الصور

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب

تقليص
X
  •  
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    كاتب مسجل
    • Jun 2006
    • 1123

    #31
    رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

    ـ 30 ـ

    ارتدى ثيابا جديدة، كأنه ذاهب إلى حفل عرس، كأنه هو الذي نجح. استقبلته ابتسامتها المتفائلة. ما أحلى كلمة " مبروك " حين يقولها حبيب لحبيب. ما أحلى القلب حين يرقص فرحا.
    زادت فرحته حين زفت إليه بشرى الإفراج عن الشيخ محمود. كاد لا يصدق. طبع قبلة على جبينها، قائلا :
    ـ حلاوة رجوع الشيخ بالسلامة..
    زفت البشرى إليه بفرحة غامرة. أفرج عن الشيخ. أخيرا أفرجوا عنه، بعد انقضاء شهور عديدة وهو ملقى في زنزانة. قيل إنه عذب، وقيل إن اسمه دسّه حاقد، بينما هو لا يرتبط بأي تنظيم سري أو علني. قيل ـ أيضا ـ إن اسمه كان مكتوبا في مفكرة أحد المقبوض عليهم، فاعتبروه أحد رجالهم. العجيب أن الشيخ لم يتفوه بكلمة واحدة فيما جرى خلف القضبان. طوى الصفحة لا يريد فتحها. واصل قراءة كتاب الله العزيز وتدبر محكم آياته.. إلا أنه لم يعد يؤم المصلين في مسجد زيدان أو غيره من المساجد. اعتكف في داره، معتمدا على محل بقالة صغير، بدأ يزاول عمله فيه من آن لآخر. ابنه الكبير محمود ـ لا يتعدى عمره خمسة عشر عاما ـ بدأ يعلمه قواعد البيع وأسعار السلع.
    احتضنه في شوق، وأنس بصحبته في داره. حكى له عن خطبته لنرجس فبارك الخِطبة، ثم استدرك :
    ـ اكتفينا بقراءة الفاتحة، وأرجأنا كل شيء لحين الإفراج عنك. البراءة تعني الكثير يا أستاذنا..
    قال الشيخ ممتنا :
    ـ الحمد لله على كل حال. أخبروني أنك قمت بدور عظيم وأرهقت نفسك، وصرفت من جيبك الكثير..
    ـ كله من خيرك. نحن ننتظر الوقت المناسب لك، حتى نحدد موعد عقد القران.
    ضحك الشيخ :
    ـ أأنت مستعجل ؟
    ـ وبي شوق..
    ـ إذن.. أنا جاهز في أي وقت من الآن..
    طار بالخبر إلى أبويه، وإلى نرجس وأهلها. اتفق الجميع على موعد الحفل الخميس القادم، على أن يتم الزفاف بعد تأثيث بيت الزوجية.
    دعا أصدقاءه فتحي وأمين وحمزة وعويس ورأفت ومحفوظ وغيرهم من الأهل والجيران والمعارف. كأن الفرح فرحان : عقد قرانه، والإفراج عن الشيخ دون إدانة.
    اصطحب نرجس لأفخم محل لتختار أحلى الفساتين. اختارت له بدلة الفرح. اشترى أيضا الشراب والحلوى والملبس.. علقت الزينات في الطابقين الثالث والرابع، في سكن الشيخ وسكن العروس.. امتدت الزينات حتى ناصية الشارع..
    أعجب الجميع بالرقص البلدي الذي أداه عويس مع إيقاع الطبلة ممسكا بالعصا، كأنه من أهل الصعيد رغم إنه وافد من بحري، ورغم حياته الحبْلى بالهموم. اعتلى المنصة مطرب الحفل، وأدى بعض المونولوجات الشائعة، والاسكتشات الفكاهية، ثم غنى أغنيتين للعروسين. عقد المأذون القران وسط زغاريد النسوة وتهليل الشباب. أصر الشيخ محمود أن يكون أحد شاهديْ عقد القران. تلازم الأستاذ فريد والأسطى حسين معا، كما تلازمت والدتيْ العروسين أيضا. عم البشر الجميع. أما حمزة فقد قام بنفسه بتوزيع أكواب الشربات، وأطباق الحلوى، كما قام بالترحيب بالمدعوين كأنه والد العريس أو العروس. هو لا يجد ضيرا في هذا، إذ يرى لزاما عليه أن يعتبر نفسه من أصحاب الفرح ويؤدي واجب الحفاوة بكل الذين شرفوا الحفل. ساعده عويس في التوزيع. اتجه حمزة إلى الركن الذي يجلس فيه أمين وفتحي وقال :
    ـ عقبى لكم يا شباب.. إن شاء الله..
    تقاطر إلى الحفل أصدقاء ومعارف وجيران الشيخ مجددين التهنئة بالإفراج عنه، مباركين العرس..
    انطلقت الزغاريد حين بدأت أم العريس تفتح علبة الشبكة وعرضها عليهم، ثم بدأ في تطويق عنق أحلى البنات بسلسلة ذهبية تتدلى في وسطها تحفة ذهبية مربعة منقوشا عليها " ما شاء الله "، ثم طوّق ذراعها بالغوايش. أخيرا تناول الخاتم ووضعه في إصبع السبابة مع الدبلة.
    كان الفرح فرصة للمعلم سيد سبرتو ليقف على ناصية الشارع مرحبا هو الآخر بالمعازيم، دون تفويض من أحد. جلس على مائدة العشاء حين ألفى مقعدا وحيدا خاليا فاعتبره مجهزا له ! قام بالواجب وأكثر. أما عويس، فقد استطاع معالجة هزال جسمه، بأن جلس على مائدة العشاء، بدعوة كريمة من مصطفى، له ولحمزة، ودعا معهما فتحي وأمين. كما نال عويس حظه مرة ثانية حين دعاه الأسطى حسين ظنا منه أنه من معارف ابنه، فلبى الدعوة سريعا واتجه إلى المائدة.. بعدها لم يجد مكانا يضع فيه الطعام، حتى قطع الحلوى اعتذر لمن يقدمها له. التقطت أذناه ما قاله الشيخ محمود الجالس بالقرب منه لأحد المدعوين، عن حديث للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه من الواجب على المرء ألا يملأ أكثر من ثلث معدته طعاما، ويترك الثلث الثاني لشرابه، والثالث لنفَسِه. انزعج عويس حين سمع الحديث الكريم، حيث بدا أنه أكل وملأ المعدة بالثلاثة أثلاث وزيادة !!
    قصد عويس معالجة الأنيميا الحادة التي عانى منها منذ الصغر، ووفد بها من قريته " ميت نِمَا ". لاحظ حمزة هذا فقال له :
    ـ كفى ما أكلت وشربت..
    ـ أصل مصطفى غالي علينا..
    ـ إن كان حبيبك عسل....
    ـ يا عم حمزة، هذه ليلة العمر. الأكل والشراب كثير والحمد لله..
    ـ عقبى لك يا عويس..

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      كاتب مسجل
      • Jun 2006
      • 1123

      #32
      رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

      ـ 31 ـ

      وصلت بطاقة ترشيحه لكلية الهندسة جامعة عين شمس. توجت البطاقة كفاحه وإصراره على تحقيق أمنية غالية، فقد أصر على إعادة السنة، ليحصل على مجموع يتناسب مع طموحه. تهللت الفرحة في وجه أبيه، الذي رأى في دخول ابنه الهندسة انتصارا له. زف الخبر إلى زملائه في العمل، ووزع عليهم المشروبات، حلاوة النجاح. كما زف الخبر إلى رؤسائه المهندسين، قائلا لهم إن ابنه التحق بالهندسة. هنأه الأستاذ شفيق، وقال له إن مارسيل التحقت بالكلية نفسها. توجه فتحي إلى أستاذه بشبرا، يهنئه ويهنئ مارسيل. سارع بالتهنئة حيث وجدها فرصة لرؤيتها. حمل معه علبة شيكولاتة. جلسا بشرفة البيت وحدهما. كانت مارسيل رقيقة كالنسيم الهادئ، جميلة كأفروديت.. رقبتها المديدة تشي بطابع الجمال الفرعوني، وشعرها المنسرح يشي بالشعر المغسول بماء النيل. قدمت مريم شربات المانجو. قالت مارسيل :
      ـ سمعت من أبي أنك كنت مريضا أثناء الامتحان..
      ـ لا شك أن أبي أخبر كل من في المصلحة..
      ضحكت. أكمل :
      ـ كانت أياما عصيبة..
      واسترسل يحكي أيام الصراع مع المرض وكيف كان يذهب إلى لجنة الامتحان وحرارته 39 درجة، بما يوحي لها أنه بطل يصارع المرض ويحصل على النجاح بنحت الصخر ! روى لها إعجاب المراقب بموضوع التعبير، وشد أزره.
      توجه من شبرا إلى عمته ببولاق أبي العلاء. زف إليها الخبر السعيد، فاحتفت به على طريقتها، بأن أعدت له عزومة عشاء فاخرة، ونقدته مبلغا محترما من المال، لم يحلم به في حياته، وأطلقت الشغالة الزغاريد.
      لأول مرة يحتضنه أبوه هذا الحضن الدافئ الممزوج بفرحة غامرة. لقد عوض الله صبر رجب خيرا. التف الأخوات حوله، بينا يمسك بيد أمه يقبلها.
      لم ينسَ في غمار البهجة صاحبه أمين. من الواجب زيارته. سارع إليه عابرا القنطرة المصنوعة من ساقيْ نخلتين، إلى المنيرة الغربية، مجتازا سكك حديد صوامع الغلال. أخبره أنه التحق بمدرسة معاوني الحركة التابعة لمصلحة سكك حديد مصر. هذا أقصر طريق للتخرج والعمل بعد ستة شهور من الدراسة والتدريب. ليس أمامه حل سوى هذا. إنه في حاجة إلى المال ليساعد نفسه أولا، ويساعد أباه المريض. شد من عزمه قائلا :
      ـ يمكنك إعادة قيد بالثانوية العامة من المنازل. لن تخسر شيئا من المحاولة..
      أومأ بالصمت. قال :
      ـ من الصعب المذاكرة من جديد، لرابع مرة..
      ـ حاول..
      في البيت، انتظرته مفاجأة أخرى، إذ زارتهم أم ليلى وفي صحبتها ابنتها لمياء، التي كبرت وأصبحت في قوام ليلى. هنأته بالنجاح والتفوق. تذكر حبيبة القلب ليلى. أين هي الآن ؟
      سأل في جرأة لا تواتيه كثيرا :
      ـ كيف حال ليلى ؟
      أجابت :
      ـ بخير.. لم تزر مصر منذ سفرها للكويت..
      صمتت قليلا، وتناولت من أمه عصير البرتقال.. فكررت التهنئة، مرتين، مرة بالنجاح والثانية بدخول الهندسة.. ثم التفتت لفتحي قائلة :
      ـ أنجبتْ تامر..
      كأنها تصدمه. كأنها تخبره أن ليلى لم تعد لك. ليلى زوجة رجل آخر. ليلى أم...!
      كل النجاح الذي حققه، لا يساوي شيئا أمام نظرة حانية من ليلى. إنه قزم. يتردد بين جنباته صوت مناوئ بأن ليلى صفحة طويت. عليه أن يقر بذلك، ويلتفت إلى مستقبله. ها هي مارسيل لؤلؤة تتلألأ في عينيه.. لكن.. قصتك معها ليست لها نهاية مريحة. لن يوافق أهلها على ارتباطه بها. اختلاف العقيدة لا يعترف بهوى القلوب. شرد طويلا إلى أن تنبه إلى أم ليلى تضاحكه وتكرر التهنئة وتهم بالاستئذان، وتتركه يطوي في ألم صفحة الماضي القريب.
      أهاجته الذكريات عن ليلى. فتح كراسة اليوميات. أخذ يقرأ التواريخ، والموضوعات التي كتبها عنها. إنها تحتل مساحة كبيرة من يومياته. فتح صفحة جديدة كتب فيها تاريخ اليوم، وتحدث عن زيارة أم ليلى وما خلفته في نفسه من أحاسيس الوجد والجوى. زاحمتها بنات كثيرات، لكنها الملكة المتوجة، المتربعة على عرش قلبه. شده الحنين إليها. كانت الكتابة متنفسا طبيعيا.. يطفئ مصباح الغرفة، ينام، فتراوده أحلام عن ليلى تناديه من الحديقة، فيطرب لسماع صوتها الحبيب !
      أما حمزة، فقد أقام له حفلة متواضعة أحياها ترانزستور عويس، الذي شدت فيه كوكب الشرق بأحدث أغانيها. حضر الحفل المتواضع أمين ومصطفى وجابر ومحفوظ. حضر سيد سبرتو واقترح أن يشارك بزجاجات بيرة على حسابه. لكن الحاضرين تشككوا في أنه سيدفع مليما واحدا. ربما كان مقلبا من مقالبه، ويضطر حمزة المغلوب على أمره تسديد ثمنها لعم توفيق. علاوة على ما أفتى به مصطفى من أن شرب البيرة حرام. الذي يسكر كثيره فقليله حرام.
      لذا، أعرض عنها الجميع، تنازلوا عن الكرم الحاتمي غير المسبوق، وارتضوا أكواب الشاي، إلا أن مصطفى فاجأهم بنوبة كرم حقيقية، إذ استأذنهم وعاد بلفافة كفتة وطرْب وسَلَطة وعيش، فأكلوا حتى شبعوا..
      صاح عويس في الآكلين :
      ـ على مهلكم.. أصل أنا يتيم الأم وأكلي بطيء..
      بادره مصطفى بعمل سندويتش إضافي له قائلا :
      ـ هذا تكملة لنصيبك..
      أخذ السندويتش، ونهض يعدّ براد الشاي. ولما عاد المعلم سبرتو كانت الوليمة قد انفضت، فأصر مصطفى على أن يحضر لفافة خصيصا له، انتحى جانبا وأتى عليها، ثم قصد ثلاجة عم توفيق.

