الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

مع رجاء النقاش

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    كاتب مسجل
    • Jun 2006
    • 1123

    #31
    رد: مع رجاء النقاش

    ( 29 ) رجاء النقاش .. مكتشف المواهب

    بقلم : سعد هجرس
    .............................

    عندما كان أستاذنا الدكتور لويس عوض هو المشرف على الصفحات الثقافية بجريدة "الأهرام" فى الستينيات، بزغ نجم محرر ثقافى نابه فى ذلك الوقت هو مصطفى ابراهيم مصطفى الذى لفت الأنظار بمقالاته البديعة وخاصة تلك التى كتبها عن الفن التشكيلى.
    وكان "مصطفى" هو الذى عرفنى عام 1966 بزميل له لا يقل ذكاء وموهبة هو وحيد النقاش.
    وجاءت هزيمة 5 يونيه 1967 لتصدم جيلنا – الذى كان لا يزال غضاً فى عمر الزهور ومشحوناً بأمنيات وردية لا حدود لها – وتهزه من الأعماق.
    وفى إطار تداعيات هذه الهزيمة المروعة قرر مصطفى ابراهيم مصطفى ووحيد النقاش شد الرحال والسفر من القاهرة التى غمرها ظلام "النكسة" إلى باريس عاصمة النور، ليس هرباً وإنما أملاً فى التوصل إلى إجابات علمية لطوفان الأسئلة التى طرحتها هذه الهزيمة غير المنطقية.
    لكنها كانت رحلة فى اتجاه واحد .. فقد ذهبا بلا عودة. حيث مات "وحيد" فى أحد مستشفيات باريس، وعلى نفس السرير وبنفس المرض اللعين الذى هاجم الكبد لفظ مصطفى ابراهيم مصطفى – الذى اشتهر فى الصحافة الفرنسية بمصطفى مرجان – لفظ أنفاسه الأخيرة لتفقد مصر اثنين من أجمل مثقفيها الوافدين.
    كانت هذه هى بداية تعرف الشخص بأول شخص من "آل النقاش" الذين أسعدنى الحظ بالتعرف على ثلاثة منهم. . ومنهن.
    لكن العجيب أن ذلك لم يشمل "عميد" الأسرة، وألمع أفرادها فى الستينيات، ألا وهو الكاتب والناقد الأدبى الكبير رجاء النقاش.
    ولم يكن ذلك راجعاً إلى صعوبة لقائه وجهاً لوجه، بقدر ما كان راجعاً إلى المكانة الكبيرة التى تبوأها فى ذلك الحين باعتباره واحداً من أصغر رؤساء التحرير، وهو منصب لا يتم التعيين فيه إلا بقرار سياسى من أعلى مستوى.
    وبالتالى كانت النظرة الشائعة لدى المثقفين الثوريين فى ذلك الحين ان كل من يشغل منصب رئيس تحرير لابد أن يكون على "علاقة خاصة" بالسلطة.
    وقد خلق ذلك الانطباع حاجزاً نفسياً بيننا وبين كل رؤساء التحرير، بما فى ذلك "التقدميون" منهم، الذين كان من السهل – والاستسهال – تفسير وجودهم فى هذه المواقع القيادية بأنه من لزوميات "تجميل" صورة النظام وخداع خلق الله، وبالذات عموم المثقفين.
    وبالنسبة لعميد " آل النقاش"، أى الأستاذ رجاء، أضيف إلى هذا الحاجز النفسى "العام" حاجزاً نفسياً "خاصاً" من جراء إتهام صديقنا الشاعر أحمد فؤاد نجم، ورفيقه الشيخ إمام عيسى، له باتهامات شتى كان لها وقع سيئ علينا فى ذلك الحين، خصوصاً وأنه لم تكن هناك إمكانية التدقيق فى هذه الاتهامات، أو حتى الرغبة فى القيام بذلك.
    فرغم أن رجاء النقاش كان أحد أفراد قلائل بذلوا مساعيهم الحميدة لتسليط الأضواء على ظاهرة نجم وإمام فى ذلك الحين وتقديمهم للجمهور من خلال حفل فى نقابة الصحفيين عام 1968، فان الشيخ إمام أتهم محمد فايق ومحمد عروق بمحاولة رشوتهما عن طريق رجاء النقاش، وقال إن عروق عرض عليه هو ونجم شيكات قيمة كل منها عشرة آلاف جنيه، وأنهما اعتبرا هذه الشيكات رشوة صريحة "أنتم عايزين تشترونا .. بس احنا ما نتبعش".
    ورغم ان رجاء النقاش أكد أن هذه القصة كاذبة من الألف إلى الياء، وتنطوى على إساءة إلى شخصين من أشرف وأنبل الأشخاص هما محمد فايق ومحمد عروق، وأنه كان شاهداً أساسيا على القصة الملفقة وأن الشيك الذى صرف لهما هو 50 جنيها فقط نظير الاشتراك فى برنامج خاص بإذاعة صوت العرب.
    رغم ذلك .. كانت الاتهامات التى أثارها نجم وإمام فى ذلك الحين سحابة دخان زادت من عدم وضوح الرؤية لقيمة رجاء النقاش ( وبالمناسبة فان نجم جدد هذه الاتهامات فى لقاء حديث له مع قناة الجزيرة وأضاف إليها اتهاما قاسياً للأستاذ رجاء النقاش بأنه كان وراء القبض عليه فى أيدى مرات اعتقاله).
    وفى ظل هذه الرؤية الضبابية كان لقائى الأول وجهاً لوجه مع الأستاذ رجاء النقاش مصادفة عجيبة. حيث كان هناك موعداً بينى وبين أحد قادة اليسار المصرى، المناضل الكبير رجائى طنطاوى. وكانت هذه أول مرة أذهب إليه فى منزله بالقرب من نادى الصيد. وعند مدخل العمارة سألنى البواب عن وجهتى .. فقلت له إننى أريد الذهاب إلى شقة الأستاذ "رجائى" فأخذنى من يدى ودق جرس إحدى الشقق، وكان الذى فتح الباب هو رجاء النقاش وهى مصادفة عجيبة لأن إسم "رجاء" من الأسماء النادرة، فما بالك وأن يجتمع "رجاء" و "رجائى" فى نفس العمارة؟!
    وبعد هذه المقابلة التى جاءت عن طريق الخطأ مر أكثر من 35 عاماً إلى أن قابلت الكاتب الكبير رجاء النقاش منذ بضعة أسابيع فى لقاء عام ضم عدداً من كبار الكتاب أذكر منهم الأساتذة جمال بدوى ونبيل زكى ورءوف توفيق.
    وبين المقابلتين الشخصيتين العابرتين جرت مياه كثيرة فى النهر وتوالت أحداث وطرأت متغيرات وظهرت أسماء واندثرت أسماء وغير كتاب وصحفيون جلودهم، لكن وسط هذه التطورات الدراماتيكية دائما والتراجيدية كثيراً والكوميدية أحياناً تعرفت جيداً على رجاء النقاش ومن خلال كتاباته وليس من خلال أى شئ آخر من أشكال العلاقات العامة أو الخاصة.
    وكانت الانجازات الفكرية والأدبية لرجاء النقاش هى التى تكفلت بتحطيم الحاجز العام والحاجز الخاص اللذين وقفا دون اقترابى من عميد آل النقاش فترة طويلة.
    فرغم نجاة رجاء النقاش من البطش الذى لحق بمعظم المثقفين التقدميين فى الحقبة الناصرية، بل ونجاحه فى التمتع "بعلاقات خاصة" مع الحكم بينما كان زملاؤه قابعين فى غياهب السجون والمعتقلات، استطاع رجاء النقاش أن ينأى بنفسه – فى الأغلب الأعم – عن التحول إلى "بوق"، أو الوقوع فى مستنقع "خونة الثقافة".
    بالعكس من ذلك عكف رجاء النقاش فى كافة العصور التى تعاقبت على مصر بعد سقوط النظام الملكى على مشروع نقدى ، تنويرى، تقدمى ، فى الاتجاه العام.
    ويكفى الاشارة برءوس أسهم إلى أهم عناوين هذا المشروع النقدى:
    الملمح الأول دخول رجاء النقاش بشجاعة إلى عش الدبابير حيث طالب بالاصلاح الدينى وتحرير القرآن من قيود عديدة.
    وتساءل بهذا الصدد كيف يمكن أن ننظر للقرآن نظرة عصرية؟!
    ورد على هذا السؤال الخطير بإجابة رائعة قال فيها بالنص:
    علينا أن نحدد هذه القيود ثم نعمل بعد ذلك على تحرير القرآن منها حتى ولو أدّى بنا الأمر إلى تحقيق ثورة دينية مثل تلك الثورة التي قادها (لوثر) في عالم المسيحية الغربية وكانت هذه الثورة هي الحركة (البروتستانتية) المعروفة!
    فما هي هذه القيود التي ندعو إلى التحرر منها؟
    هناك قيود شكلية من بينها الإصرار على عدم كتابة مصحف بالخط العصري المعروف، والإصرار على أن تكون كل المصاحف مكتوبة بالخط القديم مما يشكل عقبة رئيسية أمام كل الأجيال الجديدة التي تريد أن تقرأ فتجد في كتابته عناء شديداً قد يؤدي إلى صرفها عن هذه القراءة نهائياً.
    ففي المصاحف الحالية نقرأ هذه الكلمات:
    (الصرط) بدلاً من (الصراط) و (الصلوة) بدلاً من (الصلاة) و (الزكوة) بدلاً من (الزكاة) و (أبصرهم) بدلاً من (أبصارهم) و (ظلمت) بدلاً من (ظلمات) و (السموات) بدلاً من (السماوات) و (جنت) بدلاً من (جنات)... إلخ.
    إن من واجبنا ولا شك أن نحتفظ بالمصحف القديم بخطه المعروف، فذلك أثر عزيز من آثارنا لا يجوز أن نهمل في المحافظة عليه، ولكن يجب أن تكون لدينا (الشجاعة الدينية) الكافية لكي نطبع مصحفاً خالياً من هذه الحروف التي تجعل قراءته صعبة ومستحيلة إلا عند المتخصصين في قراءة القرآن، ونحن نريد أن يقره في بلادنا كل المتعلمين وأن تقرأه الأجيال الجديدة على وجه الخصوص دون أن يجدوا في هذه القراءة كل المشقة التي يحسون بها الآن. وليس هناك أي نص ديني مقدس يحرمنا من الإقدام على مثل هذه الخطوة.. بل إن روح الدين تتمثل في ((أن الدين يسر لا عسر)) وكل ما ييسر الدين بدون الخروج على جوهر مبادئه أمر مطلوب. إننا إذا أردنا أن نجعل هناك صلة حقيقية بين القرآن وأجيالنا الجديدة فلابد من أن نقدم على مثل هذه الخطوة بلا تردد.
    ... هناك عقبة أخرى هي انعدام وجود تفسير عصرى سهل للقرآن. ونحن بأشد الحاجة إلى مثل هذا التفسير الذي يجعل القرآن ميسوراً في قراءته بالنسبة لأي شاب من شبابنا بدون الرجوع إلى مراجع عديدة معقدة، كما أن مثل هذا التفسير هو وحده الذي يستطيع أن يحرر القرآن من الخرافات التي تسربت إلى التفسيرات القديمة مثل تفسير (البرق) بأنه صراع بين ملائكة الخير والشر، وما إلى ذلك من الأفكار التي يقدم العلم المعاصر بديلاً واضحاً لها قائماً على المعرفة الصحيحة بظواهر الأمور الطبيعية والانسانية.
    هذه بعض العقبات الشكلية.. ولكن هناك عقبات أخرى أعمق وأبعد. فما زالت المؤسسات الدينية عندنا ترفض إلى أبعد الحدود الاعتراف بوسائل التأثير العصرية مثل السينما والمسرح والموسيقى والرسم والإذاعة والتلفزيون.
    .. وإذا نظرنا إلى رجال الدين في الغرب وجدنا أنهم قد توسعوا في الاستفادة من هذه الوسائل إلى أبعد الحدود. فقد امتلأت الكنائس الغربية باللوحات الفنية الرائعة، بل إن هناك مدرسة دينية فذة في الفنون التشكيلية، وهناك آلاف اللوحات والتماثيل الرائعة في الغرب مستمدة كلها من المسيحية، كما توسعت في استخدام الموسيقى وبذلك أصبحت الكنيسة مكاناً مشرقاً بجوه الروحي حيث يساعد الفن بوسائله المختلفة على تعميق هذا الجو بصورة رائعة.
    أما السينما والمسرح فقد أتيح لهما أن يعتمدا على الكثير من الإنجيل والعهد القديم بصورة واسعة رحبة. بل لقد ظهر في السينما فيلم طويل هو فيلم (الإنجيل) ومهما قيل عن هذا الفيلم وعن أخطائه فالمحاولة جريئة، وهي محاولة لم تلق أي اعتراض من السلطات الدينية في الغرب.
    أما عندنا فنحن نجد فاصلاً قاسياً بين المسرح والسينما وبين القرآن وقصص القرآن، كما نجد حرباً على أي اقتراب بين القرآن وبين فن الموسيقى أو فن التصوير والرسم.
    والحقيقة أن مثل هذا الموقف يجب أن يتغير.. ومثل هذه القيود يجب أن تزول، ولا بد من عقد اجتماعات واسعة بين رجال الدين ورجال الفن والثقافة حتى يتم الوصول إلى حل لا يتعارض مع المبادئ الدينية، بل يخدمها ويساعدها على أن تمد جذورها فى أعمق أعماق الضمير والوجدان.
    .. إننا نجد في الغرب كتباً تصدر للأطفال الصغار فيها الكثير من الرسومات والصور التي توضح قصص الإنجيل وتضيئها وتبسطها لهؤلاء الأطفال وهي كتب رائعة وعظيمة ومؤثرة.
    ... ولكننا هنا نتردد في أي جهد من هذا النوع يجعل القرآن قريباً من الانسان والقلب الانساني.. ويجعل القرآن واضحاً كل الوضوح في ضوء العصر الحديث وما يمتلئ به هذا العصر من أفكار جديدة وفنون جديدة.
    ... إننا عندما نحرر القرآن من مثل هذه القيود المحيطة به لا نكون قد أسأنا إلى القرآن، بل نكون قد أحسنا إلى أنفسنا وإلى الدين الاسلامي الذي نؤمن به.. إننا يجب ألا نتردد في تقديم مسرحيات مستمدة من روح القرآن.. يجب ألا نتردد في شيء من هذا على الإطلاق لأن ذلك يطلق القوى العظيمة الكامنة في القرآن.. ويملأ بها قلب الانسان المعاصر وضميره ووجدانه، أما إذا اكتفينا بأن نجعل القرآن مجرد (نص مقدس) سوف يصعب الوصول إليه إلا لمن كان متخصصاً في القرآن والعلوم الدينية.
    ... إن واجبنا هو أن نحرر القرآن من هذه القيود ونبذل كل جهدنا في سبيل تمهيد الطريق للوصول إلى كل ما في القرآن من جمال فكري وروحي وفني وإنساني وكل ما فيه من قيم دينية عليا حتى لا يصبح الطريق إلى القرآن غاية في الصعوبة والقسوة والمشقة.
    الملمح الثانى فى مشروع رجاء النقاش النقدى يتعلق بإصلاح اللغة العربية . وكان فى هذا المجال شجاعاً ومستنيراً أيضاً حيث ذهب إلى أنه "لا بأس من التفكير المخلص فى تجديد شباب اللغة وإعادة الحيوية والصبا والجمال إليها، مع العمل على تخفيف القيود عن الذين يحبونها ويريدون أن يقتربوا منها دون أن يجدوا في ذلك أي عسر أو تعقيد".
    ونقل النقاش عن المرحوم الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية السابق رسالة بعث بها إليه تعليقًا على الموضوع ذاته أشار فيها إلى كتاب له صدر بعنوان "تجديد النحو" وصفه بأنه يحمل "أسس النهوض بهذا النحو، مثل‏:‏ إلغاء الإعراب التقديري والمحلي، ووضع ضوابط جديدة تذلل صعوباته‏، مع حذف الأبواب التي تثقل النحو وتجهد الناشئة‏".
    واعتبر ضيف أنه "من المؤكد أن اللغة العربية لا تنتحر ولا تتراجع في هذه الأيام، بل تزدهي وتزدهر طوال قرنين من الزمان على أيدي أبنائها البررة العظام"‏.‏ومن جانبه وصف النقاش كتاب "تجديد النحو" بأنه "كتاب رائع يحمل مشروعًا كاملاً وجادًّا لتيسير النحو العربي، وتخليصه من تعقيداته وصعوباته وقواعده الزائدة التي يمكن،‏ بل يجب الاستغناء عنها".
    الملمح الثالث هو ان رجاء النقاش لم يمسك العصا من المنتصف فى المعارك الفكرية والأدبية الكثيرة التى خاضها، بل إنه انحاز دائماً – أو غالباً – إلى التجديد. وإن كان البعض – ومنهم الكاتب والناقد صبحى حديدى على سبيل المثال – قد أخذ عليه.
    (يتبع)

