الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

تقليص
X
  •  
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    كاتب مسجل
    • Jun 2006
    • 1123

    #16
    رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

    (14)

    فُتح باب الزنزانة عن سحنة ترهقها عبرة وإن بدا عليه الخيلاء والعجب . جرنى من رقبتى بزهو وقذفنى خارجها .. إن نشوة تطفح من عيونهم وهم يقومون بعذابنا . وأمرنى بصوت غليظ بالزحف خلال الردهة الطويلة إلى أن أصل إلى غرفة التحقيق حيث المكتب البيضاوى ومن ورائه الجسد الضخم .. وقال ضابط التحقيق :
    - ما فعله بك مجرد تمويه لا أكثر ..
    - جسدى خرقة بالية .
    وارتعش جسدى كله , واصطكت أسنانى . جمد وجهه وجعل ينقر فوق مكتبه بإصبعه وشعرت بدوار .. تباعد الضابط حتى صار كبقعة سوداء فى فلاة .. وقال :
    - ماذا عندك ؟
    ولما لم أرد ، عاد ينقر على مكتبه , وتلقيت على ظهرى لكمة خلعت قلبى ، وتناثر الدم من فمى . كنت أعرف ماذا يقصد ..بل كنت أريد أن أقول له كل شئ مما جرى فى الزنزانة غير أنى لم أنبس ، ولا أدرى لِمه ! ..وأردف يقول :
    - هذا أخر إنذار لك . ولسوف تفعل ما نأمرك به . زوجتك فى الطريق إلينا , وجنودنا جوعى .
    - لله الأمر من قبل ومن بعد .
    - ليس لله شىء هنا ..
    واهتز جسدى ثانية حتى كدت أن أسقط لولا أن جنديا جذبنى من رقبتى , وتابع الضابط يقول :
    - كن فى جانبنا .. أنا أعرف أنك لست متهماً .. لست منهم .. نعم .. أستطيع أن أثبت هذا . لكن القرائن كلها ضدك .. وعليك أن تثبت للجميع أنك رجلنا .. أليس كذلك ؟
    وتباعد صوته كما تباعدت صورته ، واتسعت الحجرة من حولى , ولم أعد أرى شيئاً .. ولم أشعر بمن حولى إلا وأنا فى الزنزانة . كان مدحت ينضح قلقا , ومحمود سعيد يزفر غيظا بينما قال النمل :
    - يا له من مستنقع قذر نعيش فيه !
    - كرامة فى الحضيض ..
    قالها مدحت وأردف :
    - أعجب كيف يعيش الناس خارج هذه الزنزانة ونحن هنا !
    رد محمود :
    - إنه الشلل كما قال شيخنا عبد السلام النمل ..
    وتساءَل عادل :
    - وهل يعرفون الشيخ عبد السلام ؟
    - ماذا تقصد ؟
    - أرى أننا قد عُزلنا عن المجتمع كله ..
    - أبن ؟
    - عزلة جسدية وعزلة فكرية ..
    - ماذا تقصد ؟
    - إنهم يأخذون إلى المعتقل كل من تظهر عليه بوادر الالتزام وإن لم يكن منا .. وهنا يُمسح عقله , ولا يخرج من هنا إلا أحد رجلين : إما معتوه لا يصلح لشىء أو نسخة منهم بعد عمليات غسيل المخ وما يراه من صنوف العذاب ، لأن عقيدته لم تتمكن فى قلبه ..
    كان مدحت صامتاً يسمع لهما دون أن ينبس , وكان ينظر إلىَّ بين لحظة وأخرى والدموع تطفر من عينيه . وخطر فى ذهنى السوس وكيف ينخر فى العروق حتى تتهاوى وتسقط .. وعاودنى الدوار فتقيأت ورحت فى غيبوبة أهذى .

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      كاتب مسجل
      • Jun 2006
      • 1123

      #17
      رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

      (15)