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        كاتب مسجل
        • Jun 2006
        • 1123

        #33
        رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

        ـ 32 ـ

        فجر الاثنين التاسع والعشرين من أغسطس 1966 ـ الثالث عشر من جمادى الأولى 1386 ـ أعدم سيد قطب إبراهيم، المولود في التاسع من أكتوبر 1906 في قرية " موشه " بأسيوط. خريج قسم الآداب بكلية دار العلوم بالقاهرة عام 1933. اتهم بتكفير المجتمع. قرأ الناس الخبر في الصحف، وتباينت الآراء. هل يجوز إعدام من نختلف معهم ؟ بعض رجال الدين قالوا إنه مخطئ، والبعض قال غير ذلك. قال نفر من العامة :
        ـ أعدم لأنه من الإخوان المسلمين..
        قال آخرون :
        ـ انحرف بفكر الجماعة عن جادة الطريق..
        قال واحد من الناس :
        ـ لو لم يكن إخوانجيا، ما حوكم..
        رد عليه صاحبه :
        ـ الله أعلم..
        اختلف الناس فيما بينهم..
        ـ إنهم يحاربون التنظيم الذي يخطئ الحاكم..
        قال شاب لصاحبه :
        ـ يا أخي.. هل نحمل همّ شيخ أعدموه ؟ ليس الوحيد الذي نصبت له المشنقة..
        مصطفى الذي اهتز لخبر الإعدام، هرع إلى الشيخ محمود، طالبا الرأي والمشورة إذ تبلبل فكره واحتار في أمره.. قال لشيخه :
        ـ لو أعدمنا كل من يختلف معنا، لأعدم الآلاف، وصمتت آلاف أخرى عن الكلام..
        ـ الإعدام لاختلاف الآراء ليس أسلوبا حضاريا..
        اتكأ على مسند المقعد وأكمل :
        ـ لكي أبسط الأمر.. سيد قطب دعا إلى تكفير المجتمع، مما رأت الحكومة أنه يشكل خطرا على نظام الحكم. الخلاف ظهر في أن سيد خطّأ رجال الحكم في بعض الأمور.. النقطة التي أعارضها أن يكون الموت جزاء المخالف.. في هذا أتفق معك. ذلك أن إعدام المفكر، قد يكون لترجيح آراء سائدة في عصره، يثبت بعد ذلك خطؤها. وبذلك لا نستطيع رد الظلم عنه.
        قال الشيخ محمود لمصطفى :
        ـ لا ندّعي له العصمة من الخطأ.. عنده من الأخطاء مثل ما عند غيره. لم تحُلْ أخطاء ابن حجر والنووي وابن الجوزي وابن حزم وغيرهم من أبناء الأمة من الاستفادة بفكرهم..
        قال مصطفى :
        ـ هم أئمة...
        أكمل الشيخ :
        ـ إلا فيما وقعوا فيه من أخطاء..
        اقتنع بمنطقه، لكنه أبدى اعتراضا...
        ذكره الشيخ بآلاف الشهداء في فلسطين والجزائر ومصر وغيرها، وهم يحاربون الاستعمار.. ذكره بالزعيم الليبي عمر المختار الذي أعدمه الجيش الإيطالي ولم يرحموا شيخوخته.
        الاتجاه السائد عند بعض الناس أن سيد مارق. أخطأ في حق أمته، وهدد أمن بلده ! الاتجاه السائد ألا يتجادل الناس فيما قررته السلطة لمصلحة الوطن وأمنه. تحمس فتحي لما تحقق من مكاسب اشتراكية، أدت إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتذويب الفوارق بين الطبقات. يتردد داخله صوت عن حال أبيه الموظف البسيط، الكادح من أجل توفير لقمة عيش كريمة لهم. ترى.. هل تجاوزته التغييرات ؟ أم أن كثرة عياله سبب في سوء حاله ؟ عارض أمين الاشتراكية. دارت بينهما معارك كلامية لم يصلا فيها إلى حل يرضيهما. يرى أمين أن الإسلام خير داع للتكافل الاجتماعي، اشتراكية الإسلام أرقى من الاشتراكية القادمة مع الرياح الشيوعية. أما فتحي فقد دفعه حبه للزعيم إلى التمسك بالاشتراكية كحل حتمي يحمي الفقراء من بطش الأثرياء. أما حمزة فقد رفع صوته الأجش متحمسا :
        ـ عبد الناصر زعيم وطني.. حرر البلد من الاستعمار، وأمم شركة قناة السويس، ودعا إلى الوحدة العربية..
        انضم فتحي إلى حمزة في الدفاع عن الزعيم الذي قاد ثورة بيضاء.
        قال عويس في انحياز كامل للرجل الذي آواه :
        ـ يسلم فمك يا عم حمزة..
        احتبست الكلمات التي يريد أمين قولها. إنه لا يقوى على مواجهة هذا الحماس الجارف.. قال في إيماءة غير حاسمة :
        ـ ليس بالحماس وحده...
        ثم سكت. قال فتحي :
        ـ لابد أن تتوحد كلمتنا وتتحد إرادتنا..
        قال أمين في نبرة عالية، بعد أن استمد شيئا من الشجاعة :
        ـ لابد من حرية الرأي..
        رجع فتحي إلى بيته مبلبل الخاطر، مشتت الفكر. يراجع نفسه. يرى فيما قاله صاحبه بعض الحق الذي ينبغي التمسك به. لكنه معجب ـ في الوقت ذاته ـ بحماس حمزة. فكرتان تتجاذبان خاطره. لكل منهما وجاهتها ومنطقها. فهل من طريقة تجمع الميزتين في ماعون واحد ؟!
        توحيد الكلمة وحرية الرأي.. كيف يجتمعان ؟

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          كاتب مسجل
          • Jun 2006
          • 1123

          #34
          رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

          ـ 33 ـ

          بعد أن أطعم حماره من زكيبة التبن، واستسقاه، ربطه في ذراعيْ العربة الخشبية، وجهز نفسه لرحلة يوم جديد، بعد أن منع حميدة من مصاحبته، حتى لا يتسبب في إرهاقها..
          ـ من اليوم، الزمي البيت.. صحتك أهم..
          ـ طيب.. خذ بالك من نفسك..
          أوصته :
          ـ لا تنسَ قراءة الفاتحة وأنت تمر على سيدي إسماعيل الإمبابي..
          ـ طبعا..
          في الطريق، مر على حمزة يقرئه السلام. فوجئ بجابر يأتي بمفرده. قفز عويس جالسا على العربة قائلا :
          ـ بالإذن يا عم حمزة..
          ابتسم قائلا :
          ـ بالمرة اشترِ لنا خضارا..
          مشى من نفق المنيرة، مستديرا يسارا إلى شارع المحطة، مارا بالضريح.. فنزل ودعا الله أن يعين حميدة في حَمْلها، وقرأ الفاتحة. لم ينس أن يضع في صندوق النذور ما تجود به يده.
          كان عويس رفيق طريق، ارتاح إليه كثيرا. شاغله بأحاديث مرحة. ولما سارا على كوبري إمبابة، سد أذنيه لدي سماعه صفارة القطار، وارتعب من هزات الكوبري أثناء سير القطار.. ضحك جابر :
          ـ الله يجازي شيطانك.. أأنت تخاف من خيالك، أم قلبك خفيف ؟
          ساعده في حمل أقفاص الخضر والفاكهة. كان خفيف الحركة سريع البديهة. وفي رحلة العودة لم ينسَ البلح الأبريمي الذي تحبه حميدة، واشترى لعويس قرطاس جميز. واصلا رحلة العودة، وقد بدأت أشعة الشمس تقوى وتلهب الجلد.
          ـ انشرح قلبي لما شفتك. أحس أنك جئت بالخير كله..
          ـ الله أعلم..
          ـ يا ليت سمّوك مسعد..
          ـ أنا ولد نحس.. كلما مشيت في طريق، ألقاه مسدودا قدامي...
          استرسل يحكي عن قريته " ميت نِمَا " وحياة الجحيم مع زوجة أب لا تطيقه. تدبر له المكائد حتى يقسو عليه أبوه. لم يجد حلا سوى ترك القرية والنزوح إلى القاهرة. دون أن يعلم أحد عنه شيئا. افترش الأرصفة يبيت عليها مع المتشردين والخارجين عن القانون. حتى التقى المعلم سيد سبرتو، الذي عرض عليه أن يؤويه عند حمزة، نظير دفع إتاوة. رضي بشروط المعلم الذي أفهمه أن ما يدفعه له أجرة المبيت. ارتاح لعم حمزة.. دمعت عيناه وهو يقول:
          ـ وجدت فيه أبا حانيا..
          توقف جابر بعد عبوره الكوبري، واستظل بشجرة، بعد أن وضع جوال التبن للحمار. جلسا. استكمل حديثه عن استغلال المعلم سيد. ليس له من وسيلة إلا المبيت عند عم حمزة، حتى يدبر عملا وسكنا. قال جابر :
          ـ حمزة مبسوط منك..
          ـ أنا مستعد أخدمه بعينيّ مقابل مروءته..
          قال جابر ضاحكا :
          ـ وما حكاية الترانزستور ؟
          ـ هو أمانة عنده.. لم أجد مكانا آمنا غير بيته..
          شرد قليلا ثم قال :
          ـ عند ما هربت من القرية، أخذت ملابسي وحاجياتي الشخصية، والترانزستور..
          ـ وماذا عن أبيك ؟
          ـ أشك أنه يبحث عني..
          ـ لِمَ ؟
          ـ ربما فرح برحيلي. فقد حلت المشكلة التي كانت تؤرقه، وخلا الجو له ولزوجته..
          ـ أليس لها أولاد ؟
          ـ اثنان.. طفل عمره ثلاث سنوات، وطفلة لا يزيد عمرها عن سنة واحدة..
          نهضا ليواصلا رحلة العودة إلى حمزة ثم إلى سوق المنيرة، حيث يقف جابر لبيع الخضر والفاكهة، يساعده ـ في هذه المرة ـ عويس. وفي العصر، أعطاه أجره، فعاد إلى عم حمزة شاكرا ربه..

