رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل
ـ 30 ـ
ارتدى ثيابا جديدة، كأنه ذاهب إلى حفل عرس، كأنه هو الذي نجح. استقبلته ابتسامتها المتفائلة. ما أحلى كلمة " مبروك " حين يقولها حبيب لحبيب. ما أحلى القلب حين يرقص فرحا.
زادت فرحته حين زفت إليه بشرى الإفراج عن الشيخ محمود. كاد لا يصدق. طبع قبلة على جبينها، قائلا :
ـ حلاوة رجوع الشيخ بالسلامة..
زفت البشرى إليه بفرحة غامرة. أفرج عن الشيخ. أخيرا أفرجوا عنه، بعد انقضاء شهور عديدة وهو ملقى في زنزانة. قيل إنه عذب، وقيل إن اسمه دسّه حاقد، بينما هو لا يرتبط بأي تنظيم سري أو علني. قيل ـ أيضا ـ إن اسمه كان مكتوبا في مفكرة أحد المقبوض عليهم، فاعتبروه أحد رجالهم. العجيب أن الشيخ لم يتفوه بكلمة واحدة فيما جرى خلف القضبان. طوى الصفحة لا يريد فتحها. واصل قراءة كتاب الله العزيز وتدبر محكم آياته.. إلا أنه لم يعد يؤم المصلين في مسجد زيدان أو غيره من المساجد. اعتكف في داره، معتمدا على محل بقالة صغير، بدأ يزاول عمله فيه من آن لآخر. ابنه الكبير محمود ـ لا يتعدى عمره خمسة عشر عاما ـ بدأ يعلمه قواعد البيع وأسعار السلع.
احتضنه في شوق، وأنس بصحبته في داره. حكى له عن خطبته لنرجس فبارك الخِطبة، ثم استدرك :
ـ اكتفينا بقراءة الفاتحة، وأرجأنا كل شيء لحين الإفراج عنك. البراءة تعني الكثير يا أستاذنا..
قال الشيخ ممتنا :
ـ الحمد لله على كل حال. أخبروني أنك قمت بدور عظيم وأرهقت نفسك، وصرفت من جيبك الكثير..
ـ كله من خيرك. نحن ننتظر الوقت المناسب لك، حتى نحدد موعد عقد القران.
ضحك الشيخ :
ـ أأنت مستعجل ؟
ـ وبي شوق..
ـ إذن.. أنا جاهز في أي وقت من الآن..
طار بالخبر إلى أبويه، وإلى نرجس وأهلها. اتفق الجميع على موعد الحفل الخميس القادم، على أن يتم الزفاف بعد تأثيث بيت الزوجية.
دعا أصدقاءه فتحي وأمين وحمزة وعويس ورأفت ومحفوظ وغيرهم من الأهل والجيران والمعارف. كأن الفرح فرحان : عقد قرانه، والإفراج عن الشيخ دون إدانة.
اصطحب نرجس لأفخم محل لتختار أحلى الفساتين. اختارت له بدلة الفرح. اشترى أيضا الشراب والحلوى والملبس.. علقت الزينات في الطابقين الثالث والرابع، في سكن الشيخ وسكن العروس.. امتدت الزينات حتى ناصية الشارع..
أعجب الجميع بالرقص البلدي الذي أداه عويس مع إيقاع الطبلة ممسكا بالعصا، كأنه من أهل الصعيد رغم إنه وافد من بحري، ورغم حياته الحبْلى بالهموم. اعتلى المنصة مطرب الحفل، وأدى بعض المونولوجات الشائعة، والاسكتشات الفكاهية، ثم غنى أغنيتين للعروسين. عقد المأذون القران وسط زغاريد النسوة وتهليل الشباب. أصر الشيخ محمود أن يكون أحد شاهديْ عقد القران. تلازم الأستاذ فريد والأسطى حسين معا، كما تلازمت والدتيْ العروسين أيضا. عم البشر الجميع. أما حمزة فقد قام بنفسه بتوزيع أكواب الشربات، وأطباق الحلوى، كما قام بالترحيب بالمدعوين كأنه والد العريس أو العروس. هو لا يجد ضيرا في هذا، إذ يرى لزاما عليه أن يعتبر نفسه من أصحاب الفرح ويؤدي واجب الحفاوة بكل الذين شرفوا الحفل. ساعده عويس في التوزيع. اتجه حمزة إلى الركن الذي يجلس فيه أمين وفتحي وقال :
ـ عقبى لكم يا شباب.. إن شاء الله..