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      كاتب مسجل
      • Jun 2006
      • 1123

      #32
      رد: مع رجاء النقاش

      ‏ ولكنّه كان ــ وما يزال في الواقع ــ شديد الميل إلى إسقاط السياسة (بمعناها المباشر والعقائدي والحزبي) على الظواهر الإبداعية، وإلى شطب جزء كبير من حقوق الإبداع إذا أخلّت هذه بحقوق السياسة. وأن تأتي ممارسة كهذه من ناقد كبير ومتمرّس ورائد أمر يتجاوز حدود العثرة، لأنه في الواقع ينمّ عن استعداد للتضحية باستقلالية العملية الإبداعية لصالح تكريس السياسة. ولعلّ جوهر هذا الموقف تختصره الكلمة التي نُشرت على الغلاف الأخير لكتاب النقّاش "ثلاثون عاماً مع الشعر والشعراء"، حيث جاء فيها: "وقد وقف المؤلف بوضوح وصراحة مع حركات التجديد الأصيلة ورموزها المختلفة، كما وقف ضدّ حركات التجديد المبنية على عداء حضاري وقومي للأمّة العربية واللغة العربية وآدابها. ولم يتردّد المؤلف في معارضة حركات التجديد القائمة على سوء النيّة القومية، والاستهانة بالتراث الحضاري العربي بهدف تمزيق العرب فكرياً وثقافياً ووجدانياً".
      انتهت ملاحظة صبحى حديدى، لكنها ليست فوق مستوى الجدال، وعلى سبيل المثال فان ناقدا آخر مثل عادل الاسطه يطالبنا بالتوقف أمام بعض ما ورد فى مقدمة الطبعة الأولى (عام 1969) لكتاب رجاء النقاش " محمود درويش : شاعر الأرض المحتلة" إذ نقرأ ان النقاش لا يتعاطف مع شعر الأرض المحتلة كونه شعر مقاومة وإنما يرى فيه شعراً ناضجاً، كتبه شعراء موهوبون. وبكلمات رجاء النقاش ذاته فان "هناك حركة شعرية ناضجة ورائعة فى داخل الأراضى المحتلة، وان الحكم بنضجها وروعتها من الناحية الفنية والفكرية ليس ناجما عن تعاطفنا السياسى او النضالى مع هذه الحركة، بسبب ما يعانيه أصحابها من الشعراء الشباب فى ظروف حياتهم الصعبة داخل إسرائيل.
      .. إن التعاطف حقيقة لا شك فيه ، ولكن الحركة الشعرية الجديدة داخل الاراضى المحتلة تتمتع بقيمة فنية على اكبر قدر من النضج والاصالة، بصرف النظر عن جميع الاعتبارات السياسية والعاطفية الأخرى. ان الشعراء الشبان البارزين فى الاراضى المحتلة هم شعراء موهوبون".
      وهذا الجدل ينقلنا إلى ملمح رابع للمشروع النقدى لرجاء النقاش، حيث نجده قد قدم إلينا إضاءة لكنم هائل من الابداعات، ومن خلال هذه الاضاءة قام رجاء النقاش بتعريفنا بأجيال من المبدعين المصريين والعرب. وهذه ثروة حقيقية أغنت المكتبة المصرية والمكتبة العربية.
      وليست المسألة مجرد إضاءة نقدية لابداعات موجودة، بل تتعدى ذلك إلى ملمح مهم لرجاء النقاش هو اكتشافه للمواهب الجديدة.
      وكى لا أعيد اكتشاف القوانين المكتشفة اكتفى بهذا الصدد بإحالة القارئ إلى الأديب والناقد الشاب سفيان يوسف الذى تناول هذه الزاوية فى سياق مقال بديع بعنوان "دردشات ليلية مع إبراهيم أصلان" قال فيه :
      .. أنظر مثلا إلي رجاء النقاش.. إنه يمتلك خبرة اكتشاف المواهب، وتقديم الكتاب، وتسهيل الجسر الموصل بينهم وبين القراء، فهو أول من كتب عن الطيب صالح، ومحمود درويش، ازدهرت مجلة الهلال عندما كان يرأس تحريرها، وعندما كان يعد عددا خاصا عن القصة القصيرة في سنة 70 قلب علي الدنيا، وأرسل الناقد السينمائي فتحي فرج لي في الكيت كات وكنا ساعتها نقفل باب البيت بالجنزير عشان الغسيل كان مسروقاً.. وسمعت فتحي ينادي من الشارع، وعندما رآني، صرخ: رجاء النقاش قالب عليك الدنيا ياجدع، وهو مستنيك بكرة الساعة 11 علي قهوة ايزافيتش، وذهبت له في اليوم الثاني الساعة ..1 وكان منتظرا، وأعطيت له قصة (المستأجر).. وأعطاها للجمع بعدها مباشرة..، ويستطرد أصلان عن رجاء: هذا الرجل كبير النفس فعلا، زي يحيي حقي وعبدالفتاح الجمل وصلاح عبدالصبور، وكل هؤلاء العظام الذين لايلعب الغرض في نفوسهم إلا نبلا ونزاهة وجمالا.. رجاء مرة قابلني علي سلم دار الهلال، عندما كان رئيس تحرير مجلة (الدوحة) القطرية، وكان في زيارة للقاهرة، وقالي لي: معندكش كتابات جديدة يا إبراهيم، وكنت أيامها ياشعب باكتب في (عصافير النيل).. وكنت كاتب فعلا خمسة مشاهد، فقلتله: عندي خمس حاجات.. ممكن أبعتهم لك، بس تبعتلي فلوس قبل نشرهم.. وقد كان.. ويتساءل أصلان: من يفعل ذلك الآن؟ وسؤال إبراهيم بالطبع مشروع، لأن الواقع الثقافي فعلا يضن بأفعال من هذا النوع إلا قليلا، ولينظر كل منا إلي كل ما حولنا من مجاملات وتربيطات وأسفار وترجمات، ونشر، وان لم يسع المرء نحو كل ذلك بطرق غير مشروعة أو ملتوية، لن ينال ذلك، لذلك هناك من يطرقون الأبواب بقوة لدرجة الازعاج، وسنجد هؤلاء الطارقين يتصدرون كل قوائم التراحيل المعتادة، دون تقديم قيمة مرجوة، هذا لأن المناخ تنقصه الضمائر النبيلة، ومن ينطوون علي هذه الضمائر، بعيدون عن مواقع القرار، ومواقع السلطة..
      هذه الشهادة تنقلنا إلى ملمح أخير خلاصته أن رجاء النقاش أثناء رئاسته لتحرير "الهلال" و"كتاب الهلال" و "المصور" و "الكواكب" و"الدوحة" القطرية، ظل مخلصاً لقضايا التقدم ويكفى أن نشير إلى تجربته فى "الدوحة" القطرية التى كانت منبراً ثقافيا مهما عندما كان يتولى رئاسة تحريرها، وانتهى الأمر بإغلاقها على يد المحكمة الشرعية إثر نشرها مقالاً كتبه حسين أحمد أمين إن لم تخنى الذاكرة.
      نحن إذن أمام مشروع نقدى مهم لكاتب وناقد أدبى جاد .. ندين له باخذنا من أيدينا وإدخالنا إلى عالم الحق والخير والجمال .. الذى يصارع ثلاثية الباطل والشر والقبح منذ سنوات . ونخشى ان نقول أن الأول يخسر أرضا لصالح الأخير عاماً بعد آخر .
      لكن هذا ليس عيب رجاء النقاش .. الذى يستحق التكريم على عطائه الرائع.
      .................................
      *الحوار المتمدن. في 23/1/2007م.