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            كاتب مسجل
            • Jun 2006
            • 1123

            #35
            رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

            ـ 34 ـ

            دخول الجامعة بالنسبة له بداية حياة جديدة، كما كتب في يومياته. رأى أن الحياة تبتسم له، تعطيه ما يتمنى. في اليوم الأول، حرص على لقائها وإعطائها جدول المحاضرات. عرّفها برقم الفصل الخاص بها، أو " السيكشن " كما يطلقون عليه بالإنجليزية. تجولا في أرجاء الكلية. تعرفا على شئون الطلبة والمكتبة وغرفة العميد وغرفة الوكيل، ومدرج فلسطين المخصص لطلبة إعدادي. ربما كانت الكلية في القديم قصرا أثريا. في المدرج، جلست مارسيل في الصف الأول، صف الطالبات. آثر فتحي الجلوس في المنتصف، حيث تعرف على زميله القادم من بني سويف. حسان ودود بطبعه صريح القول. تآلفا سريعا، وتصادقا..
            تباعدت اللقاءات بين فتحي وأمين.. فقد انصرف الأخير في دروس مدرسة السكة الحديدية، ترقبا للوظيفة، لعله يرفع عن والده المريض مشقة مصاريفه الشخصية، ويعاونه في الأحوال المعيشية. انشغل فتحي بالدراسة الجامعية. لكن التباعد ليس مرغوبا فيه. ففي نية كل منهما تدبير لقاء قريب.
            قنع ثروت بالالتحاق بمعهد زراعي. صلاته بفتحي شبه مقطوعة.. وانشغل مصطفى بنرجس، وتأثيث بيت الزوجية، على أمل تحديد أنسب موعد للزفاف..
            كلما زارها، مر على شيخه وجلس إليه في لقاء سريع يستزيد فيه من علمه الواسع. بحكم ترتيب الأدوار، كان يمر على شيخه أولا ثم يثنّي بها. قالت تداعبه :
            ـ أتمنى أن تبدأ من الدور الرابع..
            ـ أمرّ على شيخي دقائق قليلة، وأجعل زيارتك مسك الختام.
            ابتسمت وطلبت من الشغالة إعداد عصير الليمون.
            تتحول حياتهما من حسن إلى أحسن. ساعدهما التفاهم المشترك بين الأسرتين، والنوايا الحسنة التي لم تشبها شائبة. الكل يرجع ذلك إلى بركة الشيخ التي حلت عليهم. نرجس زاد تألقها وأشرق وجهها أكثر فأكثر..
            حين أرادا تحديد موعد الزفاف، اقترح أن يتم بعد ذكرى المرحومة. لم يبق عليها سوى ثلاثة أسابيع.. وجم الاثنان وجمدت ملامحهما. رجعا إلى اللحظة التي فارقتهما سعاد. هي الحبيبة والأخت والصديقة. هي الحياة الجميلة التي افتقداها. شرعا يقرآن الفاتحة على روحها الطاهرة. قال مصطفى :
            ـ لا شك أنها في ضجعتها الأبدية راضية عن زواجنا. كانت أمنيتها أن أقترن بك..
            أمسكت بيده، ضمتها في راحتيها. شفتاها المرتعشتان تؤكدان في صمتهما أن لا انفصال بينهما إلا بالموت. انهمرت دمعتان فمسحهما بالسبابة..
            ـ الله يرحمها.. سنحيي الذكرى ليلة وفاتها، أول نوفمبر إن شاء الله.. أصر الشيخ محمود أن يتلو القرآن بنفسه.
            خفضت رأسها ناظرة إلى أصابع قدميها :
            ـ تعش وتفتكر..
            أصاب حميدة بعض الآلام فهرع بها إلى المستشفى. قالوا إنها في حاجة إلى راحة تامة وأعطوه أدوية. رجع بها إلى البيت ورجاها ألا تتعب نفسها في شغل البيت. قالت وهي تتوجع :
            ـ الشقة تحتاج إلى تنظيف..
            ـ الراحة مطلوبة، لأجل صحتك والجنين في بطنك..
            ـ حاضر يا جابر..
            ـ لا داعي تقلقي أباكِ.. يكفيه همومه..
            ـ حاضر..
            تردد فتحي وهو يسير وسط الملاهي والألعاب وطاولات البخت التي نصبت في ذكرى إسماعيل الإمبابي. أحس أن وضعه الجديد كطالب جامعي يمنعه من ارتياد أماكن اللهو الرخيص. استرجع ما رآه في العام الماضي. تاق لرؤية الراقصة توحة، ومسرح حمام العطار، والعوّاد الذي قيل إنه كان يعمل في فرقة بديعة مصابني، وصاحب الاسكتشات الفكاهية والنوبي المتضايق دائما من حماته. ألعاب البمب والنشان، بائع الطراطير، كشك الحلاق الذي يجري عمليات الختان للأطفال. بائعو الحمصية والسمسمية والملبن. عربة سندوتشات الجبن والكبدة والبيض والبسطرمة. الفتاة التي ما إن تمسها لمبة الفلوسنت تضيء. عالم عجيب خليط من أشكال وألوان قد لا تتفق فيما بينها. شده العالم الغريب، جاس وسط زحمة المولد، يتفحص وجوه الفقراء البسطاء.. منهم من جاء من قرى بعيدة وافترش الرصيف الملاصق للمقام وعلى امتداده، حاملا معه أواني الأكل والشرب، وحصائر القش مبسوطة على الرصيف، فرشت عليها مخدات وأغطية. حلقة الذكر والمنشدين يلتف حولها النساء والرجال والأطفال. سرت في بدنه رجفة دفعته إلى مسرح حمام العطار. نفس الرجل يعرض بصوته الهادئ ما عرضه في العام الماضي قضى على تردده، وشق لنفسه طريقا مع الداخلين. اقتعد كرسيه وهو يعجب لدوران العام بسرعة، كأن العام انقضى شهرا في حساب الزمن ‍‍! تذكر ثروت وارتياده الملاهي. هو يتعرف على المكان بدافع الفضول. لا ينكر أن الراقصة شبه العارية تجذبه. تحير في أمره. إنه يتصرف بدوافع لا يرضى عنها. إنه ينتصر للفضيلة، لكنه ـ في الوقت نفسه ـ لا يمانع في رؤية ما يراه بعض الناس من صنوف اللهو، حتى يصدر الحكم بنفسه. لا ينكر أن الكبت يدفعه إلى التحرر من قيود المجتمع.. لذا، يذهب إلى الملاهي والسينما ـ يشاهد أفلاما معينة ـ ولا يذكر شيئا من هذا لأقرب الأقربين منه. أمين مثلا، أخلص أصدقائه، لا يقول له إنه دخل مسرحا أو ملهى أو سينما.. تعيش بداخله شخصية تتناقض في سلوكها مع طبيعته التي يحب أن يظهر بها. منتهى التناقض. دفعه الارتباك إلى الصمت. الرقصة التي يشاهدها تكرار للرقصة التي شاهدها منذ عام. بدلة الرقص هيَ هي لم تتغير. الفرقة الموسيقية التي تصاحب الراقصة، الوجوه والملابس والآلات نفسها.. لا جديد.. الجديد الذي لم يفعله، أن يخرج من الشرنقة التي حبس نفسه داخلها، أن يمزق الأقنعة ويبدو بمظهره وواقعه، لكنه لا يستطيع.

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              كاتب مسجل
              • Jun 2006
              • 1123

              #36
              رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

              ـ 35 ـ

              الشغالة التي أحضرها عويس لتخدم في بيت أسرة ثروت، هربت بعد اتهامها بسرقة المجوهرات. أشاع ثروت الخبر لفتحي وآخرين، وادّعى أنها من بلده " ميت نما "، وترضى بقليله. لم يمض أسبوع حتى تركت البيت وهربت غانمة بما سرقت. قال ثروت إن أخاه حرر محضرا ضد عويس والشغالة التي لا يُعرف لها مكان. هرع إلى بيت حمزة عند أول النفق. صارحه بالتهمة. أقسم بأغلظ الأيمان أنه لا يعرف لها عنوانا. وجدها تتسول في السوق فرأف بحالها، ورحب أهل ثروت بها.
              قال فتحي :
              ـ ألم تقل لثروت إنها من بلدك ؟
              ـ قلت هذا حتى أطمئنه..
              صرخ بأعلى صوته :
              ـ فتحت صدرك لسارقة، وادعيت أنها من بلدك. ستقبض عليك الشرطة.
              قال حمزة والضيق يشتعل في صدره :
              ـ يا عويس.. أريد الابتعاد عن سكة ثروت وعائلته. أنت غاوي مشاكل ؟
              تنهد مستطردا :
              ـ القصد.. أنت تقب وتغطس وتعثر عليها.. ما اسمها ؟
              ـ عزيزة..
              ـ تحضر عزيزة من تحت الأرض، حتى تنفذ بجلدك من محضر الشرطة، وإلا تكون متواطئا معها..
              ـ ما معنى متواطئ ؟
              ـ يعني شريك في الجريمة يا فالح..
              ـ يا نهار ما طلعت له شمس..
              قال فتحي :
              ـ ضروري تبحث عنها، وإلا ستقبض الشرطة عليك وعلى حمزة الرجل الطيب الذي يؤويك..
              ذرع السوق جيئة وذهابا بحثا عنها. سأل البائعين والتجار والشحاذين الذين يفترشون الأرض الترابية باسطين أيديهم. المشكلة التي واجهته أن عزيزة لا يعرفها أحد. يبدو أنها حديثة عهد بالشحاذة. هو لم يرها إلا في هذا اليوم، فصعبت عليه. أحب أن يسدي لها معروفا، بعد أن قصده ثروت في شغالة، فوعده أن يحضر له فتاة أمينة على البيت الذي سوف تخدم فيه.
              اتجه إلى فلاحات يفترشن الأرض وأمامهن المشنات الخوص مليئة بالبامية والملوخية والكوسة وغيرها من الخضر. سأل بائعي الكرشة والفشة والبمبار. سأل بائعي لحم الرأس والمخ والكبدة. سأل الفرارجية والعلافين والعطارين والجزارين. لم يدله أحد عليها. حدث نفسه : " ما الحل إذا لم تجدها ؟ ". أجاب لتوه : " سأرضى بنصيبي وأسلم نفسي للشرطة، وأبعد الشبهة عن الرجل الطيب الذي أدين له بالفضل". سينام في السجن المظلم مع اللصوص وأرباب السوابق المختلفة، ويفترش الأرض. ما عليه من كل هذا، إنه اعتاد البهدلة والهرجلة. اطمأن إلى أنه في السجن سيعطونه طعاما. ربنا لا ينسى عباده. في السجن، لن يسأل عنه أحد. هو مقطوع من شجرة. هاجس يؤكد له أن حمزة رجل شهم، سيأتي له بالطعام من حين لآخر، ويعوض له أكل المساجين. حمزة معجون بالمروءة والشهامة. التقى عددا من البنات، كل واحدة يجد نفسه غير متأكد من أنها عزيزة، جلابة المشاكل. قد تكون إحداهن، لكنه غير متأكد. حدث نفسه : أنت ناقص حيرة.. عيشتك كلها قلق وحيرة. كلما استقرت بك الأحوال، تفاجأ بمصائب تنزل عليك كالقضاء المستعجل. ذرع السوق ـ من جديد ـ ذهابا وجيئة، والشوارع الضيقة المتفرعة منه. التقى خمس بنات في مثل سنها، ولم تواته الشجاعة في التحدث إليهن. غاب عنه شكلها وملامحها. اضطر للرجوع إلى حمزة بخفيْ حنين، مسلما أمره لله، فالسجن داخله لا محالة..
              عاد إلى حمزة مطمئنا إياه بأنه سيعترف أمام القاضي بأن عزيزة من طرفه، وأنه مسئول عن تصرفاتها. أنهى كلامه قائلا :
              ـ أما أنت يا عم حمزة، فأنت لا لك في الدور ولا في الطحين..
              قال وقد صعب عليه حاله :
              ـ أنت ؟ مسئول عن تصرفات عزيزة ؟ أنت حالك يصعب على الكافر.. ليس لك في الدور ولا الطحين.. أنت تفتح صدرك دون ذنب جنيته..
              ـ أنا الذي أتيت بعزيزة...
              هلع الاثنان بطرق عنيف مفاجئ، تقافز عويس بحركة سريعة تنم عن الفزع، استند إلى حافة السرير، بحيث لا يراه الداخل إلا إذا نظر إلى أركان الغرفة كلها. فتح حمزة الباب فإذا بفتاة تصرخ في حدة :
              ـ أين عويس ؟
              ـ من أنتِ ؟
              ـ أنا عزيزة..
              ضرب حمزة كفا بكف من المفاجأة عير المتوقعة، قائلا لعويس :
              ـ جاءت برجليها..
              ـ أريد حقي من عويس، عديم الضمير والأخلاق..
              اتهمت عويس في أخلاقه. ما الحكاية ؟ أهو لغز ؟
              واجهها عويس بحدة :
              ـ أين المجوهرات التي سرقتها ؟
              انخرطت في بكاء متواصل مصحوب بنشيج، ثم قالت :
              ـ سرقتها ؟.. عيب.. نعم أنا بنت فقيرة وعلى باب الله، لكني شريفة. اسأل صاحبك عديم الشرف والأخلاق ماذا فعل...
              قال حمزة متلهفا :
              ـ ماذا فعل ؟
              حكت حكاية ثروت الدنيء الذي حاول الاختلاء بها، فلكمته في صدره، وتملصت منه. هربت من البيت مضحية بتعب وشقاء أسبوع خدمة دون أن تتقاضى مليما واحدا..
              صمتت قليلا، ثم أكملت :
              ـ أول ما التقيت عويس، جريت وراءه، كي آخذ حقي منه..
              فرح حمزة ببراءة عزيزة. إنه يشك في سلوك ثروت منذ رآه يختلي بفتاة أسفل النفق، مما حدا به إلى ضربهما بالعصا الطويلة..
              قال عويس :
              ـ أتصدق ما تقوله عزيزة، بعد ما لهفت الذهب ؟
              أطبقت على زمارة رقبته. كاد يلفظ أنفاسه. قطعت عليه سبل المقاومة، أو حتى أخذ النفَس. كل ما استطاعه أن يحوّل عينيه إلى حمزة يستنجد به. جاهد كي يخلصه من الخناق الملتف حول رقبته، لكن قبضتيها أمسكتا بشدة..
              صرخ فيه :
              ـ بطل هبَل.. البنت دمها حر. واضح أنها صادقة في كل كلمة قالتها..
              استراحت لما قاله حمزة. أنهت الضغط المميت على رقبته. أكمل حمزة :
              ـ لو حصل قضية ومحكمة، سأدافع عن عزيزة بما أعرف عن ثروت، وأدفع للمحامي ما يريد من أتعاب..
              انتقلت حكاية عزيزة من لسان لآخر، ووصلت إلى مصطفى، الذي انتفض لما سمع، هرع إلى صبري ـ شقيق ثروت ـ يحذره من مجون أخيه..
              نمى إلى علم الفتوة حكاية عزيزة. اشتكى له حمزة وعويس ومصطفى. عرفت بنفوذه فلجأت إليه تحكي ما حدث من طأطأ لسلام عليكم، فوعدها بإنهاء الموضوع. أحس الجميع بحاجتهم لسيد سبرتو يقف في صفهم في هذا الموقف، الذي تتهم فيه بنت بريئة. الكل يعرف أنه يجمع إتاوات ينفقها على نفسه وعلى رجاله.. لكنه ـ في نظرهم ـ يذود عن شرف أهل الحي ويدفع عنهم المكائد. بدأوا يتقربون إليه، ويرددون في أنفسهم : " إن جاءت على الفلوس، أمرها بسيط ".. المهم أننا نلجأ إليه حين نفتقد الأمان. يجمع الأموال، لكنه ضد السرقة وما يمس العرض والشرف. رأى حمزة في المعلم ملاذا آمنا، ورجلا يعتمد عليه في الشدائد والملمات.