      عاودتنى ذكرى لطيفة إبراهيم , وانتابتنى خواطر جنسية أزعجتنى . أردت أن أصرخ أو أن أضرب برأسى فى حائط الزنزانة الصلب المظلم بل تمنيت لو أخذونى إلى غرفة الإنعاش .. وقالت :
      - تحدثت عنك مع زوجى ..
      - كيف حدث هذا !!
      - قال : إنك شخص رائع ..
      - أوقد عاد ؟
      - وبارك حبنا ..
      - باركه !
      - نعم ..
      - وعرف أننا ..
      - عرف كل شئ وقد سُر بهذا ..
      - لكن ..
      - لا تخف ..
      - كيف حدث هذا !
      - أقسم لك ..
      وأردفت بدلال وهى تضحك :
      - حسبتك فى بداية الأمر من أصحاب النمل ..
      - ومن النمل ؟
      - شيخ تحاربه الحكومة وقد مات , لكنه حى ..
      - كيف !
      - تلاميذه فى كل مكان .
      - حقاً ؟
      - عموماً .. ما دام الإنسان يصلى فقد حاز كل شىء ..
      - ربما ..
      - وأعجبنى فيك هذا ..
      - هيا بنا .
      - ليس الآن ..
      - متى إذاً ؟
      - لا زالت فى العنابر حركة ..
      وخلعت ملابسها , وقذفت بها فى ركن المكتب المغلق وأنا ألثم ما بدا منها . صرخت بأعلى صوتى .. وقال محمود سعيد :
      - ماذا بك ؟
      - لا شئ ..
      - تحمل ولا تدع الشيطان يلعب بك .
      نظرت إليهم مشدوهاً . وترامى إلىّ صوتها وهى تضحك . وقال عادل النمل :
      - تكلم ..
      - قد ضقت ..
      - الإنسان يسجن نفسه بما فى رأسه .
      - لم أعد أحتمل .
      كدت أن أضحك لولا أن نظرت إليه فوجدته الجد كل الجد . وكأنهم على يقين بأن الفرج آتٍ ، والمستقبل لهم ، وما نحن فيه ماهو إلا مقدمة طبيعية لذلك الفرج المنتظر. إن ما يعذبنى أكثر من غيره أنهم يحسبوننى مثلهم ، ولو رأى أحدهم مافى خاطرى من سوء ، لبصق علىّ .. وقلتُ :
      - الإنسان فى بلدنا بلا كرامة وإن بدا منه رأى سُجن ..
      وكأنما وضعت على الحطب زيتاً ، وإذا بمدحت يقول بحماس :
      - هو ماقلت ..
      وأردف :
      - العجب أننا ندعى أن " نهضتنا " بنيت على أسس علمانية وأننا نسير بخطى ثابتة نحو العلا ويصدق الناس تلك الدعوى رغم أنهم فى الحضيض يعيشون ويتنفسون الضنك !
      وقال محمود سعيد :
      - لا بد من عمل منظم وجاد لإعادة الحياة إلينا ..
      وقال النمل :
      - كنت فيما مضى أعجب من لعن الإمام محمد عبده لساس وسائس ويسوس .. لكنى الآن أفهم لِم لعنها الإمام .. إن السياسة والشغل بها أخرتنا خاصة فى زمن جهل الناس فيه معنى الإسلام .
      - لكن الإسلام كل كامل شامل .. والسياسة فرع من فروع شجرته الباسقة كالاقتصاد الإسلامى والاجتماع الإسلامى والشعائر ..
      قالها محمود سعيد وهو ينظر إلى مدحت شكرى يستطلع رأيه ، فقال مدحت :
      - أنا يهمنى الإسلام السياسي ، لكونه يحدد دورى فى وطنى ، ويحافظ على مقومات وجودى .
      أما عادل النمل فقال :
      - إنسان هذا العصر لا يدرك معنى الدين اللهم إلا على أنه طقوس تؤدى وشعائر يقيمها من يقيمها بجده دون أن يدرك لها مغزى ودون أن يكون لها أثر فاعل فى شئون حياته . لقد شغلنا أنفسنا وشغلنا الناس بالسياسة فى حين أنهم لا يدركون معنى الدين ولا حقيقة هذا الوجود . والنتيجة أن الناس لم تنشغل بما أردناه لهم بل نظروا إلينا نظرتهم إلى المتكالب على كرسى الحكم وصولجان السلطان . السياسة من الفروع .. أنا لا أنكر أهميتها فى حياتنا ولكن هذه الأهمية لن تتأتى إلا بعد تقعيد القواعد وبناء الأساس .
      رد محمود سعيد
      - لم يكن هذا رأيك من قبل ، ولم يكن رأى الشيخ عبد السلام النمل ..
      قال عادل :
      - يجب أن نعترف بالفشل ..
      - لم نفشل !
      - هانحن فى السجون .. وإن خرجنا فلا أثر لنا وقد حولنا الإعلام والجهل بالدين إلى مجموعة من الإرهابيين الذين يريدون الاستيلاء على السلطة بأى ثمن ومن ثم يعذبون الناس ويقطعون رقابهم ..
      - أخارت قواك !
      - بل أريد تصحيحاً للمسار ..
      - كيف ؟
      - لست أدرى .. كل ما أدريه أن الشغل بالسياسة لن يؤدى بنا إلى شىء ، وإنما سنظل هنا فى المعتقلات , وسيأتون بكل من تسول له نفسه بالحديث فى السياسة إلى المعتقل إلى أن يقضى عليه أو يخرج معتوهاً من كثرة ما يلاقيه من صنوف العذاب .. ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إنهم سيضعون من يلتزم بتعاليم الدين دون شغل بالسياسة مع المشتغل بها فى خندق واحد ويضربون الجميع ..
      - إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ..
      قالها محمود سعيد وأردف بعد صمت لم يطل :
      - أنا معك فى أن السياسة من الفروع .. لكنها مما لا يتم الواجب إلا به . إن تاريخ الأمم والجماعات ما هو إلا تاريخ ملوكهم وزعمائهم .. والفارق بين زمن الفاروق وزمن الحاكم بأمر الله هو نفس الفارق بين الفاروق نفسه والحاكم بأمر الله .
      وحل صمت عاودتنى فيه لطيفة إبراهيم بقميص شفاف نم عن مفاتنها , مما زاد من سخطى على نفسى , غير أنها لم تلبث غير قليل .. وقال عادل النمل :
      - المسألة ليست فى سوء أخلاق غيرنا , وليست فى فساد النظام العالمى الذى يحدثنا بلسان يسوع بينما يحمل فى جوفه قلب يهوذا , وإنما المشكلة الكبرى كامنة فى ضعفنا نحن .. كامنة فى سوء فهمنا لطبيعة العصر الذى نحيا فيه . نحن لا نعرف أى روح تُسَير هذا العصر ! , فكيف نواجه ما لا نعرف , وكيف نسود !! كل ما يشغلنا هو محاولة إحياء فرع فى شجرة شُل جذرها .. ذلك ضرب من الحمق , لن يؤدى إلا إلى ضياع الوقت وبذل الجهد فيما لا طائل من ورائه . والحق أننا ما لم نقعد القواعد ونخرج جيلاً قادراً على تحمل أعباء الرسالة والسير بها فى الآفاق ، فلن نصل إلى شىء أبدا ..
      - لكن من يتركك لتربى ذلك الجيل المنشود والذى هو بمثابة القاعدة !
      قلتها دون وعى منى , غير أنها وجدت صدى لدى محمود سعيد الذى قال مؤكداً كلامى :
      - هذا صحيح والمثل الحى على ذلك إنه أنا .. لقد كنت أعد دراسات عن عالم العناكب واعتقلت ثم خرجت لأعد دراسة عن حشرة " الكولمبولا " بعد أن أكمل زميل لى ما بدأته فى عالم العناكب .. وليس لحشرة "الكولمبولا" انتماءات حزبية أو اتجاهات سياسية , ومع هذا فأنا هنا بينكم !
      - لأنك كنت صديقاً للشيخ عبد السلام ..
      رد محمود :
      - لم يكن الشيخ مشغولاً بالسياسة وكفى بل كان طاقة جبارة , وكان يعرف أين يضع رجاله .. وقد وجهنى للعلم , ورأيته ـ وكان يحدثنى وحدى ـ وهو يتحدث عن عالم الحشرات وما به من إبداع يجعل العقل يسجد لله خالق كل شىء .. وقال لى : " إننا لا نفهم معنى قول الحق : " والذى قدر فهدى "، ونحن لا ندرى عن عالم الأحياء من حولنا شيئاً . العلم يزيد من إيماننا . أنظر إلى البيضة تتنفس من سطحها فى حالة وجود قشرة رقيقة لها , ولكن فى الحشرات التى تكون فيها القشرة سميكة فإنه توجد بهذه القشور تحورات خاصة تسهل لها عملية التنفس , فمن صنع هذا ؟ .. ألم تدرس أن فى بعض أنواع الذباب توجد بالقشرة قنوات أو أعمدة رأسية صغيرة بينها فراغات مملوءة بالسوائل التى يحل محلها الهواء أو سائل هوائى فيما بعد , كما يوجد فى حشرات كثيرة أخرى فيلم هواء تحت القشرة ويحيط هذا الفيلم بمحتويات البيضة إحاطة تامة ويعمل على تبادل الغازات بين جميع الأجزاء الداخلية وبين الهواء الخارجى .. فمن صنع هذا ؟" . صدقنى .. كنت أدرس هذا العلم دراسة روتينية .. مجرد معلومات أحفظها وقد أنبهر أو لا أنبهر .. لكن المسلم له نظرة خاصة للأشياء . وأرى أن المستقبل لهذا الدين خاصة بعد التقدم العلمى المذهل الذى يجتاح العالم . ما ينقص الغرب ؟ إنه هاته النظرة الخاصة .. نظرة المسلم . العقل وحده لا يكفى للهداية وإنما يحتاج إلى الوحى .. وبهذا التزاوج تنشأ الحضارات العظمى . لم يكن الشيخ يقصر نشاطه على السياسة وحدها وإنما كانت له نظرة كلية شاملة وكان يضع كل شئ فى موضعه الصحيح . السياسة تنظيم للجهود وفتح للطريق المسدود ، ونظرة أعمق للواقع ..
      وغبت لحظة .. لا أدرى فيما كنت أفكر .. ربما كنت أحاول استرجاع ما قاله .. ربما . وعندما عدت إليهم كان لا يزال يتحدث قائلاً :
      - لقد شوه الآباء والقسس صورة الإسلام عند الغرب خوفا من انتشاره , وكان ذلك إبان نهضتنا العظمى فى الأندلس ، ورأوا أن الدين الجديد يفتح لمعتنقيه آفاقاً رحبة وعوالم غنية , فأرادوا سد هذا الطريق كيلا ينصرف الناس عنهم ، فشوهوا صورة الإسلام ونبى الإسلام وربوا الغرب على الحقد والكيد لهذا الدين .. ولن نستطيع تغيير هذا إلا عن طريق جهود جبارة .. جهود دولة لتطهير الأنفس والآفاق من الترهات والشبهات والأحقاد المزروعة فى النفوس كالألغام المتفجرة . إنه ما إن يُذكر الإسلام حتى تضيق النفوس وتضجر وتكاد أن تنفجر ، فهل يستطيع تغيير هذه الأوضاع أفراد ؟ .. لا يا صاحبى .. الأمر يحتاج إلى دولة .. إلى نظام قوى يستطيع أن يغير هذا كله ..
      - علينا أن نبدأ بأنفسنا ...
      قالها عادل النمل , وقبل أن يكمل تابع محمود سعيد يقول :
      - نعم .. لكن الجهد الأكبر أو قل بعض الجهد يجب أن يوجه للغرب , لأنه تربة صالحة لديننا .. وربما كان أكثر صلاحية من تربتنا العفنة , لأنها تربة علمية يحكمها العقل . وأنا أنظر إلى المراجع التى أستقى منها وجدت جلها – إن لم تكن كلها – مراجع غربية . إنهم بعلمهم يدركون عظمة الله غير أنهم لا يعرفونه .. من يدرس علم الحشرات – وأتحدث عن تخصصى – يجد أنه بينما أكثر الحشرات الآكلة للأوراق أوفروع النباتات تترك السليلوز يخرج مع البراز بدون هضم وبدون الاستفادة منه ! نجد أن البعض الآخر الذى يتغذى على مثل هذه المواد السليلوزية يمكنها أن تستفيد بالسليلوز وهو المكون الأساسى لهذه الأوراق والأفرع إذ أن هذه الحشرات يمكنها إفراز السليليز الذى يهضم مادة السليلوز .. سبحان الله .. لا تملك إلا أن تقولها وأنت تدرس عالم الحشرات فى دنيا الله , ولا تملك أن تدرس إلا فى ظل سياسة ترفع لواء " لا إله إلا الله " وتريد نشر دعوة الحق فى الآفاق ..
      وقال عادل :
      - تلك خطوة تالية .. إننا لم نبدأ بعد .. ورسولنا لم يتحدث عن الدولة ومعالمها وشئون الحكم وهو فى مكة , وإنما كانت المرحلة المكية لبناء الرجال الذين تقوم على أكتافهم الدولة المنشودة . لن تستطيع بناء دولة دون رجال , ولن تستطيع بسط سلطان الشرع على أناس لا يفقهون الشرع ولا يعرفون مغزى الدين وضرورته فى دنيا الناس , وندرك ما يصلح لكل مرحلة من مراحله , وبدون هذا لا أقول نضل الطريق وإنما نتعثر ..
      - لم يهادن رسولنا كفار قريش . ولو طاوعهم وبحث عن الطريق الأكثر أمنا , لوافقهم على عبادة الله عاماً , وعبادة آلهتهم عاماً آخر ..
      - لم أقل أننا سنهادن من حاد الله ورسوله , وإنما نربى جيلاً أو جماعة على قيم الدين بحيث تتشربه وتتنفسه حتى إذا دعت الله استجاب لدعوتها , وإذا دعت إلى الله كانت دعوتها فيضاً لا تكلفا , وبهذا يقبل العالم على دين الله ..
      قلت :
      - كيف يتأتى لنا هذا ؟
      رد عادل :
      - ذلك هو السؤال الذى يجب أن نهتم به أولاً .
      وحل صمت قطعه محمود سعيد وهو ينظر إلى سقف الزنزانة :
      - إن الإسلام ضرورة حيوية للعالِم والمتعلم .. وللمسلم والكتابى , والعاقل وغير العاقل ..
      وقال مدحت مؤكداً ما ذهب إليه محمود سعيد :
      - هذا حق .. ويوم فتح الإسلام مصر ، أخذ القبطى المصرى حقه من الأكرمين ، لأن العدل لا يفرق بين أحمد وأسعد . ويوم حكم الإسلام الدنيا أمنت الدابة وهى ترتع فى الطريق لأن الحاكم فقه أن الحكم مسئولية وليس مغنما .. إن نظاما تأمن فيه الدواب على حياتها لخليق أن يرتفع ويعلو فوق أى نظام و وهو بعد غاية الحرية ومنتهى أمل الأحرار .
      (يتبع)

      تعليق

      • طارق شفيق حقي
        المدير العام
        • Dec 2003
        • 11929

        #18
        رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

        سلام الله عليك د حسين

        هل يريد الكاتب نسخة الكترونية ؟؟

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          كاتب مسجل
          • Jun 2006
          • 1123

          #19
          رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

          نعم، ولك الشكر.

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            كاتب مسجل
            • Jun 2006
            • 1123

            #20
            رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

            (16)