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        كاتب مسجل
        • Jun 2006
        • 1123

        #33
        رد: مع رجاء النقاش

        ( 30 ) من محمود درويش إلي رجاء النقاش: أنت الذي تكرمنا
        .................................................. ...................

        الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش لم يتمكن من حضور حفل تكريم الناقد الكبير رجاء النقاش.. وأرسل له هذه الرسالة
        عزيزي رجاء النقاش
        كنت ومازلت أخي الذي لم تلده أمي.. منذ جئت إلي مصر، باحثاً عن أفق، وجدت في كنفك حرارة البيت وحنان العائلة، أخذت بيدي، وأدخلتني في قلب القاهرة الإنساني والثقافي، فعلمتني كيف أأتلف وكيف أختلف وكيف أكون «أنا» وسواي في آن واحد.
        وكنت من قبل قد ساعدت جناحي علي الطيران التدريجي، فعرفت قراءك علي وعلي زملائي القابعين خلف الأسوار.
        لم يكن التعبير عن الامتنان وحده هو واجبنا الأخلاقي تجاهك، بل الاعتراف العلني بأنك عمقت إحساسنا بأننا لم نعد معزولين عن محيطنا العربي إلي هذا الحد، وساعدتنا علي الإيمان بقدرة الشعر الخارج من القلب علي الدخول في القلوب وعدم الخروج منها.
        أي: أقنعتنا بأننا ذوو جدوي في زمن كاد أن يقتل المعني، وكاد أن يقيم حدّاً فاصلاً بين جمالية الشعر وفاعليته.
        منعني الحياء من أن أشكرك بما يليق بك.. لئلا يكون الشكر تعبيراً عن رضا مُبَطن عن النفس. لكني اجتهدت كثيراً لكي لا أسبب لرضاك عني خيبة الأمل والخذلان. نعم، كان لك دور في تطوير وعي المسؤولية، وفي تعميق العلاقة بين حرية الشعر وشعر الحرية.
        نحن مدينون لك، لأنك لم تكف عن التبشير النبيل بالمواهب الشابة وعن تحديث الحساسية الشعرية والدفاع عن الجديد الإبداعي في مناخ كان ممانعاً للحداثة الشعرية. ومدينون لك لأنك ابن مصر البار، وابن الثقافة العربية الذي لم تدفعه موجات النزعات الإقليمية الرائجة إلي الاعتذار عن عروبته الثقافية.
        عزيزي رجاء!
        كم يؤسفني ألا أتمكن من حضور حفل تكريمك هذا الذي تأخر بعض الوقت. لكن قلبي معك، أيها الكريم المكرَّم المكرِّم!

        لقد كرمت أجيالاً من الكتاب الشباب بصداقة النقد والإبداع وبمتابعتك المثابرة لتطورات الأدب العربي الجديد في كل مكان في المراكز وفي الهوامش. أنت الذي تكرمنا: تكرم أصدقاءك ومحبيك وقراءك الأوفياء لك.. ولإنتاجك الغزير المتعدد.
        أتمني لك العافية والمزيد من القدرة علي اختراع الأمل لنا ولك..
        ولك كل المحبة.
        محمود درويش
        ......................................
        *المصري اليوم ـ في 26/1/2008م.

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          كاتب مسجل
          • Jun 2006
          • 1123

          #34
          رد: مع رجاء النقاش

          ( 31 ) عرف القارئ العربي بالأدب المصري المعاصر

          بقلم: يوسف الشاروني
          .............................

          علاقتي برجاء النقاش بدأت عندما قرأ لي مقالا عن طوق الحمامه لابن حزم‏,‏ ذلك الكتاب الذي كان يتنازعه الاسبان والعرب لروعته وكان يتحدث عن الحب وكيف يبدأ وكيف ينتهي‏,‏فطلب مني تأليف كتاب عن الحب والصداقة في التراث العربي والدراسات المعاصرة‏.‏ وطبع في الهلال ودار المعارف أربع طبعات‏,‏ وكان من أروع ماكتبت‏.‏ وعندما رأس تحرير مجلة الدوحة أرسل لي للمشاركة في المجلة ونشر لي مجموعة من الدراسات والمقالات‏.‏
          ورجاء يعد من النقاد المهمين والنشيطين‏,‏ وكتبت مؤخرا في مجلة الثقافة الجديدة عن كتابه في حب نجيب محفوظ وكتبت عنه باعتباره أفضل النقاد‏.‏
          وكان له الفضل في اكتشاف عدد كبير من الكتاب وإلقاء الضوء علي ابداعاتهم‏..‏ كما كان له الفضل في تعريف القارئ العربي بالأدب المصري المعاصر‏.‏
          --------------------------------------------
          *الأهرام ـ في 12/2/2008م.

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            كاتب مسجل
            • Jun 2006
            • 1123

            #35
            رد: مع رجاء النقاش

            ( 32 ) ..‏ والموت مـــر

            بقلم: أحمد عبدالمعطي حجازي
            ......................................

            ‏الذي حدث لي قبل خمسين عاما مع أبي‏,‏ حدث لي منذ أيام مع رجاء النقاش‏.‏
            قبل خمسين عاما‏,‏ وبالتحديد في العاشر من أغسطس عام سبعة وخمسين وتسعمائة وألف دخلت دار روز اليوسف القديمة في شارع محمد سعيد باشا ـ حسين حجازي الآن ـ حيث كنت أعمل‏,‏ وجلست إلي مكتبي لأجد برقية ينبئني فيها شقيقي أن والدنا توفي اليوم‏.‏
            كان الوالد في نحو السبعين‏,‏ ولم يكن يشكو مرضا‏,‏ فلم يخطر لي ولا لغيري حين زرته قبل أقل من أسبوع أن النهاية قريبة إلي هذا الحد‏,‏ وأنها ستفاجئنا دون سابق إنذار‏.‏
            نهضت من مكتبي مهرولا متجها إلي مواقف سيارات الأجرة في أول شبرا لآخذ مكاني في أول سيارة متجهة إلي قريتنا التي لا تبعد كثيرا عن القاهرة‏,‏ مجتهدا في ألا أتأخر حتي ألقي عليه النظرة الأخيرة وأشيعه مع المشيعين إلي مثواه الأخير‏,‏ ووصلت السيارة بعد أقل من ساعتين لأتلقي المفاجأة الثانية‏,‏ وهي أن الوالد مات بالأمس ودفن بالأمس‏,‏ وأن البرقية التي تلقيتها صباح اليوم أرسلت بالأمس ووصلت بعد أن غادرت مكتبي في روز اليوسف‏,‏ وكنت في ذلك الوقت شابا أعزب لا يصبر كثيرا علي البقاء في منزله الذي لا يؤنسه فيه أحد‏,‏ ولا يملك فيه من وسائل الاتصال ما يمكن الآخرين من إبلاغه نبأ كهذا النبأ‏,‏ والنتيجة أني قرأت الخبر حين تسلمت البرقية فلم ألتفت بسبب الصدمة للتاريخ الذي أرسلت فيه‏.‏
            عدت إلي القاهرة وقد هالني ما حدث لأكتب في رثاء الوالد قصيدتي التي سميتها رسالة إلي مدينة مجهولة وفيها أقول‏:‏
            أبي
            وكان أن ذهبت دون أن أودعك
            حملت لحظة الفراق كلها معك
            حملت آلام النهاية احتبست أدمعك
            أخفيت موجعك
            ثم أتفجع مخاطبا أصدقائي‏:‏
            مات أبي يا أصدقاء
            الغرباء ودعوه بينما أنا هنا
            لمحتهم في الضفة الأخري
            ظلالا في غروب الشمس تنحني
            علي القبور‏,‏
            ما وجدت زورقا يقلني
            لم أستطع وداعه في يومه الأخير‏!‏
            ‏***‏
            من الذي احتضنني بعد عودتي إلي القاهرة يواسيني ويخفف من لوعتي الحارقة ويحيطني بدفئه وحنانه؟ رجاء النقاش‏!‏
            من الذي استمع إلي قصيدتي فور انتهائي من نظمها؟ رجاء النقاش‏!‏
            من هم الأصدقاء الذين وجهت لهم الخطاب في هذه القصيدة؟ أولهم رجاء النقاش‏!‏
            في تلك السنوات لم نكن نفترق‏,‏ وهاهي الفاجعة تتكرر‏,‏ ويكون بطلها الأول هذه المرة رجاء النقاش‏!‏
            ‏***‏
            في الأيام التي سبقت تكريم نقابة الصحفيين للفقيد منذ نحو شهر سقطت فريسة لنزلة حادة منعتني من المشاركة في تكريمه‏,‏ فلم أملك إلا أن أكتب كلمة عنه تشرح حالي ولا توفي رجاء حقه‏,‏ أرجو فيها أن يواصل المقاومة من أجل الكثيرين الذين يحبونه ويحتاجون إليه‏,‏ وقد دفعه نبله لأن يطلبني في التليفون ليشكرني علي ما قلته في هذه الكلمة بعد أن قرأها‏,‏ فلم يجد في المنزل إلا ابني الذي أخبره أني مسافر‏,‏ ثم أبلغني بالتليفون أن الفقيد اتصل‏..‏ كانت هذه آخر فرصة أسمع فيها صوته‏!‏
            وأنا متأكد من أن رجاء النقاش قاوم الموت بكل ما يملك من طاقة روحية وجسدية‏,‏ قاومه كما كان يقاوم الشر في كل صوره‏,‏ وكان في مقاومته للموت صبورا‏,‏ لأنه يعرف أن معركة الإنسان مع الشر معركة طويلة‏,‏ وكان شجاعا‏,‏ لأن أحدا لا يستطيع أن يقاوم الموت مع أحد‏,‏ وإنما يقاومه كل إنسان علي انفراد‏,‏ فمن النبل أن يكون شجاعا‏.‏ هذه الشجاعة ضرورية لنستنهض بها كل قوانا ونكسب معركتنا مع الموت‏,‏ فإن لم نكسبها فهي ضرورية لنتقبله إذا لم يكن منه بد‏.‏
            وأنا أعرف بعد ذلك أن رجاء النقاش لم يقاوم الموت وحده‏,‏ بل قاومه معه كل الذين أحبوه‏,‏ عرفوه أو لم يعرفوه‏,‏ وفي مقدمتهم زوجته وولداه وأشقاؤه وأصدقاؤه‏,‏ لكننا في النهاية نموت وحدنا‏!‏
            ثم إنني أعرف شيئا آخر‏,‏ هو أن أمثال رجاء النقاش قادرون علي مقاومة الموت حتي بعد رحيلهم‏,‏ لأنهم تركوا للحياة من نبضات قلوبهم وثمرات عقولهم ما لا يستطيع الموت أن يقربه أو يغلبه‏!‏
            ***‏
            أكتب هذه الكلمة وأنا لا أزال في الضفة الأخري‏,‏ في فرنسا التي حملتني علي الرحيل إليها والبقاء فيها إلي اليوم أسباب مختلفة لا يخلو بعضها من قسوة تزيدها إيلاما أنباء الرحيل التي أسمعها ولا أستطيع المشاركة في توديع الراحلين‏.‏
            يا أصدقاء
            لشد ما أخشي نهاية الطريق‏!‏
            وشد ما أخشي تحية المساء
            إلي اللقاء‏!‏
            أليمة إلي اللقاء‏,‏ و اصبحوا بخير
            وكل ألفاظ الوداع مرة‏,‏
            والموت مر
            وكل شيء يسرق الإنسان من إنسان‏!‏
            .........................
            *الأهرام ـ في 13/2/2008م.