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                كاتب مسجل
                • Jun 2006
                • 1123

                #37
                رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                ـ 36 ـ

                بناء على رغبتها، خرج معها ليلة المولد، تزور المقام، تدعو الله أن ييسر الأمور، تكتمل فرحتها. انتفخت بطنها، أصبحت تشبه القربة التي يحملها بائع العرقسوس. بدأت تسير على مهل. تتحسس الانتفاخ. تأمل خيرا. تحلم به وهو يضحك. يتحرك داخل الرحم. يرفسها برجليه، تحلم به أيضا يخربش وجهها، يشد شعرها. تحلم به يحبو، يزحف، يقعد، يمشي.. يقول : أمي، أبي... تتحسس الانتفاخ وتأمل خيرا.. يحيط بها جابر وحمزة عن يمين وشمال، خشية الزحام.. يوسعان لها طريقا إلى المقام. لمحهما فتحي، توارى عن الأنظار سريعا. اندس وسط العشرات واتخذ طريقا منحنيا إلى مكان بعيد. فوجئ بمصطفى يصطحب نرجس. تعجبا للمصادفة التي جمعتهما. قال في تردد :
                ـ أول مرة..
                ـ هل معك أحد ؟
                ـ وحدي..
                كأن النظرات تلومه على المجيء بمفرده. تبادل مع مصطفى أحاديث مختلفة، ثم قال :
                ـ نحن سنزور المقام، ونقرأ الفاتحة، ونصلي لله، ندعوه أن يحقق أمانينا..
                حياهما. اختار أسرع طريق للعودة خشية أن يجد آخرين من المعارف والصحاب. لم يتوقع أن يصادف أحدا يعرفه. قصد أمين يكمل السهرة معه. بداخله مشاعر متضاربة عن الليلة الكبيرة. تريضا معا. دعاه إلى الفرجة على المولد، فرفض.. أكملا السهرة في مقهى الربيع. يلعبان النرد. ثم اتجها إلى الغرزة حيث يجلس عويس بمفرده، يستمع إلى أغاني أم كلثوم من جهازه الصغير. أعد لهما الشاي، قائلا :
                ـ عم حمزة ذهب يزور سيدي إسماعيل الإمبابي هو وابنته وزوجها، اليوم الليلة الكبيرة..
                ثم قال مبتهجا :
                ـ المعلم الله يخليه أنهى الموضوع. اتضح أن السرقة افتراء وكذب. عزيزة بنت شريفة وبريئة.. منهم لله..
                تعبت حميدة. أسنداها عند رجوعهم. الخطوات بطيئة. يبدو أن الزحمة أرهقتها..
                رجع مصطفى ونرجس، وهما يتحدثان عن ترتيبات ليلة الزفاف، ليلة العمر. حددا موعدا الخميس القادم. اتفقت الأسرتان على الموعد. شقة الزوجية فرشت بأثاث بهيج. لم يتبق إلا الزفاف. ما أحلى هذا اليوم لقلبين عاشقين.
                أنب فتحي ضميره. قطع عهدا على نفسه ألا يذهب إلى مسرح العطار مرة أخرى. هذا المكان لا يناسبه. لماذا يرتاده ؟ أمن أجل راقصة ترضي نزوة المشاهدة عنده، يضطر إلى الجلوس مع الحشاشين والعاطلين ؟ بدأ التأنيب يأخذ طابع الحدة. حدث نفسه أنه من الأجدى مقاطعة ثروت. إنه منحرف السلوك. يكفي ما حدث مع عزيزة. بدأ يكرهه. عليه الابتعاد عنه وإلا سيصبح منحرفا مثله. يود أن يتطهر من كل فعل دنيء ويسمو إلى الأرقى والأرفع. هذا ليس شعارا يهتف به، إنما إحساس صادق يتردد داخله، صورة نقية رسمها لنفسه. أبوه مكافح وأمه صابرة وأخواته مهذبات.. لماذا يكون سلوكه الخفي مشينا، بينا ما يجهر به ويظهره هو المبدأ والشرف والقيمة ؟ لا بد يا فتحي أن يكون مظهرك مثل مخبرك.. لا بد.. لا بد..
                وأحس بقبضة يده تتكور ويدفع بها في الهواء، راغبا في فعل شيء ما..
                مارسيل.. نقلته نقلة كبيرة من الانطواء على الذات، إلى الانفتاح على العالم. يكفيه أنه يلتقيها ويحدثها.. تبادله الحديث، تصادقه، تزامله.. مارسيل أصبحت عالمه الداخلي والخارجي. في كلماتها صدق. إنه يرسم لها صورة ملائكية. صارحها بأحواله المعيشية وطموحاته.. بدأت هي الأخرى تحدثه عن أسرتها، والصلوات التي تؤديها في الكنيسة. قال في حماس :
                ـ كلنا ندعو الله.. نصلي له.. كلنا نعبد الله..
                أردفت :
                ـ الله محبة..
                في جيدها تتلألأ السلسلة الذهبية، يتدلى منها صليب صغير..
                تحير في نظرته. هل يمعن النظر في الصليب المتدلي إلى مفرق نهديها، أم إلى البريق المتلألئ في عينيها ؟
                أتى النادل بعصير الليمون. انتقلت به إلى المحاضرات وحاورته في مسائل الهندسة الوصفية العويصة. حياهما أحد الزملاء. ذكرهما بمحاضرة الرياضيات قبل أن يغلق الدكتور باب المدرج، فأخبراه أنهما لا يرغبان في الحضور. استمرآ الجلوس في بوفيه الكلية، حيث يمتد الوقت بهما بامتداد وقت المحاضرة التي امتنعا عن حضورها!
                اتفقا على الانصراف من البوفيه قبل انتهاء المحاضرة بربع الساعة. ستكون المواصلات أهدأ ويمكنهما الركوب بسهولة ويجد كل منهما مقعدا يجلس عليه. ثمة سبب آخر لم يعلناه، هو ألا يخرج الطلبة من المدرج، وهما ما زالا جالسيْن في البوفيه !
                كالمعتاد، انتظر حتى استقلت السيارة العامة المتجهة إلى شبرا، ثم انتظر التروللي باس المتجه إلى إمبابة.
                عندما انصرفت مارسيل، افتقد الحنان والرقة والمؤانسة. تشاغل في تأمل وجوه الواقفين بالمحطة. المحاضرة الثالثة لم تنته بعد. حضر التروللي باس. من الممتع والمريح أن تجد مقعدا خاليا تجلس عليه. تهادى التروللي بسرعته العادية. انشغل عمن حوله بليلة زفاف نرجس ومصطفى. أزف الموعد الذي حدده. احتار فيما يرتديه. ملابسه أصابها البلى. عند بدء الدراسة اشترى سروالا وقميصين. لديه بدلة متوسطة الحال، عمرها ثلاث سنوات. هي بدلته الوحيدة. بدأت تضيق على جسمه النامي. إنه في ورطة. يمكنه ارتداء معطف فوق القميص. تحير قليلا. قفز ذهنه إلى عمته الحبيبة. نزل عند محطة أبي العلاء. سار في شارع بولاق الجديد، قاصدا بيتها. رحبت به كعادتها. بدأ يراجع دروس أولادها في الابتدائي. أخبرها ـ في سياق الحديث ـ أن أحد أصدقائه سيتزوج الخميس القادم.. فهمت المطلوب. أوصته بارتداء بدلة جديدة. لكن الوقت لا يتسع للتفصيل عند الترزي، اقترحت عليه شراءها جاهزة. قالت تشجعه :
                ـ الفلوس موجودة..
                أعطته ما يكفي شراء بدلتين..
                ـ هذا كثير..
                استحثته على شرائها فورا من شارع فؤاد..
                عاد إلى البيت محدثا أمه بلسان يلهج بالثناء على عمته. إنه لا يعرف كيف يسدد لها الدين. قال أبوه :
                ـ عمتك صاحبة واجب، هي تقصد مساعدتك وتشجيعك..

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  كاتب مسجل
                  • Jun 2006
                  • 1123

                  #38
                  رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                  ـ 37 ـ

