
    هدأت زوابعه بعض الشيء. انصرف وشيء من السكون يطمئنه. كان حسان قد أوجعه بكلماته. طلب منه الابتعاد عنها حرصا علي سمعتها أمام زملائها. راجع حسان فيما قال. طمأنه إلى أنه استقبل بحفاوة، إلا أن حسان لم يغير موقفه..
    التقاها في ميدان عبده باشا. مرت ثلاثة أيام لم يرها خلالها. قال في عتاب :
    ـ لماذا كذبت عليّ ؟
    ـ فيم الكذب ؟
    ـ قلت إن طبيبا تقدم لخطبتك..
    ـ سيتقدم..
    ثم قالت بنبرة حادة :
    ـ فتحي.. علاقتنا مآلها الفشل. نحن نسير في طريق مسدود.
    تردد لا يعرف كيف يحسم الأمور. قال في أسى :
    ـ فرحت بك. كدت أعلن للعالم حبي.. كدت.. أتحدى بكِ العالم..
    ـ دعك من أحلام الشعراء..
    ـ لست بشاعر.. إنها لغة القلب..
    ـ أردت أن أعفيك من حرج لا تستطيع أن تواجهه مع أهلك..
    ـ ما الحل إذن ؟
    ـ لنكن أصدقاء.. وكفي..
    ـ كيف ؟
    ـ كالصداقة التي تربط والدي بوالدك.. كالزمالة التي جمعتهما معا..
    وافترقا. كل سار بمفرده.. متجهين إلي الكلية !

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      كاتب مسجل
      • Jun 2006
      • 1123

