رد: مع رجاء النقاش
( 29 ) رجاء النقاش .. مكتشف المواهب
بقلم : سعد هجرس
.............................
عندما كان أستاذنا الدكتور لويس عوض هو المشرف على الصفحات الثقافية بجريدة "الأهرام" فى الستينيات، بزغ نجم محرر ثقافى نابه فى ذلك الوقت هو مصطفى ابراهيم مصطفى الذى لفت الأنظار بمقالاته البديعة وخاصة تلك التى كتبها عن الفن التشكيلى.
وكان "مصطفى" هو الذى عرفنى عام 1966 بزميل له لا يقل ذكاء وموهبة هو وحيد النقاش.
وجاءت هزيمة 5 يونيه 1967 لتصدم جيلنا – الذى كان لا يزال غضاً فى عمر الزهور ومشحوناً بأمنيات وردية لا حدود لها – وتهزه من الأعماق.
وفى إطار تداعيات هذه الهزيمة المروعة قرر مصطفى ابراهيم مصطفى ووحيد النقاش شد الرحال والسفر من القاهرة التى غمرها ظلام "النكسة" إلى باريس عاصمة النور، ليس هرباً وإنما أملاً فى التوصل إلى إجابات علمية لطوفان الأسئلة التى طرحتها هذه الهزيمة غير المنطقية.
لكنها كانت رحلة فى اتجاه واحد .. فقد ذهبا بلا عودة. حيث مات "وحيد" فى أحد مستشفيات باريس، وعلى نفس السرير وبنفس المرض اللعين الذى هاجم الكبد لفظ مصطفى ابراهيم مصطفى – الذى اشتهر فى الصحافة الفرنسية بمصطفى مرجان – لفظ أنفاسه الأخيرة لتفقد مصر اثنين من أجمل مثقفيها الوافدين.
كانت هذه هى بداية تعرف الشخص بأول شخص من "آل النقاش" الذين أسعدنى الحظ بالتعرف على ثلاثة منهم. . ومنهن.
لكن العجيب أن ذلك لم يشمل "عميد" الأسرة، وألمع أفرادها فى الستينيات، ألا وهو الكاتب والناقد الأدبى الكبير رجاء النقاش.
ولم يكن ذلك راجعاً إلى صعوبة لقائه وجهاً لوجه، بقدر ما كان راجعاً إلى المكانة الكبيرة التى تبوأها فى ذلك الحين باعتباره واحداً من أصغر رؤساء التحرير، وهو منصب لا يتم التعيين فيه إلا بقرار سياسى من أعلى مستوى.
وبالتالى كانت النظرة الشائعة لدى المثقفين الثوريين فى ذلك الحين ان كل من يشغل منصب رئيس تحرير لابد أن يكون على "علاقة خاصة" بالسلطة.
وقد خلق ذلك الانطباع حاجزاً نفسياً بيننا وبين كل رؤساء التحرير، بما فى ذلك "التقدميون" منهم، الذين كان من السهل – والاستسهال – تفسير وجودهم فى هذه المواقع القيادية بأنه من لزوميات "تجميل" صورة النظام وخداع خلق الله، وبالذات عموم المثقفين.
وبالنسبة لعميد " آل النقاش"، أى الأستاذ رجاء، أضيف إلى هذا الحاجز النفسى "العام" حاجزاً نفسياً "خاصاً" من جراء إتهام صديقنا الشاعر أحمد فؤاد نجم، ورفيقه الشيخ إمام عيسى، له باتهامات شتى كان لها وقع سيئ علينا فى ذلك الحين، خصوصاً وأنه لم تكن هناك إمكانية التدقيق فى هذه الاتهامات، أو حتى الرغبة فى القيام بذلك.
فرغم أن رجاء النقاش كان أحد أفراد قلائل بذلوا مساعيهم الحميدة لتسليط الأضواء على ظاهرة نجم وإمام فى ذلك الحين وتقديمهم للجمهور من خلال حفل فى نقابة الصحفيين عام 1968، فان الشيخ إمام أتهم محمد فايق ومحمد عروق بمحاولة رشوتهما عن طريق رجاء النقاش، وقال إن عروق عرض عليه هو ونجم شيكات قيمة كل منها عشرة آلاف جنيه، وأنهما اعتبرا هذه الشيكات رشوة صريحة "أنتم عايزين تشترونا .. بس احنا ما نتبعش".