                  اختفت عزيزة من السوق، كأنها فص ملح وذاب. بحث عنها في كل مكان فلم يعثر عليها. سأل عنها كل الشحاذين والشحاذات الذين قابلهم في منطقة المنيرة وما حولها. بحث عنها في سوق الجمعة، وسوق الجِمال يوم الثلاثاء، ومنطقة سيدي إسماعيل الإمبابي بعد انتهاء المولد. قالت له زميلتها إنها تركت إمبابة كلها، ولا تريد أن تطأ قدمها أرضها بعد ما حدث من محاولة انتهاك لعرضها، والطعن في شرفها. لم يدافع عنها أحد. أصر عويس على أن المعلم قام باللازم. وإن كان لا يعرف بالضبط ما فعل. قال له كبير الشحاذين، والكبير لقب أطلق عليه لكبر سنه :
                  ـ اسأل عنها في عزبة الصعايدة..
                  لم تطأ قدمه العزبة من قبل. دله الناس إلى الترعة الممتدة موازية لمصانع الشوربجي، المسماة " ترعة السواحل "، وقرب آخرها، يجد العزبة عن يمينه. سكن عشوائي. أقل في المستوى من مساكن المنيرة. لكن القاسم المشترك بينهما البناء دون تدخل المحافظة. برغم العشوائية التي يسير فيها، إلا أنها أحسن حالا من قريته " ميت نِمَا ".
                  تعد عزبة الصعايدة نموذجا صارخا للعشوائيات المنتشرة في بعض مناطق إمبابة. نشأت في البداية على يد أحد المهاجرين من قنا إلى القاهرة، الذي استوطن في بادئ الأمر جزيرة الزمالك، ثم تبعه أقاربه، وأقاموا مجموعة من العشش مما أدى إلى تشويه المنطقة. لم يتوقع أحد من الصعيدي المهاجر هذا التوسع الاستيطاني الأخطبوطي. تم نقله هو وأقاربه إلى إمبابة، وتعويضه بقطعة أرض كبيرة عام 1942. استولى هذا المهاجر على بعض الأراضي المحيطة وقام بتقسيمها إلى قطع صغيرة، أقام فوقها العديد من المباني بشكل عشوائي، واستدعى الكثير من أقاربه ومعارفه بالصعيد. قام بتأجير تلك المباني لهم ليضمن ملكية تلك الأراضي والعزوة والسند. وتكونت عائلات كبيرة في العزبة مثل " الصغير " و" الفراشطة "، نسبة إلى مدينة فرشوط بالصعيد، و " النصار " من قنا.. الذين عملوا جميعا بتجارة الجِمال والجزارة، ومنهم من أصبحوا ملاكا للمطاحن والمخابز والعمارات في المنطقة.
                  سأل أول فكهاني قابله فاستوضحه :
                  ـ عزيزة بنت مَن ؟
                  وجم. أردف مؤكدا :
                  ـ من أي عائلة ؟
                  هو لا يعرف اسم أبيها أو جدها أو أيا من أفراد عائلتها. انتابت الرجل سحب الريبة. لكنه تنفس دخان سيجارته، نافثا دخانها، قائلا :
                  ـ على أي حال، امشِ بحذاء الشارع الضيق، لحد ما يقابلك محل بقالة عم محمد، اسأله..
                  لم يكن عم محمد أحسن حالا من الفكهاني، وقع في الحيرة نفسها. أفهمه عويس أنها شحاذة في سوق المنيرة. قطع التردد قائلا :
                  ـ أحسن حل.. سرْ في العطفة المجاورة، ستجد شحاذا جالسا على الناصية. اسأله، يمكن يدلك..
                  بمجرد ما سأل الشحاذ عنها، نادى عليها. يبدو أنها تسكن بالقرب منه. تنهد في راحة. أخيرا استدل عليها. خرجت امرأة من بيت صغير، مدخله قبو مظلم. رنت إليه من تحت لفوق مستغربة. لكنه أكثر منها استغرابا. إنها امرأة في الأربعين. بشرتها لفحتها الشمس الساخنة، وسوّدها قهر السنين. ترتدي جلبابا أسود أميل إلى اللون الرمادي، تلف رأسها بمنديل أسود مغبر، حافية القدمين. قبل أن تبرطم بألفاظ مقذعة، أعطاها ظهره منصرفا، غير عابئ بالسباب الذي نثرته رذاذا في أذنيه !
                  صمم على أن يتجول بنفسه في دروب العزبة وأزقتها، ولا يسأل أحدا. قد يلتقيها أمامه.. وفي حارة ضيقة، لفت انتباه الناس من حوله. أوقفه أحد السكان مستغربا سلوكه، لا سيما أن عينيه تنظران في كل اتجاه :
                  ـ يلزم خدمة ؟
                  تشجع وسأل عنها. كان السؤال أكثر غرابة. تريث الرجل قبل أن يسأل :
                  ـ موضوع نسب يعني ؟
                  قال يريح نفسه منهيا تساؤله وفضوله :
                  ـ جائز.. كل شيء نصيب!..
                  حين سأل عن اسم أبيها، قال إنه لا يعرف. أدخلوه غرفة بالدور الأرضي، مرحبين به.. واثقين أنه جاء خاطبا عزيزة، لعله اقتفى أثرها حتى وصل إلى بيتها هنا!.. تورط في لقاء غير مقصود. لابد أن يجاري الأمور حتى يغادر المكان، وإلا ألصقت به تهم لا يتحملها..
                  سألوه كيف عرفها ؟ فأجاب بأنه رآها في سوق المنيرة. نظر كل إلى الآخر، أبواها وأخوها.. لكنهم عمدوا إلى تصديقه. ولما حلّ بهم صمت، سأل في جرأة يحسد عليها :
                  ـ أين عزيزة ؟
                  دخلت بنت السادسة عشر. نظر إليها أبوها شزرا قائلا :
                  ـ هذا الشاب رآكِ في سوق المنيرة..
                  أنكرت بشدة. عويس حائر. فعزيزة الصغيرة ليست هي الشحاذة المقصودة. وجد كثيرات باسم عزيزة. لكنها ليست واحدة منهن. غمز الرجل أباها مهدئا :
                  ـ كله يرجع للنصيب..
                  هدأ بالا..
                  استأذن عويس واعدا بزيارة ثانية بعد ما تعرف على البيت والأسرة..
                  ـ في الزيارة القادمة نتعرف على أهلك..
                  ـ إن شاء الله..
                  خرج غير مصدق أنه نفذ بجلده. اتجه إلى أقصر طريق يخرجه من العزبة عائدا إلى بيت حمزة، راويا له قصة أغرب من الخيال، عن عزيزة التي لم يجدها. وعن العزبة.. ضحك حمزة قائلا :
                  ـ ألم تخف أن يتتبعك أحدهم ويعرف سكتك ؟
                  هرب الدم من عروقه..
                  ـ كل شيء جائز.. المصائب تحلّ عليّ بالجملة..

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    كاتب مسجل
                    • Jun 2006
                    • 1123

                    #39
                    رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                    ـ 38 ـ

                    أحيت الأسرة الذكرى السنوية لوفاة سعاد، حضرها عدد من الأقارب والجيران، وأصدقاء مصطفى، على رأسهم فتحي وأمين وحمزة وعويس.. استند حمزة إلى عكاز خشبي، صنعه مصطفى في الورشة خصيصا له. تلاوة القرآن من الشيخ محمود. حضر أيضا فريد وأخوه وزوجته ونرجس.
                    أرجأ مصطفى كل ما يتعلق بحفل الزفاف إلى ما بعد إحياء الذكرى بأسبوع. استأجر شقة بالقرب من سكن الأسرتين. وقام بطلائها، وتركيب اللوحات الفنية والستائر. لم يستغرق كل ذلك إلا أسبوعان..
                    اجتمع الوالدان لتحديد موعد الزفاف. اختار مصطفى أول خميس، ووافقه الجميع..
                    حفل الزفاف أمنية عمره. أتى بفرقة فنية، مطربا ومطربة وفرقة موسيقية، امتنع عن إحضار راقصة، بناء على توصية الشيخ..
                    في الحادية عشرة مساء، انتهى الحفل واستقل العروسان سيارة مزينة، إلى الأستوديو لالتقاط صور الزفاف، ثم قصدا شقتهما..
                    بعد أن انصرف فتحي وأمين، أكملا السهرة على مقهى الربيع. دار نقاش أثاره فتحي حول اقتراب امتحان الفصل الدراسي الأول.. أما أمين فقد تخرج في مدرسة السكك الحديدية وحصل على " الدبلوم ".. سيتسلم العمل معاونا لمحطة القنطرة شرق بعد أسبوع. شيء في نفس أمين تغير. أحس أن الوظيفة ترد له اعتباره. كان يحلم براتب شهري يعتمد به على نفسه، فقد ساءت صحة والده، الذي آلمه فشل ابنه في الدراسة.
                    " سوف يتفرقَ الشملُ ".. عبارة قالها فتحي، قاصدا أن أمين سيغيب عن ناظريه، منشغلا بعمله الجديد، ومصطفى سينشغل بطبيعة الحال بالحياة الزوجية وأعبائها، وهو منشغل بالمذاكرة والاستعداد للامتحان. قفزت مارسيل إلى خاطره. تحدث عنها حديث معجب، رأى فيها حلاوة الدنيا وعذوبتها..
                    كان اللقاء، قبيل سفر أمين.. أمضيا وقتا طويلا لا يريدان لليل أن يمضي، حتى اقتربت الساعة من الثالثة قرب الفجر، فاضطرا إلى الانصراف، كل إلى بيته..
                    بدأت الكوابيس تراود حمزة من جديد.. منذ الهجمة الغادرة، التي ناله فيها من اللكم والركل ما أثر على صحته. اعتلت الساق اليمنى، وذهب إلى المستشفى "الميري" فأعطاه الطبيب مرهما مسكنا للألم. استند إلى عكاز وهو يسير. أثر الهَرَمُ على مشيته وجلسته.
                    شرد في البعيد، يرنو إلى النفق الذي يمثل عنق زجاجة. النفق مدخل طبيعي للمنيرة ومدينتيْ العمال والتحرير. ثمة مدخل آخر من شارع النيل، لكن النفق، هذا الطريق الحيوي، أشبه بشريان حياة. استرجع العمر الذي ولى، والأحداث العادية والخطيرة.. رحلة عمر طويلة قضاها في هذا المكان..
                    صحا من نومه وصدره يعلو ويهبط. نهض يصرخ. هدأ صياحه وسكن ألمه، بعد أن استعاد وعيه وأفاق من نومه.. حمد الله أنه مجرد حلم.. أو كابوس.. لا يهم.. اعتاد على هذا القلق، وعاش به.. يختفي أحيانا، ثم يعود.. زائرا غير مرغوب فيه!..
                    رأى في المنام أنه سجين في زنزانة يطل من نافذتها الحديدية، صارخا وهو يرى عمالا يهدمون النفق. ينظرون إليه غير مبالين بصراخه وتحذيراته، كأنهم لا يسمعون، كأنهم يعذبونه بهذه المعاول. نهض من نومه فألفى نفسه ممسكا بعمود السرير..
                    استعاذ بالله من الشيطان الرجيم. توضأ وصلى ركعتين.. داعيا الله أن يشفي حميدة من محنتها. الحلم ليس له تفسير إلا حال ابنته، التي توعكت صحتها، واحتار زوجها في التردد على الأطباء. إنه قلق عليها، هذا القلق ينعكس في صورة حلم يفزعه. هكذا قال عويس، الذي لم يستيقظ على صراخه، إنما أفاق حين هزه حمزة من كتفيه مناديا عليه. قال :
                    ـ في الصباح، سأذهب لأطمئنك عليها..
                    قلق حمزة له ما يبرره. انقطع جابر عن المرور عليه يومين متتالين. الجنين في بطنها يمزق أحشاءها. أعد عويس مشروبا مهدئا من الأعشاب، فسكن الألم، فأعطاها كوبا ثانية. تحدثت إلى جابر، تطلب منه أن يدعو لها، ثم نامت بعد ليلة أرق وألم..

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      كاتب مسجل
                      • Jun 2006
                      • 1123

                      #40
                      رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                      ـ 39 ـ