      #47
      رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

      ـ 46 ـ

      من يضمد الجراح ؟
      لفظت حميدة أنفاسها في المساء. لم يشعر بموتها أحد. تيقظت من نومها وقد ذهبت عنها آلام المرض. هكذا في لحظة من الزمان يرحم الله فيها عبده. زوجها نائم علي الكنبة المواجهة للسرير, وهي ترقد علي السرير وفي حضنها الوليد. أغفى حين وجدها تغط في سبات عميق. تفصد جبينها بحبات العرق. استيقظت, رنت إلي الوليد بركن عينيها. تحسست وجهه ورأسه, نهضت لتضعه في حجرها, تضمه إلي صدرها, تقبل جبينه, وخده الأيمن فالأيسر. تقبل فمه, شعر رأسه.. ضمته أكثر.. كم سنة مرت وهي تحلم به ؟.. أرقدته في مكانه.. نادت علي عنايات كي ترضعه.. حضرت مسرعة.. حرصت أن تناولها الوليد بنفسها..
      ـ خذي بالك منه..
      ـ إنه في عينيّ..
      عادت تستلقي علي الفراش.. أحست براحة.. أغفت عيناها.. حلقت ملائكة من حولها.. رأتهن يمسكن بحمزة الصغير يطوفن به في أرجاء الغرفة, وفي أيديهن شموع.. كأنه السبوع.. ما شاء الله.. يحرسك الله يا ولدي.. فتحت عينيها.. شهقت شهقة مفاجئة من صدرها.. ثم غابت عن الدنيا، واستراحت في ضجعتها..
      عادت عنايات تضع الطفل مكانه.. تتحسس رأسه ووجنتيه.. نادت علي حميدة.. قبل أن تخرج.. لكن حميدة لا تتحرك.. لا ترد.. علا صوتها بالنداء, لم يلب النداء سوي الفراغ.. احتد الصوت.. فأيقظ جابر.. تنبه.. قال لها :
      ـ دعيها نائمة..
      كأنها لم تسمع.. هزت كتفها وهي تنادي بصوت متحشرج, بدأت تقلق..صرخت :
      ـ جابر يا أخويا.. تعال شوف حميدة..
      انطلق صراخها صواتا أيقظ كل من في البيت والبيوت المجاورة..
      لم يتملك حمزة نفسه من البكاء، حين جاءه الخبر.. تلعثم لسان عويس حين شاء أن يواسيه, سبقت الفتي دموعه.. احتضنه.. وقد غرق الاثنان في نهر الدموع !
      انكب علي المذكرات والكتب والمحاضرات، استعدادا لامتحان آخر العام بعد غد السبت الثالث من يونيو.. عليه أن يئد جراح القلب. دخلت أمه تحمل صينية الشاي, تقول :
      ـ لا تتعلق بالمستحيل..
      فهم مقصدها. وضعت الصينية بجانبه وخرجت وهي تدعو له بالنجاح. استبد به الشوق لرؤية أمين ومصطفي، اللذين ذهبا إلى سيناء في مهمتين مختلفتين. عم حمزة أتعبه وهن الصحة, وعويس حكي له ما فعله ثروت بعزيزة.. وحميدة بين يدي الله.. وهو.. عليه أن يئد جراح القلب.. إذا زهت وردة في بستان قلبك, اقطفها واستمتع برحيقها.. لكنها لن تدوم لك.. أأنت بكل بنت معجب حقا ؟ أم هو سوء الحظ يلازمك منذ كنت طفلا, تميل إلي الانطواء, وتحب من طرف واحد. لا تغنم بفرحة ينبض بها قلبك.
      فوجئ بابن الشيخ محمود يطرق الباب، وينعي إليه وفاة حميدة. نهض واقفا وارتدى ملابس الخروج على عجل. هرع إلى عم حمزة يواسيه ويشد أزره. التقى الشيخ محمود وجابر وعويس ومحفوظ وآخرين لا يعرفهم. جلسوا على كراسٍ اصطفت بمدخل النفق، يلتفون حول حمزة، يستمعون إلى آي الذكر الحكيم. كان النفق مظلما، وحركة السيارات بطيئة. حضر الفتوة ورجاله فزاحموا المكان..
      عاد يواصل ما قطعه من مذاكرة. إلا أنه من حين لآخر يفكر في مارسيل التي هجرها أو هجرته. لا يدري بالضبط مَن ترك الآخر, ويفكر في حمزة وجابر ومصابهما. ويستبد به الشوق إلى صديقيه البعيدين..
      بعد أداء الامتحان، التقى مارسيل عرضا، فحياها وحيته. سألته عن الامتحان وسألها.. وانصرفا.. اتخذ من حسان رفيقا. تحدثا عن الوضع المضطرب على جبهة القتال. هل سنحارب أم هي أزمة سياسية ؟
      يوم الاثنين موعد امتحان الفيزياء. وزع المراقب ورق الإجابة والأسئلة في التاسعة تماما. لم تمض دقائق حتى سمع دوي المدافع. اضطرب قليلا. سأل أحد الطلبة المراقب :
      ـ بدأت الحرب..
      طمأنه المراقب. وجه الكلام لكل الطلبة بأن يواصلوا الامتحان..
      مر الوقت عصيبا. بعض الطلبة فقد أعصابه، وسلم الورقة دون أن يخط حرفا واحدا..
      التقى حسان خارج اللجنة. وازدحم الطلبة وهم يقولون بعضهم إلى بعض : هي الحرب كتبت علينا..
      وفي الشارع، تعطلت المواصلات.. حيث وجهت سيارات هيئة النقل العام لخدمة جبهة القتال وأمور الدفاع المدني. سيارات محملة بأفراد الاتحاد الاشتراكي يهتفون بحياة مصر والنصر. ساد الشارع اضطراب. ثمة تفاؤل بأن النصر آت. اضطر فتحي وحسان ومارسيل إلى السير على الأقدام إلى شبرا. ملأت مكبرات الصوت الشوارع والميادين، تذيع البيانات العسكرية، بحسب ما ترد إلى الإذاعة. كم طائرة أسقطناها للعدو ؟.. خمسا.. أصبحت ثمان.. عشرا.. خمس عشرة.. عشرين.. أربعين.. كلما زاد العدد اشتعل الحماس وزاد التفاؤل بالنصر. مشى بمفرده من شبرا إلى إمبابة. لم يحس بتعب وهو ينصت للبيانات العسكرية المبشرة بالنصر. أحمد سعيد مذيع صوت العرب ينادي بصوته الحماسي :
      ـ أبشروا يا عرب.. تم تحرير جبل المكبر...