            " فى الحشرات التى تمتص الدم كبعض أنواع الذباب والبعوض تفرز الغدد اللعابية مادة تمنع تجلط الدم ، ولا تفرز أنزيمات هاضمة إلا داخلها ، لهضم البروتين فى ذلك الدم الممتص . وفى معدة الفراشات وأبى دقيق نجد أن الإنزيم الوحيد فى لعابها وفى معدتها إنه إنزيم الإنفرتيز الذى يحلل السكر الموجود فى الرحيق لكونه الغذاء الوحيد للفراشات وأبى دقيق , لذا كانت دعوة القرآن للنظر فى الكون والتدبر فى كائناته العجيبة , لكون تلك النظرة هى وقود الإيمان بخالق هذا الوجود البديع" .. جال ذلك فى خاطرى وأنا أنظر إلى محمود سعيد .. إنه كتلة من الشعور النابض بالحياة .. كان يؤمن بضرورة أخذ الدين كله عقيدة وشريعة بوصفه منهج حياة شامل , وأى محاولة لعزل أى جانب من جوانب الإسلام عن واقع الحياة – تحت أى ظروف – لن يؤدى بنا إلى شئ ,لأن من صام – كما كان يقول – من النهار بعضه لا يعد من الصائمين ,ولا يقبل رب العزة من عمله ذاك شيئاً .. وقال :
            - إن دراسة جزء من الدين والأخذ به بمعزل عن بقية أجزائه يزرع فى نفس المتلقى شعوراً بأن هذا الجزء المدروس هو كل الدين .. وهذا لا ينفعنا خاصة ونحن نريد تربية جيل يحمل لواء الدعوة فى عالم نبذ الدين ولم يفقه له معنى غير أنه علاقة بين الإنسان وربه ..
            وقال عادل النمل :
            - إنما أردت مراعاة الوضع الراهن , والاستفادة من المتاح وإلا خسرنا كل شىء.. ثم تذكر أنه لم يكن للإسلام السياسى وجود فى العهد المكى .
            - لكنه ضرورة لازمة لإقامة هذا الدين وإلا لهاجر سيدنا إلى الحبشة وبها ملك لا يظلم عنده أحد ..وكان النجاشى سيرحب بهذه الهجرة ولا شك لكن الرسول كان يبحث عن مكان يقيم عليه دولة تنطلق منها الدعوة إلى أرجاء الدنيا .. الدولة بمثابة القوة .. إن قلة قليلة من البشر يزعها القرآن , ولن تسلم تلك القلة من جهل الطغاة ومن يسير فى ركابهم لو لم تكن القوة فى يد الفئة المؤمنة .. ثم إن الأمر باتخاذ القوة كما جاء فى دستورنا ليس للطغيان , وإنما هو لإرهاب أعداء الحق .
            وافق مدحت شكرى على حديث محمود وإن رأى أن إعادة درس التاريخ قبل اتخاذ أى قرار لا بد منه ، والإنسان إن لم يستوعب عبر الماضى تاه منه حاضره ومن ثم مستقبله . تذكرت ما طلبوه منى , فتغضن وجهى واكتسحنى هم وظلام , مما جعل عادل يقترب منى ويقول :
            - وجهك مرآة لما فى نفسك ..
            - حقاً !
            وبدا لى أكثر ملاحة مما كنت أظن ، وقلت وأنا أتفرس فى وجهه :
            - ما صلتك بالشيخ عبد السلام ؟
            لا أدرى لم سألته هذا السؤال ! .لكنه وقع فى نفسى فى نفس اللحظة التى نظرت فيها إليه وهو يقترب منى أنه كان على علاقة بزوج الشيخ .. بزوجتى . حاولت أن أطرد هذا الخاطر بكل قوة .. إن هؤلاء الشباب تشغلهم الجنة . الجنة فى ظل الإسلام فى الدنيا وفى ظل الرحمن فى الآخرة . وهى تحبنى ولست فيها أشك وبدت لى لطيفة ، فلعنت كل نساء الدنيا حتى زوجتى .. وقال عادل النمل :
            - أنت تسأل عن أشياء ..
            وصمت لحظة ثم أردف :
            - لقد واجهونى بهذا السؤال فى أول اعتقالى , ولم أفهم ساعتئذ مرادهم , فقلت : إنه قريب لى ثم هو زوج خالتى عليها رحمة الله ، فضحك الضابط ، وأمرهم بأخذى إلى غرفة الإنعاش .. فماذا تقصد أنت بسؤالك هذا ؟
            لم أنبس . بدا لى سخف ما جال فى خاطرى . وقلت لنفسى : لو كان هذا الشاب منحلاً ما جاء به العسكر إلى هنا . غير أننى تذكرت حالى , فعاد الخاطر ينبح فى صدرى .. وقلت فى نفسى : " إن كان ما يدور فى رأسك حقاً ، فلِم لمْ يتزوجها !" .. وعاد الكلب إلى السكون .. وقال عادل النمل :
            - دعنا من هذا .. والآن ما رأيك فى المسألة المطروحة على مائدة البحث ؟
            - أى مسألة !
            قال دهشًا :
            - أنتخذ الإسلام جملة أم نترك ما نُحاربُ لأجله ونكتفى بالمتاح منه ؟
            قلت :
            - إن متاح اليوم ربما كان محظورا فى الغد .
            - أفصح عن غرضك ..
            - لا أعرف بالضبط .. لكن .. المسألة ..
            ولم أنبس . كانوا ينظرون إلىّ نظرة حائرة .. غير أن زواجى من أرملة الشيخ عبد السلام كان يدفع كل خاطر سوء يدفعه الشيطان إليهم .. وقلت مندفعاً :
            - الحقيقة أننى فى مأزق ..
            أعارونى انتباههم . ضغطت رأسى بكفين أنهكهما الألم والقلق , وأردفت :
            - طلبوا منى التجسس عليكم وإلا أخذوا زوجتى وعذبوها أمامى ..
            - كلاب ..
            قالوها فى نفس واحد وقلتها معهم .. وقلت بتصميم عجبت من أين أتانى :
            - لن أحقق لهم هذا ..
            - وزوجك !
            تناثرت نفسى , وانشطرت آهات تتلوى , وتراءت لى عريانة والكلاب من حوله , ولا يسمع لصراخها إنس ولا جان .. ورحت أدمدم بلا وعى ، وقال مدحت شكرى :
            - انقل لهم ما يريدون .
            وقال عادل :
            - هم يعلمون عنا كل شىء ، ولن يحدث شىء لو نقلت لهم ما يريدون .
            - لكن ..
            - لا تتردد من أجلها ..
            - هذا رأيك .
            - لن يمنعهم أى شىء لو رفضت ماطلبوه منك ..
            وعاد الكلب ينبح فى صدرى ، وأردف عادل :
            - إنهم بلا قلوب .
            وقال محمود سعيد :
            - لن يغير فى الأمر شىء نقلك لما يدور هنا ..
            - لكن ..
            - لا تتردد .

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              كاتب مسجل
              • Jun 2006
              • 1123

              #21
              رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

              (17)

              قال الضابط :
              - كنت أعرف أنك أغفل من أن تنجرف فى التيار ..
              - حقاً ؟
              - وتأكدتَ أنه ليس على دين الإسلام ؟
              - نعم ..
              - لكن ..
              - ماذا يا سيدى ؟
              - كيف تأكدت من هذا ؟!
              - علامة الصليب المنقو...
              وقاطعنى :
              - ربما كان ذلك خدعة , فهؤلاء يفعلون أى شىء ..
              - لن يدعى أحدهم أنه على غير دين الإسلام من أجل أن يخدعكم !
              - معك حق .
              - والآن يا سيدى ..
              - استمر ..
              - فى السجن ؟
              - إلى حين .. إلى أن نعرف عنهم كل شىء .. كيف يفكرون , وفيم يفكرون .. ولِمه ..
              - لكن هذا يتطلب وقتاً ..
              رد :
              - وليكن ..أنت من الآن فى مأمورية وسنقدر لك هذا .
              - أريد أن أرى زوجتى ..
              - ليس الآن ..
              - لكن ..
              - كى لا تكون موضع شك .
              وعاد بى الحارس إلى الزنزانة . كان الهم يأكل كبدى . ترى ماذا يقولون الآن عنى ؟ .. وشعرت بالهوان . نعم .. شعرت بالهوان والضعة . نظرت إلى عادل النمل , فتذكرتها , ورأيتها فى حضنه , ترتع عيناها فى عينيه فتلاحقت أنفاسى ، واقترب منى ، وافترسته عيناى .. وقلت :
              - أكنت تزور الشيخ فى بيته ؟
              ارتسمت على وجهه دهشة ، وقال :
              - ماذا تريد بالضبط ؟!
              - مجرد سؤال ..
              - نعم .. كنت أزوره فى بيته ، كما كان الآخرون يزورنه فى بيته .
              - وهى ؟
              - من ؟
              - زوجتى ..
              - وما علاقة زوجتك بحديثنا ؟
              - أكانت تشارككم فى الحديث ؟
              - لا أذكر أنها شاركتنا فى حديث ..
              وجعل ينظر إلىّ نظرة حائرة ، وأردف :
              - أفصح عن غرضك لأريحك .. أطلبوا منك ذلك ؟
              - من !
              - الضابط و..
              قاطعته :
              - لم . نعم .. نعم .. بالضبط .. هم طلبوا .. حتى .. لا أدرى .. أكاد أجن ..
              - يالها من نفوس خربة !
              - من ؟
              - من غيرهم ..
              وغصت فى الوراء . عاودتنى بقع الدماء المتناثرة فوق الحصيرة المغضنة الوجه ، أما لطيفة فبدرت رائقة الوجه ، وتبدت فى قميص وردى أبرز ثدييها .. تمتمتُ :
              - لا يمكن أن يحدث هذا ..
              وقال محمود سعيد :
              - يجب أن تنام قليلا ، لتهدأ .

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                كاتب مسجل
                • Jun 2006
                • 1123

                #22
                رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

                (18)

                أتى الصبح وتبعثرت أوهامى . لم يعد وجود لذلك الخاطر الخبيث فى قلبى بعد أن وقف عقلى بالمرصاد لكل شبهة وردها بيسر , إذ ليس وجود ساقطة دليلاً على تهاوى كل نساء الدنيا فى الرزيلة . وقلت : إن أعظم القيم لا قيمة لها إن لم تكن واقعاً فى دنيا الناس ملموساً ، ولن تكون واقعاً مالم تكن هنالك قوة ترهب أصحاب النفوس الخربة والضمائر الميتة . هذا ما نادى به محمود سعيد .. لكن : لِم يلاقى أصحاب الدعوات كل هذا العنت وتلك المشقة وكأنهم يسيرون على الجمر ! , وكأنهم يدعون الناس إلى الجحيم وليس إلى الحياة الحرة والعدل والمساواة ؟! .
                نعم .. شغلت تلك المسألة نفسى فترة ليست بالقصيرة , وطرحتها أمامهم وكان عادل النمل قد دخل لتوه قادماً من غرفة الإنعاش .. كان يبتسم والدموع تسيل على خديه .. قلت له :
                - إن من يراك يحسب أن خللاً أصاب عقلك ..
                رد وقد تهلل وجهه :
                - رأيت بلالاً وأنا أُعذب وصبرنى ، وقال لى : أنظر إلى الجنة تهون عليك الدنيا .
                قلت أجتر فكرتى :
                - لكن .. لِم يُعذب هؤلاء .. أنتم .. لِمه ّ!
                رد عادل :
                - كأنما قدر للدنيا أن تنوء بأصحاب القامات الشامخة , فتروح تعذبهم وهم على ظهرها .. وقد يستمر العداء للعظمة حتى بعد أن يوارى أصحابها فى الثرى . إنه كلما زاد نصيب الإنسان من العظمة زاد حظه من عداء السوقة وجهل الجهلاء ..
                وقال أيضاً :
                - إن نوحاً رغم طول عمر رسالته لم يظفر إلا بالقليل من الأتباع ، ولاقى الكثير الكثير من العذاب والسخرية والاستهزاء . والناظر إلى الحياة فى القرآن يرى هذا النصيب الذى يلاقيه أصحاب الرسالات العظمى وهم من هم ، فما بالك بمن هم دونهم ؟
                وقال محمود سعيد :
                - ولك أن تنظر إلى الهجوم الشرس على صاحب الرسالة الخاتمة ..
                وحل صمت . كان وجه عادل النمل رغم تهلله ينزف . وتقاطر الدمع من عين مدحت . وتابع محمود سعيد بعد تلك الفترة من الصمت وكأنه فى لحظة من لحظات الكشف تلك التى تهب على المرء فى أوقات الصفاء ، وتلك الأوقات – هى الأخرى – تهب على المرء ولو كان فى زنزانة كتلك التى نعيش فيها , أوقل نموت فيها :
                - لا تهاجم الميكروبات إلا الجسد الضعيف , أما الجسد القوى فيستمر فى الحياة رغم وجود الميكروبات .. بل إنها لتوجد فى جسده نفسه .. فى حالة كمون .. منتظرة تلك الفرصة التى تنعشها .إنها تنتظر ضعف قواه ، وانحلال عزمه . وما تجده من هجوم شرس فى كل أنحاء الدنيا على الإسلام ومعتنقيه لدليل صارخ على ضعف أمتنا وهوانها الذى وصل لدرجة أن يهاجم الدين فى معقله .. وينكر من ينكر السنة ويتهم صاحبها .. لقد نشطت الجراثيم ، واستأسدت الفئران ، فراحت تسب الدين ، وتلعن أهله ، وتتهم كل من تلمح فيه بعض التزام ، بالتزمت والتخلف والرجعية ، لأن الضعف استفحل ، وضرب فى كل مكان .. غير أن المستقبل لنا .. أنا أؤمن بهذا .. بل أراه .. أرى المستقبل باهراً . إن الهجوم الشرس على الدين مع كونه علامة ضعف ، فإنه دليل على رعب العالم الطائش من ذلك الدين القيم . نعم .. فاللص تأخذه رعدةٌ حين يلمح شرطياً ..إنه نفس الرعب الذى اجتاح العالم , فراح الطغاة يضربون فى جنبات أمتنا ضربات مجنونة , لأنهم فى حالة رعب .. رعب من ذلك الدين القيم الذى سيقبض على ناصية الوجود يوماً ما .. أراه قريبا ..
                واهتز جسدى كله . حلت به رعشة زادت مع الوقت , وتلاشى صوت محمود فى زحمة انفعالى . ورأيتنى فى المكتب البيضاوى أبصق أخبارهم .. نعم .. لست قوياً وإنما أنا خائر القوى , جبان النفس .. وتمتمت بلا وعى :
                - كم أنا ضعيف أيها السادة !
                وكأنما اخترق عادل النمل صدرى , وفهم قصدى , فربت على كتفى وقال :
                - لست ضعيفاً وقد استشرتنا .
                - لن يغير هذا من الأمر شيئاً .
                - بل يغير كل شئ ..
                - ما أنا إلا جيفة حقيرة .
                وغبت عنهم . غرقت فى موج هادر يتقاذفني . صرخت بأعلى صوتى مما استرعى انتباه السجان , ففتح الزنزانة ورمى بى خارجها .. وسرت على أربع إلى الغرفة ذات المكتب البيضاوى .