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              كاتب مسجل
              • Jun 2006
              • 1123

              #36
              رد: مع رجاء النقاش

              ( 33 ) رجاء النقاش ومحفوظ

              بقلم: محمد سلماوي
              ............................

              جمعتني بالكاتب الراحل رجاء النقاش روابط كثيرة لم يكن أقلها حبنا المشترك لأديبنا الأكبر نجيب محفوظ‏,‏ فقد كنت أعرف حب رجاء الجم لنجيب محفوظ‏,‏ كما كنت أعرف حب وتقدير محفوظ له وثقته الكاملة فيه‏.‏
              وربما كان في ذلك أحد أسباب القيمة الكبيرة التي كان يمثلها رجاء النقاش في مجال النقد الأدبي‏,‏ ولأحد كبار النقاد قول مأثور مؤداه أن المحب للأدب وحده هو الذي يصلح أن يكون ناقدا‏,‏ وقد كان رجاء النقاش مثالا فريدا للناقد المحب للأدب والأدباء في وقت كادت كلمة النقد عندنا تصبح مرادفة لكلمة الانتقاد‏.‏
              ولقد حدثتني الزميلة نوال المحلاوي ذات مرة بعد مرور نحو عام علي فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عن رغبتها في أن ينفرد مركز الأهرام للترجمة والنشر ـ والذي كانت ترأسه في ذلك الوقت ـ بنشر السيرة الذاتية لأديب نوبل الكبير‏,‏ فقلت لها علي الفور‏:‏ أريحي نفسك‏,‏ إن نجيب محفوظ ليس من الأدباء الذين يكتبون سيرتهم الذاتية‏,‏ فهو في تواضعه الجم يعتقد أن حياته ليست ذات أهمية‏,‏ وأن أحداثها لا تهم أحدا غيره‏,‏ كما أنه يفضل ألا يترك للناس إلا انتاجه الأدبي‏,‏ الذي هو أهم من تفاصيل حياته‏,‏ ومع ذلك فكل من اقترب من نجيب محفوظ يعرف جيدا أن حياته بها من الأحداث المهمة والشيقة ما يجعلها ذات مغزي كبير لكل من يهتم بأدب نجيب محفوظ أو بالحياة الثقافية والأدبية طوال سنوات القرن العشرين‏.‏
              ثم قلت لنوال المحلاوي‏:‏ أنا أعرف أن رجاء النقاش كان لديه مشروع قديم لكتابة حياة نجيب محفوظ‏,‏ وأعلم أن محفوظ لديه ثقة كبيرة في رجاء‏,‏ وأنه ـ إذا وافق علي المشروع ـ سيفتح له قلبه وذاكرته بالكامل‏.‏
              ولم تمض أيام حتي كانت نوال المحلاوي قد اتصلت برجاء النقاش الذي أكد لها أنه مازال يرغب في التأريخ لحياة الأديب الأكبر‏,‏ كما التقت بالأستاذ نجيب لتعرض عليه الموضوع فرحب به ترحيبا كبيرا‏,‏ ورحب أيضا بأن يكتبه رجاء النقاش‏.‏
              وقد أمضي رجاء النقاش وقتا طويلا يجمع مادة الكتاب من مصدر واحد فقط هو نجيب محفوظ نفسه‏,‏ الذي كان يجلس إليه مطولا ويسأله في كل الموضوعات التي تتصل بحياته وأعماله‏,‏ فكان محفوظ يجيب عليها بالكامل‏,‏ حيث كان رجاء النقاش يسجلها علي جهاز تسجيل صغير ليقوم بتفريغها بعد ذلك‏.‏
              وبعد مرور ما يزيد علي السنة‏,‏ كان رجاء النقاش قد انتهي من جمع مادته بصوت نجيب محفوظ‏,‏ لكن تلك كانت بداية المشقة الحقيقية ولم تكن نهايتها‏,‏ فماذا يفعل بهذه المادة وكيف يعالجها ومن أين يبدأ؟‏..‏ ولم تمض سنة أخري ولا اثنتان ولا ثلاث‏,‏ بل أربع سنوات ودخلنا في السنة الخامسة ورجاء النقاش يشعر بمسئولية كبيرة تجاه المادة الثمينة التي ائتمنه عليها نجيب محفوظ‏,‏ ومن ثم لا يستطيع أن يخرجها إلا في أفضل صورة دون أن يكون في لهفة كي يخرج أول كتاب من نوعه يؤرخ لحياة أديب نوبل الكبير‏,‏ بل كان الأهم أن يجد الطريقة المثلي للتعامل مع هذه المعلومات النادرة التي حصل عليها‏,‏ فهكذا كان رجاء النقاش‏,‏ وهكذا كان ضميره الأدبي الذي جعله أحد أهم نقادنا الأدبيين وأكثرهم حبا للأدب وإخلاصا له‏.‏
              وبعد أن مرت خمس سنوات‏,‏ اقتنع الجميع خلالها أن الكتاب لن يظهر أبدا‏,‏ وتوصل رجاء النقاش إلي أن قيمة المادة التي لديه تكمن في أنها صادرة من محفوظ شخصيا‏,‏ وأن عليه أن يحافظ علي هذه القيمة بأن يقدمها للقارئ كما هي‏,‏ دون أن يستخدمها في كتابة سيرة صاحبها‏.‏
              وهكذا كان كتاب نجيب محفوظ‏..‏ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته‏,‏ والذي أصدره مركز الأهرام للترجمة والنشر عام‏1998,‏ والذي أهداني رجاء النقاش واحدة من أول خمس نسخ وصلته من المطبعة وصدرها بهذه الكلمات‏:‏ إلي الصديق العزيز الكاتب الكبير الأستاذ محمد سلماوي الذي يعرف كل ما في هذا الكتاب‏..‏ وما خلفه‏..‏ مع خالص التقدير‏..‏ رجاء النقاش‏.‏
              وقد أصبح هذا الكتاب من أهم الكتب التي صدرت عن نجيب محفوظ واثار عند بداية نشره ضجة كبيرة‏,‏ حيث تعرض ـ ضمن ما تعرض ـ لجوانب شخصية من حياة أديبنا الأكبر‏,‏ كان البعض يتصور أنه لم يكن ينبغي الإفصاح عنها‏,‏ بل لقد ذهب البعض آنذاك للقول بأن نجيب محفوظ لم يكن من الممكن أن يقول مثل هذه الأشياء‏,‏ وكان البعض يسأل الأستاذ أمامي‏:‏ هل حقا قلت لرجاء النقاش كذا أو كيت؟‏..‏ ولم يكن الأستاذ في سنه المتقدمة يتذكر في عام‏1998‏ ما يمكن أن يكون قد قاله عام‏1990,‏ لكنه في ثقته الكاملة برجاء النقاش كان يقول لسائليه‏:‏ هل ورد هذا في كتاب رجاء؟‏..‏ فيقولون‏:‏ نعم‏,‏ فيرد بلا تردد‏:‏ إذن فقد قلته‏.‏
              أسرد هذه الواقعة لأن فيها دروسا مهمة وعبرا ذات دلالة لنقادنا من الشباب‏,‏ وفيها أيضا سر عظمة ذلك الناقد الأدبي العظيم رجاء النقاش الذي فقدناه هذا الأسبوع‏.‏
              ففيها أولا أمانة الناقد مع المادة التي تحت يديه وعدم لهفته لنشرها بأسرع وقت وكأنها سبق صحفي رخيص يمكن أن يصنع العناوين الساخنة اليوم ليكون بلا أهمية غدا‏,‏ فقد كانت عين رجاء النقاش علي التاريخ‏,‏ والتاريخ لا يقبل إلا الأمانة والصدق‏.‏
              وفيها ثانيا تفانيه في تقديم ما ائتمن عليه في أفضل صورة ممكنة‏,‏ حتي لو أخذ منه ذلك سنوات طوالا‏.‏

              وفيها ثالثا روح الإيثار التي تجعل الناقد ينحي نفسه جانبا مفضلا عمل الأديب وكلماته‏,‏ فقد كان من الممكن لرجاء النقاش أن يكتب كتابا لم يكتبه أحد من قبل عن حياة محفوظ‏,‏ ولكنه فضل أن يحتفظ لكلمات محفوظ كما نطق بها دون تدخل منه‏.‏
              وفيها قبل ذلك كله وبعده الثقة التي يحوزها مثل هذا الناقد عند الأديب والتي جعلت نجيب محفوظ يرد دون بحث ولا تدقيق‏,‏ بأن كل ما كتبه رجاء النقاش عنه أو عن لسانه لابد أن يكون صحيحا‏.‏
              لقد فقدنا برحيل رجاء النقاش قامة كبيرة في رواق النقد الأدبي يصعب أن نعوضها‏,‏ لكن ما نملكه هو أن ندرس كيف نهضت تلك القامة فصارت باسقة كنخيل القرية المصرية التي ولد بها ناقدنا الكبير رجاء النقاش الذي ترك لنا الساحة بعده صحراء جرداء‏.‏
              .........................
              *الأهرام ـ في 13/2/2008م.

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                كاتب مسجل
                • Jun 2006
                • 1123

                #37
                رد: مع رجاء النقاش

                ( 34 ) رجاء النقاش‏..‏ عليك سلام الله

                بقلم : صلاح عيسي
                .........................