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        كاتب مسجل
        • Jun 2006
        • 1123

        #48
        رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

        ـ 47 ـ

        أثاره ما سمعه من عزيزة. الشاب الوقح استباح عرضها. استلقى على ظهره عند مدخل الغرزة، ناظرا إلى اتساع السماء وقد غيبت الغيوم القمر. أنّب نفسه. هو الذي عرض عليها الخدمة في منزل ثروت. لو لم يطعه في البحث عن شغالة، ما حدث شيء مما حدث. ألقى باللائمة على نفسه. كيف يصلح الخطأ ؟ كيف يرأب الصدع ؟ أعز ما تفخر به البنت عفافها. ما من موضوع تتدخل فيه إلا ويفشل. أنت وش نحس. دعك مما قاله الرجل الطيب عم حمزة من أنك وش خير. من أين يأتي هذا الخير ؟ حميدة توفيت وهي تضع الجنين. لحظة مريرة واجهت حمزة وجابر. كل الأمور تسير إلى نهاية مأساوية. من الأفضل ألا تعرض غيرك للتهلكة. صحيح أن كل شيء بيد الله. لكن هل تستطيع أن تعفي نفسك من هذا النحس المصاحب لك ؟
        لاحظ محفوظ من الشرفة المقابلة قلق عويس، يفترش الأرض على غير عادته، ممددا جسمه الهزيل على حصيرة، واضعا رأسه على وسادة صغيرة، محلقا في ملكوت الله، ونجوم السماء تتناثر نقطا مضيئة. نهض يرحب بجاره، الذي قال :
        ـ فيم انشغالك ؟ وأين حمزة ؟
        ـ كان الله في عونه. نائم على السرير..
        أطلقت صفارات الإنذار فدلفا إلى الحجرة، يجلسان على الكنبة، ويهمسان بالحديث، حتى لا يقلق حمزة. إلا أن قلقه دون سبب معروف. انتفض وهو نائم، وصرخ.. زعق :
        ـ الحقوني.. النفق سيقع على رأسي..
        هرع عويس. دلّك جبهته وهو يقول :
        ـ اللهم اجعله خيرا..
        تنبه إلى من حوله. نهض يرحب بمحفوظ. تحدث عن مواجعه، وضميره الذي يؤنبه. حكى لهما قصة الوغد المدعو ثروت. وما فعله في المسكينة عزيزة. قال جزعا :
        ـ أنا السبب..
        قال محفوظ ملطفا :
        ـ أنت قصدت خيرا..
        سأله عما يمكن عمله من أجلها. قال محفوظ :
        ـ ادع لها..
        أردف حمزة :
        ـ وادع لمصر بالنصر..
        قال عويس وهو قلق :
        ـ ماذا لو أصلحت الخطأ وتزوجتها ؟
        سأله محفوظ مستغربا :
        ـ أأنت الذي زنيت بها ؟
        أجاب حمزة :
        ـ المفروض أن ثروت يبادر بإصلاح خطئه..
        بادره عويس :
        ـ كيف ؟
        قال حمزة :
        ـ يتزوجها..
        قال عويس :
        ـ لن يفعل.. إنه وغد..
        بادر بإعداد الشاي، والدنيا ظلام دامس. رجال الدفاع المدني يجوبون الشوارع، طالبين من الأهالي إطفاء الأنوار !.. دويّ المدافع يسمع في كل اتجاه.. تعيش البلاد في مأساة مع عدو شرس يحارب في كل الجبهات. مأساة الوطن في كل عين تنظر إليها، ومأساة عزيزة تعيش في قلبه الجريح. ناولهم الشاي وقال في مفاجأة لا يتوقعها أحد :
        ـ ما رأيكم في أن أتزوجها..
        قال محفوظ مستغربا :
        ـ تتزوج من ؟
        ـ عزيزة..
        ـ كيف ؟
        ـ لن أستطيع الوقوف ضد ثروت. لكن المسكينة ما ذنبها ؟ لابد أن نرد لها كرامتها..
        يئن حمزة متوجعا :
        ـ خلي بالك.. لقد حملت سِفاحا.. فكيف الزواج ؟
        ـ إذن.. أرفع قضية رد شرف ضده..
        ـ لا تكن أهوج..
        ـ لابد من حل يا جماعة..
        ذات مساء.. توجه إلى شحاذة زميلة لها، وسأل عنها، أجابت :
        ـ لم أرها البارحة. لا أعرف أين ذهبت ؟
        بدأ يبحث عنها، مرة ثانية.. وهو مصمم على عقد قرانه عليها.. كرد اعتبار للبنت المسكينة ! ولكن أين هي ؟
        نشط الكل في البحث عنها.. عويس وجابر وحمزة ومحفوظ.. لكن.. ما من حس، ولا خبر..