ورغم ان رجاء النقاش أكد أن هذه القصة كاذبة من الألف إلى الياء، وتنطوى على إساءة إلى شخصين من أشرف وأنبل الأشخاص هما محمد فايق ومحمد عروق، وأنه كان شاهداً أساسيا على القصة الملفقة وأن الشيك الذى صرف لهما هو 50 جنيها فقط نظير الاشتراك فى برنامج خاص بإذاعة صوت العرب.
رغم ذلك .. كانت الاتهامات التى أثارها نجم وإمام فى ذلك الحين سحابة دخان زادت من عدم وضوح الرؤية لقيمة رجاء النقاش ( وبالمناسبة فان نجم جدد هذه الاتهامات فى لقاء حديث له مع قناة الجزيرة وأضاف إليها اتهاما قاسياً للأستاذ رجاء النقاش بأنه كان وراء القبض عليه فى أيدى مرات اعتقاله).
وفى ظل هذه الرؤية الضبابية كان لقائى الأول وجهاً لوجه مع الأستاذ رجاء النقاش مصادفة عجيبة. حيث كان هناك موعداً بينى وبين أحد قادة اليسار المصرى، المناضل الكبير رجائى طنطاوى. وكانت هذه أول مرة أذهب إليه فى منزله بالقرب من نادى الصيد. وعند مدخل العمارة سألنى البواب عن وجهتى .. فقلت له إننى أريد الذهاب إلى شقة الأستاذ "رجائى" فأخذنى من يدى ودق جرس إحدى الشقق، وكان الذى فتح الباب هو رجاء النقاش وهى مصادفة عجيبة لأن إسم "رجاء" من الأسماء النادرة، فما بالك وأن يجتمع "رجاء" و "رجائى" فى نفس العمارة؟!
وبعد هذه المقابلة التى جاءت عن طريق الخطأ مر أكثر من 35 عاماً إلى أن قابلت الكاتب الكبير رجاء النقاش منذ بضعة أسابيع فى لقاء عام ضم عدداً من كبار الكتاب أذكر منهم الأساتذة جمال بدوى ونبيل زكى ورءوف توفيق.
وبين المقابلتين الشخصيتين العابرتين جرت مياه كثيرة فى النهر وتوالت أحداث وطرأت متغيرات وظهرت أسماء واندثرت أسماء وغير كتاب وصحفيون جلودهم، لكن وسط هذه التطورات الدراماتيكية دائما والتراجيدية كثيراً والكوميدية أحياناً تعرفت جيداً على رجاء النقاش ومن خلال كتاباته وليس من خلال أى شئ آخر من أشكال العلاقات العامة أو الخاصة.
وكانت الانجازات الفكرية والأدبية لرجاء النقاش هى التى تكفلت بتحطيم الحاجز العام والحاجز الخاص اللذين وقفا دون اقترابى من عميد آل النقاش فترة طويلة.
فرغم نجاة رجاء النقاش من البطش الذى لحق بمعظم المثقفين التقدميين فى الحقبة الناصرية، بل ونجاحه فى التمتع "بعلاقات خاصة" مع الحكم بينما كان زملاؤه قابعين فى غياهب السجون والمعتقلات، استطاع رجاء النقاش أن ينأى بنفسه – فى الأغلب الأعم – عن التحول إلى "بوق"، أو الوقوع فى مستنقع "خونة الثقافة".
بالعكس من ذلك عكف رجاء النقاش فى كافة العصور التى تعاقبت على مصر بعد سقوط النظام الملكى على مشروع نقدى ، تنويرى، تقدمى ، فى الاتجاه العام.
ويكفى الاشارة برءوس أسهم إلى أهم عناوين هذا المشروع النقدى:
الملمح الأول دخول رجاء النقاش بشجاعة إلى عش الدبابير حيث طالب بالاصلاح الدينى وتحرير القرآن من قيود عديدة.
وتساءل بهذا الصدد كيف يمكن أن ننظر للقرآن نظرة عصرية؟!
ورد على هذا السؤال الخطير بإجابة رائعة قال فيها بالنص:
علينا أن نحدد هذه القيود ثم نعمل بعد ذلك على تحرير القرآن منها حتى ولو أدّى بنا الأمر إلى تحقيق ثورة دينية مثل تلك الثورة التي قادها (لوثر) في عالم المسيحية الغربية وكانت هذه الثورة هي الحركة (البروتستانتية) المعروفة!