                ليس في سيرة‏-‏ ومسيرة‏-‏ رجاء النقاش ما يختلف كثيرا عن مسيرة غيره من النخب الثقافية والفكرية والعلمية التي ساهمت في صنع مشروع النهضة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتي اليوم‏.‏
                جاء مثلهم أو جاءوا مثله من آلاف القري والكفور والضيعات التي تنتشر علي خريطة الأمة‏,‏ ليجدوا أنفسهم رعايا في بلاد يحتلها الغزاة‏,‏ ويحكمها الطغاة‏,‏ ويحاصرها الجدب والجوع والفقر والمرض من كل اتجاه‏..‏ وانحدروا من أصلاب أسر مستورة تنتمي للشرائح الصغري من الطبقة الوسطي‏,‏ من ذلك النوع الذي لا يبيت علي الطوي‏,‏ ولا ينام‏-‏ مع ذلك‏-‏ ممتليء المعدة‏,‏ يتملكها رعب من السقوط في هاوية الحاجة‏,‏ ويقودها إصرار عنيد علي أن تصنع لأولادها مستقبلا أفضل وحياة أكثر سعادة‏,‏ في ربوع وطن لا احتلال فيه ولا طغيان‏,‏ يصبحون تحت علمه مواطنين احرارا لهم حقوق مرعية وملزمة لا رعايا ينتظرون المكرمات والعطايا‏,‏ ويتلقون الركلات والصفعات وهم يهتفون فيمن يضربهم‏:‏ ضربك فينا شرف لينا يا افندينا‏!!‏
                هؤلاء هم الأفندية‏..‏ أولاد الأفندية من صغار التجار وكتبة الدواوين وطلاب المدارس واسطوات الفابريكات وباشكتبة المحاكم وصغار علماء الأزهر‏,‏ ووكلاء مكاتب البريد وشاويشية الجيش والبوليس الذين قدر لهم أو لأبنائهم فيما بعد أن يقودوا الحلقات المتتابعة من مشروع النهضة العربية في كل المجالات‏,‏ من السياسة والحكم إلي الإدارة والحرب ومن الأدب والفن إلي العمارة والتشييد‏.‏
                من أصلاب هؤلاء جاء رجاء النقاش حين كان الزمن منتصف ثلاثينيات القرن الماضي وبينما كان الجيل السابق من الأفندية أولاد الأفندية يقود معركة ضارية ضد ديكتاتورية إسماعيل صدقي ويسعي لاستكمال مسيرة التحرر والديمقراطية التي بدأها عام‏1919.‏
                وما كاد رجاء النقاش يتعلم معني الكلمات حتي شغفته مجلة الرسالة التي كان والده‏-‏ مدرس اللغة العربية الذي يكتب الشعر‏-‏ يحتفظ بكل اعدادها القديمة ويحرص علي قراءتها كل أسبوع علي الرغم من قلة المال‏..‏ وكثرة العيال‏.‏
                كانت الرسالة‏-‏ التي أصدر أحمد حسن الزيات عددها الأول عام‏1932‏ قبل مولده بعامين‏-‏ منبرا لجيل من المثقفين المصريين والعرب‏,‏ تفتح وعيهم وازدهرت مواهبهم علي مشارف وفي أثناء وعقب الثورات الوطنية التحررية التي اشتعلت شراراتها في الأقطار العربية‏,‏ بعد الحرب الكونية الأولي في مصر‏(1919)‏ والعراق‏(1920),‏ وليبيا‏(1923)‏ والسودان‏(1924),‏ وسوريا‏(1925),‏ وفلسطين‏(1929),‏ يتعايشون علي صفحاتها علي الرغم من اختلاف منابعهم الفكرية‏,‏ ويتحاورون فيما بينهم حول مشروع للنهضة العربية يجمع بين الأصالة والمعاصرة‏,‏ وبين الموروث والوافد وبين الشرق والغرب وبين الوطنية والقومية‏.‏
                وعلي صفحاتها وعلي صفحات غيرها من المنابر والمنتديات الثقافية والفكرية والسياسية اكتشف رجاء النقاش موهبته وعرف طريقه واختار موقفه وتخلق ذلك الجيل من الأفندية أولاد الأفندية الذين سيقدر لهم فيما بعد أن يقودوا مشروع النهضة العربية في مرحلته التي بدأت حين نهضت الأمة‏,‏ من بين طيات ظلام‏-‏ وركام انقاض‏-‏ الحرب العالمية الثانية تهتف للاستقلال والحرية والعدل والوحدة‏.‏
                وكان رجاء في الثامنة عشرة من عمره يستعد لدخول الجامعة ليدرس في قسم اللغة العربية بكلية الآداب‏,‏ حين قامت ثورة‏23‏ يوليو‏1952,‏ ليتأكد له ولجيله أن تضحيات الأجيال السابقة من الأفندية أولاد الأفندية لم تضع هدرا وأن الزمن لم يتوقف والوطن لم يعقم والشعب لم يكف عن الحلم‏,‏ ولتفتح أمامهم أبواب الأمل في أنهم يستطيعون استكمال ما صنعه الأسلاف واستئناف مسيرة النهضة علي الرغم من كل العقبات‏.‏
                ومع أن الذين صنعوا الثورة وقادوا المشروع‏,‏ كانوا‏-‏ كذلك‏-‏ من الأفندية أولاد الأفندية‏,‏ ومن صغار الضباط أولاد صغار الموظفين و التجار وفي أحسن الأحوال أولاد عمد الأرياف‏,‏ ولم تكن الثقافة من بين همومهم الضاغطة أو الملحة‏,‏ فإن أبواب الأمل التي فتحوها علي مصراعيها‏,‏ سرعان ما اجتذبت إليهم‏,‏ كل المتخصصين والموهوبين والحالمين في كل المجالات‏:‏ من أبناء الشريحة ذاتها‏,‏ ليشاركوا في صياغة الحلم‏,‏ فلم يصدوا أحدا‏,‏ ولم يرفضوا فكرة‏,‏ طالما أن صاحبها لا ينازعهم الحق في قيادة المشروع‏,‏ وفي حيازة السلطة‏..‏
                هكذا حانت الفرصة لـ‏'‏ رجاء النقاش‏'‏ وجيله لكي يعبروا عن حبهم للوطن‏,‏ وانتمائهم للشعب بأن يشاركوا في صياغة المشروع الثقافي لثورة يوليو‏!‏
                وكان قد أخذ نفسه منذ البداية‏,‏ بالحزم الذي يليق بأصحاب الرسالات‏,‏ فعشق العمل‏,‏ وآمن بأنه مصدر كل الطيبات‏,‏ ولم يكف علي امتداد عمره‏-‏ منذ غادر الطفولة‏-‏ عن العمل الشاق صبيا وشابا وكهلا وشيخا‏,‏ يقرأ بعمق ويكتب بغزارة‏,‏ ويناقش بحرارة‏,‏ وكان أقسي‏,‏ ما يتعرض له‏,‏ هو أن تجبره تقلبات السياسة وعواصفها‏,‏ علي أن يكف عن العمل‏..‏ ولأنه كان يملك حيوية عقلية خارقة‏,‏ فقد كان ذهنه المشتعل لا يكف طوال الوقت عن الابتكار‏,‏ وعن توليد الأفكار والأحلام‏,‏ ولم تكن الثروة تشغله‏,‏ إذ كان ماهرا‏-‏ وموهوبا‏-‏ في تبديد ما يكسبه‏,‏ ولم تكن السلطة تعنيه‏,‏ إلا بمقدار ما تتيح له من فرصة للتأثير في الناس‏!‏
                ومنذ البداية‏,‏ وحتي النهاية‏,‏ ظل رجاء النقاش يخوض المعركة علي جبهة الثقافة والوعي‏,‏ انطلاقا من إيمانه بأنهما أساس وحدة الأمة وبأن الانتصار في ميدانهما‏,‏ هو الذي يقربها من حلمها‏-‏ وحلمه‏-‏ المراوغ‏:‏ الوصول إلي صيغة للنهضة تجمع بين الأصالة والمعاصرة وبين الموروث والوافد وبين الشرق والغرب‏,‏ وبين الوطنية والقومية‏..‏
                وهكذا نهض مع جيله‏,‏ لتجديد لغة الكتابة في النقد الأدبي‏,‏ ليخلصها من بقايا الزخارف اللفظية‏,‏ ومن التقعر الأكاديمي الذي يعني بالمصطلحات أكثر من عنايته بالأفكار والرؤي‏,‏ وساند بقوة كل تيارات التجديد والتحديث في الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح والسينما علي صعيد الأمة بكل أقطارها‏,‏ وخاض المعارك في صف أصحابها ونيابة عنهم‏,‏ وجدد في شكل ومضمون المطبوعة الثقافية‏,‏ لتجمع بين الجاذبية والعمق وبين الفرجة والفكر‏,‏ وتبني الأجيال التي جاءت بعده‏,‏ وتحمس لها وسلط عليها الأضواء‏,‏ إذ كان يدرك منذ البداية‏,‏ أنه وجيله مجرد صفحة من صفحات مشروع النهضة العربية وأن عليهم أن يسلموا الراية لمن يأتي بعدهم‏,‏ كما تسلموها ممن جاء قبلهم
                رجاء النقاش‏..‏ عليك سلام الله والوطن‏!‏
                .......................................
                *الأهرام ـ في 14/2/2008م.

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  كاتب مسجل
                  • Jun 2006
                  • 1123

                  #38
                  رد: مع رجاء النقاش

                  ( 35 ) رجاء النقاش‏..‏ حضرة المحترم

                  بقلم: محمد حسين أبوالحسن
                  .............................................