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          كاتب مسجل
          • Jun 2006
          • 1123

          #49
          رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

          ـ 48 ـ

          ترك الغرزة وهام على وجهه، دون تحديد هدف. لعبت به الأفكار، واختلطت الأمور. غير مصدق ما حدث لعزيزة. يهجس داخله باضطراب شديد. ماذا يفعل ؟ اتجه إلى منزل ثروت. بوده أن يقتله. حتى لو ضحى بنفسه، لا يهم. لو قتله، سيستريح الناس من شروره. هو أول ضحاياه حين أوعز لمأجورين أن يضربوه. حتى عم حمزة المسن لم ينجُ من ضربهم، بل هو المستهدف الأول. من الخطأ تركه يلهو ويهتك أعراض البنات المسكينات. أحس عويس بأنه السبب فيما حدث. لو لم يدلها على منزل أسرته، لتعمل شغالة، لنجت من شروره. لكن.. ماذا تفيد " لو " بعد أن وقعت الفأس في الرأس ؟!
          اقترب من المنزل. جمد مكانه. لو قتله، هل يستطيع أن ينقذها من العار الذي لحق بها ؟ بالعكس، ستنتشر دوافع الجريمة، وأسبابها، وينكشف المستور، من حَمْل عزيزة سفاحا.
          حدث نفسه : هل تجرؤ على قتله ؟ أنت لم تقتل نملة. مسالم لأقصى حد. تركت أسرتك في " ميت نما "، حتى تريح نفسك من مشاكل أنت في غنى عنها. كيف تقتل نفسا ؟ المهم عزيزة.. أين هي ؟ كيف حالها ؟ إذن، ليبحث عنها.. ربما يرق قلب ثروت ويتزوجها. أين أنت يا مصطفى ؟ في استطاعتك التأثير على أخيه صبري. يمكنك الضغط على ثروت ليتزوجها. لكن مصطفى في الجبهة يدافع عن الوطن بروحه، بينما ابتلي الوطن بثروت ومن على شاكلته. شتان الفرق بينهما، بين المحب والحاقد، بين الملتزم والمستهتر..
          صح عزمه على أن يتزوجها، يستر العرض المهان. الجنين في أحشائها، يمكن أن يربيه إكراما لها. هذا حل ممكن، فليس في إمكانه قتل ثروت، كما أن الجريمة أثرها باق، وليس في إمكانه إقناع ثروت بالزواج منها.
          ليبحث عن عزيزة ويعقد عليها عند أقرب مأذون. هذا حل ممكن.
          عاد في المساء إلى الغرزة، معلنا تصميمه على أن يتزوجها. رضخ حمزة وجابر وجاره محفوظ، مشفقين عليه من تحمل خطأ الغير. نصحه حمزة أن ينتظر حتى الصباح..
          قصد المكان الذي تجلس عنده مع زميلتها، فلم يجدها. ضربت كفا بكف من قلة الحيلة. أغلقت صرتها ومشت معه يترددان على أماكن اعتادت الذهاب إليها.
          ليلة أمس، حين توجه عويس إلى منزل ثروت، ثم نكص عائدا. فعلت عزيزة الشيء نفسه. لكنهما لم يتلاقيا. قصدت منزله تخاطب الجانب الإنساني في قلبه. بيتت النية على قتله إن لم يستجب لتوسلاتها. سوف تقتله بسكين حادة خبأتها في جلبابها.. إلا أنها ترددت. لن يوافق على الزواج منها.. فهل تقتله ؟ هل تسجن، وتلد جنين الخطيئة ؟ سوف تبقى مشكلتها في هذا الجنين. تبقى المشكلة بصورة أفدح. ترددت. جمدت في منتصف الطريق، ونكصت على عقبيها، متجهة إلى نهر النيل. وقفت عند كوبري إمبابة، في الدور العلوي المخصص للمارة. تأملت أمواجه الهادئة. ماذا يخفي النهر من أسرار ؟ وجمت لحظات لا تلوي على شيء. نظرت إلى السماء داعية الله أن يرحمها ويغفر لها. دمعت عيناها.. يا نيل.. كم من ضحايا آثروا الموت على الفضيحة ! هل تعدني بأن تكتم أسراري ؟ أراك يا نهر رحيما بي.. لن تخذلني.. إذا ارتميت في أحضانك، لن تكشف للناس فضيحتي. هذا عهد أعاهدك عليه. قصف المدافع دوّى في عرض السماء، أضاء ظلمة النهر. أحست بالدويّ يغريها بفعل ما انتوته. لا حل لمشكلتها إلا بالانتحار. قفزت من على السور، فزغردت مياه النهر الغاضب، محتضنة أعز الناس إلى قلب عويس. ما زالت طلقات المدافع تدوّي كأنها في هذه المرة تشيعها إلى مثواها، وهي تنعي حال البلد وحال الضحية.
          لم يعرف أحد شيئا عن انتحارها. ظل عويس يبحث عنها، يذرع الأرض طولا وعرضا. لم يترك شبرا واحدا في شوارع إمبابة إلا وطئته قدماه. ينادي أولاد الحلال كي يدلوه على مكانها. وفي اليوم الثالث طفت جثتها المنتفخة على سطح المياه !