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  كاتب مسجل
                  • Jun 2006
                  • 1123

                  #23
                  رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

                  (19)

                  انتابتنى هلاوس شتى وأنا أمام الضابط . رأيت الممرضة عريانة تماماً وزوجتى تبكى وهى تنظر إلى جنينها معلقاً من قدميه فى غرفة الإنعاش ، أما عادل فمازال الطرب سارحاً فى وجهه وهو ينظر للأفق البعيد , ومحمود سعيد يرى فى العلم سلاحاً ندخل به عالم المستقبل , أما مدحت شكرى فمبهور بالإسلام السياسى فماذا يفعل لو رأى الإسلام كله فى رسالته الخالدة ؟ .. إن فطرته لتسعى ، لتلحق بركب المتوضئين , وهى تخلع عنها كل رداء .. وقال الضابط :
                  - أنت تنهار !
                  - ربما ..
                  - ماذا حدث ؟
                  - إنهم ..
                  - ماذا ؟
                  - رجال ..
                  رد ساخراً :
                  - هل فعلوا بك شيئاً !
                  - ليسوا مثلنا ..
                  - ماذا يقصد المغفل ؟!
                  - إنهم ؟؟
                  وهاج . ثار فى وجهى ، وعوى :
                  - تكلم أيها الكلب الحقير بصراحة , ووضوح ..
                  - إنهم طاقة جبارة لا يزلزلهم عذاب , بل يزيدهم العذاب صموداً ويقيناً بالنصر .. ولا يسكتهم السجن , وإنما هم يتباحثون فى طريق يخرج منه النور إلى الدنيا , فيبدد ظلمات الجهل , ويمحو صنوف الطغيان .. لقد فهمت منهم أن الإسلام معنى كبير .. أكبر من الوهم الذى يعيش به الناس خارج الزنزانة .. أو قل : إن ما يعيش فيه ، وما عشت فيه قبل أن أرى هؤلاء الفتية ما هو إلا سجن.. سجن يكبل أشواق الروح وإبداع العقل .
                  تناثر لعابه فى وجهى , وصرخ :
                  - كفى هراءً ..
                  - لِم قبضتم علىّ !
                  - سجلك حافل ب ...
                  قاطعته :
                  - حافل بالسقوط والخزى واللامبالاة .
                  وأمر السجان بحبسى حبساً انفرادياً . ذلك أهون علىَّ من وجودى بينهم .. صرت أكره ذلك الصنف من البشر . إنهم ليعذبونني بصمودهم وبعقولهم ونفوسهم المشرقة .. وكرهت عبد السلام النمل , وكل عائلة النمل حتى هى , لأنها يوماً عرفته .. حتى مدحت شكرى كرهته . وتراءى لى عادل النمل , فأغمضت عينى ودرت فى الزنزانة كما تدور دجاجة مذبوحة , وصرخت فيه : "كفى ما بى .. أنا لا أريدكم .. لا أريدكم .. لا أريدكم " .. وجعلت أبكى بحرقة , وقال عادل : " مادامت الدنيا ستنتهى فهى قصيرة قصيرة جداً .. وما نلاقيه هنا هو الآخر قليل .. قليل جداً .. قليل ما دام سينتهى .. ثم ما يفعلونه بنا ما هو إلا تكفير عن خطايانا , وزيادة فى درجاتنا عند ربنا .. صدقنى .. أنا لا أبغضهم .. بل أشفق عليهم , وأنظر إليهم كما أنظر إلى طفل صغير بل إلى معتوه لا يدرك ما يفعله "..وأمسكت برأسى وكأنما أردت أن أمنع سيل هاته الخواطر عنها . نعم .. أريد أن أبتعد .. أبتعد عن هنا .. لكنهم معى ! .. فى نفسى .. وقال محمود سعيد : "ينبغى ألا تزعجنا غربتنا عن الناس , لأنهم يروننا نعمل غير ما يعملون , ونتكلم بغير ما يتكلمون , فيظنوننا غرباء عنهم .. إن تلك الغربة هى التى تحدث عنها سيدنا حين قال : بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ . أى غير معروف السنن والقواعد . وسنن الإسلام وقواعده انطمست معالمها أو كادت فى أذهان الناس , وحلت محلها فى نفوسهم سنن وقواعد أخرى ليست من الإسلام فى شئ , وإنما صورها لهم الشيطان على أنها من الإسلام .. وعندما يرون ما نقوم به يرموننا بالأقذاء , ونشعر نحن بتلك الغربة .. لكن الإسلام انتشر وقد كان غريباً حين بدأ . انتشر لأنهم تمسكوا به واعتصموا , واستصغروا بجانبه الدنيا وما فيها من نعيم , وما لا قوة من عنت وعذاب دون أن يفت ذلك كله فى عضدهم أو يوهن من عزمهم .." . أردت أن أدق رأسى فى جدران الزنزانة , وصرخت بأعلى صوتى :
                  - أخرجونى من هنا ..
                  أخذنى السجان إلى غرفة الإنعاش لكننى لم أشعر بألم السياط . كانت صورهم تتراءى لى , وسمعت عادل يقول : " إن العبادة وقت الهرج والفتن كالهجرة إلى سيدنا" ..وصرخت . صرخت من كلمته تلك . وتردد فى خاطرى اسم "النمل" .. عبد السلام النمل .. عادل النمل .. وزوجتى .. حتى ابنى الذى هو فى رحمها . ووجدتنى فى الزنزانة . لم أشعر بهم وهم يسحبوننى إليها غير أنى وجدت الدماء تنزف منى , وجعلت أنظر إلى دمى وأطيل إليه النظر , ولا أدرى لِمه ! .. كل شئ حالك الظلمة هنا . وعاد النمل إلى خاطرى من جديد , وقال عادل وكأنما يخرج صوته من أعماق نفسى أنا : " إن العبادة وقت الهرج والفتن كالهجرة إلى سيدنا "

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    كاتب مسجل
                    • Jun 2006
                    • 1123

                    #24
                    رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

                    (20)