فما هي هذه القيود التي ندعو إلى التحرر منها؟
هناك قيود شكلية من بينها الإصرار على عدم كتابة مصحف بالخط العصري المعروف، والإصرار على أن تكون كل المصاحف مكتوبة بالخط القديم مما يشكل عقبة رئيسية أمام كل الأجيال الجديدة التي تريد أن تقرأ فتجد في كتابته عناء شديداً قد يؤدي إلى صرفها عن هذه القراءة نهائياً.
ففي المصاحف الحالية نقرأ هذه الكلمات:
(الصرط) بدلاً من (الصراط) و (الصلوة) بدلاً من (الصلاة) و (الزكوة) بدلاً من (الزكاة) و (أبصرهم) بدلاً من (أبصارهم) و (ظلمت) بدلاً من (ظلمات) و (السموات) بدلاً من (السماوات) و (جنت) بدلاً من (جنات)... إلخ.
إن من واجبنا ولا شك أن نحتفظ بالمصحف القديم بخطه المعروف، فذلك أثر عزيز من آثارنا لا يجوز أن نهمل في المحافظة عليه، ولكن يجب أن تكون لدينا (الشجاعة الدينية) الكافية لكي نطبع مصحفاً خالياً من هذه الحروف التي تجعل قراءته صعبة ومستحيلة إلا عند المتخصصين في قراءة القرآن، ونحن نريد أن يقره في بلادنا كل المتعلمين وأن تقرأه الأجيال الجديدة على وجه الخصوص دون أن يجدوا في هذه القراءة كل المشقة التي يحسون بها الآن. وليس هناك أي نص ديني مقدس يحرمنا من الإقدام على مثل هذه الخطوة.. بل إن روح الدين تتمثل في ((أن الدين يسر لا عسر)) وكل ما ييسر الدين بدون الخروج على جوهر مبادئه أمر مطلوب. إننا إذا أردنا أن نجعل هناك صلة حقيقية بين القرآن وأجيالنا الجديدة فلابد من أن نقدم على مثل هذه الخطوة بلا تردد.
... هناك عقبة أخرى هي انعدام وجود تفسير عصرى سهل للقرآن. ونحن بأشد الحاجة إلى مثل هذا التفسير الذي يجعل القرآن ميسوراً في قراءته بالنسبة لأي شاب من شبابنا بدون الرجوع إلى مراجع عديدة معقدة، كما أن مثل هذا التفسير هو وحده الذي يستطيع أن يحرر القرآن من الخرافات التي تسربت إلى التفسيرات القديمة مثل تفسير (البرق) بأنه صراع بين ملائكة الخير والشر، وما إلى ذلك من الأفكار التي يقدم العلم المعاصر بديلاً واضحاً لها قائماً على المعرفة الصحيحة بظواهر الأمور الطبيعية والانسانية.
هذه بعض العقبات الشكلية.. ولكن هناك عقبات أخرى أعمق وأبعد. فما زالت المؤسسات الدينية عندنا ترفض إلى أبعد الحدود الاعتراف بوسائل التأثير العصرية مثل السينما والمسرح والموسيقى والرسم والإذاعة والتلفزيون.
.. وإذا نظرنا إلى رجال الدين في الغرب وجدنا أنهم قد توسعوا في الاستفادة من هذه الوسائل إلى أبعد الحدود. فقد امتلأت الكنائس الغربية باللوحات الفنية الرائعة، بل إن هناك مدرسة دينية فذة في الفنون التشكيلية، وهناك آلاف اللوحات والتماثيل الرائعة في الغرب مستمدة كلها من المسيحية، كما توسعت في استخدام الموسيقى وبذلك أصبحت الكنيسة مكاناً مشرقاً بجوه الروحي حيث يساعد الفن بوسائله المختلفة على تعميق هذا الجو بصورة رائعة.
أما السينما والمسرح فقد أتيح لهما أن يعتمدا على الكثير من الإنجيل والعهد القديم بصورة واسعة رحبة. بل لقد ظهر في السينما فيلم طويل هو فيلم (الإنجيل) ومهما قيل عن هذا الفيلم وعن أخطائه فالمحاولة جريئة، وهي محاولة لم تلق أي اعتراض من السلطات الدينية في الغرب.