                  كان ـ علي الدوام ـ شابا متمردا في غير جلبة‏,‏ متفجرا بالجديد الذي يغلي في العروق قبل أن ينتقل إلي أصابع اليد‏,‏ واعدا غاية الوعد‏,‏ مع أنه فقير غاية الفقر‏,‏ لا يحتمل عملا غير الحياة الممزوجة بالفن‏,‏ طاف الأزقة علي مدي عمره متنصتا إلي وعيد الحلاج وهو يساق إلي الصلب‏,‏ وسمع المتنبي وهو يتمتم بأبياته راسما دوائر نارية ومشعلا الحرائق أينما حل‏,‏ والقتلة يطاردونه من بقعة إلي أخري‏,‏ وتعلق بأهداب شكسبير و تولستوي وجوتة ونجيب محفوظ‏,‏ ومد عروق مودته إلي عبدالمعطي حجازي ومحمود درويش والماغوط وغيرهم‏.‏
                  هكذا كان حضرة المحترم ـ بحق ـ رجاء النقاش كائنا مشعا تسبقه استنارته أينما ذهب‏,‏ لتفسح له المكان وتجذب إليه النفوس التواقة إلي العلم والمعرفة‏,‏ ما أن يحل في مكان حتي يتخلق مجلس علم وتلاميذ وأنداد وأفكار كبيرة كالنجف يبعث الضوء والبهجة‏,‏ رأيت هذا في احتفاء نقابة الصحفيين به أخيرا والحشد الهائل الذي تحلق حوله‏,‏ مما ذكرني بقصة طريفة وقعت للسيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد وابنة عمه‏,‏ عندما كانت تطل من نافذة قصرها بمدينة الرقة علي نهر الفرات‏,‏ ووجدت حشدا كبيرا من الناس يجتمعون علي شاطيء النهر‏,‏ سألت في دهشة عن السبب‏,‏ فقيل لها إن الناس اجتمعوا للترحيب بأحد كبار العلماء الذي وفد علي الرقة‏,‏ فقالت زبيدة‏:‏ هذا هو العز‏..‏ لا عزنا تساق إليه الناس بالسياط‏!‏
                  ما أجمل ما قالته زبيدة وما أصدقه‏,‏ فعز العلماء قائم علي اختيار الناس ومحبتهم وإقبالهم دون فرض ولا إرغام‏,‏ وهذا هو العز الحقيقي لأنه نابع من القلوب المتحررة من كل الضغوط‏..‏ إن رجاء النقاش هو واحد من أهم نقاد زماننا‏,‏ واصل مسيرة طه حسين والعقاد مضيفا إليها تفرده الخاص عندما يقرأ الأعمال الأدبية والفكرية بعين الناقد المالك لأدواته‏,‏ بما يمكنه من وضع الكاتب والنص في المكان الصحيح‏,‏ دون أن يتخلي عن محبته الغامرة وهو يلتقط بمهارة مكامن القوة والموهبة‏,‏ مميزا بين الأصداف واللآلئ‏,‏ وكم سلط ضوء محبته علي كتاب لايعرفهم أحد‏,‏ فصاروا ملء الأسماع والابصار‏.‏
                  وتكفي الإشارة برءوس أسهم إلي أبرز محاور مشروع النقاش النقدي والفكري بداية من الانحياز للتجديد واكتشاف المواهب وليس انتهاء بالمطالبة بالاصلاح الديني وإعادة النظر في حال اللغة العربية‏,‏ بكل ما في تلك المحاور من مباهج فكرية وروحية غمرنا بها كقراء وكتاب‏,‏ ومع أنه يضرب بسهم في مناهج العلم المنضبطة فإنه يظل أقرب لروح الفن من خلال الصحافة الأدبية التي شكلت النافذة الرئيسية التي انطلق منها للقارئ العربي‏,‏ مشبعا ظمأه الثقافي‏,‏ ومبقيا جذوة التفكير مشتعلة‏,‏ بكثير من متعة السرد ودقة العرض وعمق الفكرة وبراعة الربط بين الشخصيات والتجارب والأفكار والرؤي‏
                  مقدما في ذلك كله خلاصة دقيقة واعية لمسئولية المثقف الحقيقي في مجتمعه‏,‏ في معرض حديثه عن الأديب الروسي العظيم ليرمنتوف‏,‏ فالمثقف ليس من مهمته ولا في قدرته أن يقدم الدواء لكل داء‏,‏ أو أن يصلح الدنيا بلمسة سحرية‏,‏ أو أن يكتشف حلا لكل مشكلة‏,‏ فهذا كله مستحيل وخطأ في التقدير‏,‏ فالمثقف الموهوب الصادق مهمته أن يضع يده علي المشكلة وأن يسحبها من الظلام أو الضباب ليضعها أمام كل العيون‏,‏ فإن أحسن المثقف التشخيص فعلي الجميع بعد ذلك أن يشتركوا في البحث عن حل سليم‏.‏
                  وإذا كان بعض الفاعلين في الساحة الثقافية قد وجهوا يوما ما سهامهم صوب النقاش‏,‏ فإن الجميع علي تنوع مشاربهم ظلوا متفقين علي حقيقة جوهرية تقول إن رجاء النقاش كان ـ وسيظل ـ أحد الأقطاب الكبار في كوننا الثقافي والنقدي‏,‏ بعدما استصفي الماضي والحاضر الفكري العربي بقدرة نبوئية عالية‏,‏ ترسم ملامح مستقبل في طور التشكل والتكوين‏!‏
                  ....................................
                  *الأهرام ـ في 13/2/2008م.

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    كاتب مسجل
                    • Jun 2006
                    • 1123

                    #39
                    رد: مع رجاء النقاش

                    ( 36 ) عاشق السودان

                    بقلم: عبدالرحمن عوض
                    ..............................

                    في أقل من شهر فقدت الثقافة السودانية والعربية عاشقين متيمين مصريين د‏.‏يونان لبيب رزق‏1933‏ ـ‏15‏ يناير‏2008,‏ والأديب الكبير رجاء النقاش‏1935‏ ـ‏8‏ فبراير‏2008,‏ لقد كان د‏.‏يونان لبيب رزق حجة في تاريخ السودان من خلال أطروحته للدكتوراه‏,‏ وأما الراحل المقيم الأستاذ رجاء النقاش فقد قدم للأدب العربي المعاصر أهم أديب روائي في السودان والأقطار العربية بعد مرحلة نجيب محفوظ ألا وهو الأديب الروائي الكبير الطيب صالح‏.‏
                    لم تكن صلة الأديب الكبير رجاء النقاش صلة عابرة‏,‏ بل كانت صلة حميمة‏..‏ وطدها مع الأدباء السودانيين أبناء جيله‏:‏ الفيتوري ـ جيلي عبدالرحمن ـ تاج السر الحسن ـ محيي الدين فارس ـ الطيب صالح ـ علي أبوسن ـ محمد المهدي المجذوب ـ د‏.‏عبدالله الطيب ـ محمود عثمان صالح مدير مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي بأم درمان وغيرهم من الكتاب والصحفيين الذين فتح لهم الطريق في مجلة الدوحة القطرية إبان رئاسته التحرير وغيرها من الصحف والمجلات المصرية وتواصل معهم بحميمية‏.‏
                    لقد ألم الراحل المقيم بخريطة الأدب العربي في السودان إلماما دقيقا من خلال قراءاته الواسعة والعميقة ومن خلال أصدقائه السودانيين من جميع التيارات الثقافية المتعددة في السودان‏.‏
                    كلنا يذكر مقالته الشهيرة منذ عامين ليلة بكي فيها العقاد وقد كانت ليلة استضاف فيها الأدباء السودانيون الأديب العملاق عباس محمود العقاد في الأربعينيات‏,‏ وفيها أنشده الشاعر السياسي السوداني محمود الفضلي إحدي روائع العقاد من قصائده حتي تأثر العقاد وانسابت دموعه النادرة‏!‏
                    لاشك أن السودان قد فقد برحيل الأستاذ رجاء النقاش هذا التواصل الثقافي الحميم بين القطرين الشقيقين بهذه الدقة في التناول والصدق في المشاعر الدافئة نحو الثقافة السودانية والعطاء الفكري عامة‏.‏
                    كلنا يذكر منذ عامين اكتشافنا لأستاذ آخر يحمل اسم أحمد لطفي السيد‏,‏ ولولا يقظة ووعي والحس التاريخي عند رجاء النقاش لالتبس علينا الأمر بين الاسمين‏!‏ تذكرت الآن صدق أحاسيس الشاعر عبده بن الطبيب في مرثيته الخالدة لقيس بن عاصم‏:‏
                    فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
                    كنت انتظر أهرام الأحد لكي اقرأ مقالته الأسبوعية فإذا الناعي ينعيه مساء الجمعة حارما جماهيره العريضة علي أرجاء الوطن العربي من مقاله الذي يدافع فيه عن حق أو يدفع به ظلما أو ينير شمعة أو يجلو حقيقة وينفض الغبار عن منسيين ومتوارين خلف زوايا الإهمال والنسيان التاريخي‏.‏
                    لم يكن الراحل المقيم رجاء النقاش عليه سحائب الرحمة وشآبيب المغفرة كاتبا انسانا فحسب بل كان جامعا للقلوب مؤلفا بين الثقافات العربية فكتب عن شعراء وأدباء المهجر وأبي القاسم الشابي وشعراء المقاومة الفلسطينية وغيرهم من أصحاب القضايا العربية‏.‏
                    رحم الله تعالي المؤرخ الكبير د‏.‏يونان لبيب رزق والناقد الكبير الأستاذ رجاء النقاش وأسبغ عليهما من رحمته ومغفرته ورضوانه التي وسعت كل شئ‏.‏
                    ونسأل الله تعالي أن يعوضنا عنهما خير العوض والخلف لهذين العالمين الجليلين من عشاق السودان وأنصار وحدة وادي النيل وعروبته‏.‏
                    ....................................
                    *الأهرام ـ في 13/2/2008م.

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      كاتب مسجل
                      • Jun 2006
                      • 1123

                      #40
                      رد: مع رجاء النقاش

                      ( 37 ) كان شعاعا متوهجا

                      بقلم: د‏.‏ محمد المخزنجي
                      ...............................

                      لقد فقدنا ركنا جميلا ونبيلا من أركان الجمال المصري‏,‏ متمثلا في مثقف انسان رفيع الانسانية‏,‏ وناقدا ذي بصيرة ومعرفة لاتقف عند حدود المعرفة النظرية‏,‏ بل تتعداها الي المعرفة بشجون القلب وفتون الروح‏.‏
                      وهذا يجعل من رجاء نقاش ناقدا متفردا يجيد لغة الوصل ما بين المبدع والمتلقي‏.‏ لقد كان فنانا فيما كتب وفيما نقد‏.‏ وانا أعتقد ان كل كاتب وكل شاعر وكل فنان مصري يناله شعاع من ضوء رجاء النقاش كفيل بأن يسبغ عليه اضاءة لاتتكرر وتظل مصاحبة له علي امتداد عمره الابداعي‏.‏ كان رجاء النقاش مستكشفا او مكتشفا‏,‏ ملهما للابداع الناجح والمبدعين النادرين‏.‏
                      لقد أسعدني حظي مرتين عندما كتب عني رجاء النقاش مرة دون ان يعرفني فنلت بكتابته وساما تتضاءل الي جواره كل الجوائز والأوسمة‏.‏ أما المرة الثانية فهي معايشتي لرجاء النقاش لعدة أيام متواصلة‏.‏ وقد أذهلني هذا الروح الجليل‏,‏ وأكاد أقول الخارق‏.‏ فقد كان يعيش علي ملعقتين من العسل وملعقتين من الزبادي فقط في اليوم‏,‏ ومع ذلك يظل متوهجا ليرسل فيما حوله اشعة وضياء من المعرفة والتاريخ ويكشف عن ظاهر وباطن الجمالات في الأدب والفن والتاريخ‏.‏ وكان يرسل ذلك بذاكرة من حديد ورؤي ثاقبة‏.‏ لقد كان روحا خالصا‏.‏
                      وأنا أشعر الآن بقدر هائل من الوحشة‏,‏ وأخشي اننا نفقد في هذا الزمان اعمدة للحق والخير والجمال‏.‏
                      رحم الله رجاء النقاش واعاننا علي افتقاده
                      --------------------------------------------
                      *الأهرام ـ في 12/2/2008م.

                      تعليق

                      • د. حسين علي محمد
                        كاتب مسجل
                        • Jun 2006
                        • 1123

                        #41
                        رد: مع رجاء النقاش

                        ( 38 ) ماذا يبقي ؟
                        رجاء‏..‏ الصرح والقلم

                        بقلم: ‏ سامي فريد
                        ......................