                    لم أبق فى سجن الانفرادي كثيراً ,فقد قرر المسئولون خروجى من المعتقل , لأواجه الحياة بنظرة جديدة غير تلك التى كنت أنظر بها إليها , كما أنها غير تلك النظرة التى كنت أنظر بها للدنيا قبل أن أدخل المعتقل أول مرة . خرجت محملاً بأفكار تمثلت فى شخوص حية رأيتهم . أفكار وقيم لم تغير الصعاب والشدائد منها شيئاً . وإنما زادتها ثباتاً فى تلك النفوس الشامخة ، بينما رحت أترنح ,وأيقنت بضيق الساحة التى كنت أتحرك فيها من قبل . لاحظت زوجتى هذا التغير وقالت :
                    - لشد ما تغيرت !
                    - لا شئ ثابت فى هذه الدنيا .
                    وقالت بامتعاض :
                    - مصيبة المصائب أنك لم تعد تصلى ..
                    - أنا !
                    - لم تكن تترك فرضاً !
                    - لكنى لم أكن أصلى ..
                    - ماذا تقول !
                    - إنها الحقيقة .
                    - وذهابك إلى المسجد ..
                    - محض هراء ..
                    - أنت ترعـ...
                    قاطعتها بعصبية قائلاً :
                    - من يكون الشيخ عبد السلام النمل ؟
                    - إنه ..
                    - من ؟
                    - زوجى السابق ..
                    - أعرف أنه زوجك السابق , وأن اسمه عبد السلام , وولد فى محلة مرحوم , وله أبناء ليسو منك , وأشقاء وقد تزوجك بعد وفاة زوجته .. كل هذا لا يمثل عندى أى شىء.. أريد أن أعرفه هو .. ولماذا تزوجك ؟ .. ولِم قبلت الاقتران بى أنا وأنت شابة جميلة والكل هنا يحب الشيخ ؟!
                    ردت وقد تملكها العجب :
                    - ماذا بك !!
                    - من يكون ذلك الشيخ ؟
                    - قلت لك أنه زوجى السابق ..
                    - لِم تزوجك ؟
                    - كان أبى من أتباعه , وعندما ماتت زوجه عرض عليه أبى أن يتزوج منى ..
                    - هل كان يحبك ؟
                    - كان يحترمنى ..
                    - وأنتِ ؟
                    - لِم كل هذه الأسئلة ؟؟
                    - أريد أن أعرف كل شئ ..
                    - لِمه !
                    - ولِم لا أعرف ؟
                    - لا أرى مبرراً لـ....
                    قاطعتها :
                    - لكنه هام بالنسبة لى ..نعم .. ذلك أمر هام بالنسبة لى .. لا بد أن أعرف كل شىء .. كل شىء مهما كان تافهاً ..
                    - لشد ما تغيرت !
                    - دعينا من الجمل المحفوظة ..
                    - لم تكن تهتم بأى شئ !
                    - هذا حق ..
                    - والآن ؟!
                    قلت شارداً :
                    - لقد وجدتهم هناك فى الزنزانة يضجون حياة , وأنا هنا جيفة نتنة ..
                    - من تقصد ؟
                    - السجناء ..
                    - لا أفهم شيئاً !
                    - ولا أنا ..
                    وحل صمت كريه ثقيل . شعرت بسخافة ما كنت أقوله لها .. أتكون اللوثة أصابتنى أنا الآخر كما أصابت زوج لطيفة إبراهيم ؟ .. لكنه دائر فى الطرقات يدعو , وأنا لم أعد أذهب إلى المسجد كما كنت أذهب من قبل .. وقلت :
                    - أين الكتب ؟
                    - أى كتب ..
                    - كتب الشيخ عبد السلام ..
                    - تحت السرير .
                    - ألم يأخذوها ؟
                    - فتشوا فيها وتركوها ..
                    - ألم يؤلف كتبا هو الآخر ؟
                    - لا أدرى ..
                    - كان زوجك !
                    - فترة قصيرة قضيناها معا وكان دائم التـ...
                    وقاطعتها :
                    - وفى هذه الفترة القصيرة ألم يقص عليكِ شيئاً ؟
                    - إنه فى شغل عن كل ما يدور فى رأسك ..
                    - وما يدور فى رأسى ؟
                    - لا أدرى ...
                    حتى أنا لا أدرى ما يدور فى رأسى ! . وقلت فى نفسى : " كل الناس تعرف كل شئ عن الشيخ عبد السلام النمل إلا أنا ! .. أنا العائش فى بيته, والراقد على سريره , والمتزوج من أرملته ! ." .. وقلتُ :
                    - الناس هنا تعشق الشيخ .
                    - نعم ..
                    - وأنتِ ؟
                    - وأنا ...
                    - تعشقينه ؟
                    - أحترمه وأجله .
                    وكأنما ضاقت بسخافتى , فلوت عنقها , وأردفت بامتعاض :
                    - يبدو أن السجن لوث عقلك ..
                    - ربما ..
                    - يجب أن تستريح , لتسترد صحتك .
                    - أنا فى قوة بغل .
                    وأجهشت فى بكاءٍ حار . وفى لحظة غبت عنها وعن كل شىء ورأيتنى هناك وسطهم , وقال عادل النمل : " بينما نجد مهمة المؤرخ نقل الواقع كما هو فإن مهمة الأديب أن يبرز ما يجب أن يكون وليس ما هو كائن وكفى .. إنه بمثابة كتيبة الاستطلاع تلك التى تمهد للجيش الطريق .. وهكذا الأديب فإنه يمهد للحياة التى يريدنا أن نحياها فى المستقبل ويجعلها قريبة للنفوس " .. وقال مدحت : " هذا حق .. غير أنك لا تجد بين أدبائنا من يحمل هما حقيقيا . إننا كبلد متخلف يجب ألا يشغلنا غير هم واحد إنه التقدم والنهوض كى نلحق بركب دول العالم الأول ." .. أما محمود سعيد فابتسم وقال معلقاً على ما سمعه : " يجب أن نضع فى تفكيرنا ما نتميز به حضاريا إننا لن نعطى الدنيا علما . العلم فى الغرب قطع أشواطاً بعيدة , ونحن نلهث للحاق به .. وهذا لا يعنى بحال أن نترك العلم وإلا أصبحنا جثة هامدة . المسألة أننا لن نعطى الآخر ما نتميز به وما ينقصه إلا إذا كنا محل تقدير واحترام .. ولن يكون هذا بغير العلم . ساعتها سيسمع لنا ويفكر ويقبل على ما عندنا نحن .. يقبل على رسالة السماء الخالدة : .. وأمسكت برأسى . أردت أن أضربه فى الحائط , ونظرت إلى زوجتى . كانت تمسح عن خديها دمعات فرت من مقلتيها , ونظرت إلىّ نظرة تحمل من الشفقة والحزن ما كدت أصرخ منه .. وقالت :
                    - هل عذبوك إلى هذه الدرجة ؟
                    - من ؟!
                    - هناك فى المعتقل ..
                    - لقد عذبت بالحقيقة .
                    - أى حقيقة !
                    - كنت أعمى ..
                    - يا لك من لغز !
                    - ما أنا إلا أحمق كبير .

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      كاتب مسجل
                      • Jun 2006
                      • 1123

                      #25
                      رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

                      (21)

                      استقبلتُ استقبالاً حافلاً فى المستشفى . قابلنى الأطباء بود حقيقى , أما لطيفة إبراهيم فجعلت تنظر إلىّ وتبتسم , وحين انفردتُ فى مكتبى , دلفت إليه بخفة , وقالت بدلال :
                      - اشتقت إليك كثيراً يا حبيبى ..
                      - وأنا ..
                      - زوجى عاد وحدثنى عن بطولاتك .
                      - أنا !
                      - بالطبع يا حبيبى ..
                      - خليفته !!
                      - حتى فى بيته ..
                      - لكن ..
                      - اسمك على كل لسان , وفى كل بيت .. كانت الناس تحب الشيخ كثيراً وهى الآن تحبك .
                      - وأنتِ ؟
                      - زوجى يعشقه عشقا ..
                      - هل رأيت الشيخ عبد السلام ؟
                      - زوجى رآه ..
                      كنت أتحدث معها شارد اللب . لم يعد لشئ قيمة عندى .. غير أننى وددت لو تذهب بعيداً عنى , أو أذهب أنا . وقلت فى نفسى : " يجب أن تنتهى هذه المهزلة " . واقتربت منى . مست براحتها جبهتى الملتهبة , وداعبت لحيتى . أذّن الظهر فابتعدت وهى تردد :
                      - حان وقت صلاتك ..
                      - لن أصلى ..
                      فغرت فاها عن أسنان نضيدة , وقالت : حقاً !
                      ولما لم أرد , أردفت :
                      - شئ فيك تغير ..
                      - ربما ..
                      - عيناك انطفأ فيهما بريق ..
                      - لا يهم ..
                      - ماذا بك ؟
                      - لا شىء ..
                      - سأنتظرك الليلة .
                      - وزوجك !
                      - عاد ولم يعد .
                      - فى البيت ؟
                      وأردفتُ بسرعة :
                      - لا ليس الآن ..
                      - أريدك بـ....
                      قاطعتها : ليس الآن .
                      وتراجعتْ حين سمعت وقع أقدام تقترب من مكتبى ، وهمستْ : سوف أنتظرك الليلة .. نفس المكان .
                      كل شىء حولى كريه جداً . أشعر بثقل فى صدرى , أما الناس فجراثيم متحركة , والقانون سُبة إن صارمعبراً للأثرياء والمنافقين . أما ليل الصب فلا غد له .. ووجدت على باب مكتبى شاباً راسخ النظرة . كان ينظر إلىّ بثبات .. وقال :
                      - حمداً لله على سلامتك .
                      - أهلاً بك ..
                      - دكتور إبراهيم رمضان ..
                      - أعرف .
                      - لكنك ..
                      قلت وأنا أصطنع ابتسامة :
                      - تذكر أننى أعمل فى شئون العاملين ..
                      وابتسم . لعنته فى سرىولا أدرى لِمه ! .. وقال :
                      - أصبحتَ حديث المدينة ..
                      - الشهرة كالموت .
                      - لم أرك فى حياة شيخنا عبد السلام النمل ..
                      - لستُ من سكان مدينتكم .
                      - اسمح لى أن أكون صريحاً معك ..
                      - تفضل ..
                      - أنت تعرف - بالطبع- أن شيخنا عبد السلام ربى فى المدينة جيلاً من الشباب يحمل على عاتقه قيم الدين ومبادئ اللإسلام الحنيف ..
                      - عرفت هذا فى المعتقل .
                      وقال بجد ، وقد زادت نظرته صرامة حتى كدت أن أطيش من الكرسى :
                      - نحن فى أمس الحاجة لمن نلتف حوله .. طبيعة الإسلام تقتضى أن يتحقق فى المجموع .. فى جماعة ومن ثم فى دولة حتى يفتح الدنيا جميعا ..
                      قلت أخفف من التوتر الذى شعرت به :
                      - ومن الممكن أن يتحقق ولو كنت وحدك ..
                      - أعرف هذا جيداً ..
                      - ماذا تريد ؟
                      - نحن فى حاجة إلى سفينة ..
                      - ماذا تقصد ؟
                      - الطوفان أوشك أن يبتلعنا .
                      - ياأخى حدثنى بوضوح أكثر ..
                      رد بصوت أشد صرامة من نظرته :
                      - من أنت إذن ؟
                      - ألا تعرفنى !!
                      - حدثنى أنت الآخر بوضوح تام ..
                      قلت والعجب يدب فى أوصالى :
                      - ماذا تريد بالضبط ؟
                      - من أنت ؟
                      - لا أفهمك ..
                      - سيدى ..
                      وعادت لطيفة ابراهيم ، فصمت الدكتور إبراهيم رمضان ، واستأذن قائلاً :
                      - سوف أمر عليك فى الغد ، لنكمل حديثنا ..
                      قلت بلا مبالاة :
                      - وأنا فى انتظارك .
                      وجعلت أدق على مكتبى بقلم فى يدى ، وهى تنظر إلىّ شاردة .. وقلت :
                      - أتعرفينه ؟
                      - يعمل هنا ..
                      - أعرف أن اسمه ابراهيم رمضان .. خريج طب طنطا .. كل هذا عندى ، فهل من جديد ؟
                      - إنه شخصية غامضة ..
                      - بمعنى ؟
                      - الكل هنا يهابه حتى مدير المستشفى ..
                      - لِمه !
                      - لا أدرى ..
                      - وأنتِ ؟
                      - إنه جاد أكثر من اللازم ، ولا أحب هذا النوع من الرجال ..
                      - وبعد ؟
                      - هذا كل ما أعرفه عنه ..
                      - هل كان من تلاميذ الشيخ عبد السلام ؟
                      - ربما ..
                      كيف تأتى لذلك الشيخ أن يربى مثل هذا الجيل الذى شاهدت نماذج منه متباينة وإن كانت كلها معتصمة بحبل الله المتين !. أردفت لطيفة تخرجنى من تساؤلاتى :
                      - إياك أن تنسى .. أنا فى أشد الحاجة إليك ..
                      - لِمه !
                      فغرت فاها الدقيق ، وتنهدت بدلال قائلة :
                      - سوف تعرف حين تأتى ..
                      - لا أعدك .
                      - سوف أنسيك المعتقل وعذابه .
                      - صدقينى هناك مايشغلنى ..
                      - زوجتك ؟
                      - ربما ..
                      - وتقولها أمامى !
                      قلت شارداً :
                      - يفعل الله ما يشاء .