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            كاتب مسجل
            • Jun 2006
            • 1123

            #50
            رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

            ـ 49 ـ

            التقي مع حسان وتناقشا في مصير الحرب. توجه إلى منزل مصطفى، يسأل زوجته عما إذا كانت هناك أخبار عنه. لم يصلها شيء. طمأنها خيرا. حمزة وعويس يجلسان بجوار المذياع الصغير، يتابعان منه الأخبار. قلق حمزة يدفعه للذهاب إلى جابر. تناوله عنايات حفيده الصغير، يقبل وجنتيه ويدعو له. قال جابر :
            ـ من ريحة المرحومة..
            ـ هو الأمل..
            تقعد نرجس في بيتها قلقة. أين أنت يا مصطفى ؟ في أي موقع تحارب ؟ متى تكتحل عيناي بمرآك ؟ تأتي إليّ منتصرا.. مزهوا.. تذهب إلى والدتها، تتابع أنباء القتال من التليفزيون. بدأت البيانات العسكرية تقل، يخيم صمت محيّر. الأناشيد الحماسية تدوي في الإذاعة والتليفزيون. صفارات الإنذار تدوي من حين لآخر، ليل نهار.. تهرع جماعات إلى الخنادق أو الطوابق الأرضية، وتصر جماعات أخرى على ممارسة حياتها العادية. العمر واحد والرب واحد. طلقات المدافع تدوي في سماء العاصمة.
            صعد إلى سطح الاستراحة، باعتبارها أعلى نقطة يمكن أن يرتفع إليها، لينظر إلى الأفق، وفي عينيه قلق. طابور آليات للعدو يتقدم نحو القنطرة شرق، توقع أن يصل المدينة خلال ربع الساعة. المحطة هدف حيوي. من الخطر البقاء في المكان تحت رحمة رصاص طائش وموت محقق. لا يوجد جندي مصري واحد. دمعت عيناه. شاهد الجنود المصريين في رحلة العودة المحفوفة بالمخاطر إلى القاهرة، راكبين أو راجلين. يتساقط منهم قتلى، والمصابون لا يجدون من يسعفهم أو ينقلهم إلى مكان آمن. الصورة مأساوية لا يتخيلها أحد. فوضى تضرب أطنابها في كل تصرف، وخراب عشّش في كل الأرجاء. لم تعد القطارات تتقاطر إلى العريش. خط السكك الحديدية ضربه العدو في عدة أماكن. لا حماية ولا إمدادات ! هي الهزيمة الكبرى. جمع أدواته الشخصية وقال لزميله :
            ـ ليس للبقاء هنا معنى أو فائدة..
            سايره زميله. مشيا خطوات في اتجاه العبّارة. توقف زميله مترددا. قال إنه نسي أشياء مهمة تخصه..
            ـ اسبقني إلى العبّارة. سألحق بك سريعا..
            ـ بسرعة..
            صعد العبّارة بمفرده إلى الضفة الغربية لقناة السويس، في آخر رحلة لها. تخلف زميله، وبقي في المدينة كأنما هو حارس لمبنى المحطة والاستراحة، حارس مدني مصري، يطاح برأسه حين يريدون.
            لمح زميله وهو يلوح له من الضفة الشرقية، واقفا فوق كثبان الرمال، وفي يده حقيبة صغيرة وعود. لم يبد عليه الندم. لوح بيديه مبتسما، سعيدا ببقائه هنا ! لعله أراد أن يتغنى بأغنيات عشق للوطن الذبيح !
            بيده حقيبة سفر صغيرة، وفي قلبه مرارة. على الطريق المتجه إلى القاهرة، شاهد الجنود المصريين في رحلة العودة إلى أي مكان !.. يستقلون أي مركبة تقابلهم. لا هدف للجنود المنسحبين سوى العودة إلى الأهل. هم في قلق مستبد على أحوالهم. سرى خوف بينهم على أسرهم في مصر. ساورهم قلق من دخول إسرائيل القاهرة. ربنا يستر..