                        تفاجئنا الايام كدأبها دائما بما قد يحزن او يسر او يستغرب‏..‏ المفاجـأة هذه المرة كانت حزينة عميقة الحزن‏.‏ كلنا الي موت هذا صحيح لكن فقد عزيز من وزن وقيمة وقامة رجاء النقاش امر يحدث فينا شيئا كالصدمة‏,‏ لم اكن تشرفت بمعرفته في شخصه وإن تمنيت هذا وقد كنت واحدا من قرائه المتابعين لمقالاته وكتبه بالتقدير والاعجاب‏,‏ فهو الكاتب صاحب الرؤية والاسلوب وهو القريب جدا من قرائه‏,‏ لا يتعالي عليهم فيخاطبهم من قمة البرج العالي ولا هو المسف الذي يهبط بهم الي مهاوي الضلالة والتجهيل والخداع‏,‏ لم اقرأ له يوما ولا أظن غيري قد قرأ له مقالا لا يخاطب فيه هما من هموم الناس او قضية تشغلهم علي اي صعيد فكري كان‏..‏
                        فهو الأديب السلس الذي يسكن قلب وعقل قارئه‏.‏ من الحياة يكتب يغمس قلمه في مداد الحياة إن جاز التعبير‏.‏ هذا هو الكاتب الذي يعرف معني ان تكون لكل صاحب قلم رسالة يعيش من اجلها‏..‏ أن يشهر قلمه من أجل ما ينفع الناس فيقول رجاء النقاش في مقدمة الطبعة التاسعة لكتابه الشهير التماثيل المكسورة الصادر ضمن سلسلة كتب مكتبة الاسرة تحت عنوان تأملات في الانسان‏:(‏ انني احب هذا الكتاب أكثر من أي كتاب آخر لي‏,‏ وذلك ببساطة لأنني كنت احاول في اثناء كتابته ان اعالج نفسي من الحزن والضيق بالحياة‏
                        كنت احاول ان انتصر علي عوامل الهزيمة الروحية التي اوشكت يوما ان تسد امامي كل الطرق ان تسلب مني اي حماس للحياة او ابتهاج بها وكلما عدت الي فصول هذا الكتاب تدفقت في روحي عزيمة ان تنتصر علي الحزن والاسي والتشاؤم وبمرور الايام اكتشفت ان الكثيرين يشعرون نحو هذا الكتاب بنفس مشاعري وذلك لأنهم اصطدموا في طريق الحياة ببعض الاحزان الكبيرة ودخلوا مع هذه الاحزان في صراع حاد وارادوا ان ينتصروا فيه وان يواصلوا حياتهم رغم عدوان الاسي والاكتئاب‏.‏
                        وحده رجاء النقاش الذي كان يحس هذه كله ولهذا كان انسانا قريبا جدا من كل انسان يعرفه او لم يعرفه‏,‏ ومن منا لم يعش مشكلة الخصومة مع الحياة حتي هؤلاء الذين يظنون انهم توافرت لهم اسباب السعادة والثروة وراحة البال يتساءل رجاء النقاش‏:‏ كيف يعيش الانسان في سلام مع نفسه وفي سلام مع الناس؟ وما الطريق الي ذلك ؟ وما العقبات التي تقف في طريقه وكيف يتصرف المهزومون في معركة الحياة وكيف يتصرف المنتصرون وما الأمل وما التفاؤل وما التشاؤم وما الاسي وما الفرح؟ نحن يحزننا ولا شك فراق رجاء النقاش بشخصه وسمته وروحه وفكره لكن يعزينا اكبر العزاء ان الصرح الذي خلفه من بعده سيظل يغمرنا نوره وسيبقي فينا ما خطه قلمه من اجل سعادتنا ما دمنا نحفظه ولا نضيعه‏...‏
                        .......................................
                        *الأهرام ـ في 14/2/2008م.

                        تعليق

                        • د. حسين علي محمد
                          كاتب مسجل
                          • Jun 2006
                          • 1123

                          #42
                          رد: مع رجاء النقاش

                          ( 39 ) كان زهرة أبناء جيله

                          بقلم: محمد إبراهيم ابو سنة
                          ......................................

                          صديقي رجاء النقاش زهرة أبناء جيله‏.‏ كان صوت هذا الجيل في النقد الأدبي‏,‏ وهوالذي رشحه لتبوؤ الريادة في الخمسينيات والستينيات‏.‏ وكان أستاذ النقد المبدع والثقافة بالاضافة الي أنه كاتب صحفي قدير‏.‏
                          عرفته في بداية الستينيات عندما كان مراسلا لمجلة الأداب البيروتية‏,‏ واتصلت صداقتنا حتي النهاية‏,‏ لأنه في واقع الأمركان يعين أبناء جيله وجيلنا‏,‏ وأنا بالتحديد‏,‏ في نشر اعمالنا الأولي‏.‏
                          واستمرفي هذا التقليد الجميل طوال حياته‏,‏ فمد لي العون عام‏1963‏ وكان له الفضل في أن نشرت عددا كبيرا من القصائد في مجلة الكاتب والهلال والكواكب والدوحة‏.‏
                          واذا كان تولستوي يقول الأخلاق أندر من العبقرية فقد جمع النقاش بين الميزتين‏:‏ الأخلاق والعبقرية‏.‏ فلا يوجد صوت أدبي من جيلنا إلا ويدين بموقف او مساعدة وعون من رجاء النقاش‏.‏
                          ومن أعماله التي لاتنسي ما كتبه عن العقاد ونجيب‏,‏ ومقدمته الرائعة للديوان الأول لأحمد عبد المعطي حجازي مدينة بلا قلب عام‏1958‏ وهي التي قدمت حجازي للقراء‏,‏ لقد استطاع النقاش أن يلعب ادوارا عدة كناقد وكرئيس تحرير عدد من المجلات‏,‏ فكان مؤثرا وفاعلا في الحركة الثقافية ومدافعا صلبا عن حركة الحداثة والأجيال الجديدة‏.‏
                          وكان يتسم بالدماثة وبشخصية لابد أن تقع في حبها بمجرد ان تتعرف عليها‏.‏
                          واذا كان الموت اختطفه وهو في قمة النضج فانه سوف يظل في الذاكرة الأدبية والثقافية نجما لامعا وثاقبا‏,‏ لأن انجازه لايعرف النسيان‏,‏ فجيلنا كله سواء شعراء او روائيين او نقاد يدين لهذا الناقد الرائع الجميل الذي قدم لمصر ولثقافتها أفضل العطاء وليتنا نعيد نشر أعماله ليعرف الجيل الجديد اية قامة أدبية رفيعة فقدناها‏.‏
                          -------------------------------------
                          *الأهرام ـ في 12/2/2008م.

                          تعليق

                          • د. حسين علي محمد
                            كاتب مسجل
                            • Jun 2006
                            • 1123

                            #43
                            رد: مع رجاء النقاش

                            ( 40 ) فتنة اللعب في «المناطق الآمنة»

                            بقلم: سيد محمود
                            ......................

                            تكشف السيرة المهنية للناقد الراحل رجاء النقاش جملة من الملاحظات المرتبطة بأوضاع الصحافة الثقافية في مصر التي كان أحد أبرز فرسانها طوال نصف قرن، فمنذ بداياته الاولى ربط النقاش نفسه بالثقافة العربية كما جسدها مشروع مجلة «الآداب» البيروتية والتي عمل النقاش مراسلاً لها من القاهرة سنوات عزها.
                            وفي يقيني أن ارتباطه المبكر بهذا المشروع رسم خطوات حياته كلها ومكنه من الاطلاع على أعمال إبداعية ونقدية خارج مصر، الامر الذي جعله يتعافى من «الاحساس الشوفيني» الذي وسم مجايليه ومن جاءوا بعده من الصحافيين والنقاد المصريين الذين لم يفلح أحدهم في التكريس لأي موهبة عربية في مجال الإبداع الأدبي مقارنة بالدور الذي لعبه النقاش في تكريس مواهب في حجم محمود درويش وسميح القاسم والطيب صالح، هذا من ناحية،
                            ومن ناحية أخرى أعطته تجربة «الآداب» فرصة التعرف على المواهب العربية في سياق شامل حرّر طريقة تعاطيه معها من التصورات الجاهزة التي تقيس كل ما ينتج خارج مصر على ما كان ينتج داخلها.
                            وقد يكون صحيحاً أن الانتماء القومي كان السمة المميزة لعصر جمال عبد الناصر، إلا أن النقاش مارس طقوس هذا الايمان بطريقته الخاصة التي لم تكن نتيجة لتورط أيديولوجي مباشر يدفعه الى التماهي مع خطاب الثورة الناصرية بالكامل، أو الى العداء لها.
                            وفي تقديري إن هذه «المسافة الآمنة» التي صنعها مع النظام الذي شكك دائماً في نيات من يعملون في ظله، مكنته من صناعة مشروعه المتكامل في الصحافة الثقافية والحفاظ عليه من دون خسائر كتلك التي دفعها مجايلون نتيجة صدامهم المتوالي مع السلطة، اذ يلفت النظر في سيرته انه لم يخف قط تبنيه للخط السياسي للنظام، ولعل ذلك يفسر أيضاً كونه واحداً من قلة من المثقفين والنقاد لم يصبها أذى الدولة الناصرية الذي طاول النخبة المصرية بأطيافها كافة، على رغم أن تصوره النقدي لم يكن مغايرا تماماً للتصورات النقدية الشائعة والتي روجت لها أجهزة الدولة التي كانت تغلب السياسي على الجمالي، على رغم رفضه العنيف للنقد الماركسي وآلياته.
                            وبحسب تعبير صبحي حديدي كان النقاش «شديد الميل إلى إسقاط السياسة على الظواهر الإبداعية» بما في ذلك من تعسف. إلا أنه اتسم بالمقابل في ممارساته المهنية بكثير من الرحابة التي تقوم على الايمان بالتنوع الخلاق.
                            ولعله أول من غامر بتقديم شعراء السبعينات في مصر من خلال الملف الذي نشرته مجلة «الهلال» ولا شك في ان من يتأمل المواد الصحافية التي نشرتها المجلة خلال الفترة التي تولى فيها النقاش رئاسة تحريرها يكتشف على الفور ملامح هذا المشروع وأركانه التي تواصلت فترة توليه رئاسة تحرير مجلة «الدوحة» القطرية في النصف الاول من ثمانينات القرن الماضي. وهو مشروع ينتصر للغة الصحافية السهلة ويراهن عليها في بناء جسور بين القراء والكتّاب من دون التورط في الخطاب النقدي النظري الجاف ومتاهاته.
                            غير أن من اللافت أن النقاش بعد عودته إلى مصر نهاية ثمانينات القرن الماضي لم يشأ الاستمرار في هذا الدور النقدي الفعال على رغم خلو الـــساحة من الأسماء التي ساجلها ولعب معها طوال نصف قرن بعد رحــيل معظمها، لكنه فضل العودة إلى ذاكرته الحية والتقليب في صفحات التاريخ المصري بالكتابة عن بعض الرموز الثـــقافية والفكـــرية التي جرى تغيــيبها وهي «استراحة محارب» طويلـــة لم يرض عنها الجيل الجديد من المبدعين الذين اعتبروا انجازات النقاش شيئاً من الماضي، بينما كتابات علي الراعي وعبد القادر القط وفاروق عبد القادر التي التفتت إليهم كانت الأقرب والأكثر استجابة لتحولات المشهد الأدبي في مصر.
                            ...................................
                            *الحياة ـ في 14/2/2008م.

                            تعليق

                            • د. حسين علي محمد
                              كاتب مسجل
                              • Jun 2006
                              • 1123

                              #44
                              رد: مع رجاء النقاش

                              ( 41) رجاء النقاش وعروبة مصر

                              بقلم: ماجد السامرائي
                              ...........................