                      كلما التقى فتحي قال مرحبا :
                      ـ أهلا يا باشمهندس..
                      وإن لم يكشف عما في دخيلته، فهو يرى فيه المهندس الشاب المتحمس الذي يمكنه الحفاظ على النفق، ويتعهده بالصيانة والترميم. حين سأله :
                      ـ متى التخرج ؟
                      أجاب :
                      ـ بعد خمس سنوات.. ويمكن أن تمتد إلى أكثر من ذلك !
                      تنهد في قلق. هل يمد الله في عمره حتى يراه مهندسا ؟ الأمنية ذاتها تعتلج في صدر أبيه. أحس بالزهو لتعلق أبيه وحمزة بالغد البعيد، كذلك عمته.. إنهم ينادونه من الآن باللقب الذي لم يحصل عليه بعد. أما مارسيل، فهي أمله، والبسمة الحانية.. بدّلت قلقه طمأنينة. تغيب عن الكلية ثلاثة أيام، إثر نوبة برد حادة. في اليوم الرابع، لمحته في المدرج يجلس في الصفوف الخلفية، هرعت إليه وقلبها يخفق. جلست إلى جانبه محيية. حدثها عن مرضه، أعطته ملخصا سريعا للمحاضرات والواجبات التي فاتته. تطوعت لتنقل المحاضرات في كشكوله. جلست في البوفيه، تكتب بخطها المنمنم الجميل. حاول الجلوس معها فادّعت أنه سيعطلها عن الكتابة. وعدها ألا يفتح فمه بكلمة واحدة. تساءلت :
                      ـ ونظراتك.. كيف أهرب منها ؟
                      تضاحكا. واكتفيا بالجلوس معا يتحدثان في أمور عديدة، على أن تنقل المحاضرات في البيت. تركا البوفيه وتريضا في الحدائق الواسعة التي تحيط بمباني الكلية، ثم اختارا مقعدا رخاميا في أطراف الكلية، قرب السور الحديدي، واستظلا بشجرة ضخمة، بعيدا عن أعين الطلبة والطالبات. حكى لها ظروف معيشة أسرته، والده المكافح، أخواته البنات السبع. هو أكبرهن. حكت له عن أسرتها الصغيرة، عن أختها الوحيدة مريم، عن الخلافات المستحكمة بين أبويها. تصارحا طويلا. بدا كأنه يجلس على كرسي اعتراف، يبوح بأدق الأسرار. لكنه لم يبح بكل ما عنده. صارحها بحبه لبنت الجيران، التي تزوجت وسافرت مع زوجها. لكنه لم يبح لها بما كشفه أمين من أنه بكل بنت معجب. إلا أن مارسيل بذكائها فطنت إلى شيء من هذا، حين قالت:
                      ـ ألم تقع في غرام بنت أخرى ؟
                      نظر إليها صامتا. أراد أن يقول : " أنتِ ".. شيء أسكته فلم يبح. قالت :
                      ـ صمتك يدل على أنك عرفت أخريات..
                      ـ كيف عرفتِ ؟
                      ـ فراستي..
                      ـ أنتِ ذكية..
                      بدأ يكاشفها بنزعته الهوائية التي أحب التخلص منها. حكى لها عن أمين صديقه الملازم وتعليقاته الساخرة. ازدرد ريقه. قال :
                      ـ أحس معكِ أنني أعيش حالة حب صادقة..
                      ـ هكذا سريعا.. يا مجنون ليلى ؟
                      ـ حبي لليلى كان في سن المراهقة. كنت صغيرا. الآن تكشفت لي أمور عديدة. أنتِ الوحيدة التي أبوح لها بأسراري..
                      ساوت بأناملها خصلات شعرها التي بعثرها الهواء، فبدت له أجمل من ذي قبل..
                      ـ مارسيل.. لا تحرميني من لحظات السعادة التي أعيشها..
                      بادرته :
                      ـ لن أحرمك من شيء.. المهم الآن...
                      ناظرة إلى ساعتها :
                      ـ موعد المحاضرة الثالثة أزف.. هيا يا فتحي..
                      تجرأ فشبّك أصابع يده في يدها.. لم تمانع.. سارا صامتين، ثم سحبت يدها قائلة :
                      ـ اقتربنا من أنظار الطلبة..
                      دق قلبه بفرح جنوني. وصلا المدرج، فلم يجلسا منفصلين كما تعودا. جلس بجانبها. نادت زميلتها في الصف الأول :
                      ـ مارسيل.. مكانك محجوز..
                      ـ سأقعد هنا..
                      وفي البيت، جلس يكتب لها رسالة مطولة، عبر فيها عن أحاسيسه ومشاعره. صارحها بما لم يقو على البوح به.. إنه لا يعرف سر الميل الشديد إليها، حتى أنه يود أن يطير بها إلى مكان بعيد.. رسالة استغرقت خمس صفحات كاملة. تردد في تسليمها الرسالة باليد.. لا يدري لِمَ ؟ وضعها في ظرف، وكتب عليه : " إلى الأخت مارسيل شفيق ".. وأودعها صندوق البريد..
                      استغرقت الرسالة عدة أيام، حتى كتب عم ذكري اسمها في القائمة.. نبهها فتحي إلى الرسالة. لم تتعود أن تصلها رسائل بالبريد. هذه أول مرة..
                      ـ لكِ رسالة عند عم ذكري..
                      شهقت منزعجة :
                      ـ من ؟
                      ـ عم ذكري موزع البريد بالكلية، وهو فراش مدرج " ج ". وجدت اسمك مكتوبا في " الكشف " اليوم..
                      استأذن ليلتقي حسان، وإن كان يتذرع به ليهرب منها ! جلست، بعيدا عن الأنظار، على المقعد الرخامي نفسه الذي كانت تجلس عليه مع فتحي. فضت الرسالة واستغرقت تقرؤها، وقد خالجتها أحاسيس متباينة. فرح طفولي جعلها تعيد قراءتها ثلاث مرات، وهي تعجب لهذا الإحساس الصادق الذي أملى عليه هذه الكلمات.. التقته.. قالت :
                      ـ أشكرك على الرسالة..
                      أردفت :
                      ـ كان يمكنك أن تقول نفس الكلمات، من غير ورقة ولا قلم..
                      ـ أخشى أن يهرب مني الكلام..
                      ـ أم تخشى أن أهرب منك ؟
                      ـ لا أظن أنكِ قاسية إلى هذا الحد..
                      ابتسمت. سرت الابتسامة دفئا في قلبه..
                      ـ هل تريد ردا على رسالتك ؟
                      ـ طبعا.. ماذا ستكتبين في الرد ؟
                      ـ أكتب : شكرا يا فتحي..
                      ـ الرسالة وصلت..
                      ـ إذن لا داعي للرد عن طريق عم ذكري ؟
                      ـ ابعثي بها.. لكن.. أأكتب لكِ خمس صفحات، فتردين عليّ بكلمتين فقط..
                      ـ أصلها برقية !..
                      تضاحكا معا. جلجلت الضحكتان في الفضاء، فأحدثتا عبقا عطر الهواء من حولهما بالمرح..

                      تعليق

                      • د. حسين علي محمد
                        كاتب مسجل
                        • Jun 2006
                        • 1123

                        #41
                        رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                        ـ 40 ـ

                        بدأت امتحانات الفصل الدراسي الأول. انشغل فتحي ومارسيل بأدائها يومين كل أسبوع. رغم ذلك لم يشغلهما الامتحان عن اللقاء. قال لها :
                        ـ أتمنى نقعد في مكان بعيد..
                        ـ وهو كذلك..
                        من قبيل المصادفة الحلوة أن يتوافق اليوم الخامس من يناير عيد ميلاد الاثنين.. اليوم نفسه والشهر نفسه، وإن كان يكبرها بعام كامل. مدت يدها بهدية ملفوفة بورق السلوفان..
                        ـ كل سنة وأنتَ طيب..
                        مد يده هو الآخر وأعطاها هديته المغلفة :
                        ـ كل سنة وأنتِ طيبة..
                        فض غلاف هديته.. كانت مصحفا مذهبا.. صاح فرحا :
                        ـ الله..
                        وقبّله..
                        فضت غلاف هديتها.. كانت إنجيلا مذهبا.. صاحت فرحة :
                        ـ الله..
                        وقبّلته..
                        توارد خواطر، أم تطابق في المشاعر والطباع، أم أن اتفاق عيد ميلادهما في يوم واحد، قد وحد مشاعرهما ؟
                        قالت :
                        ـ ترى.. ما أهم شيء في القرآن الكريم ؟
                        ـ دعوته للسلام والرحمة.. ترى ما أهم شيء يدعو إليه الإنجيل ؟
                        ـ نفس الشيء..
                        ـ لماذا إذن تقسو قلوب وفي دينها كل الأسباب التي تجعلها تنبض بالحب والسلام ؟ أما أجدر بالإنسان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ؟
                        ـ غباء الإنسان في استيعاب رسالة الأديان.. نحن نقول الله محبة..
                        ـ ونقول الله أكبر..
                        ـ تقرع الأجراس في الكنائس للدرس والصلاة..
                        ـ ويرفع الأذان في المساجد في مواقيت الصلاة..
                        دعاها بهذه المناسبة لشرب عصير الليمون في البوفيه. راجعا أسئلة الامتحان واتفقا على صعوبته، من الممكن النجاح بتقدير مقبول..
                        انصرفا. انتظر حتى استقلت سيارة الركاب إلى شبرا، ثم استقل التروللي متجها إلى إمبابة.
                        راودته خواطر حول علاقته بمارسيل. قد تسرب حبها إلى قلبه. هل تحول الديانة دون الاقتران بها ؟ من الممكن أن يتزوجها وهي على دينها، أو تشهر إسلامها إذا أرادت.. في الحالتين سيقبلها زوجة. إن ما يجمعه الله لا يفرقه إنسان..
                        أين أنتَ يا أمين لأبوح لك بلواعج الفؤاد ؟ سافرتَ إلى القنطرة شرق وتركتَ صاحبك لا يجد الصديق الذي يرتاح إليه.
                        دخل والده فنهض عن فراشه يستقبله..
                        ـ ما أخبار الامتحان اليوم ؟
                        ـ الحمد لله..
                        قال :
                        ـ الأستاذ شفيق يبلغك السلام.. قال إنك ومارسيل أصبحتما صديقين.. لكن..
                        انتفض :
                        ـ لكن ماذا ؟
                        ـ هل هناك صداقة يمكن أن تجمع بين فتى وفتاة ؟
                        ـ هذا صحيح في الجامعة..
                        وازدرد ريقه..
                        ـ على العموم، ربنا يوفقكم..
                        قالها وانصرف، تاركا علامة استفهام في عقله. هل فهم الأبوان حقيقة العلاقة؟ إن أباه يعترض على الصداقة، فماذا يكون حاله حين يعلم أنه يحبها ؟
                        احتفالا بانتهاء نصف العام الدراسي، دعاها لزيارة عمته. لبت الدعوة. المنزل الذي تقيم فيه بشارع بولاق الجديد، يشي بأنه الأحدث بناء، بالمقارنة بما حوله من بيوت قديمة. رحبت عمته بها، واستقبلتها بحفاوة بالغة. قالت :
                        ـ أنتما ضيوفي على الغداء..
                        وأعدت مائدة عامرة بالمشويات وأطباق الخضر والمقبلات وسلطانيات حساء الدجاج أمام كل فرد. يتوسط المائدة الدجاج والبط. لم تشعر مارسيل بغربة. ساعدت في عمل سلطة الخضار، مما أتاح لها دخول المطبخ، فابتهجت العمة بها.. قامت معها بجولة في غرف الشقة الواسعة.. غرف النوم، والاستقبال، والمعيشة، وغرفتيْ الأولاد..
                        جلسا على صدر المائدة وتجلس عن يمينهما ويسارهما عمته وأولادها.. بعد الغداء، جلسا في الشرفة يشربان الشاي ويتطرقان لأحاديث شتى..
                        انصرفت وهي تشكر العمة، وتداعب الصغار..
                        حين مدت يدها تحييه قالت :
                        ـ هذا يوم من أسعد أيام حياتي..

                        (يتبع)

                        تعليق

                        • د. حسين علي محمد
                          كاتب مسجل
                          • Jun 2006
                          • 1123

                          #42
                          رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                          ـ 41 ـ