            ألقى الحقيبة على الأرض، واحتضن أمه وأباه. ثم طار إلى صاحبه. تعانقا بحرارة، ثم جلس يحكي مأساة جيش يتقهقر ! لم يصدقه. سأل في مرارة :
            ـ أين روسيا ؟
            ـ لنا الله..
            زار نرجس جندي قدم نفسه بأنه زميل زوجها. وهو عائد لتوه من جبهة القتال. قصدها قبل أن يعود إلى داره. يحمل أمانة من مصطفى. كانا في خط المواجهة بغزة، و...
            مد يده بلفافة تخص زوجها، ثم.. خانه التجلد الذي أكره نفسه عليه، فبكى.. صرخت نرجس. التف الجيران حولها. انهارت مرتمية على الأرض. هرع إليها أبواها.. رفع الأسطى حسين يديه إلى السماء، طالبا لابنه الشهيد الرحمة والمغفرة. خانته دموعه، وهو يتذكر فجيعته الأولى.. حين رأى زوجته يكاد يتقطع قلبها من شدة البكاء، واساها بكلمات خنقتها دموع سخية.. إلى جنة الخلد يا شهيد..
            كان زميل مصطفى قد عاد ممزق الوجدان، ضائع الخطى. مشى في الصحراء التي لا حدود لها. لا يعرف كم كيلومترا قطع وفي أي اتجاه ؟! استقل أول مركبة قابلته. نزل منها وأكمل السير. التمس الراحة في ظل شجرة. زملاء مثله كثيرون، التقاهم أو افترق عنهم.. منهم من سقط إعياء، ومات مكانه عطشا أو جوعا أو تعبا..
            فض الأستاذ فريد اللفافة، فوجد فيها دبلة الزواج ومصحفا ومحفظة بها جنيهات قليلة، وبطاقة هوية وأوراقا أخرى.. و.. رسالة كتبها قبل استشهاده بسويعات قليلة أو ربما لحظات، عبر فيها عن أمله في العودة منتصرا، أو الاستشهاد !
            ألقى جمال عبد الناصر بيانه إلى الأمة عبر قنوات الإذاعة والتليفزيون. صارح الشعب بالحقيقة التي لم يقلها أحد. لقد هزمنا. لكنها ليست آخر المعارك. إنها نكسة في تاريخ كفاح الشعب. أعلن مسئوليته عما حدث وعرض التنحي عن السلطة..
            اندلعت مظاهرات تأييد له من كافة طوائف الشعب المنكسر. كانت المظاهرات أشبه ببركان اندلع فجأة..
            حين عاد سعد زغلول من أوربا في سنة 1921م، كانت الأمة في استقباله كأنها طائر مد جناحيه. يقول مصطفى صادق الرافعي في هذه المناسبة : " نعم، لم ينتصر البطل، ولكن الأمة احتفت به لأنه يمثل فيها كمالا من نوع آخر هو سر الانتصار؛ فكانت حماسة الشعب في ذلك اليوم حماسة المبدأ المتمكن، يظهر شجاعة الحياة، وفورة العزائم، وفضيلة الإخلاص، وشدة الصوْلة، وعناد التصميم، ويثبت بقوة ظاهرة قوة باطنة. وكان فرح الأمة عنادا سياسيا يفرح بأنه لا يزال قويا لم يضعف. وكان ابتهاجا مجدا يشعر بأنه لا يزال وافرا لم ينتقص. وكان الإجماع ردا على اليأس. وكانت الحماسة ردا على الضعف ".
            احتشدت الجماهير بعد نحو ستة وأربعين عاما تثني الزعيم عن التنحي، وتطالبه بتحمل مسئوليات الحكم. معدن الشعب المصري أصيل، يستشرف المستقبل، يتجاوز المحنة. في الظروف العصيبة يسمو على الخلاقات ويتجاوزها في سبيل المصلحة العليا للوطن.
            ذابت نرجس في الجموع المحتشدة تدعو بالثأر. نسي حمزة صحته العليلة، وشارك في المظاهرات، التي امتدت من الميادين والشوارع الرئيسية إلى الحارات والأزقة والدروب. بكى شاب بحرقة، وألقى بنفسه من فوق كوبري إمبابة. مرارة الفجيعة لم تترك شيخا مسنا ولا امرأة ولا طفلا. الكل خرج عن بكرة أبيه في مشهد لا مثيل له. هتف حمزة من سويداء قلبه :
            ـ حماكِ الله يا مصر..