                      تعليق

                      • د. حسين علي محمد
                        كاتب مسجل
                        • Jun 2006
                        • 1123

                        #26
                        رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

                        (22)

                        عندما عدت إلى بيتى وجدت حركة غريبة , وقابلتنى عجوز , وأخبرتنى أن زوجتى على وشك أن تضع . سمعت صرخات فى غرفة النوم .. وعجبت لأنى لم ألحظ انتفاخ بطنها وتغير حركتها . قعدت دقائق معدودة , وضقت بالصراخ وبحركة النساء وبحديث المرأة العجوز , فخرجت إلى الطريق.
                        قررت أن أذهب إليها .. إلى لطيفة إبراهيم .. وسرت خطوات فى الطريق المؤدى إلى شقتها وتراجعت . تجمدت لحظة بعد أن طار لبى وأنا أسير بضع خطوات فى الطريق إليها ثم أرجع ثم أعود إلى السير ثم أرجع حتى كدت أن أجن . وأخيرا قررت أن أسير إليها غير أنى لاحظت ذلك التناقض الصارخ بين الواقع وما يدور فى أذهان الناس عنى .. أنا خليفة الشيخ عبد السلام النمل ذلك المسلم الفذ ! .. خليفة الشيخ يتسلل ليقابل امرأة ! . خليفة الشيخ لا يسجد لرب السماء والأرض ! .. يا له من تناقض صارخ مميت !! . لمحت جلبة وأنا فى الطريق إليها فاتجهت ناحيتها .. كانت قهوة على ناصية حارة ضيقة , مكتظة بالأنغام الآتية من مذياع يسكن رفاً خشبياً على يمين الداخل , وبسحب الدخان المتصاعد من أفواه الناس , وبضربات النرد وبأصوات أناس تتناقش فى أمور شتى : هزيمة المنتخب , وأغنية أم كلثوم الجديدة وهلم جرا من أحاديث , عزمت على المكث بها ثم أرجع إلى البيت . قابلنى الناس بالترحاب وبود ظاهر . لم أكن أعرف منهم أحدا .. وقال النادل :
                        - أهلاً بك يا شيخنا الجليل .. تفضل هنا ..
                        ومسح لى الكرسى بخرقة كانت فى يده .. وقال رجل آخر :
                        - حمدا لله على سلامة البطل .
                        واقتربوا بمقاعدهم منى حتى كونوا دائرة حولى ، وقال قائلهم :
                        - حدثنا يا شيخنا عن الغد ..
                        - الغد بيد الله .
                        رد شاب وكأنما لم يعجبه ردى :
                        - لكن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..
                        - صدقت .
                        - هذا وعد الله وسنته .
                        قلت اجتر حديث أصحاب السجن :
                        - تغيير النفس لن يكون بين عشية وضحاها , وإنما الأمر يحتاج إلى جهد جهيد وصبر .
                        رد الشاب نفسه :
                        - كل هذا ندركه جيداً .. لكن طريقة العمل .. ما منهجنا فى السير ؟ , وهل نتحرك فرادى أم جماعات ؟ .. وأى جماعة تضم شتاتنا ؟ , وما معنى وجود كل هذه الفرق على الساحة ؟ .. وكيف نتفق سويا ؟ .. كل هذا يحتاج إلى إجابة . نريد أن نفهم . نعم إننا فى حاجة إلى قدوة صالحة وإلى فهم للأوضاع . فهم لغايتنا نحن وكيف نسلك السبيل إليها ؟ .. هأنتذا ترانا هنا نلقى بأنفسنا فى أحضان الثرثرة والجوزة , لأننا قوى معطلة , لا مجال لنا ولا طريق .. وقد يحالف أحدنا حظه , فيحظى بلقاء أنثوى يشبع فيه جوعه الجنسى ثم يعود ليتحدث عن الغد المظلم أو يحاول نسيان كل شئ عن طريق أحلام اليقظة إذ لا مال لنا كى نلجأ للمخدرات .. أنا لم يحالفنى الحظ كى ألتقى بالشيخ عبد السلام . نعم .. عرفته من تلاميذه . إنهم اليوم أعمدة فى مدينتنا , لكنهم بلا صوت . من يتحدث منهم يُعتقل .. ولا أمل ثمة فى الأفق .. أسمع عن الإنجازات التى تمت فى حياة الشيخ لكن الشيخ مات وتفرق التلاميذ , ولم يجمعهم من بعده أحد .. نحن فى حاجة إلى قدوة .. فى حاجة إليك ولو خضت بنا البحر , لخضناه معك ..
                        - ما اسمك ؟
                        - إسماعيل رمضان الفقيه ..
                        - سمعت هذا الاسم من قبل ..
                        - أخى طبيب فى المستشفى التى تعمل فيها ..
                        - نعم.. تذكرت .. الدكتور إبراهيم ، إبراهيم رمضان الفقيه .
                        خطر فى ذهنى أن ألقى إليهم بالحقيقة .. أن أخبرهم أنى ذاهب إلى .. ورأيت زوجها . نعم .. عرفته من صورته المعلقة فى جدار الصالة . كان ضمن من التفوا حولى . وقعت عيناى فى عينيه ، فنكست رأسى , وكأنما خفت أن يكتشف السر .. وقال إسماعيل :
                        - نحن فى حاجة إليك .. فى حاجة إلى قدوة وقد حقـ...
                        قاطعته :
                        - ولماذا أنا !
                        - لأنك .. لأنك ..
                        - لأنى ماذا ؟
                        - لا أدرى .. كل الناس هنا تحبك . أنت بطل بمعنى الكلمة . يكفى أنك أقدمت على الزواج من السيدة أرملة الشيخ عبد السلام .. لم يكن أحد ليقدم على مثل هذا الزواج وهو يعلم ما فيه من التبعة وما فيه من المخاطره إلا أنت . لأنك بطل .. بطل بمعنى الكلمة ..
                        - عن أى مخاطرة تتحدث !
                        - كلامك هذا دليل على ما أقوله لك .. أنت بالفعل بطل المرحلة القادمة .
                        أيقنت أنى أسكن دائرة , وكلما حاولت الخروج منها , وجدتنى حيث بدأت . نظرت فى ساعتى واستأذنت .وقام إسماعيل وشد على يدى وهو يقول :
                        - الله معك ..
                        سرت فى خطوات قصيرة . أردت أن أرجع إلى البيت فلم أستطع . كنت أسير إليها دون وعى , وعزمت على الإفصاح لها عن عدم رغبتى فى استمرار علاقتنا . وعاودتنى صورة زوجها بجسمه الفيلى وعينيه الجاحظتين الحمراوين .. وقلت : لن أستمر .ووجدتنى عندها . كانت فى حلة زاهية . أحاطتنى بذراعيها وطبعت فوق خدى قبلة . كنت واقفا كَلوح من خشب أو ثلج , لكن داخلى كان يغلى , ورأيتهم .. محمود ومدحت وعادل النمل .. قالت :
                        - ما بك ؟ !
                        - أريد أن .. أن ..
                        - ماذا تريد ؟
                        - لا شىء ..
                        - هيا معى إلى الداخل ..
                        - لِمه !
                        حدجتنى بنظرة ماكرة وقالت ضاحكة :
                        - يا له من سؤال !
                        - الحقيقة ..أنا فى ظرف لا أملك فيه القدرة على التفكير .
                        أمسكت بذراعى وسحبتنى إلى الداخل , وتمتمت لاهثة :
                        - أنت هنا كيلا تفكر فى أى شىء ..
                        - لكن ..
                        - دعك من كل شئ و .. أو شىء ..
                        - كان زوجك معى ..
                        - أين ؟
                        - فى المقهى ..
                        - إنه فى وادٍ آخر , ولن يأتى هنا إلا بعد الفجر .. هذا إن جاء ..
                        - لِمه !
                        - هيا بنا ..
                        - الحقيقة .. أننى ..
                        - ضقتَ بى ؟
                        - ليس تماماً ..
                        ورأيت عادل النمل ووجهه يتهلل بشراً وقد رأى بلالا .. وهمستُ :
                        - علاقتنا يجب أن تنتهى بأقصى سرعة ..
                        لطمت خدها , وقالت :
                        - هكذا .. وتقولها بيسر دون ..
                        قلت أقاطعها :
                        - أنا رجل متزوج .. وأنتِ ...
                        - كنت تعرف هذا حين التقينا , وعشقتك , وكنتَ تحبنى ..
                        قلت شارداً :
                        - كل شئ إلى زوال ..
                        - حتى الحب !!
                        - حتى الدنيا .

                        تعليق

                        • د. حسين علي محمد
                          كاتب مسجل
                          • Jun 2006
                          • 1123

                          #27
                          رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

                          (23)