                          تفرقَ الشملُ، وعانى الوحدة. سافر أمين إلى بلدة بعيدة، وتزوج مصطفى، واعتلت صحة حمزة، وابيضت عيناه قلقا وأرقا. لم يكن يشكو من شيء محدد، إنما يقول لمن يسأل :
                          ـ كل حاجة في جسمي توجعني..
                          تفرق الشملُ من حوله، وإن عوضت مارسيل كل ذلك، أصبحت عالمه ودنياه. بدأت علاقته تتوطد بحسان، الذي استأجر غرفة بصالة ضيقة وحمام.. يقع سكنه في حي شبرا، بالقرب من سكن مارسيل. حدد حسان يوم الخميس ليزوره. وكان آخر خميس في عطلة منتصف العام. قال له :
                          ـ والدي مكافح كأبيك. نحن من أسرتين فقيرتين. هذا يقربنا أكثر..
                          يتميز حسان بسعة اطلاعه على الكتب الأدبية والسياسية، دائما يشارك بوجهة نظره في كل قضية. بل إنه يكثر من إثارة القضايا بمناسبة وبدون مناسبة. يتحدث طويلا فينصت له، حتى تخيل نفسه يقوم بدور أمين.. فوجئ وهو ينصت لضيفه بموزع البريد ينادي عليه :
                          ـ بوستة.. فتحي رجب..
                          هرع يتناول الخطاب، من خله الوفي أمين. استغرق يقرأ بصوت عال، كلمات سطرتها الغربة والحنين إلى الصحاب. اقترب حسان أكثر من الصديق الغائب. قال في مودة :
                          ـ قد أصبح صديقي.. أيضا..
                          يبدو أن حنين الأصدقاء بعضهم لبعض، قد استبد بالأفئدة الشابة في وقت واحد، فإذا بمصطفى يطرق باب صاحبه فيستقبله هاشا باشا..
                          ـ أهلا بالعريس. مضى أسبوعان على الزفاف لم نرك خلالهما..
                          قدم له زميله حسان. وكان حديث طويل عن مصطفى وزواجه ممن يحبها. حكى فتحي بإسهاب قصة حبه لنرجس.. أطلعه على خطاب أمين الذي وصل اليوم، وسلامه إليه. التفت إلى حسان قائلا :
                          ـ لم يبق إلا عم حمزة الذي لا تعرفه. إذا تعرفت عليه فقد عرفتنا جميعا.
                          قال مصطفى :
                          ـ والله يا جماعة، عم حمزة يحتاج لمن يسأل عنه في ظروفه الصعبة..
                          قال حسان :
                          ـ هيا بنا إليه..
                          قام ثلاثتهم قاصدين غرزة النفق.. وحسان المغترب في العاصمة، بعد تركه إهناسيا، أحس أنه يتأقلم مع مجتمع غير مجتمعه. الناس معظمهم قريب إلى قلبه. حين سلم على حمزة أحس أنه يحيي أباه الذي تركه هناك. تعارف الجميع كأنهم يعرفون بعضهم بعضا منذ سنين.
                          حمزة لا يستغني عن عكازه. قام عويس بالواجب بإعداد براد الشاي، وتشغيل جهاز الترانزستور.. ضاحكه مصطفى :
                          ـ ما بك يا رجل يا عجوز ؟ أنت أكثرنا شبابا..
                          ضحك ضحكة عريضة كشفت عن أسنان صفراء، غطاها من أعلى شارب كث مخلوط سواده ببياض :
                          ـ ربنا يجبر بخاطرك..
                          أسهم قليلا، ثم قال :
                          ـ أصل بنتي.. مريضة..
                          ـ ربنا يشفيها لك..
                          قالها حسان متأثرا. همس في أذن فتحي :
                          ـ عم حمزة يشبه والدي..
                          استغرق حسان في حديث شجي مع حمزة، تطرقا فيه إلى النفق.. هل تقادم النفق يؤدي إلى انهياره ؟ سؤال حائر يدور في ذهنه.. قال حسان بلغة العالِم :
                          ـ النفق ليس آيلا للسقوط.. هناك أمور نلاحظها قبل الانهيار، مثل التشققات والتصدعات، أو انهيار جزء بسيط من الجدار.. قال حمزة في حماس :
                          ـ كل هذا حدث..
                          عقب عويس :
                          ـ في الحلم يا عم حمزة..
                          التفت إليه :
                          ـ أنت دائما تلاحقني، مثل اللقمة في الزور..
                          استطرد بعد صمت قصير :
                          ـ الحلم نبوءة لما هو آت..
                          قال حسان في حماس :
                          ـ صدقت..
                          انفض السامر، وانصرف فتحي مع حسان، شارحا له معالم المكان.. بادئا بالمنيرة، وهو حي تحول من منطقة زراعية إلى منطقة سكنية رخيصة جاذبة للسكان. امتلأت بالمتزوجين حديثا. تتميز بارتفاع معدلات النمو السكاني بفعل الهجرة إليها من جميع المحافظات. قال حسان :
                          ـ أفكر في البحث عن سكن أوسع في المنيرة..
                          ـ هذا ممكن..
                          ولما اجتازا عرض النفق، مخلفين المنيرة خلفهما.. مشيا في شوارع مدينة العمال. أوضح له أن المدينة أنشئت في بداية الخمسينيات على الضفة البحرية من خط سكك حديد الوجه القبلي على مساحة من الأراضي الفضاء، لإقامة أسر عمال المطابع الأميرية التي تعد إحدى العلامات المميزة لحي إمبابة، حيث انتقلت إليها بعد قيام الثورة، عندما أصدر الرئيس جمال عبد الناصر عام 1956 قرارا بإنشاء الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، وأقام للهيئة مبنى جديدا في إمبابة على مساحة 35 ألف متر مربع، تم تزويده بأحدث ماكينات الطباعة.
                          اقتربا من مقهى الربيع، فأشار إليها، قائلا :
                          ـ هذا هو المكان المفضل لجلوسنا، أمين وأنا..
                          بادره حسان :
                          ـ إذن، فلنجلس..
                          طفق حسان يشرح التيار الماركسي السائد في مصر، الذي شاب الثقافة المصرية.. ورأيه في قصص نجيب محفوظ ومعاصريه. ظل فتحي مستمعا جيدا، يؤدي الدور الصامت غالبا الذي كان يؤديه أمين..

                          تعليق

                          • د. حسين علي محمد
                            كاتب مسجل
                            • Jun 2006
                            • 1123

                            #43
                            رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                            ـ 42 ـ

                            تفرقُ الشملِ أعطى لكل امرئ فرصة للتأمل واستشراف مستقبل يختلف من واحد لآخر. التفرقُ شيء طارئ تفرضه ظروف الحياة وملابساتها. خصوصية كل صاحب قد لا ينفع معها إلا البعد الاضطراري عن الجماعة والعزف المنفرد على أوتار حزينة.
                            حمزة مصابُه في ابنته المريضة، وحَمْلِها الصعب، وانعكاسات المرض على الحَمْل. مصابُه أيضا في وهن صحته وعجز ساقيه عن السير بصورة عادية، فاتكأ على عكاز، واعتمد على عويس يدبر له أمور معيشته. عويس الذي كان ضيفا ثقيلا أصبح في أشد الاحتياج إليه.. يقضي حوائجه، ويعد المشاريب لزبائن الغرزة. الترانزستور الصغير ـ أيضا ـ لا يستغني عنه حمزة. يستمع إلى الأخبار وخطب الزعيم. بدأت القلاقل مع إسرائيل، وازدادت حدة الخطب حماسا ووطنية.
                            يعيش مصطفى حياة ناعمة. أذن له والده بالغياب عن الورشة في شهر العسل، لكن الشهر أصبح اثنين، فتدخل الأب يعيده بالقوة الضاغطة للورشة مصدر رزقه.
                            تناثرت أقاويل بين الشباب عن استدعاء قوات الجيش الاحتياطية، لكنها لم تتأكد بعد. خمن مصطفى أنه سيكون ضمن المطلوبين. فاجأها قوله. لزمت الصمت لا تعقب. ولما صارح الشيخ محمود في هذا، أكد له أنه سمع مثل ما سمع. قال الأسطى حسين لابنه :
                            ـ إن صح ما نسمعه، سيكون الجيش درسا مفيدا لك.. يخرجك من حياة الكسل التي تعيشها الآن..
                            انشغل فتحي بأداء الامتحانات ولقاْْْءاته مع مارسيل.
                            لا حديث لعويس إلا عن عزيزة. كلما رأى بنتا اعتقد أنها تشبهها، حتى قال لنفسه : " أصبحتَ مشغولا بعزيزة مثل انشغال عم حمزة بالنفق ".. أكد له أنه سيلقاها ذات يوم، بينا نفى حمزة أن أوهاما تلعب برأسه، معتبرا النفق شريان الحياة لإمبابة، فلماذا لا نهتم بسلامته وصيانته ؟
                            جابر شقي بحميدة، التي ترتفع حرارة جسمها حينا فيجري بها إلى مستشفى الحميات المطلة على النيل، فيحجزونها بضعة أيام حتى تشفى، وتواتيها آلام الوضع حينا آخر.. لا يدري ما إذا كان الحَمْل سببا في مرضها، أم أن المرض شيء عارض.
                            يجلس أمين في استراحة الهيئة القريبة من المحطة التي يعمل بها. يحن لإمبابة وصديق العمر.. من وقت لآخر، يستبد به الحنين فيسطر صفحات الخطاب، وينتظر الرد من صديقه..
                            أزفت امتحانات آخر العام. انقطع فتحي للمذاكرة، في الوقت الذي التهبت الحدود الشرقية مع إسرائيل. ثمة أنباء عن حشود إسرائيلية في حدودها مع سوريا. حشدت مصر قواتها.. كثرت خطب الزعيم يواجه بها صلف العدو. الإشاعات حول استدعاء القوات الاحتياطية، أصبحت واقعا.. استدعي مصطفي الذي ترك نرجس، تعاني أعراض الحَمْل. رصد أمين تزايد حركة القطارات إلى غزة والعريش، وتدفق المركبات العسكرية في أنحاء مختلفة من شبه جزيرة سيناء. نذر الحرب تدق أجراس الخطر. يتذكر حمزة بطولات الجيش والشعب في حرب 1956. ارتفعت يداه إلى عنان السماء يدعو لمصر بالنصر، رافعا كفيه :
                            ـ ربنا ينصرنا على أعدائنا..
                            في إحدى المحاضرات، دخلت مارسيل المدرج متأخرة عشر دقائق. لم يكن التأخير بالوقت الهين لدى أستاذ الهندسة الوصفية، فمنعها من الدخول، ونادى على فراش المدرج عقب دخوله. استاء فتحي لما حدث. غلا الدم في عروقه. كيف يحرج مارسيل أمام زملائها بهذه الصورة المستفزة ؟ واحتجاجا على ما حدث، نهض من مكانه، وخرج في أثرها، تضامنا.. ضحك الطلبة لموقفه. حدث هرج ومرج وتعليقات من هنا وهناك، بينا جمد الدكتور في وقفته منتظرا استعادة الهدوء. قال طالب من الصفوف الأمامية، سليط اللسان :
                            ـ بينهما حكاية حب طويلة..
                            فازدادت الضحكات والهمهمات..
                            بعد انتهاء المحاضرة، بحث حسان عن صديقه وقد التهبت أعصابه.. بحث عنهما في كل شبر من أرض الكلية، حتى قادته قدماه إلى الأطراف، بالقرب من السور الحديدي الخارجي. رآهما يجلسان معا، فتحرج أن يعلن عن وجوده، عامدا إلى الاختفاء، لكنهما لمحاه، فنادى فتحي عليه، ونادت مارسيل، فتوقف عائدا إليهما..
                            ـ لا مؤاخذة.. لم أقصد شيئا..
                            بعد صمت حائر، تذرع بأمر لم يقتنعا به :
                            ـ لكَ خطاب عند عم ذكري..
                            تحرك الثلاثة معا، واستأذنت مارسيل في منتصف الطريق لتصحب زميلة لها.. صارح فتحي بما حدث بالمدرج. نصحه أن يقيد علاقته بها. الكل يتحدث عن قصة حب بينهما. بادره فتحي في ثورة :
                            ـ هل الحب عيب ؟
                            ـ أقاويل الطلبة حوّلت الموضوع إلى مادة للانتقاد. طبيعتنا الشرقية تغلب على تصرفاتنا، مهما تظاهرنا بالتمدن والتحضر.
                            أضاف مغيرا الموضوع :
                            ـ لم أقصد شيئا حين تحججت بخطاب لك عند عم ذكري. كان لابد من الحيلة.
                            توجها إلى البوفيه يشربان الشاي. لمحهما عم ذكري، فاتجه إلى فتحي مهللا :
                            ـ لكَ خطابان..
                            هرع إلى الركن الذي ينتحي فيه بالخطابات.. خطاب من أمين، وثان من مصطفى. ابتسم حسان وقال لصديقه :
                            ـ صدق حدسي..
                            رجع إلى حسان يقرأ الخطابين بصوت جهوري. حدثه أمين عن التحركات غير العادية للجيش، وحالة الطوارئ في عمله، بعد ما زاد عدد مرات التقاطر. عربات القطار إما للركاب محملة بالجنود، أو لنقل العتاد. زادت كثافة المناورات في السكك الحديدية.
                            حدثه مصطفى عن وحدته العسكرية في غزة، مقدمة صفوف الجبهة، طالبا منه أن يدعو لمصر بالنصر. قال إنه فخور بأنه سيدافع عن حدود مصر.. إلا أنهم طلبوا من القائد أن يزيد حجم التدريب وخاصة أنهم تركوا حياة الجندية منذ سنوات عديدة. وفعلا عمل القائد على إعادة تدريبهم على اللياقة والكمائن واستعمال السلاح، بقدر ما يسمح لهم الوقت..
                            أوصاه بالسؤال عن أسرة زوجته، الأستاذ فريد وحرمه.. وأن يطمئنه على نرجس.. الحامل في شهرها الثالث.. ويطمئنه ـ أيضا ـ على الشيخ محمود..
                            أعلن جمال عبد الناصر في خطبة له غلق مضايق تيران، فالتهبت الجبهة، وخيمت نذر الحرب على سماء المنطقة.
                            قام رجال الدفاع المدني بتجربة صفارات الإنذار. وطلا الأهالي زجاج النوافذ باللون الأزرق. وحفرت الخنادق للاحتماء داخلها. وبنى الأهالي أمام مداخل المنازل، سواتر من الطوب الآجر بارتفاع متر ونصف المتر.. قال حمزة لعويس :
                            ـ لم أعد أفرق بين صفارات الإنذار التي يجربونها وصفارة القطار، وهو يعبر فوق النفق. صفارة القطار تشبه النواح..
                            رقدت حميدة في المستشفى وقد أصابتها حمى النفاس. هرع حمزة يلازم ابنته، وإن عجز عن التحرك السريع. قام جابر وعويس بكل شيء بحيث جعلاه يجلس على كرسي بجانب ابنته طريحة الفراش. تتوجع حميدة بآه لا تنطق غيرها. عازفة عن الطعام والشراب. وضعوا كمادات الثلج فوق رأسها، إلى جانب تعاطيها الحبوب الخافضة للحرارة. طفقت تهذي وتغيب عن الوعي، نائمة، ثم تصحو على الآه الموجعة. انهمرت دموع حمزة. ربت عويس على ظهره، وقد هزه المشهد. قال بصوت خفيض :
                            ـ ربنا كبير.. ربنا يزيح عنها المرض.. قادر يا كريم..