            دخل الشيخ محمود مسجد زيدان لأول مرة، يؤم المصلين، يخطب فيهم قائلا :
            ـ إننا هزمنا لأننا بعدنا عن كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه..
            اختلت نرجس بعيدا عن الأهل. فضت رسالة الشهيد. قرأتها بعين دامية. قال ضمن ما قال :
            " لا أعلم كيف أبعث بهذه الرسالة إليك. يداعب خيالي وليدنا المنتظر. أرجو أن تسميه " أمل " سواء كان ولدا أم بنتا، فكل عطايا الله حلوة. إنه الأمل يطوف بخيالي بتحقيق النصر لمصر. لا أدري متى يتحقق النصر، لكنه آتٍ لا ريب فيه ".
            اختلى حمزة بنفسه وهو يعجب من أحوال الدنيا. حدث نفسه : " خفت على نفق صغير، ولكني لم أتوقع هذا الزلزال الذي أصاب مصر كلها ".
            قال حمزة لعويس :
            ـ حضر شاب من البلد وسأل عنك. قال إن أباك يريد أن يراك !..
            تجاهل ما قال. انتحى به وهمس في أذنه ـ رغم أنه لا يوجد أحد معهما ـ بأنه ينوي الزواج من عزيزة..
            زجره قائلا :
            ـ يا أخي البلد في كرب، وأنت تفكر في الزواج.. هل هذا وقته ؟
            ـ قصدي.. عزيزة مكسورة الخاطر..
            ـ يعني أنت تجبر بخاطرها..
            هز رأسه بالإيجاب..
            أطرق حمزة هنيهة، ثم قال في مرارة :
            ـ البلد كلها مكسورة الخاطر..
            بعد فترة صمت، همس حمزة في أذن عويس :
            ـ ولد يا عويس.. خذ بالك من الغرزة.. هي لكَ من بعدي. الواحد لا يضمن عمره.
            ـ ربنا يطيل عمرك يا عم حمزة..
            سمع عويس بأن جثة امرأة وجدت طافية على النيل. هرع إلى المكان، شق طريقه بصعوبة. أخرجوا الجثة ووضعوها على الشاطئ. غطوها بأوراق الجرائد حتى تأتي عربة الإسعاف. ارتعد وهو يقترب منها. بيد مرتعشة، أزاح طرف الورقة عن وجهها. صرخ غير مصدق أنها تقدم على الانتحار. بكى كما لم يبكِ من قبل. التف الأهالي حوله يطيبون خاطره. لكن حالة هستيرية انتابته، فطفق يردد اسمها. قعد القرفصاء وأخفى وجهه بين ذراعيه. وقال في حرقة :
            ـ الله يخرب بيتك يا ثروت.. الكلب...
            أمسك به شيخ طاعن في السن، يستنهضه :
            ـ قم يا ولدي.. لملم جراحك.. البلد كلها منكوبة.. لست وحدك..
            تعلق بعينيه الغائرتين. احتوى كفه بكلتا يديه، بللها بدموعه، كأنما الدموع تطهر الصدر مما علق به من أدران.
            سار في الطريق على غير هدى، والشيخ المسن يسير معه. تودد إلى الشيخ، وهو يحكي ما فعلته زوجة أبيه، وكرهه لها.. قال للشيخ إن أباه بعث بشاب يبحث عنه، حتى اهتدى إلى مكانه. طلب منه أن يعود..
            ـ بماذا تنصح يا شيخنا ؟
            ـ عد إلى أبيك يا ولدي..
            عاد إلى حمزة وعرض عليه الأمر. قال حمزة :
            ـ لن أحرمك من أبيك، ولو أنك في منزلة ابني الذي لم تنجبه زوجتي !..
            احتضنه وقد غرق وجهه بالدموع.. قال مطيبا خاطره :
            ـ عفا الله عما سلف..
            عكف فتحي يكتب في مذكراته مأساة أمة نكبت في أعز أمانيها.. بللت الدموع الصفحة التي يكتب فيها.. تطلع إلى السماء، عساه يهتدي إلى نجم ما، لعل أملا جديدا يلوح في الأفق !
            ( النهـايــة )