                          لم تفلح لطيفة إبراهيم فى إعادة ما كان رغم محاولاتها المتكررة . كنت فرحاً إذ تخلصت من حمل ثقيل كان يجثم فوق صدرى . على أنى لازلت أتحرك فى أرض ضبابية .. لا شىء واضح حتى عبد السلام النمل الذى أعيش فى بيته لم أعرفه بعد وكأنه أسطورة من الأساطير .. الناس هنا تحبه وتكرهه فى آن واحد . البعض يتهم إخلاصه ويذكر أنه كان أكبر داهية عرفته البلاد , والبعض الآخر يؤكد أنه رجل من ذلك الجيل الذى رباه رسولنا . وبدأ صاحب القهوة يضيق بمن يتجمع حولى وإن كان يرحب بى حين أدخل .. لكن زوجتى ضاقت بالفعل , لسهرى المتكرر . لم تكن تعرف أننى أذهب إلى المقهى , لذا عجبت حين أخبرتها , وقالت وكأنها غير مصدقة :
                          - لكنك لم تذهب إلى قهوة من قبل !
                          - بل ذهبت مرات كثيرة ..
                          - وابنك !
                          - ماذا حدث له ؟
                          - ألم تلاحظ أنك لم تسأل عنه !
                          - أشياء كثيرة تشغل عقلى ..
                          - عن ابنك !
                          - أريد حياة نظيفة .
                          - ماذا تقصد ؟
                          - أنا ملوث الفكر والوجدان والجوارح ..
                          - ماذا تقول ؟!
                          - ما سمعتِ ..
                          - لم أعد أفهمك !
                          - المسألة أكبر مما كنت أظن ..
                          - ماذا تقصد ؟
                          - إنهم ينظرون إلىّ نظرتهم إلى بطل !
                          - من ؟
                          - الناس ..
                          - هذا شئ يفرحك ..
                          - لكنى لست بطلاً ..
                          ونهضت حين بكى محمد .. محمد عبده .. هذا اسمه .. ولعلها أول مرة أفكر فى هذا .. إن اسمه محمد عبده ." لا يهم الاسم المهم المسمى " .. هذا ما قلته فى نفسى وأنا أقوم إليه . كان يشبه أمه إلى حد كبير , فحمدت الله على ذلك . وقد كنت أنا الآخر أشبه أمى .. وربما كنت أشبه أبى .. لا أدرى بالضبط فقد مات قبل أن أراه , ولم تكن هناك صورة له تبين لى الحقيقة . قبَّلت جبهته . كانت تنظر إليه بزهو وكأنها هى التى صنعته ، وحين التقت عينانا بدا عليها الضيق . وتساءَلتُ :
                          - ماذا أفعل ؟
                          - فيمه ؟
                          رمقتها بغيظ , وقلت :
                          - فيما قلته لك ..
                          - قلت أنك قد تلوثت , وأنا لا أفهم كيف تلوثت !
                          لكنى أفهم كيف تلوثت .. فهمت هذا حين رأيتهم فى المعتقل يبحثون عن طريق للتقدم رغم السوط الساقط فوق الظهر , ورغم الدم الصارخ يلعن جبناً فينا وخوفا .. ويلعن سعياً وراء الغايات الصغرى والوسائل الدنيئة , ويلعن عراك الحقراء على البغايا وهلم جرا من تفاهات .. وقال عادل :
                          - ليس كفقد الشعور مصيبة ..
                          وقلت له :
                          - كيف !
                          رد :
                          - إن الشعور بالمرض أول خطوة فى طريق العلاج ومن ثم النجاة من ذلك المرض .. أما فقد الشعور فإنه الخطوة الأخيرة ناحية النهاية ومن ثم الهلاك . ولك أن تنظر لما يحدث للمسلمين فى أنحاء العالم من قتل ونهب وهتك للأعراض ونحن نغنى ونرقص ونتعارك على نتيجة مباراة , ونتجادل فى أمور صغيرة حقيرة .. إنه فقد الشعور أصاب الأمة , فأحدث ذلك الخلل الذى تراه , واللامبالاة المنتشرة فى جسد الأمة إنتشار السرطان ..
                          وقالت :
                          - أين ذهبت !
                          - عادل النمل ...
                          هزت رأسها أسفاً وتمتمت :
                          - لم تخرج من المعتقل بعد !
                          - ألا تعرفينه ؟
                          - لا أعرف أحداً ..
                          - إنه من أقرباء الشيخ .
                          - ألا تصدقنى ؟
                          وعجبت كيف خرس الكلب . بحثت عنه فى صدرى فلم أجد له أثرا .. وقلت :
                          - أريد كتبه ..
                          - كتب الشيخ ؟
                          - لا بد من كشاف ينير لى الطريق ويكشف ما أنا فيه من انحطاط , وما حدث لى من انفصال عن الحياة ..
                          ردت شاردة :
                          - المصيبة الكبرى أنك لم تعد تصلى !!
                          - لم أكن أصلى من قبل رغم ذهابى إلى المسجد .. الدين فى أذهانهم كل شامل محيط , لذا فهم أحياء أما أنا فمجرد جيفة قذرة ..
                          وأردفت بعد صمت خانق :
                          - كنت أذهب للمسجد ثم ألقاها ..
                          صرخت فى وجهى :
                          - تلقى من !
                          - المعصية ..
                          وابتسمت وهى تضرب كفاً بكف , وأردفتُ :
                          - أتغارين ؟
                          - أنت زوجى ..
                          دق قلبى وكأننى غر يقابل فتاة لأول مرة . أحقاً تغار علىّ أنا القبيح الوجه ؟ . تحسست وجهى بيدى . أردت أن أتجه للمرآة المعلقة فى مدخل الشقة , غير أنى ضحكت لبلاهتى تلك , وقلت : إن العلاقة بين الزوج وزوجه علاقة مقدسة , وفيها من الأسرار ما لم يطلع عليه الإنسان بعد . ووجدتنى أقبلها , وقلت لها :
                          - أحبك ..
                          احمر وجهها , وسرت فى جسدها رعشة خفيفة .. وهمست :
                          - وأنا أحبك .
                          - حقاً !
                          - أهناك شك فى حبى لك ؟
                          أحقاً تحبنى أنا ! . لم أكن يوماً فتى أحلام لفأرة , وخطرت الممرضة فى خاطرى فبصقتها , وقلت شارداً :
                          - أريد الحياة ..
                          - الدنيا أمامك , والناس بدأت تحبك .
                          - المهم أن أكسب نفسى ..
                          - ماذا تريد ؟
                          - العلم أولاً ..
                          - لا أفهمك ..
                          - الإسلام غريب عنى .
                          - كيف !
                          - لأنى لا أعرفه ..
                          وأردفت بعد لحظة صمت :
                          - نعم .. تلك هى الحقيقة .. وما دمت لا أعرف الإسلام ، فكيف أسير على الصراط ! .. على الساحة الآن أفكار كثيرة ولكل فكرة أنصار . الكل يحسب أنه على صواب ومن خالفه فهو على الباطل .. نعم .. كيف أعرف أنا الصواب , وكيف أدرك التفرقة بين كل هاته الأفكار المتصارعة , وأعرف إلى أى مدى تقترب من الحقيقة ؟ .. لا شىء ينير لى السبيل غير العلم . علم بقواعد الإسلام وسنته .. وعلى ضوء هذا العلم أكشف الحق من الباطل . الجهل ستار بينى وبين الضياء ومن ثم الطريق الواجب السير عليه ..
                          وقالت :
                          - الناس هنا أحبت الشيخ عبد السلام , وها هى ذى تلتف من حولك ..
                          - لن أغير من حياتهم شيئاً إلا إذا تغيرت أنا .. إلا إذا تشربت تعاليم ذلك الدين القيم, وصرت تمثيلاً له ومن ثم أدعو على بصيرة .. أنا أحب الإسلام .. وهم كذلك .. لكن ! أى إسلام هذا الذى أحبه ؟.. لست أدرى .. لقد رأيت فى الزنزانة أناساً من لون فريد.. أظنهم أقرب الناس إلى الحق , لأنهم أكثر صموداً وأكثر إشراقا .. لكن هذا وحده لا يكفى .. لا بد من العلم حتى أكون على بصيرة من أمرى وأمر هؤلاء ..
                          وقمت إلى صناديق الكتب , لأفك طلاسم جهلى المتراكم .

                          تعليق

                          • د. حسين علي محمد
                            كاتب مسجل
                            • Jun 2006
                            • 1123

                            #28
                            رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

                            (24)