أما عندنا فنحن نجد فاصلاً قاسياً بين المسرح والسينما وبين القرآن وقصص القرآن، كما نجد حرباً على أي اقتراب بين القرآن وبين فن الموسيقى أو فن التصوير والرسم.
والحقيقة أن مثل هذا الموقف يجب أن يتغير.. ومثل هذه القيود يجب أن تزول، ولا بد من عقد اجتماعات واسعة بين رجال الدين ورجال الفن والثقافة حتى يتم الوصول إلى حل لا يتعارض مع المبادئ الدينية، بل يخدمها ويساعدها على أن تمد جذورها فى أعمق أعماق الضمير والوجدان.
.. إننا نجد في الغرب كتباً تصدر للأطفال الصغار فيها الكثير من الرسومات والصور التي توضح قصص الإنجيل وتضيئها وتبسطها لهؤلاء الأطفال وهي كتب رائعة وعظيمة ومؤثرة.
... ولكننا هنا نتردد في أي جهد من هذا النوع يجعل القرآن قريباً من الانسان والقلب الانساني.. ويجعل القرآن واضحاً كل الوضوح في ضوء العصر الحديث وما يمتلئ به هذا العصر من أفكار جديدة وفنون جديدة.
... إننا عندما نحرر القرآن من مثل هذه القيود المحيطة به لا نكون قد أسأنا إلى القرآن، بل نكون قد أحسنا إلى أنفسنا وإلى الدين الاسلامي الذي نؤمن به.. إننا يجب ألا نتردد في تقديم مسرحيات مستمدة من روح القرآن.. يجب ألا نتردد في شيء من هذا على الإطلاق لأن ذلك يطلق القوى العظيمة الكامنة في القرآن.. ويملأ بها قلب الانسان المعاصر وضميره ووجدانه، أما إذا اكتفينا بأن نجعل القرآن مجرد (نص مقدس) سوف يصعب الوصول إليه إلا لمن كان متخصصاً في القرآن والعلوم الدينية.
... إن واجبنا هو أن نحرر القرآن من هذه القيود ونبذل كل جهدنا في سبيل تمهيد الطريق للوصول إلى كل ما في القرآن من جمال فكري وروحي وفني وإنساني وكل ما فيه من قيم دينية عليا حتى لا يصبح الطريق إلى القرآن غاية في الصعوبة والقسوة والمشقة.
الملمح الثانى فى مشروع رجاء النقاش النقدى يتعلق بإصلاح اللغة العربية . وكان فى هذا المجال شجاعاً ومستنيراً أيضاً حيث ذهب إلى أنه "لا بأس من التفكير المخلص فى تجديد شباب اللغة وإعادة الحيوية والصبا والجمال إليها، مع العمل على تخفيف القيود عن الذين يحبونها ويريدون أن يقتربوا منها دون أن يجدوا في ذلك أي عسر أو تعقيد".
ونقل النقاش عن المرحوم الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية السابق رسالة بعث بها إليه تعليقًا على الموضوع ذاته أشار فيها إلى كتاب له صدر بعنوان "تجديد النحو" وصفه بأنه يحمل "أسس النهوض بهذا النحو، مثل: إلغاء الإعراب التقديري والمحلي، ووضع ضوابط جديدة تذلل صعوباته، مع حذف الأبواب التي تثقل النحو وتجهد الناشئة".
واعتبر ضيف أنه "من المؤكد أن اللغة العربية لا تنتحر ولا تتراجع في هذه الأيام، بل تزدهي وتزدهر طوال قرنين من الزمان على أيدي أبنائها البررة العظام".ومن جانبه وصف النقاش كتاب "تجديد النحو" بأنه "كتاب رائع يحمل مشروعًا كاملاً وجادًّا لتيسير النحو العربي، وتخليصه من تعقيداته وصعوباته وقواعده الزائدة التي يمكن، بل يجب الاستغناء عنها".
الملمح الثالث هو ان رجاء النقاش لم يمسك العصا من المنتصف فى المعارك الفكرية والأدبية الكثيرة التى خاضها، بل إنه انحاز دائماً – أو غالباً – إلى التجديد. وإن كان البعض – ومنهم الكاتب والناقد صبحى حديدى على سبيل المثال – قد أخذ عليه.