            إمبابة في : 3 أكتوبر 2003

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              كاتب مسجل
              • Jun 2006
              • 1123

              #51
              رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

              مؤلفات الكاتب حسني سيد لبيب

              1-باقة حب للشاعر خليل جرجس خليل : دراسة أدبية " بالاشتراك " ـ القاهرة 1977
              2-حياة جديدة : قصص ـ أصوات معاصرة ـ الشرقية 1981
              3-أحدثكم عن نفسي : قصص ـ اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 1985
              4-طائرات ورقية : قصص ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة 1992
              5-كلمات حب في الدفتر : قصص ـ ط 1 ـ اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 1993، ط 2 بتقديم د. خليل أبو ذياب ـ أصوات معاصرة ـ الشرقية 1997
              6-سبعون ألف آشوري : قصص مترجمة ـ وليم سارويان ـ دار الصداقة للترجمة والنشر والتوزيع ـ حلب 1994
              7-ابن عمي ديكران : قصص مترجمة ـ وليم سارويان ـ دار الصداقة للترجمة والنشر والتوزيع ـ حلب 1994
              8-الخفاجي.. شاعرا : دراسة أدبية ـ تقديم البشير بن سلامة ـ رابطة الأدب الحديث ـ القاهرة 1997
              9-دموع إيزيس : رواية ـ مركز الحضارة العربية ـ إمبابة بالقاهرة 1998
              10-نفس حائرة : قصص ـ تقديم محمد جبريل ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ـ الإسكندرية 1999
              11-مصادر المعلومات عن العالم الإسلامي بين الإنصاف والمغالطة : بحث ـ مكتبة الملك عبد العزيز العامة ـ الرياض ـ 1999
              12-روائي من بحري : دراسة نقدية ـ كتابات نقدية العدد 113 ـ هيئة قصور الثقافة ـ القاهرة 2001
              13-اتجاهات القصة التونسية القصيرة: دراسة أدبية نقدية ـ بالاشتراك مع رشيد الذوادي ـ دار الإتحاف للنشر ـ تونس
              14-الكرة تختفي في الأعالي: قصص ـ سلسلة أصوات مُعاصرة ـ الشرقية 2005.
              15-نفق المنيرة: رواية ـ اتحاد الكتاب مع الهيئة المصرية العامة للكتاب 2007م.

              تعليق

              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
              حفظ-تلقائي
              إدراج: مصغرة صغير متوسط كبير الحجم الكامل إزالة  
              أو نوع الملف مسموح به: jpg, jpeg, png, gif, webp

              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

              صورة التسجيل تحديث الصورة
              يعمل...