تقاطر إلى الحفل أصدقاء ومعارف وجيران الشيخ مجددين التهنئة بالإفراج عنه، مباركين العرس..
انطلقت الزغاريد حين بدأت أم العريس تفتح علبة الشبكة وعرضها عليهم، ثم بدأ في تطويق عنق أحلى البنات بسلسلة ذهبية تتدلى في وسطها تحفة ذهبية مربعة منقوشا عليها " ما شاء الله "، ثم طوّق ذراعها بالغوايش. أخيرا تناول الخاتم ووضعه في إصبع السبابة مع الدبلة.
كان الفرح فرصة للمعلم سيد سبرتو ليقف على ناصية الشارع مرحبا هو الآخر بالمعازيم، دون تفويض من أحد. جلس على مائدة العشاء حين ألفى مقعدا وحيدا خاليا فاعتبره مجهزا له ! قام بالواجب وأكثر. أما عويس، فقد استطاع معالجة هزال جسمه، بأن جلس على مائدة العشاء، بدعوة كريمة من مصطفى، له ولحمزة، ودعا معهما فتحي وأمين. كما نال عويس حظه مرة ثانية حين دعاه الأسطى حسين ظنا منه أنه من معارف ابنه، فلبى الدعوة سريعا واتجه إلى المائدة.. بعدها لم يجد مكانا يضع فيه الطعام، حتى قطع الحلوى اعتذر لمن يقدمها له. التقطت أذناه ما قاله الشيخ محمود الجالس بالقرب منه لأحد المدعوين، عن حديث للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه من الواجب على المرء ألا يملأ أكثر من ثلث معدته طعاما، ويترك الثلث الثاني لشرابه، والثالث لنفَسِه. انزعج عويس حين سمع الحديث الكريم، حيث بدا أنه أكل وملأ المعدة بالثلاثة أثلاث وزيادة !!
قصد عويس معالجة الأنيميا الحادة التي عانى منها منذ الصغر، ووفد بها من قريته " ميت نِمَا ". لاحظ حمزة هذا فقال له :
ـ كفى ما أكلت وشربت..
ـ أصل مصطفى غالي علينا..
ـ إن كان حبيبك عسل....
ـ يا عم حمزة، هذه ليلة العمر. الأكل والشراب كثير والحمد لله..
ـ عقبى لك يا عويس..
ـ 30 ـ
ارتدى ثيابا جديدة، كأنه ذاهب إلى حفل عرس، كأنه هو الذي نجح. استقبلته ابتسامتها المتفائلة. ما أحلى كلمة " مبروك " حين يقولها حبيب لحبيب. ما أحلى القلب حين يرقص فرحا.
زادت فرحته حين زفت إليه بشرى الإفراج عن الشيخ محمود. كاد لا يصدق. طبع قبلة على جبينها، قائلا :
ـ حلاوة رجوع الشيخ بالسلامة..
زفت البشرى إليه بفرحة غامرة. أفرج عن الشيخ. أخيرا أفرجوا عنه، بعد انقضاء شهور عديدة وهو ملقى في زنزانة. قيل إنه عذب، وقيل إن اسمه دسّه حاقد، بينما هو لا يرتبط بأي تنظيم سري أو علني. قيل ـ أيضا ـ إن اسمه كان مكتوبا في مفكرة أحد المقبوض عليهم، فاعتبروه أحد رجالهم. العجيب أن الشيخ لم يتفوه بكلمة واحدة فيما جرى خلف القضبان. طوى الصفحة لا يريد فتحها. واصل قراءة كتاب الله العزيز وتدبر محكم آياته.. إلا أنه لم يعد يؤم المصلين في مسجد زيدان أو غيره من المساجد. اعتكف في داره، معتمدا على محل بقالة صغير، بدأ يزاول عمله فيه من آن لآخر. ابنه الكبير محمود ـ لا يتعدى عمره خمسة عشر عاما ـ بدأ يعلمه قواعد البيع وأسعار السلع.
احتضنه في شوق، وأنس بصحبته في داره. حكى له عن خطبته لنرجس فبارك الخِطبة، ثم استدرك :
ـ اكتفينا بقراءة الفاتحة، وأرجأنا كل شيء لحين الإفراج عنك. البراءة تعني الكثير يا أستاذنا..
قال الشيخ ممتنا :
ـ الحمد لله على كل حال. أخبروني أنك قمت بدور عظيم وأرهقت نفسك، وصرفت من جيبك الكثير..
ـ كله من خيرك. نحن ننتظر الوقت المناسب لك، حتى نحدد موعد عقد القران.