(يتبع)
( 29 ) رجاء النقاش .. مكتشف المواهب
بقلم : سعد هجرس
.............................
عندما كان أستاذنا الدكتور لويس عوض هو المشرف على الصفحات الثقافية بجريدة "الأهرام" فى الستينيات، بزغ نجم محرر ثقافى نابه فى ذلك الوقت هو مصطفى ابراهيم مصطفى الذى لفت الأنظار بمقالاته البديعة وخاصة تلك التى كتبها عن الفن التشكيلى.
وكان "مصطفى" هو الذى عرفنى عام 1966 بزميل له لا يقل ذكاء وموهبة هو وحيد النقاش.
وجاءت هزيمة 5 يونيه 1967 لتصدم جيلنا – الذى كان لا يزال غضاً فى عمر الزهور ومشحوناً بأمنيات وردية لا حدود لها – وتهزه من الأعماق.
وفى إطار تداعيات هذه الهزيمة المروعة قرر مصطفى ابراهيم مصطفى ووحيد النقاش شد الرحال والسفر من القاهرة التى غمرها ظلام "النكسة" إلى باريس عاصمة النور، ليس هرباً وإنما أملاً فى التوصل إلى إجابات علمية لطوفان الأسئلة التى طرحتها هذه الهزيمة غير المنطقية.
لكنها كانت رحلة فى اتجاه واحد .. فقد ذهبا بلا عودة. حيث مات "وحيد" فى أحد مستشفيات باريس، وعلى نفس السرير وبنفس المرض اللعين الذى هاجم الكبد لفظ مصطفى ابراهيم مصطفى – الذى اشتهر فى الصحافة الفرنسية بمصطفى مرجان – لفظ أنفاسه الأخيرة لتفقد مصر اثنين من أجمل مثقفيها الوافدين.
كانت هذه هى بداية تعرف الشخص بأول شخص من "آل النقاش" الذين أسعدنى الحظ بالتعرف على ثلاثة منهم. . ومنهن.
لكن العجيب أن ذلك لم يشمل "عميد" الأسرة، وألمع أفرادها فى الستينيات، ألا وهو الكاتب والناقد الأدبى الكبير رجاء النقاش.
ولم يكن ذلك راجعاً إلى صعوبة لقائه وجهاً لوجه، بقدر ما كان راجعاً إلى المكانة الكبيرة التى تبوأها فى ذلك الحين باعتباره واحداً من أصغر رؤساء التحرير، وهو منصب لا يتم التعيين فيه إلا بقرار سياسى من أعلى مستوى.
وبالتالى كانت النظرة الشائعة لدى المثقفين الثوريين فى ذلك الحين ان كل من يشغل منصب رئيس تحرير لابد أن يكون على "علاقة خاصة" بالسلطة.
وقد خلق ذلك الانطباع حاجزاً نفسياً بيننا وبين كل رؤساء التحرير، بما فى ذلك "التقدميون" منهم، الذين كان من السهل – والاستسهال – تفسير وجودهم فى هذه المواقع القيادية بأنه من لزوميات "تجميل" صورة النظام وخداع خلق الله، وبالذات عموم المثقفين.
وبالنسبة لعميد " آل النقاش"، أى الأستاذ رجاء، أضيف إلى هذا الحاجز النفسى "العام" حاجزاً نفسياً "خاصاً" من جراء إتهام صديقنا الشاعر أحمد فؤاد نجم، ورفيقه الشيخ إمام عيسى، له باتهامات شتى كان لها وقع سيئ علينا فى ذلك الحين، خصوصاً وأنه لم تكن هناك إمكانية التدقيق فى هذه الاتهامات، أو حتى الرغبة فى القيام بذلك.
فرغم أن رجاء النقاش كان أحد أفراد قلائل بذلوا مساعيهم الحميدة لتسليط الأضواء على ظاهرة نجم وإمام فى ذلك الحين وتقديمهم للجمهور من خلال حفل فى نقابة الصحفيين عام 1968، فان الشيخ إمام أتهم محمد فايق ومحمد عروق بمحاولة رشوتهما عن طريق رجاء النقاش، وقال إن عروق عرض عليه هو ونجم شيكات قيمة كل منها عشرة آلاف جنيه، وأنهما اعتبرا هذه الشيكات رشوة صريحة "أنتم عايزين تشترونا .. بس احنا ما نتبعش".