                              قبل اكثر من نصف قرن بدأ رجاء النقاش رحلته مع الكلمة. ومن مقالاته الأولى في «الآداب» البيروتية تعرّفنا إليه، كاتباً عروبيّ النزعة، والفكر، والروح، وناقداً يحمل في إهابه صوتاً مختلفاً. فهو إذ يقف مع الجديد، وينادي بالتجديد، كان يتصدى بروحه النقدية وبقلمه النافذ الكلمات، لما عُدّ يومها «تيارات متطرفة»، إن في الأدب أو في الفكر والسياسة.
                              ويوم كتب مقدمته المطوّلة للديوان الأول لرفيق دربه الثقافي الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي «مدينة بلا قلب»، وقعنا، نحن قراءهما من خلال تلك المقدمة في أسر «الناقد الواقعي» الذي ينظر في الأدب من خلال الواقع، ويضمّ الأدب والإنسان الى هذا الواقع، جاعلاً من الإنسان قضية، ومن الواقع مرجعاً ومعاداً للاثنين، الإنسان والأدب، وخرج بالاثنين الى بهاء الموقف.
                              وهو ربط الإنسان والأدب والفكر والواقع بمنظومة النظرة العروبية الجوهر التي كانت أساس الموقف القومي لرجاء النقاش حياة وفكراً وكتابات، كما كانت أساس الفكرة القومية ومنطلقها. ومن خلال الأدب والفكر النقدي عُرف رجاء النقاش في مصر والوطن العربي: كاتباً وناقداً عربي الموقف، بل من دعاة الموقف القومي في الثقافة.
                              ويوم انكسر الحلم العربي في ستينات القرن الماضي (بانهيار أول تجربة وحدوية، ثم نكسة حزيران)، وجرت محاولات تصفية ما تبقى من هذا الحلم على أرض الواقع، باتفاقية كامب ديفيد، برزت يومها «الأفكار الانعزالية» تحاصر الحلم وحامليه أكثر، فتصدى رجاء النقاش لتلك «الموجة العارضة» في كتابه: «الانعزاليون في مصر»، ناقداً أفكارهم، وكاشفاً عن «أُصولها التاريخية»، وداحضاً اطروحاتها من خلال الوقائع والحقائق التاريخية، فكان بكتابه هذا أجرأ الأصوات الناقدة المنتصرة لعروبة مصر في تلك الحقبة الصعبة.
                              وكما عمل على الانتصار للفكر الأصيل والفكرة الحية عمل أيضاً على إنصاف الأشخاص بإعادة ما كان لهم من تاريخ، وخصوصاً أولئك الذين كان يرى أن استمرار حضورهم رمزاً في الحياة الثقافية أمر مهم، للأفكار التي حملوها ونادوا بها. فكان كتابه «عباس محمود العقاد بين اليمين واليسار» يجلو صفحة، قد تكون غامضة أو مستورة، في حياة أديب ومفكر كالعقاد، معيداً الكثير من تفاصيل الصورة إليها، قبل أن تتبدد، وتضيع في زحمة «فوضى الأفكار» و «تداخلات الوقائع» كما ضاع الكثير، فإذا بالعقاد الذي وضعه رجاء النقاش بين تيارين متعارضين ومتناقضين، اليمين واليسار، يبدو لقارئ الكتاب بالصورة التي كان عليها في حياته السياسية والفكرية.
                              ويوم تعرض نجيب محفوظ لبعض حملات التشكيك، والهجوم بأفكار غير ثقافية، ما كان من رجاء النقاش إلاّ أن يكتب «في حبّ نجيب محفوظ» واقفاً من خلال هذا «العنوان العاطفي» – أو هكذا يبدو – وقفة تعاطف مع سيد الرواية العربية وعنوانها التاريخي، في قراءة متميزة لحياة الرجل وأفكاره والبعد الإبداعي لوجوده.
                              هذا كلّه، وكثير سواه، وهو اكثر من هذا بكثير، أنجزه رجاء النقاش في رحلة ثقافية بدأها بكتابه التأسيسي لمساره هذا «في أزمة الثقافة المصرية»، متواصلاً في رحلة ثقافية – فكرية امتدت به، ومعه، أكثر من نصف قرن. وكما كان نصف القرن ذاك حافلاً بالعطاء الثقافي والفكري في غير مستوى، كان أيضاً نصف قرن حافلاً بحروب، معلنة وخفية، على رجاء النقاش: الشاب، والرجل، والكهل، والشيخ. ولم تكن حروباً نظيفة، إن لم نقل إنها من نوع «الحروب القذرة»، تولتها أكثر من «جهة» وشخص.
                              إلاّ أنها، على عنفها في بعض الحالات والمراحل، لم تفتّ في عضده - كما يقال - ولا أبعدته عن طريقه الذي اتخذ فيه مساره.
                              إلاّ أن أكثر تلك الحروب مرارة في نفسه، وقد ظلت مرارتها في نفسه على امتداد ما أعقبها من سنوات وتحولات، هي تلك التي تعرض لها بـ «أيدي الأصحاب» و«أقلام الأصدقاء»، من الذين كان قدّم الكثيرين منهم الى الحياة الأدبية أو الصحافية. ولكن، ما أن تمكنت أيديهم من القلم، أو الموقع، حتى طعنوه من حيث لم يكن يتوقع. فما كان منه إلاّ أن يأسف، وقد أسف كثيراً، لكنه لم ييأس.

                              إلاّ أنه حزن طويلاً، وأحسب أنه ودعنا وهو بعد حزين!
                              ........................................
                              *الحياة ـ في 10/2/2008م.

                              تعليق

                              • د. حسين علي محمد
                                كاتب مسجل
                                • Jun 2006
                                • 1123

                                #45
                                رد: مع رجاء النقاش

                                ( 42 ) عن الراحل رجاء النقاش ... شهادة ناقد لا تمثل مرثية

                                بقلم: د.صلاح فضل
                                ..........................

                                قبل شهور قليلة استشعرتْ مجلة «الهلال» التي تدين لرجاء النقاش بأجمل لحظات توهجها الأدبي والثقافي، أنه بدأ يخبو بمطاردة المرض العضال، فخصصت عدداً تذكارياً له واستكتبتني كلمات فيه على سبيل الشهادة، ولم أعرف حينها ماذا كان وقعها على نفسه، وهل أرضته نغمة الحب والتقدير فيها، أم آلمته الصراحة النقدية في الكشف عن مواطن القوة والضعف لديه، في تقديري المتواضع.
                                وعندما فقدنا رجاء النقاش الذي أضاء الصحافة الأدبية بإشراقة قلمه، وعمّر الحياة الثقافية العربية منذ إطلالاته الأولى في «الآداب» التي صنعت أجيالاً من طلائع المثقفين، حتى كلماته العذبة المقطرة المفعمة بالحب على صفحات «الأهرام» وغيرها من كبريات المنابر الأدبية. ولأن الشهادة لا يجوز تحويرها أو تغييرها أستأذن القارئ في أن أعيد سطورها تحية لواحد من ألمع نجوم النقد وأبرز رموزه في العصر الحديث:
                                إذا كان النقاد عادة هم قضاة الفكر الأدبي، ورعاة العدالة الثقافية، الممسكون بميزان الإبداع، فإن تاريخهم يحفل عادة بأحكام القيمة، والزمن والجمهور وتطور الاتجاهات درجات لاستئناف هذه الأحكام أو نقضها، وتمحيص مدى نزاهتها، أو صدقيتهم، فإذا خرج الناقد من كل ذلك بريئاً من الهوى، بصيراً بأقدار الناس عزّز الثقة بمســتواه وترســخت قيـــمته في ضمير قرائه على مدى الأجيال المتعاقبة.
                                ورجاء النقاش الذي تميز بنبوغه المبكر في مجال الكتابة النقدية، وهي تتطلب عادة نضجاً متمهلاً واستحصاءً بطيئاً، بهر قراءه بعين الصقر التي يمتلكها منذ صباه، فقد كان موهوباً في اكتشاف المواهب الكبرى والتنبؤ بمستقبلها الواعد، سواء كان ذلك في الشعر أو الرواية، وليس أدلّ على هذه المقدرة الفذة التي صدقتها الأيام من أسماء محمود درويش والطيب صالح وغيرهما، ولعل نشأة رجاء في أسرة حافلة بالإبداع والذكاء المبكر من الرجال والنساء أن تكون عاملاً مؤسساً لهذا الوعي الناضج والرؤية الثاقبة، لكن ما صاغه من التحيز الساذج والاندفاع وراء الهوى الشخصي في الدرجة الأولى هو براءته من العمى الأيديولوجي الذي كان سائداً في أوساط المثقفين من اليسار المصري في العقود الوسطى من القرن العشرين، فكم ضلل هذا العمى كبار النقاد وجعلهم يخطئون في النبوءة ويقدمون من لا يستحق التقدير على رغم ثقافتهم العالية وإخلاصهم الشديد، لكن احتكام رجاء النقاش إلى وجدانه الوضيء وضميره الفني الشفيف وضعه في زاوية الرؤية الصحيحة لمستقبل الإبداع، ومكّنه من احتضان الكتابة بعشق وحنان ودأب، وأتاح له فرصة امتلاك نعمة، إذا فقدها الناقد، اختلت البوصلة في يده، وهي الإصابة في معرفة أقدار الكتّاب، ونصيبهم من الإبداع، مهما كانت علاقته الشخصية بهم، وجعله في نهاية المطاف قادراً على الإسهام الفعال في صناعة استراتيجية الثقافة العامة. بيد أن هناك نعمة أخرى ظفر بها رجاء النقاش وتفادى ما تضمره من نقمة، وهي براءته من التقعر الأكاديمي الذي سقط فيه كثير من أساتذة الأدب والنقد، عندما سجنوا أنفسهم داخل أسوار الجامعات والمعاهد العلمية، فحرموا من الانصات لنبض الواقع الحي والكفاءة في قياس حرارته وجمالياته، وقد نذكر بشيء من الأسى بعض المناوشات الخفيفة التي قامت بينه وبين هؤلاء الأساتذة وكيف خرج منها منتصراً مؤمناً برسالة الفكر النقدي في التنوير والتحديث والتقدم من دون تعقيب أيديولوجي أو تقعر أكاديمي ممقوت.
                                لكن نقطة الضعف التي حالت بين رجاء النقاش وتصدره مشهد النقد الأدبي بعد محمد مندور ولويس عوض وكان مؤهلاً لذلك، أنه لم يعبر محنة الاتصال المباشر بالثقافة الغربية في إحدى عواصمها الكبرى ولم يتقن بالقدر الكافي إحدى لغاتها باعتبارها منفذاً للتواصل الخلاق مع روح العصر والحضارة المجسدة له، فظل معلقاً بما يقدمه الآخرون من ترجمات من دون أن يصنع بنفسه أو يعجن بيديه «فطيرته» الخاصة معتمداً على فطرته ويقظته في التقاط ما يجود به الآخرون، وترتب على ذلك في فترة السبعينات المفصلية في تاريخ الفكر النقدي العالمي أن خرج صديقنا من دائرة القيادة للفكر النقدي العربي مع كفاءته العالية في ممارسته، ولم تشغله مشكلة المناهج المتغيرة بتطوراتها المعرفية المتوالية فاكتفى بمزاجه الشخصي وثقافته الموسوعية ونضارة حساسيته في تلقي الأعمال الإبداعية وإضاءتها بمقارباته الواعية. على أن إنجازات رجاء النقاش في مجال الصحافة الأدبية والثقافية سواء كان ذلك خلال رئاسته تحرير «الهلال» أو تخليقه لتيار عارم من الإبداع الصحافي والأدبي في مجلة «الدوحة» التي تعتبر من أنفس ما عمّر الذاكرة العربية من مطبوعات ثقافية، أسهمت في مضاعفة دوره في مجال الفكر والكتابة حتى أصبح اسمه يتوهج بالمعرفة والعطاء النبيل والمثمر في فلك التاريخ والتأصيل، ما جعله يحقق في نهاية الأمر إحدى أجمل رسالات الخطاب النقدي في حمل قارئه على عشق الفن والأدب والثقافة.
                                احتفظ رجاء النقاش عبر مسارات متقلبة عنيفة في الحركة والعمل بقدر عظيم من التوازن محافظاً على طابعه الطفولي البريء حتى وهو في شيخوخته، فجعل من النقد الصحافي منبراً لتأكيد القيم العظمى في الوطنية والحق والخير والجمال، الأمر الذي جعل من كتاباته منبعاً ثرياً للمتعة الراقية ونموذجاً بديعاً للتواصل الجماعي الخلاق مع قرائه ومريديه.
                                ...................................
                                *الحياة ـ في 14/2/2008م.

                                تعليق

                                يعمل...