ضحك الشيخ :
ـ أأنت مستعجل ؟
ـ وبي شوق..
ـ إذن.. أنا جاهز في أي وقت من الآن..
طار بالخبر إلى أبويه، وإلى نرجس وأهلها. اتفق الجميع على موعد الحفل الخميس القادم، على أن يتم الزفاف بعد تأثيث بيت الزوجية.
دعا أصدقاءه فتحي وأمين وحمزة وعويس ورأفت ومحفوظ وغيرهم من الأهل والجيران والمعارف. كأن الفرح فرحان : عقد قرانه، والإفراج عن الشيخ دون إدانة.
اصطحب نرجس لأفخم محل لتختار أحلى الفساتين. اختارت له بدلة الفرح. اشترى أيضا الشراب والحلوى والملبس.. علقت الزينات في الطابقين الثالث والرابع، في سكن الشيخ وسكن العروس.. امتدت الزينات حتى ناصية الشارع..
أعجب الجميع بالرقص البلدي الذي أداه عويس مع إيقاع الطبلة ممسكا بالعصا، كأنه من أهل الصعيد رغم إنه وافد من بحري، ورغم حياته الحبْلى بالهموم. اعتلى المنصة مطرب الحفل، وأدى بعض المونولوجات الشائعة، والاسكتشات الفكاهية، ثم غنى أغنيتين للعروسين. عقد المأذون القران وسط زغاريد النسوة وتهليل الشباب. أصر الشيخ محمود أن يكون أحد شاهديْ عقد القران. تلازم الأستاذ فريد والأسطى حسين معا، كما تلازمت والدتيْ العروسين أيضا. عم البشر الجميع. أما حمزة فقد قام بنفسه بتوزيع أكواب الشربات، وأطباق الحلوى، كما قام بالترحيب بالمدعوين كأنه والد العريس أو العروس. هو لا يجد ضيرا في هذا، إذ يرى لزاما عليه أن يعتبر نفسه من أصحاب الفرح ويؤدي واجب الحفاوة بكل الذين شرفوا الحفل. ساعده عويس في التوزيع. اتجه حمزة إلى الركن الذي يجلس فيه أمين وفتحي وقال :
ـ عقبى لكم يا شباب.. إن شاء الله..
تقاطر إلى الحفل أصدقاء ومعارف وجيران الشيخ مجددين التهنئة بالإفراج عنه، مباركين العرس..
انطلقت الزغاريد حين بدأت أم العريس تفتح علبة الشبكة وعرضها عليهم، ثم بدأ في تطويق عنق أحلى البنات بسلسلة ذهبية تتدلى في وسطها تحفة ذهبية مربعة منقوشا عليها " ما شاء الله "، ثم طوّق ذراعها بالغوايش. أخيرا تناول الخاتم ووضعه في إصبع السبابة مع الدبلة.
كان الفرح فرصة للمعلم سيد سبرتو ليقف على ناصية الشارع مرحبا هو الآخر بالمعازيم، دون تفويض من أحد. جلس على مائدة العشاء حين ألفى مقعدا وحيدا خاليا فاعتبره مجهزا له ! قام بالواجب وأكثر. أما عويس، فقد استطاع معالجة هزال جسمه، بأن جلس على مائدة العشاء، بدعوة كريمة من مصطفى، له ولحمزة، ودعا معهما فتحي وأمين. كما نال عويس حظه مرة ثانية حين دعاه الأسطى حسين ظنا منه أنه من معارف ابنه، فلبى الدعوة سريعا واتجه إلى المائدة.. بعدها لم يجد مكانا يضع فيه الطعام، حتى قطع الحلوى اعتذر لمن يقدمها له. التقطت أذناه ما قاله الشيخ محمود الجالس بالقرب منه لأحد المدعوين، عن حديث للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه من الواجب على المرء ألا يملأ أكثر من ثلث معدته طعاما، ويترك الثلث الثاني لشرابه، والثالث لنفَسِه. انزعج عويس حين سمع الحديث الكريم، حيث بدا أنه أكل وملأ المعدة بالثلاثة أثلاث وزيادة !!
قصد عويس معالجة الأنيميا الحادة التي عانى منها منذ الصغر، ووفد بها من قريته " ميت نِمَا ". لاحظ حمزة هذا فقال له :
ـ كفى ما أكلت وشربت..
ـ أصل مصطفى غالي علينا..
ـ إن كان حبيبك عسل....
ـ يا عم حمزة، هذه ليلة العمر. الأكل والشراب كثير والحمد لله..
ـ عقبى لك يا عويس..
تعليق