                            تعليق

                            • د. حسين علي محمد
                              كاتب مسجل
                              • Jun 2006
                              • 1123

                              #44
                              رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                              ـ 43 ـ

                              يفخر الأستاذ شفيق بصداقته لرجب. نمت العلاقة بينهما في دروس الفرنسية التي جمعتهما على منضدة واحدة. نمت أكثر حين التحقا بكلية واحدة. ينتهز فرصة عيد ميلادها فيهديها إنجيلا. ما أرق مشاعر المحبين وأحاسيسهم المرهفة.
                              دلف إلى حجرتها. أعاد النظر إلى الهدية. مارسيل نائمة وهي تحتضن مريم. حرص على أن يلج الحجرة ويخرج منها دون أن يسمع له صوت يقلق الأختين. عاد يستلقي بجانب سنية، إلا أن مريم استوقفته، منادية. خرج معها إلى الصالة. همست :
                              ـ مارسيل عندها مشكلة..
                              ـ لما تصحو، نحلها..
                              ـ لا يا بابا. أريد أن أحدثك بعيدا عنها..
                              نظر إلى ساعته. الثانية عشرة. الوقت متأخر.. وإزاء إصرارها، جالسها في الصالة. روت له صداقتها لفتحي. عقب الأب :
                              ـ أعرف هذا..
                              صمتت برهة، استطردت بعدها :
                              ـ أقصد أنها أحبته وهو يحبها..
                              صمت..
                              ـ مارسيل تهيم في الخيال. تظن الصداقة حبا. لا بأس من مسايرتها..
                              ـ الموضوع خطير..
                              انزعج..
                              ـ خطير !.. ماذا تقصدين ؟
                              لعب الفأر في عبّه، خشية أن تكون زلت معه. حكت له الصغيرة كل كلمة قالتها أختها عن علاقتها به، وعن أستاذ الهندسة الوصفية الذي طردها من المدرج، وعن رد فعل فتحي، بخروجه طواعية، تضامنا معها..
                              ـ إنسان نبيل، آلمه ما تعرضت له زميلته.
                              ـ الموضوع خطير يا بابا.. ليس بالبساطة التي تتصورها..
                              ـ أنتن يا بنات تضخمن الأمور الصغيرة..
                              ـ ألا تعلم أن هذه العلاقة صارت حديث الطلبة ؟
                              ـ إذن الموضوع خطير..
                              شبّك أصابع يديه مطأطئ الرأس..
                              سألها :
                              ـ هل أمك تعلم شيئا ؟
                              ـ لم أحكِ لها..
                              ـ حسنا فعلتِ..
                              مارسيل لم تنم. أحست بحركة أبيها حين دخل الغرفة وخرج منها بصحبة مريم. أحست به وهو يتأمل الإنجيل الهدية. أرهفت السمع لهمسات مريم. نهضت وانضمت إليهما في الصالة. اختصر الأب الحديث :
                              ـ مريم حكت لي.. هذه علاقة عادية.. لكن الضجة بين الزملاء هي التي كبّرت الموضوع..
                              أطرق هنيهة ثم قال :
                              ـ خلي بالك.. علاقتي بالأستاذ رجب لا تمس.. هو زميل وصديق أعتز به وأحترمه..
                              تشجعت مارسيل لكلماته.. قالت مريم :
                              ـ يبقى.. كل واحد يروح لحاله..
                              ـ ما هذا يا مفعوصة ؟ أنا ورجب كل واحد يروح لحاله ؟
                              ـ أقصد.. مارسيل وفتحي..
                              قالت مارسيل بصوت متحشرج :
                              ـ هل ذنبنا أن لكل منا دينا يختلف عن الآخر ؟
                              ـ هذا ليس ذنبا..
                              ـ هل أجرمنا ؟
                              ـ إطلاقا..
                              فكر مليا في المأزق الحرج الذي يكاد يعصف بابنته. لابد من إجراء جراحة لإنقاذهما. التمادي في العلاقة لن يؤدي في النهاية إلى شيء.
                              ـ لابد يا بنات من الموافقة على ما قالته ماما..
                              انزعجت مارسيل..
                              ـ هل تريد مني الزواج من ناجي، وأنت أشد الرافضين له ؟
                              ـ هناك ضرورة..
                              ـ ألا يكفي الابتعاد عن فتحي ؟
                              ـ ارتباطك بناجي سوف يخرس الألسن..
                              بكت..
                              لم يكن فتحي بأحسن حالا منها، فقد آلمه ما سمعه من حسان، من ضرورة إنهاء العلاقة.. هذه أول قصة حب ينبض بها قلبه. عرف قبلها ليلى وسعاد وأخريات.. من بعيد لبعيد.. مارسيل اقترب منها وصادقها وأحبها. أرقه سهاد أطار النوم من عينيه. وفي الصباح، قرر أن يتحدى مَن حوله، ويفرض على الجميع تلك العلاقة المبرأة من النزوة..
                              مرت من أمامه. تحاشت الحديث معه. نادى عليها :
                              ـ مارسيل..
                              توقفت. تحاملت. كادت تضعف. تماسكت. قالت :
                              ـ فتحي.. كل شيء نصيب. تقدم لي طبيب ووافق أهلي..
                              ـ مارسيل.. أحبك..
                              ـ حب ضائع..
                              ـ كيف ؟ الحب يصنع المعجزات.. يمكنني إقناع أهلك.. أنتِ مسيحية وأنا مسلم. لكننا حبيبان..
                              ـ حبنا يسير في طريق مسدود..
                              طأطأ رأسه في الأرض. لم يستطع النطق بكلمة واحدة. تمالك نفسه. قال في ألم :
                              ـ حبنا قدر..
                              ـ لنحتفظ بصداقتنا الجميلة..
                              اغرورقت عيناها بالدموع..
                              تدخل حسان الذي ظهر فجأة. وقف بينهما قائلا :
                              ـ خطوبة مارسيل سترفع الحرج عنكما، وتبقى علاقتكما، علاقة زميلين عزيزين..
                              وجم الاثنان. تبادلا نظرات حائرة..

                              تعليق

                              • د. حسين علي محمد
                                كاتب مسجل
                                • Jun 2006
                                • 1123

                                #45
                                رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل

                                ـ 44 ـ

                                كتب الطبيب في قصاصة ورق اسم نوع من الحقن، يبتاعونه من صيدلية خارجية. هذه الحقن غير متوافرة بالمستشفى. ناول القصاصة لجابر فخطفها عويس، قائلا في شهامة :
                                ـ خلِّ عنك..
                                طار بالورقة، عازما أن يعود إلى سكنه ويبيع الترانزستور، أو يرهنه.. عم حمزة ليس في جيبه مليم واحد، وجابر مثله. مرض حميدة أتى على كل ما ادخراه من نقود هزيلة. سار بحذاء سور المستشفى وعرج على شارع طلعت حرب، وهو ينهب الشارع قفزا. كل دقيقة لها ثمن. حميدة بين الحياة والموت. أتاه صوت في جنح الظلام يستجدي المارة :
                                ـ لله يا محسنين..
                                ذهل. يا الله. عزيزة !..
                                ـ كيف حالك يا عزيزة ؟
                                رنت إلى وجهه. عرفته من صوته وشكله وقوامه النحيل. قالت :
                                ـ عويس !..
                                سأل عنها وعن أحوالها. أين تسكن ؟
                                ـ أسكن !.. سكني وعيشتي كلها على الرصيف. قد أغيره إلى رصيف آخر حسب حالة الجو والشمس. أجلس نهارا في الظل، وأختبئ ليلا من برودة الشتاء أسفل الكوبري..
                                حكى لها عن حال حميدة، وأنه في عجلة من أمره كي يبيع الترانزستور أو يرهنه ـ وهو غال عنده ـ كي يشتري لها الحقن. قالت :
                                ـ معي ما جاد به المحسنون. سأذهب معك.
                                ـ كلك مروءة يا عزيزة..
                                صادفا صيدلية قريبة، فقصداها واشتريا الحقن. فرح عويس بعثوره على عزيزة، كأنما عثر على كنز، وفرح أكثر بشرائه الحقن، دون أن يفرط في جهازه الأثير. انتحى بها في ركن من الصالة الطويلة، يقف على أخبارها وأحوالها.
                                ـ الحال لا يسر. ثروت الملعون عملها.. فوجئت باثنين من الفتوات يحملانني بالقوة إلى شقة غير شقته، وقضى وطره.. منه لله..
                                صاح مصدوما :
                                ـ عملها.. النذل..
                                بكت بحرقة. قاومته بكل ما أوتيت من قوة. طرحها أرضا ورقد فوقها، بعد أن شل ذراعيها عن الحركة. ضربته بقدمها. إزاء مقاومتها الشرسة، لانت عريكته. بدا حَمَلا وديعا، يعتذر عن فعلته. جرت إلى الباب تفتحه. نصحها بدخول الحمام تغتسل حتى لا يشك الجيران في شيء. صدقته. غسلت وجهها وذراعيها بالماء والصابون. أفاقت من هجمة الشيطان. مد يده بكوب عصير كنوع من الاعتذار. نصحها بألا تحكي شيئا مما حدث لأحد. وعدته. ثم شربت العصير.. فأحست بدوار، وغابت عن الوعي.. حين أفاقت، وجدته نائما بجوارها، وقد هتك عذريتها. لطمت وجهها وصرخت. كمم فاها، وحذرها من التمادي في الولولة. أجهشت بالبكاء من جديد.. طيب عويس خاطرها. قالت :
                                ـ لم أسرق، ولم أزن . كنت أبحث عن عمل شريف أعيش من رزقه، ولما لم أجد، لجأت لطلب المساعدة من أهل الخير..
                                جلس بجانب سرير ابنته، يدعو الله، يقرأ القرآن مما يحفظ وهو يسير. قال لجابر :
                                ـ الظاهر يا جابر أن الكابوس الذي جسّم لي انهيار النفق، قد فُسر الآن.. فَسره مرض حميدة.. أهناك ضرر أكبر من هذا ؟!
                                ـ ربنا يزيح عنها..
                                قامت عزيزة بخدمتها ومساعدتها في قضاء حاجتها، ووضع كمادات الثلج على رأسها. ما فتئ حمزة يدعو الله أن يلطف بها..
                                ـ اللهم إني لا أسألك رد القضاء، لكن أسألك اللطف فيه.
                                في الصباح، أتاهم الطبيب مهرولا، وأمر بإدخالها غرفة العمليات. الحالة حرجة لا تحتمل الانتظار. لابد من فعل شيء، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لم يجب الطبيب عن أسئلتهم الحائرة. قال جملة واحدة لم يكررها :
                                ـ الشفاء من عند الله.
                                أغلقت غرفة العمليات. بدأ فريق الأطباء في أداء مهمتهم السريعة بإجراء عملية قيصرية لإخراج الجنين حيا أو ميتا، حيث يشكل وجوده خطرا على الأم المريضة. هكذا توصلوا فيما بينهم، بعد مناقشات صعبة.
                                خارج الغرفة المغلقة، انتظر حمزة وجابر وعويس وعزيزة وعنايات ـ أخت جابرـ ومحفوظ.. وجوم خيم على الوجوه، وصمت أطبق على الشفاه. لحظات صعبة ارتفعت فيها أكف الضراعة إلى الله العلي القدير.
                                خرج طبيب، وأغلق الغرفة خلفه. سأله جابر، أجاب :
                                ـ مبروك.. رزقت بولد..
                                بادره حمزة جزعا :
                                ـ والأم يا دكتور، كيف حالها ؟
                                ـ ننتظر حتى تفيق من البنج..
                                وضعوها هي والرضيع على نقالة، ونقلوهما إلى الغرفة.
                                بدأت تحرك أهدابها. ولا تقوى على قول شيء، سوى الآه الموجعة تخرج من صدر ذبيح !..
                                أمسك جابر بيدها. السخونة ما زالت تسكن جلدها. طبع حمزة قبلة على جبينها. تنبهت إليه :
                                ـ خير يا بَه..
                                رنت إليه عيناها الكسيرتان. ثم التفتت إلى جابر توصيه :
                                ـ خلي بالك من ابني..
                                كلماتها أبكت الجميع..
                                أغفت قليلا، بينا الممرضة تتابع زجاجات الجلوكوز، ونبض قلبها، وتنفذ تعليمات الطبيب في جرعات العلاج..

                                تعليق

                                المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                                حفظ-تلقائي
                                إدراج: مصغرة صغير متوسط كبير الحجم الكامل إزالة  
                                أو نوع الملف مسموح به: jpg, jpeg, png, gif, webp

                                رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                                صورة التسجيل تحديث الصورة
                                يعمل...