ورغم ان رجاء النقاش أكد أن هذه القصة كاذبة من الألف إلى الياء، وتنطوى على إساءة إلى شخصين من أشرف وأنبل الأشخاص هما محمد فايق ومحمد عروق، وأنه كان شاهداً أساسيا على القصة الملفقة وأن الشيك الذى صرف لهما هو 50 جنيها فقط نظير الاشتراك فى برنامج خاص بإذاعة صوت العرب.
رغم ذلك .. كانت الاتهامات التى أثارها نجم وإمام فى ذلك الحين سحابة دخان زادت من عدم وضوح الرؤية لقيمة رجاء النقاش ( وبالمناسبة فان نجم جدد هذه الاتهامات فى لقاء حديث له مع قناة الجزيرة وأضاف إليها اتهاما قاسياً للأستاذ رجاء النقاش بأنه كان وراء القبض عليه فى أيدى مرات اعتقاله).
وفى ظل هذه الرؤية الضبابية كان لقائى الأول وجهاً لوجه مع الأستاذ رجاء النقاش مصادفة عجيبة. حيث كان هناك موعداً بينى وبين أحد قادة اليسار المصرى، المناضل الكبير رجائى طنطاوى. وكانت هذه أول مرة أذهب إليه فى منزله بالقرب من نادى الصيد. وعند مدخل العمارة سألنى البواب عن وجهتى .. فقلت له إننى أريد الذهاب إلى شقة الأستاذ "رجائى" فأخذنى من يدى ودق جرس إحدى الشقق، وكان الذى فتح الباب هو رجاء النقاش وهى مصادفة عجيبة لأن إسم "رجاء" من الأسماء النادرة، فما بالك وأن يجتمع "رجاء" و "رجائى" فى نفس العمارة؟!
وبعد هذه المقابلة التى جاءت عن طريق الخطأ مر أكثر من 35 عاماً إلى أن قابلت الكاتب الكبير رجاء النقاش منذ بضعة أسابيع فى لقاء عام ضم عدداً من كبار الكتاب أذكر منهم الأساتذة جمال بدوى ونبيل زكى ورءوف توفيق.
وبين المقابلتين الشخصيتين العابرتين جرت مياه كثيرة فى النهر وتوالت أحداث وطرأت متغيرات وظهرت أسماء واندثرت أسماء وغير كتاب وصحفيون جلودهم، لكن وسط هذه التطورات الدراماتيكية دائما والتراجيدية كثيراً والكوميدية أحياناً تعرفت جيداً على رجاء النقاش ومن خلال كتاباته وليس من خلال أى شئ آخر من أشكال العلاقات العامة أو الخاصة.
وكانت الانجازات الفكرية والأدبية لرجاء النقاش هى التى تكفلت بتحطيم الحاجز العام والحاجز الخاص اللذين وقفا دون اقترابى من عميد آل النقاش فترة طويلة.
فرغم نجاة رجاء النقاش من البطش الذى لحق بمعظم المثقفين التقدميين فى الحقبة الناصرية، بل ونجاحه فى التمتع "بعلاقات خاصة" مع الحكم بينما كان زملاؤه قابعين فى غياهب السجون والمعتقلات، استطاع رجاء النقاش أن ينأى بنفسه – فى الأغلب الأعم – عن التحول إلى "بوق"، أو الوقوع فى مستنقع "خونة الثقافة".
بالعكس من ذلك عكف رجاء النقاش فى كافة العصور التى تعاقبت على مصر بعد سقوط النظام الملكى على مشروع نقدى ، تنويرى، تقدمى ، فى الاتجاه العام.
ويكفى الاشارة برءوس أسهم إلى أهم عناوين هذا المشروع النقدى:
الملمح الأول دخول رجاء النقاش بشجاعة إلى عش الدبابير حيث طالب بالاصلاح الدينى وتحرير القرآن من قيود عديدة.
وتساءل بهذا الصدد كيف يمكن أن ننظر للقرآن نظرة عصرية؟!
ورد على هذا السؤال الخطير بإجابة رائعة قال فيها بالنص:
علينا أن نحدد هذه القيود ثم نعمل بعد ذلك على تحرير القرآن منها حتى ولو أدّى بنا الأمر إلى تحقيق ثورة دينية مثل تلك الثورة التي قادها (لوثر) في عالم المسيحية الغربية وكانت هذه الثورة هي الحركة (البروتستانتية) المعروفة!