                            جاءنى مدحت شكرى لمقابلتى فى المستشفى بعد أن أفرج عنه بقليل . لم أتمالك نفسى حين وجدته أمامى ، فجعلت أضحك وأبكى فى آن واحد . وتذكرت أننى لم أسأل عنهم منذ خرجت من المعتقل , فباخ موقفى أمام مدحت غير أنه لم يتطرق إلى هذا , وسألته عن حال عادل النمل ومحمود سعيد , فقال :
                            - يعلم الله متى يتم الإفراج عنهما ..
                            - هل تأكدوا أنك مـ....
                            - لمِ لا تكمل !
                            واحمر وجهى خجلاً , وأردف مدحت :
                            - كانوا متأكدين من ذلك .
                            - ولِم اعتقلوك إذن !
                            - لأنى أدعو إلى الإسلام ..
                            - كيف !
                            - الإسلام السياسى هو ما أدعو إليه .
                            - لكنه فرع من فروع شجرة الإسلام الشامخة ..
                            - ما يشغلنى أنا هو الإسلام السياسى , لكونه السبيل الحق لوجود العدل والحرية والمساواة وجوداً حياً فى أرض الواقع , وليس وجوداً خرافياً فى أذهان الناس ..
                            وهممت أن أدعوه إلى الدخول فى الإسلام , فتذكرت أننى لا أفقه من الإسلام غير قشور .. ربما كان هو يعرف عن الإسلام ما لا أعرفه أنا المسلم بالوراثة .. ثم أنا لا أصلى ! .. وقلت :
                            - رأيى أن تستكمل أبحاثك فى الجامعة ..
                            - لا بد من هذا ..الحياة فى المعتقل غيرت ما كان فى نفسى .. ما كنت لأتصور أن يحدث ما رأيته فى بلد يدعى مع كل طلعة صبح أنه ...
                            - متحضر ..
                            - بيننا وبين التحضر عوالم شتى ..
                            - يا له من تناقض !
                            - كيف ؟
                            قلت :
                            - إن المسلم لا يفقه ما تفقهه أنت عن الإسلام .. الإسلام السياسى . لا يرى الكثيرون ذلك الجانب من الإسلام , ولا أكتمك سرا , فقد كنت من هؤلاء ..
                            رد مدحت :
                            - لقد فشلت النظم الوضعية فى حل أزمات الإنسان بينما ثبت تاريخيا نجاح الإسلام الباهر فى رفع الإنسان عقلا وروحا إلى آفاق لم يحلم بها الحالمون .. إنك لا تكرر النظر فى ذلك الدين إلا وتزداد يقينا بأنه الحل الوحيد لأزمة الدنيا , وأننا لا بد أن نتجه إليه شئنا ذلك أم أبينا , لكونه الحل الوحيد , والمالك وحده لعلاج أزماتنا الطاحنة . إن من ينادى بعزل الإسلام عن الحياة مقلد لا يفقه شيئاً , ولم يدرس الإسلام قط , وإنما هو يحسب الإسلام كالمسيحية فى جعلها ما لله لله وما لقيصر لقيصر .. وأمثال هؤلاء الجهلة قد عَلِقَ فى أذهانهم سلطان الكنيسة إبان العصور الوسطى حيث قيدت العقل , وكبلت الروح عن الانطلاق . إننا مضطرون لأسلمة السياسة كى ننهض من كبوتنا ، كما أننا مضطرون لأسلمة الاقتصاد كيلا تتمركز الثروة فى أيدٍ قليلة ، فيأسن وتأسن هى .. وربما كنا مضطرين لأشياء أخرى لم ندركها بعد ..
                            قلت وقد زاد إعجابي به ، وتقديرى لهذا العقل الفذ :
                            - أنت عقل مسلم .
                            - وقلب مسيحى ...
                            وأردف بعد لحظة تمنيت فيها أن يكون قلباً مسلماً :
                            - إن الحضارة التى يصنعها الإسلام ليست من صنع من يدين بالإسلام وكفى وإنما يصنعها كل من يستظل برايته ويحيا فوق أرضه ..
                            قلت بحماس :
                            - نعم .. ذلك هو الطريق .. العلم .. وإلا تاهت المفاهيم ، وضرب بعضنا رقاب بعض ..
                            وقال باسماً :
                            - تريدُ أن تكون قساً دون أن تخدم الكنيسة . وكأنما وقعت كلمته فى جُرحى ، فغرزت عينى فى الأرض ، وتمتمت :
                            - أريد أن أفتح لك صدرى ..
                            - ماذا بك ؟
                            - ألم وضيق ..
                            بدا على وجه مدحت الاهتمام الشديد ، وقال :
                            - تحدث .. ماذا بك ؟
                            - ليس لى تاريخ فى النضال ..
                            وتجمد برهة ثم قال دهشاً:
                            - أى نضال !!
                            - مثلكم ..
                            وابتسم عجباً وكأنه لا يصدق أذنيه ،وكأن الأسد الذى ظنه موجوداً تمخض عن فأر .. وقال :
                            - أنت تتصور الأمر على غير حقيقته ، فليس ثمة حرب بيننا وبين أبناء الوطن وحكامه ، وإنما هى فكرة أو رأى رأيناه وحسبناه السبيل إلى التقدم ، وأردنا عرضه للنقاش لا على أنه الطريق الذى لا طريق سواه وإنما عرضناه ليتبين لنا ثوابه من ... غير أننا لم نجد صدراً رحباً ، ليناقشنا وإنما صراخ فى الوجه وادعاء بالباطل بأننا لا نريد خير البلد وإنما نسعى لمجد شخص .. نعم هناك تجاوزات عديدة وشديدة من الجانب الآخر ، لضيق فى الفهم ، ولعوامل أخرى .. لكن تصوير الأمر على أنه نضال وصراع وغير ذلك من ألفاظ ضخمة ، تصوير للأمر على غير حقيقته .
                            قلت :
                            - والسجن والتعذيب .. وغرفة الإنعاش !
                            - هناك تجاوزات ..
                            - كرامة الإنسان التى تداس وحرمته التى تنتهك فى وضح النهار !
                            وعاودتنى فى تلك اللحظة صورة أمى ، وبقع الدماء تتناثر فوق الحصيرة فى غرفتنا الحقيرة ، فغلى الدم فى عروقى وأردفت شارداً :
                            - إنه لا تزر وازرة وزر أخرى فى كل بلاد الدنيا إلا هنا ! ، لو لم أنقل لهم أخباركم ، لفعلوا بزوجتى مافعله التتار بالمسلمين ..أكل هذا مجرد تجاوزات !!
                            - لسنا فى صراع ..
                            - لكنهم يخلقون ذلك الصراع .
                            - لن نجاريهم وإلا حدثت الكارثة ..
                            - هم صنعوا الكارثة .
                            - أنت منفعل جداً ..
                            - ربما ..
                            - بل هى الحقيقة .
                            وقلت شارداً :
                            - تلك حياة لم أكن أريدها .. كنت أود حياة سهلة مريحة . لكن هذا محال .. لم أدخل المعتقل لأنى صاحب رأى ، أو لأنى شاركت فى عمل بطولى .. حتى السبب الذى دعاهم إلى القبض علىّ كان وهماً .. كنت موجوداً أثناء قيام المظاهرة وتسللت منها خفية ، فلم يكن يشغلنى من أمور السياسة أى شيء ، لكن الكاميرا سُلطت علىّ ! .. أما ذقنى التى لم أحلقها غير مرات قليلة فقد أطلقتها لأسباب خاصة جداً .. صدقنى .. لقد مرت علىّ أيام لم يكن معى فيها ماأدفعه إلى الحلاق ، ليحلق لى شعر رأسى .. ثم أنا كما ترى .. وجهى لا يصلح بغير لحية .. أعرف هذا .. لذا تعجبت حين وافقت أرملة الشيخ على الزواج .. نعم .. تلك اللحية تدفع عن وجهى بعض قبحه .
                            وخطرت فى ذهنى لطيفة إبراهيم فتغضن وجهى . لكنى تنبهت _ ولأول مرة _ أنها لم تكن تريد غير ذكر وكفى . رجل يشبع جوعتها ولو كان له وجه قرد أو وجه خنزير .. وقال مدحت :
                            - فِيم شرودك ؟
                            - المسألة أننى كما قلت أنت أريد أن أصبح قساً دون أن أخدم الكنيسة .
                            رد باسماً :
                            - الموقف الراهن يدفعك لأن تصبح قساً ..
                            - الذى لم يخدم الكنيسة !
                            - ماذا فى رأسك ؟
                            - غبار ..
                            - تأكد أن رأسك ليس فارغاً تماماً ..
                            - ماالذى يجعلنى أتأكد من ذلك ؟
                            - لديك بعض الأفكار القوية ..
                            - فى القانون !!
                            - لا تسخر من القانون .
                            - أى قانون !!
                            - أى قانون .
                            - ذلك الإله الذى صنعه سادتنا بأيديهم وأسجدوا له الضعفاء من أمثالنا !
                            - تلك نغمة شاذة لم نسمعها فى حياة الشيخ عبد السلام ..
                            - ألم أقل لك أنى فارغ الرأس ، ويدفعنى الناس لأن أصبح قساً ، ولا أجد الجرأة لأخبرهم بأننى يهوذا ..
                            - لستَ يهوذا ..
                            - لقد بعتكم فى المعتقل .
                            - لا تجعل هذا الأمر يعذبك .
                            - إنها الحقيقة .
                            - كان ذلك من أجلها ..
                            - من ؟
                            - زوجتك ..
                            - ليتنى ما تزوجت .

                            تعليق

                            • د. حسين علي محمد
                              كاتب مسجل
                              • Jun 2006
                              • 1123

                              #29
                              رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

                              ( 25)

                              - ألا زلت على عنادك ؟!
                              قالتها لطيفة ابراهيم وهى تمسح على راسى بيمناها . اقتربت بوجهها من وجهى فانتفضت .. وقلت وأنا أبتعد :
                              - ما عاد وقت لِلَهو ..
                              - أتسمى حبنا لهواً !
                              " إنه خيانة وفاحشة " .. قلتها فى نفسى والرعشة تلفظ أنفاسها الأخيرة .. وأردفتْ :
                              - لِم لا ترد !
                              قلت بثبات :
                              - إنه خيانة .
                              - خيانة !
                              - تلك هى الحقيقة .
                              - إنما الدنيا ساعة وساعة ..
                              ساخراً قلت :
                              - ساعة لزوجك ، وساعة لى !
                              - يا لك من سكين بارد !
                              - لم أقصد إها ...
                              وقاطعتنى وهى تنصرف :
                              - لا داعى للكلام بعد ذكرك للحقيقة كما تدعى !! وقلت لنفسى ! لا بد مما ليس منه بد . وليس أمامك الآن سوى محاولة الفهم والسير .. وذكر الحقيقة كاملة .

                              تعليق

                              • د. حسين علي محمد
                                كاتب مسجل
                                • Jun 2006
                                • 1123

                                #30
                                رد: النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد

                                (26)

                                ليس أقسى على المرء من داء الجهل .. أقصد من شعوره بجهله . وقد زاد هذا الشعور عندى وأنا أمضى فى طريق العلم .وزدت غربة حين أنزلت ما علق فى الرأس إلى القلب ومن ثم إلى الأرض .. إلى أرض الواقع . أنكرنى من التف حولى من قبل ، وعَدُّونى من الجهلاء أدعياء التدين .. وقلت لهم : علينا أن نفهم سنن ديننا وقواعده ونعمل بها ..
                                قال رجل :
                                - نريد إصلاحاً ..
                                - لا سبيل إلى إصلاح إلا إذا أصلحنا نحن أنفسنا ..إذا صلحنا نحن حدث الإصلاح ..
                                - لكن هناك موانع كثيرة ..
                                قلت :
                                - ما المانع من إماطة الأذى عن الطريق ؟ .. وما المانع من تبسمك فى وجه أخيك ؟ ، وما المانع من أن تنام وليس فى قلبك غش لأحد ؟!
                                - نريد حرية ..
                                - حرر نفسك منك ، تتحرر من كل سلطان .
                                وأردفت حين وجدت صمتاً :
                                - إنه مالم نتحرر من أنفسنا وسلطان شهواتها ، فلا سبيل إلى أن نتحرر الحرية المنشودة .. الحرية العظمى ..
                                - هذا كلام لم يقله أحد ..
                                - لذا طالبتكم بالفهم أولاً .. تلك مهمتنا .. أن نتغير نحن وساعتئذ يحدث وعد الله لنا .. إنهم يريدون الحرية فى ظلال سحب دخان الشيشة ! . وهبها وُهبت لهم ، فما يصنع العجزة بالحرية ! . إن دخول سباق الحياة يحتاج إلى إعداد وبذل للجهد والمال .. ولو ألقيت الجند فى ميدان النزال دون تدريب ومران ، لحصدهم العدو حصداً ، ولعادوا بفشل هم صانعوه .. وقلت :
                                - إنه لا سبيل لإخراج العالم من ظلمة الباطل إلى نور الحق إلا إذا خرجنا نحن أولاً من تلكم الظلمة .
                                - لا تدخلنا فى متاهات !
                                - بل أخبركم بالحقيقة ..
                                - أى حقيقة !!
                                - لا سبيل إلى نشر دعوتنا إلا بعد فهمها وتمثلها بحيث تسرى مسرى الدم فينا ، فنندفع – ساعتئذ – إلى معرفة روح العصر الذى نحيا فيه ، وندرك أى أفكار توجه نشاطه وتدفع حركته .. وبهذه المعرفة وحدها نستطيع أن نبث الحق فى الدنيا ، ونغير من أفكار العالم أجمع بالقدر الذى نريده ، ليتحرك الوجهة التى نريدها نحن له .. وما نريد إلا ما يريده الله رب العالمين .. وهذا لن يحدث إلا بامتلاك القوة .. قوة العصر ..
                                - عن أى قوة تتحدث ؟!
                                - العلم ..
                                - ماذا تقصد ؟
                                - أقصد أن تسرى فينا روح واحدة هدفها أخذ العلم وجمعه ، وتدبر ما فيه والبناء عليه ، ولا سبيل لهذا إلا بفهم الدين وتشرب تعاليمه .. إنهما خطوتان متلازمتان ..
                                - أى علم تقصد ؟
                                - أى علم ..
                                - لم نعد نفهمك !
                                - الدين يدفعنا دفعاً إلى النظر والتدبر فى أسرار الكائنات ، وامتلاك أسباب القوة لا لإرهاب أهل الحق ، وإنما لإرهاب الباطل وأهله ، ولإشاعة العدل ونشر لواء السلام فوق الأرض والدعوة إلى الله بالحسنى .. وبذا نكون شهداء على الناس، وإلا فبأى وجه نقابل صاحب الرسالة يوم العرض الأكبر؟
                                - هذا كلام غريب ..
                                - إننا ننطلق من ديننا .. والأمر بإعداد القوة كلأمر بإقامة الصلاة . العلم هو القوة فى عصرنا هذا ، لذا وجب علينا أخذه والسهر عليه حتى يصير طوعاً لنا ، وبذا نوجهه لخير الدنيا والآخرة ، لأن انطلاقنا موجه لخير الدنيا والآخرة .

                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                إدراج: مصغرة صغير متوسط كبير الحجم الكامل إزالة  
                                أو نوع الملف مسموح به: jpg, jpeg, png, gif, webp

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة
                                يعمل...