فما هي هذه القيود التي ندعو إلى التحرر منها؟
هناك قيود شكلية من بينها الإصرار على عدم كتابة مصحف بالخط العصري المعروف، والإصرار على أن تكون كل المصاحف مكتوبة بالخط القديم مما يشكل عقبة رئيسية أمام كل الأجيال الجديدة التي تريد أن تقرأ فتجد في كتابته عناء شديداً قد يؤدي إلى صرفها عن هذه القراءة نهائياً.
ففي المصاحف الحالية نقرأ هذه الكلمات:
(الصرط) بدلاً من (الصراط) و (الصلوة) بدلاً من (الصلاة) و (الزكوة) بدلاً من (الزكاة) و (أبصرهم) بدلاً من (أبصارهم) و (ظلمت) بدلاً من (ظلمات) و (السموات) بدلاً من (السماوات) و (جنت) بدلاً من (جنات)... إلخ.
إن من واجبنا ولا شك أن نحتفظ بالمصحف القديم بخطه المعروف، فذلك أثر عزيز من آثارنا لا يجوز أن نهمل في المحافظة عليه، ولكن يجب أن تكون لدينا (الشجاعة الدينية) الكافية لكي نطبع مصحفاً خالياً من هذه الحروف التي تجعل قراءته صعبة ومستحيلة إلا عند المتخصصين في قراءة القرآن، ونحن نريد أن يقره في بلادنا كل المتعلمين وأن تقرأه الأجيال الجديدة على وجه الخصوص دون أن يجدوا في هذه القراءة كل المشقة التي يحسون بها الآن. وليس هناك أي نص ديني مقدس يحرمنا من الإقدام على مثل هذه الخطوة.. بل إن روح الدين تتمثل في ((أن الدين يسر لا عسر)) وكل ما ييسر الدين بدون الخروج على جوهر مبادئه أمر مطلوب. إننا إذا أردنا أن نجعل هناك صلة حقيقية بين القرآن وأجيالنا الجديدة فلابد من أن نقدم على مثل هذه الخطوة بلا تردد.
... هناك عقبة أخرى هي انعدام وجود تفسير عصرى سهل للقرآن. ونحن بأشد الحاجة إلى مثل هذا التفسير الذي يجعل القرآن ميسوراً في قراءته بالنسبة لأي شاب من شبابنا بدون الرجوع إلى مراجع عديدة معقدة، كما أن مثل هذا التفسير هو وحده الذي يستطيع أن يحرر القرآن من الخرافات التي تسربت إلى التفسيرات القديمة مثل تفسير (البرق) بأنه صراع بين ملائكة الخير والشر، وما إلى ذلك من الأفكار التي يقدم العلم المعاصر بديلاً واضحاً لها قائماً على المعرفة الصحيحة بظواهر الأمور الطبيعية والانسانية.
هذه بعض العقبات الشكلية.. ولكن هناك عقبات أخرى أعمق وأبعد. فما زالت المؤسسات الدينية عندنا ترفض إلى أبعد الحدود الاعتراف بوسائل التأثير العصرية مثل السينما والمسرح والموسيقى والرسم والإذاعة والتلفزيون.
.. وإذا نظرنا إلى رجال الدين في الغرب وجدنا أنهم قد توسعوا في الاستفادة من هذه الوسائل إلى أبعد الحدود. فقد امتلأت الكنائس الغربية باللوحات الفنية الرائعة، بل إن هناك مدرسة دينية فذة في الفنون التشكيلية، وهناك آلاف اللوحات والتماثيل الرائعة في الغرب مستمدة كلها من المسيحية، كما توسعت في استخدام الموسيقى وبذلك أصبحت الكنيسة مكاناً مشرقاً بجوه الروحي حيث يساعد الفن بوسائله المختلفة على تعميق هذا الجو بصورة رائعة.
أما السينما والمسرح فقد أتيح لهما أن يعتمدا على الكثير من الإنجيل والعهد القديم بصورة واسعة رحبة. بل لقد ظهر في السينما فيلم طويل هو فيلم (الإنجيل) ومهما قيل عن هذا الفيلم وعن أخطائه فالمحاولة جريئة، وهي محاولة لم تلق أي اعتراض من السلطات الدينية في الغرب.
أما عندنا فنحن نجد فاصلاً قاسياً بين المسرح والسينما وبين القرآن وقصص القرآن، كما نجد حرباً على أي اقتراب بين القرآن وبين فن الموسيقى أو فن التصوير والرسم.
والحقيقة أن مثل هذا الموقف يجب أن يتغير.. ومثل هذه القيود يجب أن تزول، ولا بد من عقد اجتماعات واسعة بين رجال الدين ورجال الفن والثقافة حتى يتم الوصول إلى حل لا يتعارض مع المبادئ الدينية، بل يخدمها ويساعدها على أن تمد جذورها فى أعمق أعماق الضمير والوجدان.
.. إننا نجد في الغرب كتباً تصدر للأطفال الصغار فيها الكثير من الرسومات والصور التي توضح قصص الإنجيل وتضيئها وتبسطها لهؤلاء الأطفال وهي كتب رائعة وعظيمة ومؤثرة.
... ولكننا هنا نتردد في أي جهد من هذا النوع يجعل القرآن قريباً من الانسان والقلب الانساني.. ويجعل القرآن واضحاً كل الوضوح في ضوء العصر الحديث وما يمتلئ به هذا العصر من أفكار جديدة وفنون جديدة.
... إننا عندما نحرر القرآن من مثل هذه القيود المحيطة به لا نكون قد أسأنا إلى القرآن، بل نكون قد أحسنا إلى أنفسنا وإلى الدين الاسلامي الذي نؤمن به.. إننا يجب ألا نتردد في تقديم مسرحيات مستمدة من روح القرآن.. يجب ألا نتردد في شيء من هذا على الإطلاق لأن ذلك يطلق القوى العظيمة الكامنة في القرآن.. ويملأ بها قلب الانسان المعاصر وضميره ووجدانه، أما إذا اكتفينا بأن نجعل القرآن مجرد (نص مقدس) سوف يصعب الوصول إليه إلا لمن كان متخصصاً في القرآن والعلوم الدينية.
... إن واجبنا هو أن نحرر القرآن من هذه القيود ونبذل كل جهدنا في سبيل تمهيد الطريق للوصول إلى كل ما في القرآن من جمال فكري وروحي وفني وإنساني وكل ما فيه من قيم دينية عليا حتى لا يصبح الطريق إلى القرآن غاية في الصعوبة والقسوة والمشقة.
الملمح الثانى فى مشروع رجاء النقاش النقدى يتعلق بإصلاح اللغة العربية . وكان فى هذا المجال شجاعاً ومستنيراً أيضاً حيث ذهب إلى أنه "لا بأس من التفكير المخلص فى تجديد شباب اللغة وإعادة الحيوية والصبا والجمال إليها، مع العمل على تخفيف القيود عن الذين يحبونها ويريدون أن يقتربوا منها دون أن يجدوا في ذلك أي عسر أو تعقيد".
ونقل النقاش عن المرحوم الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية السابق رسالة بعث بها إليه تعليقًا على الموضوع ذاته أشار فيها إلى كتاب له صدر بعنوان "تجديد النحو" وصفه بأنه يحمل "أسس النهوض بهذا النحو، مثل: إلغاء الإعراب التقديري والمحلي، ووضع ضوابط جديدة تذلل صعوباته، مع حذف الأبواب التي تثقل النحو وتجهد الناشئة".
واعتبر ضيف أنه "من المؤكد أن اللغة العربية لا تنتحر ولا تتراجع في هذه الأيام، بل تزدهي وتزدهر طوال قرنين من الزمان على أيدي أبنائها البررة العظام".ومن جانبه وصف النقاش كتاب "تجديد النحو" بأنه "كتاب رائع يحمل مشروعًا كاملاً وجادًّا لتيسير النحو العربي، وتخليصه من تعقيداته وصعوباته وقواعده الزائدة التي يمكن، بل يجب الاستغناء عنها".
الملمح الثالث هو ان رجاء النقاش لم يمسك العصا من المنتصف فى المعارك الفكرية والأدبية الكثيرة التى خاضها، بل إنه انحاز دائماً – أو غالباً – إلى التجديد. وإن كان البعض – ومنهم الكاتب والناقد صبحى حديدى على سبيل المثال – قد أخذ عليه.
(يتبع)
تعليق